الحجة للقراء السبعة

بسم الله «1» الرّحمن الرّحيم

[ذكر اختلافهم في] «2» سورة يونس
[يونس: 1]
اختلفوا في إمالة الراء وتفخيمها. فقرأ ابن كثير:
الر [1] مفتوحة الراء.
وقال حفص عن عاصم: الراء خفيفة تام «3» لا تمدّ الراء في كلّ القرآن غير مكسورة.
وقال هبيرة عن حفص عن عاصم: الراء مكسورة.
وقال «4» نافع في رواية المسيبي: الراء مفتوحة وليست بممدودة.
وقال أحمد بن صالح عن ورش وقالون: لا تفخّم الراء.
وقال ابن جمّاز عن نافع: بكسر الراء.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن عامر: الر «5» الراء على الهجاء مكسورة
__________
(1) في (م) بسم الله.
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): وقرأ.
(5) سقطت من (ط).

(4/243)


أبو بكر عن عاصم في رواية خلف عن يحيى بن آدم:
الراء مكسورة مثل أبي عمرو «1».
قال أبو علي: من قال: [الر فلم يمل فتحة الرّاء، فلأن الكثير «2» من العرب لا يميل ما يجوز فيه الإمالة عند غيرهم.
وحسّن ترك الإمالة هنا، أنّ معه حرفا يمنع الإمالة كما يمنعها المستعلي. فأما من أمال فقال: رايا. فلأنها أسماء لما يلفظ به من الأصوات المتقطعة في مخارج الحروف، كما أن غاق اسم للصوت الذي يصوّته الغراب، وكما أن طيخ اسم للصوت الذي يفعله الضاحك، فجازت الإمالة فيها من حيث كانت أسماء، ولم تكن كالحروف التي تمتنع فيها الإمالة نحو:
ما، ولا، وما أشبههما من الحروف.
فإن قلت: فهلّا امتنعت الإمالة في را، لشبه الراء بالمستعلي في منعها الإمالة؟ فالقول: إنه لم تمتنع الإمالة فيها لما أريد من تبيين أنه اسم، كما أنه «3» لم تمتنع الإمالة من «4» خاف وطاب وصار مع المستعلي، لما أريد من طلب الكسرة في خفت وطبت وصرت، وكذلك جازت الإمالة في را* لما قصد بها من إعلام أنه اسم ليس بحرف. فإن قلت: فإن الأسماء لا تكون على حرفين أحدهما حرف لين، وإنما تكون على هذه الصفة الحروف نحو: ما ولا.
__________
(1) السبعة: 322.
(2) في (ط): كثيرا.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): في.

(4/244)


فالقول: إن هذه الأسماء لم يمتنع أن تكون على حرفين أحدهما حرف لين، لأن التنوين لا يلحقها، فيؤمن لامتناع التنوين من اللحاق لها، أن تبقى على حرف واحد، وإذا أمن ذلك، لم يمتنع أن يكون الاسم على حرفين، أحدهما حرف لين، ألا ترى أنهم قالوا: هذه شاة، فجاء على حرفين، أحدهما حرف لين، لمّا أمن لحاق التنوين له، لاتصال علامة التأنيث به، وكذلك قولك: رأيت رجلا ذا مال، لاتصال المضاف إليه به، وكذلك قولهم: كسرت فازيد، ومثل شاة في كونها على حرفين: أحدهما حرف لين، لما دخلت عليه علامة التأنيث «1» قولهم في الباءة: باه كأنه أراد الباءة، فأبدل من الهمزة الألف، كما أبدل «2» في قوله «3»:
لا هناك المرتع فاجمعت ألفان، فحذف إحداهما «4» لالتقاء الساكنين، فبقي الاسم على حرفين: أحدهما حرف لين، أنشدنا محمد بن السريّ عن أبي محمد اليزيدي:
فيا شرّ ملك ملك قيس بن عاصم* على أنّ قيسا لم يطأ باه محرم ومثل باه في القياس ما رواه محمد بن السري عن أحمد ابن يحيى عن سلمة قال: سمعت الفرّاء يحكي عن الكسائي أنه
__________
(1) في (م) في قولهم.
(2) في (ط): أبدلها.
(3) سبق انظر 1/ 398 و 2/ 218.
(4) في (ط): أحدهما.

(4/245)


سمع [من يقول] «1»: اسقني شربة ما يا هذا، يريد: شربة ماء، فقصر، وأخرجه على لفظ من التي للاستفهام، هذا إذا مضى، فإذا «2» وقف قال: شربة ما.
والقول «3» فيه: كالقول في باه إلا أن باها «4» أحسن من ما، لتكثّرها «5» بعلامة التأنيث، وليس هذا كذلك، ووجهه أنه جعل الهمزة التي قلبت على غير القياس في حكم المخففة على القياس، وحذف إحدى الألفين لالتقاء الساكنين، فلحق التنوين الباقية، وحذفت كما حذفت من نحو: رحا وعصا.
وقد قيل في قولهم: م الله، إنه «6» محذوف من: أيمن الله «7»، وليس هذا بالكثير، ولا مما ينبغي أن يقاس عليه.
ومن ذلك: اللا في معنى: اللائي، هو على حرفين:
أحدهما حرف لين، لأن التنوين لا يلحقه، من «8» حيث لم يلحق ذا، لا من حيث كانت فيه الألف واللام، وينشد البغداديون في ذلك «9»:
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): وإذا.
(3) في (ط): القول.
(4) رسمت في (م): باة، وفي (ط): باه.
(5) في (ط): لتكثيرها.
(6) سقطت من (م).
(7) سقطت من (ط).
(8) في (م): فمن.
(9) ذكره ابن الشجري في أماليه 2/ 309، ولم ينسبه. والمصنف في إيضاح الشعر 463 وقوله: البغداديون، يريد به الكوفيين.

(4/246)


فدومي على العهد الّذي كان بيننا ... أم أنت من اللّا ما لهنّ عهود
ومن ذلك قولهم: أيش تقول؟ حكاه أبو الحسن والفرّاء.
والقول فيه: أنّه كان أي «1» شيء؟، فخففت الهمزة، وألقيت كسرتها على الياء، وكثر الكلام بها، فكرهت حركة الياء بالكسرة، كما كرهت في قاضين، وغازين ونحوه، فأسكنت والتقت مع التنوين، وكل واحد منهما ساكن، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، فإذا وقفت عليها قلت: أيش فأسكنت.
ومن قال: برجلي، فأبدل من التنوين الياء، قال: أيشي.
فهذه الأسماء ما لم يلحق بها التنوين، لم يمتنع أن تكون على حرفين، أحدهما حرف لين، وإنّما لم يلحقها التنوين، ولم تعرب كما لم تعرب، ولم ينوّن ما كان منها زائدا على حرفين نحو: لام الف عين جيم، فكما أنّ هذه الحروف على الوقف، ولا تنوّن، كذلك ما كان منها نحو: را، يا، تا، ثا.
كما أن أسماء العدد كذلك، فإن أخبر عن شيء منها «2» فتمكّن لذلك، وأعرب «3»، ولحقه التنوين؛ زيد على ما كان على حرفين أحدهما حرف لين، حرف مثل ما هو فيه، حتى يصير بالمزيد على ثلاثة أحرف، ومدّ إن كان الآخر الياء «4»، فقيل:
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): منه.
(3) في (ط): فأعرب.
(4) في (ط): ألفا.

(4/247)


باء، وياء «1»، وراء، كما تقول: ثلاثة أكثر من اثنين، فعلى هذا مجرى هذه الحروف.
فإن قلت: فهل يستدلّ «2» بجواز الإمالة في را، ويا، ونحوهما على أن الألف منقلبة عن الياء، كما تقول في ذا: إن الألف فيه منقلبة عن الياء.
فالقول: إن الاستدلال بجواز الإمالة في را ونحوها، أن الألف فيه منقلبة عن الياء: لا يصح «3»، لأنّه إنما أميل عندهم لما قدمنا من ذكره «4»، فليس بمنزلة قولهم: ذا، لأنّ را ونحوها أسماء للأصوات، والأصوات لا تشتق كما لا تشتق الحروف، فأما قولهم: ذا، فليس من الأصوات ولكنه من الأسماء المظهرة، ألا ترى أنه قد وصف، ووصف به، وحقّر في نحو:
مررت بذا الرجل، وبزيد ذا. وحقّروه فقالوا: ذيّا، من حيث كان اسما على الوصف الذي ذكرنا «5»، فصار بمنزلة سائر المظهرة، وساغ الاستدلال على حروفها، كما ساغ في غيره من الأسماء، فلذلك قال أبو الحسن: إن قولهم ذا من مضاعف الياء، وذلك أن سيبويه حكى فيه الإمالة، فإذا جازت فيه الإمالة «6» حمل على انقلاب الألف فيه عن الياء في الأمر
__________
(1) في (ط): وتاء.
(2) في (م) تستدل.
(3) في (م): لا تصح.
(4) قراءة (ط): لما قدم ذكره.
(5) في (ط): ذكر.
(6) سقطت من (ط).

(4/248)


الأكثر، فإذا ثبت أن ألفه ياء، لم يجز أن تكون اللام واوا، لأنه ليس مثل حيوت «1»، وإذا لم يجز أن يكون واوا؛ ثبت «2» أنه ياء، وأنه من باب حييت، وعييت.
فإن قلت: إنه قال فيه: إذا سمّى به رجلا: ذاء «3»، كما تقول في لا: لاء، وفي لو: لوّ، ولو كان كما ذكرت «4»، لوجب أن يكون: ذيا، كما قالوا: حيا وحييان، أو ذيّ، قيل:
الذي قاله عن الخليل ويونس إذا سمّي به رجل «5»: ذاء، قياس، وذلك أن هذا الاسم قد ضارع با ويا وتا، ألا ترى أنه غير معرب، كما أن هذه الأسماء التي أريدت بها الأصوات غير معربة، فلمّا ساوتها في البناء جعلها «6» بمنزلتها إذا أعربها.
وممّا يدلّك على مشابهتها لها أن الألف ليست في موضع حركة، فيلزمها الانقلاب، كما أنها في را* ونحوها ليست في موضع حركة، فإذا كان كذلك كانت الألف في ذا بمنزلتها في هذه الأسماء التي هي نحو را، با، تا، والأول الذي قدمناه، وقلنا: إنه من باب حييت وعييت، قد قاله أبو الحسن.
ومن حيث قال الخليل في ذا: إنك إذا سميت به قلت:
ذاء، قال في ذو، من قولهم: هذا رجل ذو مال، إذا سميت به
__________
(1) في (ط): عيوت.
(2) في (م): «وثبت» وليس ذلك بمستقيم.
(3) في (م): «ذا» وليس بالوجه.
(4) في (ط): على ما ذكرت.
(5) قراءة (م): إذا سمي به رجلا.
(6) في (ط): جعلتها.

(4/249)


رجلا، قلت: ذو، وقياس قول يونس عندي في ذو إذا سمّي «1» به رجل أن يكون بمنزلة قول الخليل، إلّا أنه حكى ذو عن الخليل، ولم يحكه عن يونس.
ولم نعلمهم نوّنوا من هذه الكلم شيئا، كما نوّنوا غاق، وكما نوّنوا صه، لأنهم ليس ينوّنون جميع هذه الأصوات، وإن كانوا قد نوّنوا بعضها، ألا ترى أنّا لا نعلمهم نوّنوا «طخ» الذي يحكى به الضحك، ولا «قبّ» الذي يحكي به وقع السيف، وإن كانوا قد نوّنوا «غاق» وغيره من الأصوات، وكذلك هذه الحروف التي هي: را، يا، تا.
ولا يقاس هذا، وإنّما يحكى منه ما سمع، فلا ينوّن ما لم ينوّن، كما لا يترك تنوين ما نوّن، وإنّما كان كذلك، لأن ما لم ينوّن جعل بمنزلة العلم معرفة، وليس يضعون هذه الأسماء التي للأعلام، وجارية مجراها على كل شيء، ألا ترى أنهم قالوا للبحر: خضارة «2»؟ ولم نعلمهم خصّوا البرّ باسم على هذا النحو، وقالوا: غدوة، فجعلوه بمنزلة طلحة، ولم يفعلوا ذلك في الطّهر، وقالوا: لقيته فينة، فجعلوه كالعلم، ولم يفعلوا ذلك ببرهة، وقالوا للغراب: ابن دأية، ولم يفعلوا ذلك بالرخم.
وقالوا في ضرب من الحيات: ابن قترة، ولم يفعلوا ذلك في كل «3» الأحناش، وكذلك هذا الباب.
__________
(1) في (ط): سمى به رجلا.
(2) في التاج (خضر): لخضرة مائه.
(3) في (ط): بكل.

(4/250)


ومن ثمّ عاب الأصمعيّ على ذي الرمّة قوله «1»:
وقفنا فقلنا إيه عن أمّ سالم وزعم «2» أن المسموع فيه التنوين، وكأنّ ذا الرّمّة أجرى ذلك مجرى غاق وغاق وصه وصه، فأجراه مجرى بعض ما يشبهه من غير أن يكون سمع فيه ما قاله.

[يونس: 2]
اختلفوا في إثبات الألف وإسقاطها من قوله جلّ وعزّ:
لسحر مبين [يونس/ 2].
فقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي: لساحر مبين بألف، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر لسحر* بغير ألف «3».
قال أبو علي: يدلّ على قول من قال: سحر* قوله:
فلما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون [الزخرف/ 30]. ويدلّ على ساحر قوله تعالى «4»: وقال الكافرون هذا ساحر كذاب [ص/ 4]. والقول في الوجهين
__________
(1) صدر بيت عجزه:
وما بال تكليم الدّيار البلاقع يريد وقفنا على هذا الطلل فقلنا: إيه، أي: حدثنا عن أم سالم، وما كلامنا إياها وليس بها أحد يجيبنا! انظر ديوانه 2/ 778 والخزانة 3/ 19 - 31، شرح المفصل 4/ 31 - 71، 9/ 30 - 156.
(2) في (ط): ومن زعم.
(3) السبعة 322.
(4) سقطت من (ط).

(4/251)


جميعا «1» قد تقدم «2» ومن قال: ساحر أراد الرجل «3»، ومن قال: سحر* أراد: الذي أوحي سحر، أي: الذي تقولون أنتم فيه: إنه أوحي: سحر، وليس كما تقولون: إنه
وحي.

[يونس: 5]
اختلفوا في الياء والنون من قوله جلّ وعزّ «4»: يفصل الآيات [يونس/ 5].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص:
يفصل الآيات بالياء.
وروى محمد بن صالح عن شبل عن ابن كثير بالنون.
حدّثني مضر بن محمد عن البزّيّ بإسناده عن ابن كثير بالنون.
وحدّثني الحسن بن مخلد عن البزّيّ بالياء.
وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر وحمزة والكسائي: نفصل* بالنون «5».
قال أبو علي: من قال: يفصل فلأنّه قد تقدم ذكر الله تعالى «6»، فأضمر الاسم في الفعل. ومن قال: نفصل بالنون؛ فهذا المعنى يريد، ويقوّيه: تلك آيات الله نتلوها [البقرة/ 252، آل عمران/ 108، الجاثية/ 6] وقد تقدم
__________
(1) في (ط): أنه قد.
(2) زادت (ط): بعد قوله تقدم: «قوله (أن أوحينا إلى رجل منهم)». ولا وجه لهذه الزيادة.
(3) في (ط): أراد به الرجل.
(4) سقطت من (ط).
(5) السبعة 323.
(6) سقطت من (م).

(4/252)


أوحينا فيكون نفصل* محمولا على أوحينا «1» إلا أن الياء أولى، لأنّ الاسم الذي يعود إليه أقرب إليه من أوحينا «2».

[يونس: 11]
اختلفوا في فتح القاف وضمّها من قوله جل وعزّ «3»:
لقضي إليهم أجلهم [يونس/ 11].
فقرأ ابن عامر وحده: لقضى إليهم بفتح القاف، أجلهم* نصبا.
وقرأ الباقون: لقضي إليهم بضمّ القاف، أجلهم رفعا «4» «5».
قال أبو علي: اللام في قوله سبحانه: لقضي جواب لو* من «6» قوله: ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي [يونس/ 11]، فالمعنى والله أعلم: ولو يعجّل الله للناس دعاء الشرّ، أي ما يدعون به من الشرّ على أنفسهم في حال ضجر وبطر استعجالهم إياه «7» بدعاء الخير، فأضيف المصدر إلى المفعول «8»، وحذف الفاعل [كقوله
__________
(1) في (ط): محمولا عليه، إلا ...
(2) أخر الفارسي الكلام عن قوله (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا) [يونس/ 5] إلى ما بعد الكلام في اختلافهم على (لقضي إليهم أجلهم).
(3) جل وعز سقطت من (ط).
(4) في (ط): بضم اللام.
(5) السبعة 324.
(6) في (ط): في.
(7) في (ط): استعجاله إياهم.
(8) في (ط): المفعول به.

(4/253)


من دعاء الخير [فصلت/ 49] في حذف ضمير الفاعل] «1» والتقدير:
ولو يعجّل الله للناس الشرّ استعجالا مثل استعجالهم بالخير، لقضي إليهم أجلهم.
قال أبو عبيدة: لقضي إليهم أجلهم: لفرغ من أجلهم، وأنشد لأبي ذؤيب «2»:
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السّوابغ تبّع
«3» ومثل ما أنشده «4» أبو عبيدة من قوله: قضاهما داود، قول الآخر «5»:
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ... بوائق في أكمامها لم تفتّق
__________
(1) ما بين معقوفين سقط من (م).
(2) في الديوان: وعليهما ماذيّتان- والمسرودتان: درعان تعاورهما بالطعن، والسرد: الخرز في الأديم- وقضاهما: فرغ من عملهما، والصّنع: الحاذق بالعمل ويريد به هنا (تبّع)، انظر شرح السكري 1/ 39.
(3) مجاز القرآن 1/ 275.
(4) في (ط): أنشد.
(5) البيت للشمّاخ من قصيدة يرثي بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد ورد في ديوانه: 449 «بوائج» بدل بوائق. قال الأصمعي (الصحاح):
انباجت عليهم بوائج منكرة: إذا انفتقت عليهم دواه. وانظر الأغاني 8/ 98. ونسبه في البيان والتبيين إلى مزرد أخي الشماخ 3/ 364 وكذا في الإصابة 6/ 85 وذكر الأبيات المرزوقي في شرح الحماسة 3/ 1090 والتبريزي في شرح الحماسة 3/ 65 وورد هذا البيت في الاشتقاق 1/ 199 مفردا. وفي اللسان مادة/ كمم/.

(4/254)


فالتقدير «1» في قوله: لقضي إليهم أجلهم أي: لفرغ من أجلهم ومدّتهم المضروبة للحياة، وإذا انتهت مدّتهم المضروبة للحياة، هلكوا. وهذا قريب من قوله تعالى «2»:
ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير، وكان الإنسان عجولا [الإسراء/ 11].
وقالوا للميّت: مقضّ، كأنّه قضى «3» إذا مات، وقضّى: فعّل، التقدير فيه: استوفى أجله، وفرغ منه؛ قال ذو الرّمّة «4»:
إذا الشخص فيها هزّه الآل أغمضت ... عليه كإغماض المقضّي هجولها
المعنى «5»: أغمضت هجول هذه البلاد على الشخص الذي فيها، فلم ير لغرقه في الآل، كإغماض المقضّي، وهو الميّت، لعينه «6»، وهذا في المعنى كقوله «7»:
ترى قورها يغرقن في الآل مرّة ... وآونة يخرجن من غامر ضحل
__________
(1) في (ط): فالمعنى.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): تقضّى.
(4) ديوانه 2/ 926. والهجول: ما اطمأن من الأرض.
(5) في (ط): أي.
(6) في (ط): بعينه.
(7) البيت الذي الرّمة أيضا، والقور: الجبال الصغار، والواحدة: قارة- وآونة:
الواحدة: اوان، أي: ومرّات يخرجن من غامر ضحل، يريد: السراب يغمر وهو صحل قليل ليس بشيء. انظر ديوانه 1/ 148.
ضحل

(4/255)


فأما قوله سبحانه «1»: لقضي إليهم أجلهم [يونس/ 11] وما يتعلّق به هذا الجارّ، فإنه لمّا كان معنى قضى: فرغ، وكان قولهم: فرغ، قد يتعدّى بهذا الحرف في قوله «2»:
ألان فقد فرغت إلى نمير ... فهذا حين صرت لهم عذابا
وفي التنزيل: سنفرغ لكم أيها الثقلان [الرحمن/ 31] أمكن «3» أن يكون الفعل يتعدى «4» باللام كما تعدى بإلى، كما أن أوحى في قوله: وأوحينا إليه [يوسف/ 15] قد تعدى بإلى «5»، واللام في قوله: بأن ربك أوحى لها [الزلزلة/ 5]، فلمّا كان معنى قضي فرغ، وفرغ تعلّق بها إلى، كذلك تعلّق بقضى «6».
ووجه قراءة ابن عامر: لقضى إليهم أجلهم على إسناد الفعل إلى الفاعل؛ فلأن الذكر قد تقدم في قوله ولو يعجل
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) نسبه اللسان إلى جرير مادة/ أين/ وفيه: «وقد نزعت» بدل «فرغت» ولم نعثر عليه في ديوانه بطبعتيه وقوله: ألان، أصلها الآن، سهلت همزتها للوزن الشعري.
(3) في (ط): فإنه يمكن.
(4) في (ط): تعدى.
(5) في (م): بالياء وهو سهو قلم من الناسخ.
(6) عبارة (م): «فلما كان معنى قضى فرغ تعلق بها كذلك تعلق بقضى» وما في (ط) أسد.

(4/256)


الله للناس الشر [يونس/ 10]. فقال: لقضى* على هذا، ومن حجّته في ذلك قوله سبحانه «1»: ثم قضى أجلا، وأجل مسمى عنده [الأنعام/ 2]، فهذا الأجل الذي في هذه الآية هو الأجل المضروب للمحيا، كما أن الأجل في قوله: لقضى إليهم أجلهم كذلك «2».
فكما أسند الفعل بالأجل «3» المضروب للحياة إلى الفاعل في قوله: ثم قضى أجلا عند الجميع؛ كذلك أسنده ابن عامر في قوله: لقضى إليهم أجلهم إلى الفاعل، ولم يسنده إلى الفعل المبنيّ للمفعول، ويدلّ على أنّ الأجل في قوله ثم قضى أجلا أجل المحيا، وأن قوله «4»: وأجل مسمى عنده أجل البعث، يبين ذلك قوله: ثم أنتم تمترون [الأنعام/ 2]، أي: أنتم أيها المشركون تشكّون في البعث، فلا تصدّقون به، وقوله: ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده [الأنعام/ 2] في المعنى كقوله: فأحياكم ثم يميتكم [الحج/ 66].
ومن قرأ لقضي فبنى الفعل للمفعول به «5»، فلأنّه في المعنى كقول «6» من بنى الفعل للفاعل.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): لذلك.
(3) في (ط): في الأجل.
(4) في (ط): أن قوله.
(5) سقطت من (م): «به».
(6) في (ط): مثل قول.

(4/257)


[يونس: 5]
قال: وقرأ ابن كثير وحده «1»: ضئاء والقمر نورا [يونس/ 5] بهمزتين في كلّ القرآن، الهمزة الأولى قبل الألف، والثانية بعدها، كذلك قرأت على قنبل، وهو غلط.
وقرأ الباقون بهمزة واحدة في كلّ القرآن.
وكان أصحاب البزّي، وابن فليح ينكرون هذا، ويقرءون مثل قراءة الناس ضياء.
وأخبرني الخزاعيّ عن عبد الوهاب بن فليح عن أصحابه عن ابن كثير: ضياء بهمزة بعد الألف في كلّ القرآن، ولا يعرفون الأخرى «2».
قال أبو علي: الضياء لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون جمع ضوء، كسوط، وسياط وحوض، وحياض، أو مصدر ضاء يضوء ضياء، كقولك: عاذ عياذا، وقام قياما وعاد عيادة «3» وعلى أيّ الوجهين حملته، فالمضاف محذوف.
المعنى: جعل الشمس ذات ضياء، والقمر ذا نور.
أو يكون: جعلا «4» النور والضياء لكثرة ذلك منهما.
فأمّا الهمزة في موضع العين من ضياء، فيكون على القلب، كأنه قدّم اللام التي هي همزة إلى موضع العين،
__________
(1) سقطت من (م): «وحده».
(2) السبعة ص 323.
(3) في (ط): عاذ عياذة، بالذال المعجمة وهو تصحيف.
(4) أي جعل الشمس والقمر. فالنور: المفعول الثاني.

(4/258)


وأخّرت «1» العين التي هي واو إلى موضع اللام، فلما وقعت طرفا بعد ألف زائدة، انقلبت همزة، كما انقلبت في: شقاء وغلاء. وهذا إذا قدّرته جمعا كان أسوغ، ألا ترى أنهم قالوا:
قوس وقسيّ، فصحّحوا الواحد، وقلبوا في الجميع.
وإذا قدّرته مصدرا كان أبعد، لأن المصدر يجري على فعله في الصحّة والاعتلال، والقلب ضرب من الاعتلال، فإذا لم يكن في الفعل لم ينبغ أن يكون في المصدر أيضا، ألا
ترى أنّهم قالوا «2»: لاوذ لواذا، وبايع بياعا، فصحّحوهما في المصدر لصحتهما في الفعل، وقالوا: قام قياما؛ فأعلّوه ونحوه لاعتلاله في الفعل.

[يونس: 16]
اختلفوا في فتح الراء وكسرها من قوله جل وعز «3»:
ولا أدراكم به [يونس/ 16].
فقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص ونافع ولا أدراكم به بفتح الراء، والألف.
وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر «4» وحمزة والكسائي: ولا أدريكم به بكسر الراء وبألف «5».
قال أبو علي قوله «6»: ولا أدراكم به حكى سيبويه:
__________
(1) في (ط): وأخر.
(2) في (ط): قد قالوا.
(3) في (ط): تعالى.
(4) زيادة من (ط).
(5) في (ط): وبالألف. وفي السبعة ص 324 بكسر الراء فقط.
(6) سقطت من (م).

(4/259)


دريته، ودريت به، قال: والأكثر في الاستعمال بالباء، ويبيّن ما قاله من ذلك قوله سبحانه «1»: ولا أدراكم به، ولو جاء «2» على اللغة الأخرى لكان: ولا أدراكموه، وقالوا: الدّرية، فجاء على فعلة، كما قالوا: الشّعرة، والدّرية، والفطنة، وهي مصادر يراد بها ضروب من العلم.
وجاء هذا البناء في غير هذا النحو كقولهم: الردّة قال:
قليل ردّتي إلا أمامي «3» فأمّا الدراية فكالهداية والدّلالة، وكأن الدراية التأنّي والتعمّل لعلم الشيء، وعلى هذا المعنى ما تصرّف «4»، ومن هذه الكلمة أنشد أبو زيد:
فإنّ غزالك الذي كنت تدّري ... إذا شئت ليث خادر بين أشبل
«5» قال أبو زيد: تدّري: تختل «6»، ومنه الدّريّة في قول أكثر الناس في الحجل الذي يستتر به الصائد من الوحش، كأنه يختل به، فيأتي الوحش من حيث لا تعلم.
وقالوا: داريت الرجل: إذا لا ينته وختلته.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): ولو كان.
(3) في (ط): إني قليل ردتي، ولم نعثر على قائل البيت ولا تتمته.
(4) في (م): «تصرف» بإسقاط ما.
(5) البيت لمطير بن الأشيم الأسدي- جاهلي.
(6) النوادر 182 (ط. الفاتح).

(4/260)


وإذا كان هذا الحرف على هذا، فالداري في وصف القديم لا يسوغ، فأما قول الراجز «1»:
لا همّ لا أدري وأنت الداري فلا يكون حجة في جواز ذلك لأمرين: أحدهما: أنه لما تقدم لا أدري، استجاز أن يذكر الداري بعد ما «2» تقدم لا أدري، كما جاء: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه [البقرة/ 194] ونحو ذلك، ولو لم يتقدم ذكر الاعتداء، لم يحسن في الابتداء الأمر بالاعتداء، وكذلك إن تسخروا منا، فإنا نسخر منكم [هود/ 38]، وقوله سبحانه «3»: إنما نحن مستهزئون، الله يستهزىء بهم [البقرة/ 14].
والأمر الآخر: أن العرب «4» ربّما ذكروا أشياء لا مساغ لجوازها كقوله «5»:
لا همّ إن كنت الذي بعهدي ... ولم تغيّرك الأمور بعدي
وقول الآخر «6»:
لو خافك الله عليه حرّمه
__________
(1) وهو العجاج، وقد سبق انظر 1/ 260.
(2) في (ط): بعده لتقدم.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): الأعراب.
(5) سبق انظر 1/ 261.
(6) لسالم بن دارة، سبق 1/ 261.

(4/261)


فأمّا الهمز «1» في أدراكم على ما يروى عن الحسن، فلا وجه له لأن الدّرء الدفع، على ما جاء في قوله سبحانه «2»:
فادرؤوا عن أنفسكم الموت [آل عمران/ 168]، وقوله:
فادارأتم فيها [البقرة/ 72]، وما
روي من قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ادرءوا الحدود بالشّبهات «3»».
وقولهم لما طعن «4» من الجبل فاندفع عن سائر الصفيحة: درء ودروء «5»، وقال:
وترمي دروء دونه بالأجادل «6» فأما ما حكي من الهمز في الدّريئة للجمل الذي يختل به الوحش، فمن همز جعله من صفة يليق وصفه بها، وقال «7»:
إنه يدفع به نحو الوحش، ولا يستقيم هذا المعنى في الآية.
__________
(1) في (م): الهمزة.
(2) سقطت من (ط).
(3) قال العجلوني في الكشف 1/ 71: رواه الحارثي في مسند أبي حنيفة عن ابن عباس مرفوعا، قال شيخنا- يعني الحافظ ابن حجر-: وفي سنده من لا يعرف. وقال أيضا في تخريج أحاديث مسند الفردوس: اشتهر على الألسنة والمعروف في كتب الحديث أنه من قول عمر بن الخطاب بغير لفظه. انتهى. وأخرجه الترمذي في الحدود رقم 1424 عن عائشة بلفظ:
ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ... إلى آخر الحديث. وفي سنده يزيد بن زياد الدمشقي ضعيف.
(4) في (ط): ظعن. وفي اللسان (طعن) عن الأزهري: طعن غصن من أغصان هذه الشجرة في دار فلان: إذا مال فيها شاخصا ..
(5) في اللسان (درء): الدرء: نادر يندر من الجبل وجمعه دروء.
(6) لم نعثر على قائله. والأجادل: الصقور مفرده أجدل.
(7) في (ط): وذاك.

(4/262)


فأمّا إمالة الفتحة من الراء في أدراكم به وإمالة الألف عنها، فلأن الألف تنقلب إلى الياء في أدريته، وهما مدريان، وأمّا من لم يمل؛ فلأنّ هذه الألفات كثير من العرب لا يميلونها، وهو الأصل، وعليه ناس كثير من العرب الفصحاء.

[يونس: 18]
اختلفوا في الياء والتاء من قوله سبحانه «1»: عما يشركون [يونس/ 18] في خمسة مواضع:
فقرأ ابن كثير ونافع هاهنا بالياء، وحرفين في النحل [الآية/ 1 - 3] وحرفا في سورة «2» الروم، [الآية/ 40]، وحرفا في النمل بالتاء، خير أما تشركون [59].
وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر خمسة «3» الأحرف بالياء، كذا في كتابي عن أحمد بن يوسف التغلبيّ عن ابن ذكوان عن ابن عامر: خمسة «3» الأحرف بالياء، ورأيت في كتاب موسى بن موسى عن ابن ذكوان بإسناده في سورة النمل بالتاء، وكذلك حدثني أحمد بن محمد بن بكر عن هشام بن عمار بإسناده عن ابن عامر: خمسة «3» الأحرف بالتاء، وقرأ حمزة والكسائي: خمسة الأحرف بالتاء.
ولم يختلفوا في غير هذه الخمسة «6».
قال أبو علي: من قرأ في يونس: وتعالى عما تشركون
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): الخمسة الأحرف، وكذلك هي في السبعة. وكلاهما صواب.
(6) السبعة ص 324. وفيه اختلاف يسير عما هنا، ونقص قوله: وقرأ حمزة والكسائي خمسة الأحرف بالتاء.

(4/263)


بالتاء، فلقوله: قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما تشركون.
ومن قرأ بالياء احتمل وجهين:
أحدهما على: قل، كأنه قيل له «1»: قل أنت: سبحانه وتعالى عما يشركون.
والوجه الآخر: على أنه «2» يكون هو سبحانه نزّه نفسه عما افتروه فقال: سبحانه وتعالى عما يشركون.
ومن قرأ في النّحل: سبحانه وتعالى عما تشركون [الآية/ 1]، فعلى أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أمر بأن يخاطبهم بذلك كأنّه:
قل لهم: تعالى عمّا تشركون.
ومن قرأ هذا بالياء، فعلى أنه نزّه نفسه فقال: سبحانه وتعالى عما يشركون، وفي النمل: من قرأ آلله خير أم ما تشركون [59] فهو على «3»: قل لهم: آلله خير أم ما تشركون؟ فهذا بالتاء لأنهم مخاطبون. ومن قرأ بالياء لم يصرف الخطاب إليهم، فقيل: آلله خير أم ما يشركون على وجه التبكيت والتقريع لهم، كما قالوا. السعادة أحبّ إليك أم الشقاء!؟ وعلى هذا النحو يحمل هذا الضرب.

[يونس: 22]
اختلفوا في قوله [عزّ وجلّ] «4»: هو الذي يسيركم في
__________
(1) سقطت من (ط): «له».
(2) في (ط): أن
(3) في (ط): فعلى.
(4) سقطت من (ط).

(4/264)


البر والبحر [يونس/ 22]، فقرأ ابن عامر وحده: هو الذي ينشركم بالنون والشين، من النّشر.
وقرأ الباقون: يسيركم بضم الياء وفتح السين من السّير «1».
قال أبو علي: قالوا: سار الدابّة، وسرته. قال «2»:
فلا تجزعن من سنّة أنت سرتها وقالوا أيضا: سيّرته .. قال لبيد «3» لسيّان «4» حرب أو تبوءوا «5»
بخزية ... وقد يقبل الضّيم الذّليل المسيّر
فهذا يدل على قراءة من قرأ: يسيركم. ويقوي هذا الوجه قوله سبحانه وتعالى: فامشوا في مناكبها [الملك/ 15]، وانتشروا في الأرض [الجمعة/ 10] قل سيروا في الأرض [الأنعام/ 11 النمل/ 69 العنكبوت/ 20 الروم/ 42].
__________
(1) السبعة 325.
(2) صدر بيت لخالد بن زهير الهذلي يرد على أبي ذؤيب، وعجزه:
فأوّل راضي سنّة من يسيرها انظر شرح أبيات المغني 7/ 134 والخصائص 2/ 212 وشرح ديوان الهذليين للسكري 1/ 213 والبحر المحيط 5/ 138.
(3) شرح ديوانه (ط. الكويت) ص 226.
(4) في الديوان: لشتّان.
(5) في (ط): تبوء.

(4/265)


وحجة ابن عامر: أنّ ينشركم في المعنى مثل قوله:
وبث منهما رجالا كثيرا ونساء [النساء/ 1]، ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة [الشورى/ 29]، فالبثّ تفريق ونشر في المعنى.

[يونس: 23]
قال: كلّهم قرأ: إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا [يونس/ 23] رفعا إلّا ما رواه حفص «1» عن عاصم فإنّه روى عنه متاع الحياة الدنيا نصبا، حدّثني عبيد الله بن علي عن [نصر بن علي] «2» عن أبيه عن هارون عن ابن كثير متاع نصبا «3».
قال أبو علي: قوله على أنفسكم يحتمل تأويلين:
أحدهما: أن يكون متعلّقا بالمصدر لأن فعله متعدّ «4» بهذا الحرف، يدلّك على ذلك قوله سبحانه «5»: بغى بعضنا على بعض [ص/ 22] وثم بغي عليه لينصرنه الله [الحج/ 60]، فإذا جعلت الجارّ من صلة المصدر كان الخبر:
متاع الحياة الدنيا*، والمعنى: بغي بعضكم على بعض متاع الحياة «6» الدنيا، وليس مما يقرّب إلى الله، وإنما تأتونه لحبّكم العاجلة، وإيثارها على ما يقرّب إلى الله من الطاعات.
__________
(1) في حاشية (ط): عبارة: بلغت المقابلة.
(2) سقطت من (م).
(3) السبعة 335.
(4) في (م): يتعدى بإلى بهذا. وما في (ط): أسدّ.
(5) سقطت من (ط).
(6) في (ط): متاع في الدنيا.

(4/266)


ويجوز أن تجعل على* متعلقا بمحذوف، ولا تجعله من صلة المصدر؛ فإذا جعلته كذلك كان خبرا للمصدر، وفيه ذكر يعود إلى المصدر، كما أنك إذا قلت: الصلاة في المسجد، كان كذلك، والمعنى: أن المصدر مضاف إلى الفاعل، ومفعول المصدر محذوف، المعنى: إنّما بغي بعضكم على بعض عائد على أنفسكم، ف «على» هذا متعلّق بمحذوف دون المصدر المبتدأ، وهذا في المعنى كقوله: ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله [فاطر/ 43]، من نكث فإنما ينكث على نفسه [الفتح/ 10]، وفي قوله سبحانه «1» ثم بغي عليه لينصرنه الله [الحج/ 60] إبانة عن هذا المعنى، ألا ترى أن المبغيّ عليه إذا نصره الله لم ينفذ فيه بغي الباغي عليه ولا كيده، فإذا لم ينفذ ذلك فيه صار كالعائد على الباغي.
فإذا «2» رفعت متاع الحياة الدنيا* على هذا التأويل، كان خبر مبتدأ محذوف، كأنك قلت:
ذلك متاع الحياة الدنيا، أو هو متاع الحياة الدنيا.
ومن نصب متاع الحياة الدنيا احتمل النصب فيه وجهين: أحدهما: أن تجعل على* من صلة المصدر، فيكون الناصب للمتاع هو المصدر الذي هو البغي، ويكون خبر المبتدأ محذوفا، وحسن حذفه لطول الكلام، ولأن بغيكم* يدلّ على تبغون، فيحسن الحذف لذلك، وهذا الخبر المقدّر، لو أظهرته
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): وإذا

(4/267)


لكان يكون مذموم أو مكروه أو منهيّ عنه، أو نحو «1» ذلك.
والآخر: أن تجعل على* من قوله: على أنفسكم خبر المبتدأ، فإذا جعلته على هذا احتمل نصب متاع وجهين:
أحدهما: تمتّعون متاعا، فيدلّ انتصاب المصدر عليه.
والآخر: أن تضمر تبغون، وما يجري «2» مجرى ذكره قد تقدم، كأنه لو أظهره، لكان: تبغون متاع الحياة الدنيا، فيكون مفعولا له. ومثل هذا قوله تعالى «3»: إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون [الشعراء/ 72] تقديره: مقتكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون، ألا ترى أن قوله: إذ تدعون لا يجوز أن يتعلّق بالمصدر للفصل بين الصلة والموصول، فكذلك لا يجوز أن أن يتعلّق المنصوب بالمصدر في قوله: إنما بغيكم على أنفسكم متاع وقد جعلت على* خبرا لقوله: إنما بغيكم على أنفسكم لفصلك بين الصّلة والموصول.

[يونس: 27]
اختلفوا في فتح الطاء وإسكانها من قوله [جل وعز] «4»:
قطعا من الليل [يونس/ 27].
فقرأ ابن كثير والكسائيّ: قطعا ساكنة الطاء، وقرأ الباقون: قطعا مفتوحة الطاء «5».
__________
(1) في (ط): ونحو.
(2) في (ط): لأن ما يجري.
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (ط).
(5) السبعة 325.

(4/268)


قال «1» أبو عبيدة: قطعا من الليل مظلما جماعة قطعة «2» من الليل، وهو بعض الليل، وأتيته بقطع: أي بساعة من الليل، وقطع وأقطاع «3».
قال أبو علي: القطع: الجزء من الليل الذي فيه ظلمة يدلّ على ذلك قوله تعالى «4»: وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل [الصافات/ 138]، فقوله: وبالليل خلاف الإصباح الذي هو الوضح، فقوله «5»: وبالليل يراد به الظلمة، والمعنيان في اللفظتين يتقاربان، وإن اختلفا، وذلك أن المراد وصف وجوههم بالسواد، كقوله سبحانه «6»: ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة [الزمر/ 60]. وقيل في قوله: يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام [الرحمن/ 41]: إنه سواد الوجوه، وزرقة الأعين في قوله: ونحشر المجرمين يومئذ زرقا [طه/ 102]، فإذا أغشيت وجوههم قطعا من اللّيل اسودّت وجوههم منه، كما أنها إذا أغشيت قطعا- التي هي جمع قطعة- اسودّت منها.
فأما قوله سبحانه «7»: مظلما إذا أجريته على قطع
__________
(1) سقطت من (م): «قال».
(2) في (م): قطع.
(3) مجاز القرآن 1/ 278.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): ويقال.
(6) في (ط): كقوله تعالى.
(7) سقطت من (ط).

(4/269)


فيحتمل نصبه وجهين: أحدهما: أن يكون صفة للقطع، وهو أحسن، لأنه على قياس قوله: وهذا كتاب أنزلناه مبارك [الأنعام/ 92 - 155] وصف الكتاب بالمفرد بعد ما وصف بالجملة «1»، وأجري على النّكرة. ويجوز أن تجعله حالا من الذّكر الذي في الظّرف في قوله: من الليل، ولكن يكون مظلما صفة للقطع، ولا يكون حالا من الذكر الذي في الظرف.
ومن قرأ: قطعا لم يكن مظلما صفة للقطع، ولا حالا من الذكر الذي في قوله: من الليل، ولكن يكون حالا من الليل، والعامل في الحال ما يتعلق به من الليل وهو الفعل المختزل.
ومثل ذلك في إرادة الوصف بالسواد قوله «2»:
ألا طرقت ليلى بنيّان بعد ما ... طلى الليل بيدا، فاستوت، وإكاما
أي: اسودّت لظلمة الليل، وقال الآخر «3»:
__________
(1) قراءة (ط): وصفت الكتاب بالمفرد بعد ما وصفته بالجملة وأجريته.
(2) أنشده أبو علي في إيضاح الشعر ص 413 وقال: أي: غشيته الظلمة، فصار البيد والإكام سواء في مرآة العين، وورد عنده برواية «طوى» بدل «طلى».
وورد في معجم البلدان (نيان) برواية: «كسا» قال: ونيان: جبل في بلاد قيس.
(3) البيت لذي الرمّة في ديوانه 2/ 685، والدويّة: المستوي من الأرض، منسوبة إلى الدوّ، والدوّ: الفلاة الواسعة اعتسفتها: قطعتها على غير

(4/270)


ودوّيّة مثل السّماء اعتسفتها ... وقد صبغ الليل الحصى بسواد
أي: سوّدتها الظلمة.

[يونس: 30]
اختلفوا في التاء والباء من قوله [جلّ وعزّ] «1»: هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت [يونس/ 30].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر:
تبلو بالباء.
وقرأ حمزة والكسائي: تتلو بالتاء «2».
قال أبو علي: أمّا من قال: تبلو فمعناه: تختبر من قوله سبحانه «3»: وبلوناهم بالحسنات والسيئات [الأعراف/ 168] أي: اختبرناهم، ومنه قولهم: البلاء ثم الثناء. أي:
الاختبار للمثني عليه، ينبغي أن يكون قبل الثناء، ليكون الثناء عن علم بما يوجبه. ومعنى اختبارها ما أسلفت: أنّه إن قدّم خيرا أو شرا جوزي عليه، كما قال: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [الزلزلة/ 7 - 8]، وقوله «4»: من عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها [فصلت/ 46] ونحوها من الآية التي تدلّ على هذا المعنى.
ومن قال: تتلو فإنّه يكون من التلاوة التي هي القراءة،
__________
طريق. وانظر الإيضاح الشعري 414 وشذور الذهب 123.
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة 325.
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (ط).

(4/271)


ودليله قوله: أولئك يقرؤون كتابهم [الإسراء/ 71]، وقوله:
إقرأ كتابك [الإسراء/ 14]، وقوله: ورسلنا لديهم يكتبون [الزخرف/ 80]، وقوله: ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها [الكهف/ 49]، فإنّما يتلون ذكر ما كانوا قدّموه من صالح أعمالهم وسيّئها مما أحصاه الله ونسوه، فيكون: تتلو: تتبع. من قولهم: تلا بعد الفريضة: إذا أتبعها النفل.
قال «1»:
على ظهر عاديّ كأنّ أرومه ... رجال يتلوّن الصّلاة قيام
فيكون المعنى في «2»: تتلو كل نفس: تتبع كلّ نفس ما أسلفت من حسنة وسيّئة، فمن أحسن جوزي بالحسنات، ومن أساء جوزي به، فيكون على هذا في المعنى كمن قرأ:
تبلو بالباء.

[يونس: 33]
اختلفوا في قوله سبحانه «3»: [حقت كلمة ربك [يونس/ 33] في الجمع والتوحيد.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائيّ:
__________
(1) البيت للبعيث. الأروم بفتح الهمزة: أصل الشجرة والقرن. وبضمها جمع إرم، وهي حجارة تنصب علما في المفازة. وتلّى فلان صلاته المكتوبة بالتطوع، أي: أتبعها.
انظر تهذيب اللغة للأزهري 14/ 252، 318 واللسان (تلا).
(2) سقطت من (م).
(3) سقطت من (ط).

(4/272)


حقت كلمة ربك واحدة وفي آخر السورة [96] كذلك.
وقرأ نافع وابن عامر: الحرفين كلمات* جماعة «1».
قال أبو علي: من قرأ: كلمة ربك على الإفراد احتمل وجهين: يجوز أن يكون جعل ما أوعد به الفاسقون كلمة، وإن كانت في الحقيقة كلما، لأنّهم قد يسمّون القصيدة والخطبة كلمة، وكذلك سمّي ما توعّد به الفاسقون من نحو قوله سبحانه «2»: وأما الذين فسقوا فمأواهم النار، كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم [الحج/ 22] كلمة، كما أنّ قوله:
وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا [الأعراف/ 137] يعني به «3»: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض إلى قوله: يحذرون [القصص/ 5] كلمة.
ويجوز أن يكون كلمة ربك التي يراد به «4» الجنس، وقد أوقعت على بعض الجنس، كما أوقع الجنس على بعضه في قوله سبحانه «5»: وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل [الصافات/ 138]، وقول «6» بعض الهذليين «7»:
__________
(1) السبعة 326.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): «يعنى به» بالبناء للمفعول.
(4) في (ط): بها.
(5) سقطت من (ط).
(6) في (ط): وقال.
(7) عجز بيت لجنوب أخت عمرو ذي الكلب من قصيدة ترثي بها أخاها عمرا وقبله:

(4/273)


ببطن شريان يعوي عنده الذيب فأما من جمع فقال: كلمات ربك على الذين فسقوا فإنه جعل الكلم التي توعّدوا بها كلّ كلمة منها «1» كلمة، ثم جمع فقال: كلمات، وكلاهما وجه. فأما قوله سبحانه «2» وكلمة الله هي العليا [التوبة/ 40]، فيجوز أن يعنى بها نحو قوله: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [المجادلة/ 21]، كما فسّر قوله:
وألزمهم كلمة التقوى [الفتح/ 26] أنه: لا إله إلا الله، أخبرنا يوسف بن يعقوب بإسناد ذكره عن مجاهد [بهذا التأويل] «3».

[يونس: 35]
اختلفوا في قوله سبحانه «4»: أم من لا يهدي [يونس/ 35].
فقرأ ابن كثير وابن عامر: يهدي* مفتوحة الياء والهاء، مشدّدة الدال.
وقرأ نافع وأبو عمرو: يهدي* بإسكان الهاء وتشديد الدال، غير أن أبا عمرو كان يشمّ الهاء شيئا من الفتح،
__________
أبلغ هذيلا وأبلغ من يبلّغها ... عنّي حديثا وبعض القول تكذيب
بأنّ ذا الكلب عمرا خيرهم حسبا ... ببطن شريان يعوي حوله الذيب
انظر شرح أشعار الهذليين 2/ 580 والعيني 1/ 395 الهمع 1/ 71 الدرر 1/ 146 شرح الأشموني للألفية 1/ 129.
(1) في (ط): كل واحدة منهما.
(2) سقطت من (ط).
(3) سقط من (م): ما بين المعقوفين.
(4) سقطت من (ط).

(4/274)


وروى ورش عن نافع: يهدي* بفتح الهاء مثل ابن كثير.
وقرأ حمزة والكسائي: يهدي* ساكنة الهاء خفيفة الدال.
وقرأ عاصم في رواية يحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم: يهدي* مكسورة الياء والهاء، مشدّدة الدال.
وروى حفص عن عاصم والكسائي عن أبي بكر عنه، وحسين عن أبي بكر عنه «1»: يهدي* بفتح الياء وكسر الهاء «2».
قال أبو علي: من قرأ: لا يهدي* فقد نسبهم إلى غاية الذهاب عن الحقّ والزّيغ عنه في معادلتهم الآلهة بالقديم سبحانه، ألا ترى أن المعنى: أفمن يهدي غيره إلى طريق التوحيد والحقّ أحقّ أن يتّبع، أم من لا يهتدي هو، إلّا أن يهدى؟ والمعنى: أفمن يهدي غيره، فحذف المفعول الثابت في نحو قوله: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه [البقرة/ 213].
فإن قلت: إن هذه التي اتخذوها لا تهتدي، وإن هديت، لأنّها موات من حجارة وأوثان ونحو ذلك.
قيل: إنّه كذلك، ولكنّ الكلام نزّل على أنّها إن هديت اهتدت، وإن لم تكن في الحقيقة كذلك، لأنهم لما اتخذوها آلهة عبّر عنها كما يعبّر عن الذي تجب له العبادة، ألا ترى أنه من قال: ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) السبعة 326.

(4/275)


يستطيعون [النحل/ 73]، وكما قال: إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم [الأعراف/ 194].
وإنّما هي موات، ألا ترى أنّه قال: فادعوهم فليستجيبوا لكم ألهم أرجل يمشون بها .. [الأعراف/ 194 - 195].
وكذلك قوله: إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم [فاطر/ 14] فأجري عليها «1» اللفظ بحسب «2»
ما أجري على من يعلم فإلا ... على هذا بمنزلة
حتى، كأنه قال «3»: أم من لا يهتدي حتّى يهدى، أي «4»: أم من لا يعلم حتى يعلّم، ومن لا يستدلّ على شيء حتى يدلّ عليه، وإن كان لو دلّ أو أعلم لم يعلم ولم يستدلّ.
وقراءة حمزة والكسائي: أم من لا يهدي فإن المعنى فيه: أم من لا يهدي غيره، لكن «5» يهدى، أي: لا يعلم شيئا ولا يعرفه، لكن «5» يهدى، أي: لا هداية له، ولو هدي أيضا لم
يهتد، إلا أن اللفظ جرى عليه، كما ذكرناه فيما تقدم.
فأمّا يهدّي ويهدّي ويهدي وتهدي، فمعانيها كلها: يفتعل، وإن اختلفت ألفاظها، فالجميع أدغموا التاء في الدال لمقاربتها لها. ألا ترى أن التاء والدال والطاء من حيّز واحد. واختلفوا
__________
(1) في (ط): عليه.
(2) في (ط): على حسب.
(3) زيادة من (ط).
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): ولكن.

(4/276)


في تحريك الهاء، فمن قال: يهدي* ألقى حركة الحرف المدغم وهي الفتحة على الهاء، كما ألقاها على ما قبل المدغم في: معدّ وممدّ، وفي عدّ وفرّ وعضّ، ألا ترى أن الفاءات متحركة بحركة العينات، وكذلك يهدي*، لأنها في كلمة كما أن ممدّ ونحوه في كلمة، فمن «1» قال: يهدي فحرّك الهاء بالكسر، فلأن الكلمة عنده أشبهت «2» المنفصلة، نحو: ضربّ بكر، فإذا أشبهت «3» المنفصلة، بدلالة الإظهار في نحو: اقتتلوا، لم تلق الحركة على ما قبل المدغم، كما أن المنفصل من نحو: قرم مالك «4»، واسم موسى، لا يلقى على الساكن منه حركة المدغم، فلمّا لم يجز إلقاء الحركة على الساكن ترك الهاء «5» على سكونها، فالتقت مع الحرف المدغم وهما ساكنان فحرّك الأول من الساكنين بالكسر لالتقاء الساكنين.
فإن قلت: فقد قالوا: عبشمس، فألقوا حركة المدغم في المنفصل على الأول منهما، وأجري المنفصل مجرى المتصل.
فذلك إنّما جاء في هذا الحرف وحده، ولم يعلم «6» غيره، وشذّ ذلك، لأن الأعلام قد جاء فيها، وجاز ما لم يجز
__________
(1) في (ط): ومن.
(2) في (ط): تشبه عنده.
(3) في (ط): وإذا أشبه.
(4) في (م): قرم موسى.
(5) في (ط): تركت الهاء.
(6) في (ط): نعلم غيره. وجاء عن هامش (ط): بلغت.

(4/277)


في غيرها، ولم يجيء، ألا ترى أن فيها «1» مثل: موهب، ومورق وتهلل وحيوة، فكذلك «2» جاء هذا في عبشمس.
ويدلّك على أن إلقاء الحركة ليس بأصل في هذا الباب تحريكهم الساكن فيه بالضم، وإتباعهم الحرف الساكن «3» ما قبله من الحركة، وذلك ما حكاه عن الخليل وهارون أنّ ناسا من العرب يقولون: مردفين «4» [الأنعام/ 9]، ولست تجد هذا في ممدّ ونحوه.
فأمّا من قال: يهدي* بسكون الهاء، فقد قلنا في الجواز في جمع الساكنين في هذا النحو فيما تقدم «5»، ويقوّيه ما أنشده من قوله «6»:
ومسحيّ مرّ عقاب كاسر وأمّا من أشمّ في هذا ولم يسكن، فالإشمام في حكم التحريك.
__________
(1) في (ط): فيه.
(2) في (ط): وكذلك.
(3) زادت (م): «حركة» بعد الساكن.
(4) نقله سيبويه وقال: فمن قال هذا فإنه يريد: مرتدفين، وإنما أتبعوا الضمّة الضمّة حيث حركوا، وهي قراءة لأهل مكة، كما قالوا: ردّ يا فتى، فضمّوا لضمّة الراء ... (الكتاب: 2/ 410) وانظر فهرس شواهد سيبويه 24 للأستاذ النفاخ.
(5) انظر الجزء الثاني ص 396.
(6) سبق 2/ 397 و 3/ 193.

(4/278)


وأمّا من قال: يهدي بكسر الياء، فإنه يفتعل وأتبع الياء ما بعدها من الكسر.
فإن قلت: إنّ الياء التي للمضارعة لا تكسر، ألا ترى أن من قال: تعلم، لم يقل: يعلم.
قيل: لم تكسر الياء في يهدّي من حيث كسرت النون من نعلم والتاء في تعلم «1»، ولا كما كسرت حروف المضارعة فيما لحقت أوله همزة الوصل، ولا ما كان ينبغي أن تلحقه همزة الوصل نحو: تتغافل، ولكن لمعنى آخر، كما لم تكسر الياء في ييجل من حيث كسرت التاء في تعلم، ولو كسرت في ييجل من حيث كسرت النون في نعلم، لم تكسر في ييجل لأن من يقول نعلم: لا يقول: يعلم، ولكن كسرت الياء من «2» ييجل، لتنقلب الواو ياء، فكذلك كسرت في قوله: يهدي للإتباع، لا من حيث كسر: أنت تهتدي، وأنت تعلم، كما كسرت في ييجل لتنقلب الواو إلى الياء.
وقد كسروا الياء في ييبا، فقالوا: أنت تيبا وهو ييبا، فحرّكوا «3» بالكسر، والحركة في أنت تيبا، والكسرة فيه من حيث كسر أنت تعلم، وذلك أنّ المضارع لمّا كان على وزن يفعل نزّل الماضي كأنّه على فعل، فقالوا: أنت تيبا، كما قالوا:
__________
(1) في (ط): من حيث كسرت النون والتاء في نعلم وتعلم.
(2) في (ط): في.
(3) في (ط): فحركوا الياء.

(4/279)


أنت تعلم وكما «1» قالوا: هما يشأيان بالياء، وهو من الشأو «2»، لمّا كان المضارع على يفعل، نزّل الماضي كأنّه على فعل، وإذا كان على فعل لزم انقلاب الواو التي هي لام إلى الياء، فجاء المضارع بالياء في يشأيان على هذا التنزيل، كما جاء تيبا، على أن الماضي منه على فعل، وكسرت الياء في ييبا كما كسرت الحروف الأخر التي للمضارعة على وجه الشذوذ، وإن «3» لم يكسروا الياء في غير هذا الحرف، ففي هذا بعض الإيناس بقول من قال: يهدي فكسر الياء، وإن كانت جهتا إيجاب الكسر فيهما مختلفتين.

[يونس: 51]
قال: كلّهم قرأ: فليفرحوا، هو خير مما يجمعون [يونس/ 58] بالياء، غير ابن عامر فإنّه قرأ: خير مما تجمعون بالتاء.
ولم يذكر عنه في: فليفرحوا شيء، هذه رواية ابن ذكوان وهشام جميعا «4».
وقال غير أحمد بن موسى: قراءة ابن عامر: فبذلك فليفرحوا بالياء «5» هو خير مما تجمعون بالتاء.
قال أبو علي: قوله سبحانه «6»: قل بفضل الله وبرحمته
__________
(1) في (م): كما.
(2) الشأو: السبق، شأوت القوم شأوا: سبقتهم (اللسان).
(3) سقطت من (ط).
(4) السبعة 327، 328 وسقط ما بعده منه.
(5) في (م): «فلتفرحوا، بالتاء».
(6) سقطت من (ط).

(4/280)


[يونس/ 58] الجار فيه متعلق بمضمر «1» استغني عن ذكره، لدلالة ما تقدّم من قوله سبحانه «2»: قد جاءتكم موعظة عليه «3» كما أنّ قوله: آلآن وقد عصيت [يونس/ 91] يتعلّق الظرف فيه بمضمر، يدلّ عليه ما تقدّم ذكره من الفعل، وكذلك قوله: .. آلآن وقد كنتم به تستعجلون [يونس/ 51]، فأمّا قوله فبذلك فليفرحوا فإن الجارّ في قوله: فبذلك يتعلق بقوله: فليفرحوا «4» لأنّ هذا الفعل يصل به، قال: وفرحوا بها [آل عمران/ 120] وقال:
فرحت بما قد كان من سيّديكما «5» فأما الفاء في قوله: فليفرحوا فزيادة يدل على ذلك أن المعنى: ما فرحوا بذلك، ومثل الآية في زيادة الفاء قول الشاعر «6»:
وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي فالفاء في فاجزعي، زيادة، كما كانت التي في قوله:
فليفرحوا كذلك، ولا تكون إلا وبها الزيادة، لأنّ الظرف إنما
__________
(1) في (ط): يتعلق بضمير.
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (م): «عليه».
(4) في (م): «يتعلّق ب (فليفرحوا)».
(5) لم نعثر على قائله أو تتمته.
(6) عجز بيت للنمر بن تولب في الجزء الأول، انظر ص 44.

(4/281)


يتعلّق باجزعي، والجار في فليفرحوا فيما قبل الفاء [فكذلك يتعلّق بما قبل الفاء] «1».
وقرءوا: فليفرحوا لأنّهم جعلوه أمرا للغائب، واللام إنّما تدخل على فعل الغائب، لأنّ المواجه «2» استغني فيه عن اللام بقولهم: افعل، فصار شبيها بالماضي من «3» يدع الذي استغني عنه بترك.
ولو قلت، فلتفرحوا «4» فألحقت التاء لكنت مستعملا لما هو كالمرفوض، وإن كان الأصل، فلا ترجّح القراءة بالتاء، فإنّ «5» ذلك هو الأصل، لما قد ترى كثيرا من الأصول المرفوضة.
فأما قراءة «6» من قرأ من سواهم «7»: فلتفرحوا فلأنه اعتبر الخطاب الذي قبل، وهو قوله سبحانه «8»: قد جاءتكم موعظة ... فلتفرحوا [يونس/ 57 - 58]، وزعموا أنها في حرف أبيّ: فافرحوا.
__________
(1) ما بين المعقوفتين ساقط من (ط).
(2) في (ط): المواجهة.
(3) في (ط): في.
(4) في (م): فليفرحوا.
(5) في (م): فلا ترجّح القراءة بالتاء إن.
(6) سقطت من (ط).
(7) زيادة من (ط): «من سواهم».
(8) سقطت من (ط).

(4/282)


قال أبو الحسن: وزعموا أنها لغة، قال: وهي «1» قليلة، يعني نحو: لتضرب، وأنت تخاطب.
فأما «2» قراءة ابن عامر: هو خير مما تجمعون بالتاء، فعلى أنّه عنى المخاطبين، والغيب جميعا، إلا أنّك غلّبت المخاطب على الغيبة، كما غلّبت التذكير على التأنيث، فكأنه أراد به المؤمنين وغيرهم.
ومن قرأ بالياء كان المعنى: فافرحوا بذلك أيّها المؤمنون، أي: افرحوا بفضل الله ورحمته، فإن ما آتاكموه من الموعظة، وشفاء ما في الصدور، وثلج اليقين بالإيمان وسكون النفس إليه، خير مما يجمعه غيركم من أعراض الدنيا، ممّن فقد هذه الخلال التي حزتموها.
فإن قلت: فكيف جاء الأمر للمؤمنين بالفرح وقد ذمّ ذلك في غير موضع من التنزيل؟ من ذلك قوله سبحانه «3»: لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين [القصص/ 76] وقال: إنه لفرح فخور [هود/ 10]، قيل: إن عامّة ما جاء مقترنا بالذمّ من هذه اللفظة إذا جاءت مطلقة، فإذا قيّدت لم يكن ذمّا، كقوله سبحانه «4»: ... يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله [آل عمران/ 170]، وقد قيّدت في الآية بقوله فبذلك.
__________
(1) في (م): أنها لغة قليلة.
(2) في (ط): وأما.
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (ط).

(4/283)


فإن قلت: فقد جاء قوله تعالى «1»: فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله [التوبة/ 81] وهو مقيّد، وهو مع التقييد موضع ذمّ. فإن التقييد لا يمتنع أن يجيء في الذمّ، لأنّه يبيّنه كما يبيّن ما كان غير ذمّ، فأما الذي «2» يختصّ بالذمّ فهو أن يجيء على الإطلاق.
فأما قوله سبحانه «3»: فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم [غافر/ 83]، وقوله سبحانه «4»: ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله [الروم/ 4]، فالفرح بنصر الله المؤمنين محمود كما كان القعود عن رسول الله [صلّى الله عليه وآله وسلّم مذموم] «5»، فالتقييد في الموضعين «6» تبيين وتخصيص.

[يونس: 61]
اختلفوا في فتح الراء وضمّها من قوله جلّ وعزّ «7»: ولا أصغر من ذلك ولا أكبر [يونس/ 61].
فقرأ حمزة وحده: ولا أصغر من ذلك ولا أكبر* بضمّ الراء فيهما، وقرأ الباقون «8»: ولا أصغر، ولا أكبر بفتح الراء فيهما «9».
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): المعنى، وهو سهو من الناسخ.
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (ط).
(5) ما بين المعقوفين سقط من (ط).
(6) سقطت «في الموضعين» من (م).
(7) سقطت من (ط).
(8) فصّل في السبعة «الباقون» فقال: فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر والكسائي.
(9) السبعة 328.

(4/284)


قال أبو علي: من فتح الراء في: ولا أصغر، ولا أكبر [من أكبر وأصغر] «1» فلأنّ أفعل في الموضعين، في موضع جرّ لأنّه صفة للمجرور الذي هو قوله: من مثقال ذرة [يونس/ 61]، وإنّما فتح لأنّ أفعل إذا اتصل به منك كان صفة، وإذا كان صفة لم ينصرف في النكرة.
ومن رفع فقال: ولا أصغر من ذلك ولا أكبر* حمله على موضع الموصوف، وذلك «2» أن الموصوف الذي هو من مثقال ذرة الجار والمجرور فيه في موضع رفع، كما كانا في موضعه في قوله: كفى بالله شهيدا [الفتح/ 28] وقوله «3»:
ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت «4» ...
فحمل الصفة على الموضع، وممّا يجوز أن يكون محمولا على الموضع قوله: ما لكم من إله غيره [الأعراف/ 59]. يجوز أن يكون صفة بمنزلة مثل، ويجوز أن يكون استثناء كما تقول: ما لكم من إله إلا الله.
وممّا جاء من الحمل على الموضع قوله سبحانه «5»:
__________
(1) من هامش (م): وليست في (ط).
(2) في (ط): وذاك.
(3) في (ط): وفي قوله.
(4) البيت لقيس بن زهير وتمامه:
بما لاقت لبون بني زياد وقد سبق في 1/ 93، 325 و 2/ 99 وانظر إيضاح الشعر ص 233، للمصنف.
(5) سقطت من (ط).

(4/285)


فأصدق وأكن من الصالحين [المنافقون/ 10]، وقوله:
ويذرهم في طغيانهم يعمهون [الأعراف/ 186].
وقال «1»:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا وقد يجوز أن يعطف قوله: ولا أصغر من ذلك* على ذرة* فيكون التقدير: ما «2» يعزب عن ربّك مثقال ذرة ولا مثقال أصغر، فإذا حمل على هذا لم يجز فيه إلا الجرّ، لأنه لا موضع للذّرّة غير لفظها، كما كان لقوله: من مثقال ذرة موضع غير لفظه، ولا يجوز على قراءة حمزة أن يكون معطوفا على ذرة*، كما جاز في قول الباقين، لأنّه إذا عطف على ذرة* وجب أن يكون أصغر* مجرورا، وإنما فتح لأنّه لا ينصرف، وكذلك يكون على قول من عطفه على الجار الذي هو من*.

[يونس: 71]
قال: وروى نصر بن علي عن الأصمعيّ قال: سمعت نافعا يقرأ: فاجمعوا أمركم [71]، مفتوحة الميم من
__________
(1) عجز بيت لعقيبة الأسدي أو لعبد الله بن الزبير وصدره:
معاوي إننا بشر فأسجح انظر سيبويه 1/ 34 - 352 - 375 - 448 - الخزانة 1/ 343، 2/ 143 شرح المفصل 2/ 109، 4/ 9، السمط 148 - 149 شرح أبيات المغني 7/ 53.
(2) في (ط): وما يعزب، بزيادة الواو.

(4/286)


جمع «1». وروى غير الأصمعي عن نافع مثل سائر «2» القرّاء.
وكلّهم قرأ: فأجمعوا أمركم بالهمز وكسر الميم من:
أجمعت «3».
قال أبو علي: ما رواه الأصمعي عن نافع من قراءته:
فاجمعوا أمركم من جمعت، فالأكثر «4» في الأمر أن يقال:
أجمعت، كما قال: وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم [يوسف/ 102]. وقال «5»:
هل أغدون يوما وأمري مجمع «6» وقال «7»:
أجمعوا أمرهم بليل فلمّا ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
فيمكن أن يكون أراد: فاجمعوا ذوي الأمر منكم. أي:
رؤساءكم ووجوهكم، كما قال سبحانه «8»: وإلى أولي الأمر منهم [النساء/ 83]، فحذف المضاف، وجرى على المضاف
__________
(1) في السبعة: أجمع. وهو سهو.
(2) سقطت من (م).
(3) السبعة 328.
(4) في (ط): والأكثر.
(5) في (ط): وكما قال:
(6) سبق انظر 3/ 320.
(7) البيت للحارث بن حلّزة من معلقته وقد ورد فيها برواية: عشاء، بدل بليل- انظر شرح المعلقات السبع للزوزني/ 158 والمنصف 3/ 27.
(8) سقطت من (ط).

(4/287)


إليه، ما كان يجري على «1» المضاف، لو ثبت، ويجوز أن يكون جعل الأمر ما كانوا يجمعونه من كيدهم الذي كانوا «2» يكيدونه به، فيكون بمنزلة قوله: فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا [طه/ 64]، على أنّ أبا الحسن زعم أنّ وصل الألف في فاجمعوا أمركم وشركاءكم، أكثر في كلام العرب، قال: وإنما يقطعونها إذا قالوا: أجمعوا على كذا وكذا، قال: والقراءة بالقطع عربيّة. ومن قرأ «3»: اجمعوا، من: جمعت، حمل الشركاء على هذا الفعل الظاهر، لأنّك جمعت الشركاء، وجمعت القوم، وعلى هذا جاء: ذلك يوم مجموع له الناس [هود/ 103].
ومن قال: فأجمعوا أمركم على أفعل، أضمر للشركاء فعلا آخر كأنّه: فأجمعوا أمركم، واجمعوا شركاءكم، فدلّ المنصوب على الناصب، كقول الشاعر «4»:
علفتها تبنا وماء باردا ... حتّى شتت همّالة عيناها
وكقول الآخر «5»:
شرّاب ألبان وتمر وأقط
__________
(1) سقطت من (ط): على.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): قال.
(4) سبق انظر 1/ 312.
(5) في (ط): وقال الآخر. وقد سبق انظر 1/ 312.

(4/288)


وكقوله «1»:
متقلّدا سيفا ورمحا لمّا لم يجز أن يحمل الرمح على التقليد، أضمر له فعلا كما أضمر لنصب الشركاء لمّا لم يجز الحمل على: أجمعوا.
وزعموا أنّ في حرف أبيّ: وادعوا شركاءكم فحمل الكلام على الذي يراد به الانتصار، كقوله: وادعوا من استطعتم من دون الله [هود/ 13] وادعوا شهداءكم من دون الله [البقرة/ 23].
ويجوز أن يكون انتصاب الشركاء على أنه مفعول معه، أي: أجمعوا أمركم مع شركائكم، كقولهم: استوى الماء والخشبة، وجاء البرد والطّيالسة. ويدلّك على جوازه أن
الشركاء فاعله في المعنى، كما أن الطيالسة كذلك، ومن ثمّ قرأ الحسن فيما زعموا فاجمعوا أمركم وشركاؤكم.
وزعم أبو الحسن أن قوما يقيسون هذا الباب، ويجعلونه مستمرّا، وأن قوما يقصرونه على ما سمع، والقول الأوّل عندي أقيس.

[يونس: 81]
اختلفوا في مدّ الألف وترك المدّ من قوله سبحانه «2»:
السحر [81].
__________
(1) في (ط): وقوله، وقد سبق أنظر 1/ 311.
(2) في (ط): عز وجل.

(4/289)


فقرأ أبو عمرو وحده: آلسحر ممدودة الألف.
وكلّهم قرأها بغير مدّ، على لفظ الخبر «1».
قال أبو علي: قول أبي عمرو: ما جئتم به آلسحر، ما*: ترتفع فيه بالابتداء، وجئتم به في موضع الخبر، والكلام استفهام يدلك على ذلك استقلال الكلام بقوله: جئتم به، ولو كانت موصولة احتاجت إلى جزء آخر.
فأمّا وجه «2» الاستفهام مع علم موسى أنه سحر، فإنه على وجه التقرير، كما قال: أأنت قلت للناس [المائدة/ 11] وهذا كثير، ولا يلتبس بالشرط وإن كان الشرط لا صلة له، لأنه لا جزاء هاهنا «3»، والشرط يلزمه الجزاء، ومن قال: زيدا مررت به، كان ما* في «4» قوله: ما جئتم به في موضع نصب بمضمر يفسّره جئتم به «5»، وعلى هذا قوله:
ورهبانية ابتدعوها [الحديد/ 27] فمن «6» قال: آلسحر؟، فألحق حرف الاستفهام، كان السحر بدلا من ما* المبتدأ، ولزم إن يلحق السحر الاستفهام ليساوي المبدل منه، في أنّه استفهام، ألا ترى أنه ليس في قولك: السحر استفهام،
__________
(1) السبعة 328.
(2) سقطت من (م): «وجه».
(3) في (ط): هنا.
(4) سقطت من (م): «ما في».
(5) في (م): «ما جئتم به». ومن قوله يفسره اختلف الناسخ في المخطوطة (م): إلى نهاية الجزء الرابع.
(6) في (ط): ومن قال.

(4/290)


وعلى هذا قالوا: كم مالك: أعشرون أم ثلاثون؟ فجعلت العشرون بدلا من كم، وألحقت أم، لأنك في قولك: كم درهما مالك؟ مدّع أنّ له مالا كما أنك في قولك: أعشرون أم ثلاثون، مالك؟ مدع أنه أحد الشيئين، ولا يلزم أن تضمر للسّحر خبرا على هذا لأنك إذا أبدلت من المبتدأ، صار في موضعه، وصار ما كان خبرا لما أبدلت منه في موضع خبر المبتدأ «1»، فأما قول الشاعر «2»:
وكأنه لهق السّراة كأنّه* ما حاجبيه معيّن بسواد «3» فإنه أبدل الحاجبين من الضمير «4» على حدّ قولك:
ضربت زيدا رأسه، فإن قلت: أبدل من الأول، وقدّر الخبر عن الأول، لأن المبدل منه قد لا يكون في نيّة الإسقاط «5» بدلالة إجازتهم: الذي مررت به زيد أبو عبد الله، ولو كان البدل في تقدير الإسقاط، وما لا يعتد به، لم يجز هذا الكلام فهو قول،
__________
(1) في (ط): البدل.
(2) في (ط): قوله.
(3) نسبه سيبويه (ط: بولاق) ص 80 للأعشى، وليس في ديوانه. ونص البغدادي في الخزانة 2/ 372 أنه من الأبيات الخمسين التي لا يعرف لها قائل. وانظر إيضاح الشعر ص 90 و 558 واللسان (عين) وشرح المفصل 3/ 67 والهمع 5/ 348. يصف ثورا وحشيا شبه به بعيره.
لهق: أبيض، والسراة: أعلى الظهر، معين بسواد: مشتق من العينة، مصدر عين. إذا عظم سواد عينه في سعة.
(4) وهو الهاء في كأنه، وما: زائدة.
(5) في (م): إسقاط.

(4/291)


وإن قلت: حمل الكلام على المعنى، فلما كان حاجباه بعضه حمل الكلام عليه كأنه قال: كأنّه بعضه معيّن بسواد، فأفرد لذلك؛ فهو قول. وزعموا أن إلحاق الهمز «1» في السحر قراءة مجاهد وأصحابه.
ومن قال: ما جئتم به السحر كان ما* في قوله:
ما جئتم «2» موصولا، وجئتم به الصلة والهاء المجرورة عائدة على الموصول، وخبر المبتدأ الذي هو الموصول السحر، ومما يقوي هذا الوجه ما زعموا أنه في حرف عبد الله: ما جئتم به سحر «3».

[يونس: 89]
قال: وقرأ ابن عامر وحده: ولا تتبعان [يونس/ 89] ساكنة التاء مخفّفة، مشدّدة النّون، وفي رواية الحلواني عن هشام بن عمّار: بالنون والتشديد، قال: وأحسب ابن ذكوان عنى بروايته خفيفة يعني التاء من تبع، قال: وإن كان كذلك فقد اتّفق هو وهشام في النون، وخالفه هشام في التاء «4»،
__________
(1) في (ط): الهمزة.
(2) زيادة من (م).
(3) الكلام متصل في (ط): بينما ينتهي هنا الجزء الرابع في (م): بقوله:
تم يتلوه إن شاء الله، تعالى وبه العون، في الجزء الخامس:
قال: قرأ ابن عامر وحده: (ولا تتبعانّ) [يونس/ 89] مخففة التاء ساكنة مشددة النون، [والحمد لله رب العالمين كثيرا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلّم تسليما، وعلى أصحابه وأتباعه ومحبيه، وعلي بهم وجميع المسلمين وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم].
(4) السعة 329 وأكمل بقوله: وقرأ الباقون: (ولا تتبعان) بكسر الباء وتشديد التاء والنون.

(4/292)


وقال غير أحمد بن موسى: رواية الأخفش الدمشقي عن أصحابه عن ابن عامر: تتبعان خفيفة التاء والنون.
قال أبو علي: من قرأ: ولا تتبعان فالنون فيها النون الشديدة، وهي إذا دخلت على يفعل فتح لدخولها، وبني الفعل معها على الفتح نحو: لتفعلنّ، ويحذف التي تثبت في نحو:
يفعلان، في الرفع مع النون الشديدة، كحذف الضمة في ليفعلن وإنما كسرت الشديدة بعد ألف التثنية في نحو: ولا تتبعان لوقوعها بعد ألف التثنية، فأشبهت التي تلحق الألف في رجلان، ويفعلان لمّا كانت زائدة مثلها، وداخلة لمعنى كدخولها، فإن قلت: إن قبلها نونا، وليست التي للتثنية، كذلك فإن النون لما كانت ساكنة وجمعت إلى السكون الخفاء، لم يعتدّ بها فصارت المكسورة كأنها وليت الألف، ومثله في أنّه لم يعتدّ فيه بالحاجز لسكونه قولهم: هو ابن عمّي دنيا «1»، وهو من الدّنوّ، وفتية، وهي من الواو فيما زعم سيبويه، ومنه قولهم في جمع عليّ، وصبيّ: علية وصبية وقالوا: عليان، وقد لا يعتدّون بالحاجز لخفائه، وإن كان متحرّكا، كما أجمعوا فيما زعم سيبويه على ردّها لخفاء الهاء وكما كرهوا- كثير منهم-: وضع عصاهو قبل، وخذوهو يا قوم، لأن الحرف لمّا كان خفيّا كان كأنّه التقى ساكنان، فإذا جاء ذلك في المتحرك فالساكن أولى.
فأمّا من قرأ: ولا تتبعان بتخفيف النون، فإنّه يمكن أن يكون خفّف الثقيلة للتضعيف، كما حذفوا: ربّ، وإنّ ونحوهما
__________
(1) جاء في اللسان (دنا): وقالوا: هو ابن عمي دنية، ودنيا، منوّن، ودنيا، غير منوّن، ودنيا، مقصور: إذا كان ابن عمه لحّا.

(4/293)


من المضاعف، إلا أنه حذف الأول من المثلين، كما أبدلوا الأول من المثلين في نحو قيراط ودينار «1»، ولزم ذلك في هذا الموضع، لأن الحذف لو لحق الثانية للزم التقاء ساكنين على غير ما يستعمل في الأمر العام الشائع. ألا ترى أن اجتماع الساكنين على هذا الحد غير مأخوذ به عند العامّة، وإن شئت كان على لفظ الخبر، والمعنى: الأمر، كقوله: يتربصن بأنفسهن [البقرة/ 228]، ولا تضار والدة بولدها [البقرة/ 233]، أي لا ينبغي ذلك، وإن شئت جعلته حالا من: استقيما، وتقديره: استقيما غير متبعين، ويدلّ على ذلك قول الشاعر «2»:
ولا أسقي ولا يسقي شريبي ... ويرويه إذا أوردت مائي
وقول الآخر «3»:
__________
(1) إذ أن أصل قيراط: قرّاط، ودينار: دنّار بالتشديد، لأن جمعهما: قراريط ودنانير، فأبدل من أحد حرفي تضعيفه وهو الأول ياء. والقيراط من الوزن معروف، وهو جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عشرة في أكثر البلاد.
وأهل الشام يجعلونه جزءا من أربعة وعشرين (اللسان: قرط).
(2) أنشده القالي في أماليه 2/ 263 عن الفراء دون أن ينسبه وبرواية: فلا أسقى ولا يسقى، وانظر السمط 2/ 901 وبعده في المعاني الكبير 2/ 1265:
يعلّ وبعض ما أسقي نهال ... وأشربه على إبلي الظماء
وشريبه: الذي يشرب معه، والمعنى: لا أسقي حتى يسقي شريبي، كما تقول: لا آكل ولا يأكل أخي، أي: لا آكل حتى يأكل أخي.
(3) لم نعثر على قائله.

(4/294)


أصاح الذي لو أنّ ما بي من الهوى ... به لم أرعه لا يعزّي وينظره
وكقول الفرزدق «1»:
بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها حين سلّت

[يونس: 90]
اختلفوا في فتح الألف وكسرها من قوله: آمنت أنه [يونس/ 90].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر: أنه بفتح الألف.
وقرأ حمزة والكسائيّ: آمنت إنه بكسر الألف «2».
قال أبو علي: من قال: آمنت أنّه فلأنّ هذا الفعل يصل بحرف الجر، في نحو يؤمنون بالغيب [البقرة/ 3]، ويؤمنون بالجبت [النساء/ 51]، فلما حذف الحرف وصل الفعل إلى أنّ، فصار في موضع نصب أو خفض على الخلاف في ذلك.
ومن قال: آمنت إنه حمله على القول المضمر، كأنه.
آمنت فقلت: إنه. وإضمار القول في هذا النحو كثير، ولإضمار القول من المزية هنا، أن قلت: إنه لا إله إلا الله في المعنى
__________
(1) انظر ديوانه 1/ 139، وهو في المعاني الكبير 2/ 1265، وشرح أبيات المغني الشاهد رقم 669 - 761 والإنصاف/ 667 وابن يعيش في المفصل 2/ 67. ولم يشيموا: لم يغمدوا سيوفهم حتى كثرت القتلى بها.
(2) السبعة 330.

(4/295)


إيمان، فإذا قال: آمنت فكأنه قد ذكر ذلك.

[يونس: 91]
اختلفوا في قوله: آلآن وقد عصيت قبل [يونس/ 91]، فروى المسيبيّ وقالون عن نافع أنه قرأ:
الآن* مستفهمة: جدّا «1»، وكذلك قال ابن أويس عن نافع بهمزة واحدة، وقال ورش أيضا: إنه كان يقرأ بفتح اللام، ومدّ الهمزة الأولى، ولا يهمز بعد اللام، والباقون يهمزون بعد اللام واللام ساكنة [الآن].
وقال أحمد بن صالح عن قالون بهمزة واحدة بعدها مدّة.
وقال أبو خليد عن نافع: آلآن ليس بعد اللام همزة.
وأصل قول ورش عن نافع، أنه إذا كانت الهمزة قبلها ساكن، ألقى حركة الهمزة على الساكن، وترك الهمز مثل:
الارض، بفتح اللام، والاسماء، بفتح اللام بحركة الهمزة، وآلآن: لا يهمز بعد اللام، ويفتح اللام بحركة الهمزة.
وقال ابن جبير: عن الكسائيّ عن إسماعيل عن نافع، وعن حجاج بن منهال الأعور، عن ابن أبي الزناد عن نافع:
آلان لا يهمز بعد اللام «2».
قال أبو علي «3»: إن لام المعرفة إذا دخلت على كلمة أوّلها
__________
(1) كذا الأصل: جدّا. وفي السبعة: بهمزة واحدة.
(2) السبعة 327. وقد أورد الآية رقم 51 لها أيضا وهي من السورة نفسها، وهي قوله سبحانه: (آلآن وقد كنتم به تستعجلون). هذا وقد رسمت (آلآن) في الأصل هكذا: (أالان).
(3) وانظر ما سبق في الجزء الأول ص 392 وما بعدها.

(4/296)


الهمزة، فخفّفت الهمزة فإن في تخفيفها وجهين: أحدهما: أن تحذف وتلقى حركتها على اللام وتقرّ همزة الوصل فيقال:
الحمر: وقد حكى ذلك سيبويه «1».
وحكى أبو عثمان عن أبي الحسن أن ناسا يقولون:
لحمر. فيحذفون الهمزة التي للوصل، فالذين أثبتوا الوصل أثبتوها لأن التقدير باللام السكون، وإن كانت في اللفظ متحركة، كما كان التقدير فيها السكون في قولهم في التذكّر، إلى إذا تذكر نحو القليل والقوم «2» فكما لم تحذف الهمزة هنا، كذلك لم تحذف في نحو الحمر، ومثل ذلك في أنّ التقدير لما كان بالحركة السكون، قد جرى مجرى الساكن وإن كان متحرّكا في اللفظ قولهم: أردد الرجل، وآلى التحريك في المثلين لمّا كان الثاني فيهما في تقدير السكون، وإنّما تحرّك بحركة لا تلزم، فكذلك الحمر، وأما اللغة الأخرى فمن الدليل عليها ما أنشدنيه أحمد بن موسى عن الكسائيّ «3»:
فقد كنت تخفي حبّ سمراء حقبة ... فبح لان منها بالذي أنت بائح
__________
(1) انظر الكتاب 1/ 163 في باب الهمز.
(2) كذا الأصل وفي الفقرة اضطراب ونسخة (م) مفقودة في هذا الجزء (وهو الخامس).
(3) البيت من قصيدة منحولة لعنترة بن شداد وردت في ديوانه ص 297 وروايته فيه:
تعزّيت عن ذكرى سميّة حقبة ... فبح عنك منها بالذي أنت بائح
وذكره ابن جني في الخصائص 3/ 90 وابن الشجري 1/ 7 كما هنا ولم ينسباه والعيني 1/ 479.

(4/297)


فأسكن الحاء لما كانت اللام متحركة، ولو لم يعتدّ بالحركة، كما لم يعتدّ بها في الوجه الأول، فحرّك الحاء بالكسر، كما تحرّك به إذا قال: بح اليوم، لكن لما أسكن كان بمنزلة: بح بسرّك، وبح بأمرك، فنقول على قياس اللغة الأولى: قال لان [البقرة/ 71] «1» فتحذف واو الضمير، لأن اللام في تقدير السكون، كما تحذفه في بح «2» اليوم، وعلى قياس اللغة الأخرى: قالوا لان فتثبت واو الضمير، لأن اللام لم تنزّل تنزيل السكون، ألا ترى أنه حذف الهمزة التي تجلب لسكون الحرف الذي تدخل عليه، وتقول على قياس اللغة الأولى: ملآن، إذا أردت: من الآن، فحذفت النون لالتقاء الساكنين، كما حذفته من قول الشاعر «3»:
أبلغ أبا دختنوس مألكة ... غير الذي قد يقال ملكذب
وتقول على قياس اللغة الأخرى: من لان، فلا تحذف النون، لأنه لم يلتق ساكنان، كما لم تحرّك الحاء من قوله:
«فبح لان» فعلى هذا مجرى هذا الباب.
__________
(1) (قال لان) بتخفيف الهمز مع حذف الواو لالتقاء الساكنين، هي قراءة أهل المدينة. انظر تفسير القرطبي 1/ 455 والخصائص 3/ 91.
(2) في الأصل: نحو اليوم والصواب بح اليوم كما أثبتنا.
(3) البيت في أمالي ابن الشجري 1/ 97 والخصائص 1/ 311 واللسان (ألك) قال ابن الشجري: أبو دختنوس: لقيط بن زرارة التميمي ودختنوس: اسم بنته، وكان مجوسيا، قال في اللسان: سماها باسم بنت كسرى. والمألكة: الرسالة. ووردت روايته فيه «عن» بدل «غير».

(4/298)


أما ما ذكره من رواية المسيّبي وقالون عن نافع أنه قرأ:
الآن* مستفهمة جدّا، وكذلك قال ابن أبي أويس، عن نافع:
بهمزة واحدة، فقوله: مستفهمة جدّا لا يخلو من أحد أمرين:
إمّا أن يريد أنه كان يمدّ، فإن أراد ذلك كان على لغة من قال:
الحمر، فلمّا ألحق همزة الاستفهام مدّ، ويريد أنه كان يقطع الهمزة، فلا يصلها كما يصل، ولا يقطع إذا لم تكن للاستفهام، فإذا كان كذلك فهو على قول من قال: لحمر، ولا همزة فيه، فتنقلب ألفا مع همزة الاستفهام، ويمدّ، فهو كقوله:
ألكم الذكر وله الأنثى [النجم/ 20] في أنّه لا يجوز أن يمدّ. ويقوي هذا الوجه ما قاله أحمد، وكذلك قال ابن أبي أويس عن نافع بهمزة واحدة. قال: وقال أحمد بن صالح عن قالون همزة واحدة بعدها مدّة، فهذا قد فسّر، ولا يكون هذا إلا على قول من قال: الحمر ءالان.
فأما ما روى ورش عن نافع من قوله: آلآن، إنه كان يقرأ بفتح اللام ومدّ الهمزة الأولى ولا يهمز بعد اللام، فإنّ ذلك على قول من قال: الحمر، كأنه قال: آلآن، فأثبت همزة الوصل مع تحرك اللام، كما أثبتها في قولهم: الحمر، فإذا دخلت همزة الاستفهام قلبت همزة الوصل ألفا، فقلت:
أالان، كما تقول: آلرجل قال ذاك؟ ومن فصل بين الهمزتين إذا التقتا بالألف فقال: أأنت أأنذرتهم لم يفصل هنا بها، لأنّه لا تثبت هنا همزتان، ألا ترى أن الثانية التي للوصل تقلب ألفا؟ فلا يحتاج إذن إلى الألف التي تفصل بين الهمزتين، كما تفصل بينه النونين إذا قلت: اضربنان زيدا، فعلى هذا وجه

(4/299)


قراءة نافع هذه التي حكاها ورش، وعلى هذا أيضا ما حكاه أحمد بن صالح عن قالون بهمزة واحدة بعدها مدة.
قال: وكلّهم قرأ: ويوم نحشرهم، بالنون غير عاصم، فإن حفصا روى عنه: ويوم يحشرهم* بالياء «1». عند الخمس والأربعين «2» منها.
قال أبو علي: يحتمل قوله: كأن لم يلبثوا ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون صفة لليوم، والآخر: أن يكون صفة للمصدر المحذوف، والثالث: أن يكون حالا من الضمير في نحشرهم.
فإذا جعلته صفة لليوم، احتمل ضربين من التأويل:
أحدهما: أن يكون التقدير: كأن لم يلبثوا قبله إلا ساعة، فحذفت الكلمة بدلالة المعنى عليها، ومثل ذلك في حذف هذا النحو منه قوله: فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف [الطلاق/ 2] أي: أمسكوهنّ قبله. وكذلك: فإن فاؤوا فإن الله [البقرة/ 226] أي قبل انقضاء الأربعة الأشهر، وكذلك قوله: يتربصن بأنفسهن [البقرة/ 228]، قال أبو الحسن:
يتربّصن بعدّتهم.
__________
(1) السبعة 327.
(2) إذ ورد في الآية 28 قوله سبحانه أيضا: (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم ... الآية) وليست مقصودة في القراءة.
وتتمة الآية 45 من سورة يونس: (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلّا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين).

(4/300)


ويجوز أن يكون المعنى: كأن لم يلبثوا قبله، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، ثم حذفت الهاء من الصفة، كقولك: الناس رجلان: رجل أكرمت، ورجل أهنت.
ومثل هذا في حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه قوله:
ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا، وهو واقع بهم [الشورى/ 22]، التقدير: وجزاؤه واقع بهم، فحذف المضاف.
وإن جعلته صفة للمصدر كان على هذا التقدير الذي وصفنا، وتمثيله: كأن لم يلبثوا قبله، فحذف، وأقيم المضاف إليه مقامه، ثم حذف العائد من الصفة، كما تحذفه من الصلة في نحو: أهذا الذي بعث الله رسولا [الفرقان/ 41]، وإن جعلته حالا من الضمير المنصوب، لم تحتج إلى حذف شيء في اللفظ لأنّ الذكر من الحال قد عاد إلى ذي الحال، والمعنى: نحشرهم مشابهة أحوالهم أحوال من لم يلبث إلّا ساعة.
فأمّا يوم نحشرهم فإنه يصلح أن يكون معمولا لأحد شيئين، أحدهما: أن يكون معمول: يتعارفون، والآخر: أن يكون معمولا لما دلّ عليه قوله: كأن لم يلبثوا، فإذا جعلته معمولا لقوله: يتعارفون انتصب يوم* على وجهين: أحدهما:
أن يكون ظرفا معناه: يتعارفون في هذا اليوم، والآخر: أن يكون مفعولا على السعة على:
يا سارق الليلة أهل الدار «1»
__________
(1) سبق 1/ 20 و 2/ 279.

(4/301)


ومعنى يتعارفون يحتمل أمرين. أحدهما: أن يكون المعنى: يتعارفون مدّة إماتتهم التي وقع حشرهم بعدها وحذف المفعول للدّلالة عليه، كما حذف في مواضع كثيرة، وعدّي تفاعل، كما عدّي في قول ذي الرّمة «1»:
.... تحاسنت ... به الوشي قرّات الرّياح وخورها
وأنشد أبو عبيدة «2».
تخاطأت النّبل أحشاءه أو يكون أعمل الفعل الذي دلّ عليه يتعارفون، ألا ترى أنّه قد دلّ على يستعملون ويتعرفون، ومن حذف المفعول قوله: وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا
__________
(1) جزء من بيت لذي الرمة وتمامه:
ومن جردة غفل بساط تحاسنت* بها الوشي قرات الرياح وخورها وقرات الرياح: بواردها. والجردة من الرمل بمعنى الجرداء، وهي التي ليس فيها شجر، وغفل: ليس بها علم، والخور: أراد بها خور الرياح، وهو ما لان منها- انظر ديوانه 1/ 232 والمعاني الكبير 586، 1192.
(2) صدر بيت لأوفى بن مطر المازني وعجزه:
وأخر يومي فلم يعجل مجاز القرآن 2/ 5 وهو في السمط ص 465 مع آخر قبله وهو:
ألا أبلغا خلتي جابرا* بأن خليلك لم يقتل.
وانظر شرح أبيات المغني 7/ 41 واللسان (خطأ).

(4/302)


فأغشيناهم [يس/ 9]، التقدير: فأغشيناهم السدّ، أو مثل السدّ فهم لا يبصرون لما أغشيناهموه من ذلك. وتعرّفوا مدّة اللبث هاهنا، كما تعرّفوها في قوله: قال قائل منهم كم لبثتم، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم، قالوا ربكم أعلم بما لبثتم [الكهف/ 19]، وكقوله: قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم [المؤمنون/ 112]، فتعارفهم مدّة لبثهم كما ذكرت لك في هذه الآي.
والآخر في التعارف ما جاء من قوله: وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. قال قائل إني كان لي قرين، [الصافات/ 50 - 51] وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين [الطور/ 25 - 26] وتعرّفهم يكون على أحد هذين الوجهين. فعلى هذا يكون قوله: ويوم نحشرهم معمول يتعارفون، والآخر: أن يكون يوم نحشرهم معمول ما دلّ عليه قوله: كأن لم يلبثوا، ألا ترى أن المعنى:
تشابه أحوالهم أحوال من لم يلبث، فيعمل في الظرف هذا المعنى، ولا يمنع المعنى من أن يعمل في الظرف، وإن تقدم الظرف عليه، كقولهم: أكلّ يوم لك ثوب، ومثل ذلك في الحمل على المعنى قوله: يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين [الفرقان/ 22] وقول أبي دواد «1»:
قرّبنه ولا تقيلنّ واعلم ... أنّه اليوم إنّما هو ناد
__________
(1) ليس في شعره المجموع ضمن «دراسات في الأدب العربي» لغرانباوم.

(4/303)


فإذا حملته على هذا، لم يجز أن يكون صفة للمصدر، لأن الموصوف الذي هو المصدر موضعه بعد الفعل، تقديره:
يوم نحشرهم حشرا كأن لم يلبثوا، أو لم يلبثوا قبله، والصفة لا يتقدّم عليها ما تعمل فيه، ولا يجوز أيضا أن تجعله صفة لليوم على هذا، لأنّ الصفة لا تعمل في الموصوف، ألا ترى الصفة إيضاح للموصوف وتبيين له، كما أنّ الصلة كذلك، وإذا كان على هذا لم يسغ عمل واحد منهما فيما يوضحه ويبينه، لتنزّله منزلة بعضه، فإن قلت: فإذا قدّرت كأن لم يلبثوا تقدير الحال
من الضمير هل يجوز أن يكون يوم ... معمولا له؟ فإنّ ذلك لا
يجوز لأنّ العامل في الحال نحشر، ونحشر قد أضيف اليوم إليه، فلا يجوز أن يعمل في المضاف المضاف إليه، ولا ما يتعلق بالمضاف إليه، لأنّ ذلك يوجب تقديمه على المضاف ألا ترى أنّه لم يجز: القتال زيدا حين تأتي.
وإذا جعلت يتعارفون العامل في يوم نحشرهم لم يجز أن يكون صفة لليوم على أنّك كأنّك وصفت اليوم بقوله: كأن لم يلبثوا، ويتعارفون، فوصفت يوم نحشرهم بجملتين، لم يجز أن يكون معمولا لقوله: يتعارفون لأنّ الصفة لا تعمل في الموصوف، وجاز وصف اليوم بالجمل، وإن أضيف لأنّ الإضافة ليست بمحضة فلم تعرّفه.
ويدلّ على النون في يوم نحشرهم قوله: وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا [الكهف/ 47] وقوله: فجمعناهم جمعا [الكهف/ 99]، وقال: ونحشره يوم القيامة أعمى [طه/ 124].

(4/304)


ويدلّ على الياء قوله: ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه [النساء/ 87] ويدلّ على مقاربة الياء والنون في ذا النحو قوله: وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه [طه/ 127]، فنعلم من هذا أنّ كلّ واحد منهما يجري مجرى الآخر.

[يونس: 103]
قال: كلّهم قرأ: ننجي رسلنا «1» [103] مشدّدة الجيم غير الكسائي وحفص عن عاصم فإنّهما قرءا: ننجي رسلنا «1» خفيفة، وقرأ الكسائي وحده في سورة مريم: ثم ننجي الذين اتقوا [72] ساكنة النون.
وقرأ الباقون: ننجي بفتح النون الثانية وتشديد الجيم «3».
قال أبو علي: قالوا نجا زيد، قال «4»:
نجا سالم والرّوح منه بشدقه ... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا
فإذا عدّيته، فإن شئت قلت: أنجيته، وإن شئت قلت:
نجيّته، كما تقول فرح، وأفرحته وفرّحته.
ومن حجة من قال: ننجي*: فأنجاه الله من النار
__________
(1) في الأصل: (ننجي المؤمنين) وهي من سورة الأنبياء، وسيأتي الكلام عنها في موضعه. وكذلك ورد اللفظ عند ابن مجاهد، والظاهر أنه سهو تبعه عليه الفارسي.
(3) السبعة 330.
(4) لحذيفة بن أنس. في شرح أشعار الهذليين 2/ 558 واللسان (جفن) وقد سبق انظر 4/ 322.

(4/305)


[العنكبوت/ 24]، وحجّة من قال: ننجي ونجينا الذين آمنوا [فصّلت/ 18]، وكلاهما حسن، قال الشاعر «1»:
ونجّى ابن هند سابح ذو علالة ... أجشّ هزيم والرماح دواني
أبو بكر عن عاصم ونجعل الرجس [يونس/ 100] بالنون، وروى حفص عن عاصم بالياء، وكذلك الباقون «2».

[يونس: 100]
حجة من قال: يجعل بالياء قوله: كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون [الأنعام/ 125]، وقد تقدم ذكر اسم الله في قوله: وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله [يونس/ 100]، والنون في هذا النحو مثل الياء، وقد تقدم ذكر ذلك.
فأما قوله: الرجس فقال أبو عبيدة: الرّجز: العذاب «3».
قال: والرجز والرجس واحد، والدّلالة على أن الرّجز العذاب.
قوله: لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك [الأعراف/ 134] وقوله: فلما كشفنا عنهم الرجز [الأعراف/ 135]، ومنه:
فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء [البقرة/ 59]، وقال: والرجز فاهجر [المدثر/ 5]، وكأن المعنى- والله
__________
(1) البيت للنجاشي الحارثي قيس بن عمرو من قصيدة له في الوحشيات ص 113 - 114. برواية: «ابن حرب» بدل «ابن هند» وانظر اللسان (جشش). والفرس الأجش: الغليظ الصهيل.
(2) السبعة ص 330.
(3) مجاز القرآن 1/ 41.

(4/306)


أعلم- وذا الرجز، أي: الذي يؤدّي عبادته إلى العذاب. قال أبو الحسن «1»: وقال بعضهم: والرجز فاهجر «2» قال: وذكروا أنه صنم كانوا يعبدونه، قال: وأما الرّجز فهو الرّجس، قال، وقال:
إنما المشركون نجس [التوبة/ 28]، قال: والنّجس: القذر.
وقال الكسائيّ فيما أخبرنا أبو بكر: الرّجس: النتن:
قال أبو علي: فكأنّ الرّجس على ضربين: أحدهما: أن يكون في معنى الرجس، وهو العذاب، والآخر: أن يعنى به النجس والقذر، ومن ذلك قوله: أو لحم خنزير فإنه رجس [الأنعام/ 145] فقوله: ويجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون [الأنعام/ 125] يجوز أن يراد به أنهم يعذّبون، كما قال:
ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات [الفتح/ 6]، ويجوز أن يكون المعنى فيه أنه يحكم بأنّهم رجس، كما قال:
إنما المشركون نجس [التوبة/ 28]، أي: ليسوا من أهل الطهارة، فذمّوا على خروجهم، وإن لم تكن عليهم نجاسة من نحو البول والدم والخمر، والمعنى: أن الطّهارة الثابتة للمسلمين هم خارجون عنها، ومباينون لها، وهذه الطّهارة هي ما ثبت لهم من قوله: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها [التوبة/ 103].
__________
(1) أبو الحسن هو الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة، وكلامه في معاني القرآن 1/ 98 عند تفسيره آية البقرة/ 59.
(2) قوله: (الرّجز) بضم الراء هي قراءة حفص والمفضل عن عاصم، وقراءة الباقين وأبي بكر بكسر الراء. وستأتي في موضعها.

(4/307)


فقوله: تطهرهم، لا يخلو من أحد أمرين: إمّا أن يكون المعنى: تطهّرهم أنت أيّها الآخذ بأخذها منهم، أو: الصدقة تطهّرهم، فقوله: تزكيهم بها يقوّي الوجه الأوّل، لأن «تزكّي» للآخذ، فكذلك يكون تطهرهم له، ويجوز أن يكون منقطعا، أي: وأنت تزكّيهم بها، فهذه طهارة من جهة الحكم، وإن لم تزل شيئا نجسا عن أبدانهم.
وقد ثبت للمسلمين أيضا الطّهارة بقوله: يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين [التوبة/ 108] فأمّا قوله: طهر بيتي للطائفين [الحج/ 26] فيجوز أن يراد به: أخرج عنه ما يعبد من وثن من دون الله، حتى يطهر، لأنّ الأوثان قد أطلق عليها الرجس في قوله: فاجتنبوا الرجس من الأوثان [الحج/ 30] وقوله: والرجز فاهجر [المدثر/ 5].

[يونس: 87]
حفص عن عاصم يقف تبويا [يونس/ 87] بياء من غير همز، ذكر لي ذلك عبيد الله بن عبد الرحمن بن أبي مسلم عن أبيه عن حفص عن عاصم.
قال: وكان حمزة يقف تبوا* «1» غير أنه يليّن الهمزة، يشير إليها بصدره. والباقون يقفون بهمزة بعدها ألف في وزن تبوّعا «2».
قال أبو علي: حدثنا محمد بن السري «3» أن أبا زيد
__________
(1) رسمت في السبعة: (تبوّءا).
(2) السبعة 329.
(3) جاء على حاشية (ط): بلغت.

(4/308)


قال: بوّأت فلانا منزلا تبويئا، والاسم البيئة: فقوله تبوءا في قوله: أن تبوءا «1» فعل يتعدى إلى مفعولين، يدلّ على ذلك قوله: لنبوئنهم من الجنة غرفا [العنكبوت/ 58]، فأمّا اللام من قوله: لقومكما فكالّتي في قوله: ردف لكم [النمل/ 72]، والمفعول الأوّل لعلامة الضمير في قوله:
لنبوئنهم، ألا ترى أن المطاوع من الأفعال على ضربين:
أحدهما: أن لا يتعدّى نحو: انشوى وانثأى «2»، في مطاوع شويته وثأيته. والآخر: أن يتعدّى كما تعدّى ما هو مطاوع له، وذلك نحو: تعلّقته، وتقطّعته، فتعلّقته يتعدّى كما تعدّى علقته، وليس فيه أن ينقص مفعول المطاوع عمّا كان يتعدّى إليه ما هو مطاوع له. فإذا كان كذلك، كان اللّام على الحدّ الذي ذكرنا، ويقوّي ذلك قوله: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت [الحج/ 26]، فدخلت اللام على غير المطاوع كما دخل على المطاوع في قوله: أن تبوءا لقومكما.
فأمّا قوله: مكان البيت فيحتمل ضربين: أحدهما: أن يكون ظرفا، والآخر: أن يكون مفعولا ثانيا، فأما الظرف فيدلّ عليه قوله «3»:
__________
(1) تمام الآية: (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوّءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشّر المؤمنين).
(2) من الثأي وهو خرم خرز الأديم، وثأيت الخرز إذا خرمته (اللسان ثأي).
(3) وهو ابن هرمة، والأرجح أنه من قصيدته التي مطلعها:
إنّ سليمى والله يكلؤها ... ضنّت بشيء ما كان يرزؤها
انظر معجم مقاييس اللغة 1/ 312 وشرح أبيات المغني

(4/309)


وبوّئت في صميم معشرها ... فصحّ في قومها مبوّئها
فكما أن قوله: «في صميم معشرها» ظرف كذلك يكون مكان البيت.
والمفعول الثاني الذي ذكر في قوله: لنبوئنهم من الجنة غرفا [العنكبوت/ 58]، ولم يذكر في هذه لأنّ الفعل من باب أعطيت، فيجوز أن لا يذكر، ويقتصر على الأول، ويجوز أن يكون مكان البيت مفعولا ثانيا «1»، وكذلك قوله: ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق [يونس/ 93]، ويجوز أن يكون مكانا مثل مكان البيت، والمفعول الثاني فيه محذوف، وهو القرية* التي ذكرت في قوله: وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها [الأعراف/ 161]، ويجوز أن يكون مصدرا، أي تبوّؤ «2» صدق، ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا من وجهين: أحدهما: أن تجعله اسما غير ظرف كما قال «3»:
__________
6/ 202. وورد في اللسان (بوأ) بغير نسبة برواية «وتم في قومها» قال في شرحه: «إنها نزلت من الكرم في صميم النسب».
(1) على هامش (ط): بلغت.
(2) رسمت في الأصل هكذا: «تبوّأ» وآثرنا الرسم الإملائي المناسب للحركة.
(3) استشهد به سيبويه 1/ 207 ولم ينسبه- بينما نسبه الأعلم إلى الأخطل وليس في ديوانه للسكري وقد ورد في ديوان جرير (ط. الصاوي) ص 486 ونسبه البغدادي إلى عتبة بن الوغل في الخزانة 1/ 458 نقلا عن الآمدي في المؤتلف ص 115 وانظر المقتضب 4/ 350 - الاشتقاق 336 - الشعراء/ 631.
قال الأعلم: الشاهد فيه رفع المكان الآخر لأنه خبر عن الأول، ولا

(4/310)


وأنت مكانك من وائل ... مكان القراد من است الجمل
والآخر: أن تجعله بعد أن تستعمله ظرفا اسما، كما قال «1»:
وسطها قد تفلّقا وفي التنزيل: هم درجات عند الله [آل عمران/ 163].
ويجوز فيه وجه ثالث: وهو أن يتّسع فيقدّر نصبه، وإن كان مصدرا، تقدير انتصاب المفعول به، فأما قوله «2»:
لها حكمها حتّى إذا ما تبوّأت ... بأخفافها مأوى تبوّأ مضجعا
فعلى حذف أحد المفعولين، أي: تبوّأت مرعاها مأوى، وتبوّأ الراعي بقعة مضجعا، وكذلك قوله: وبوأكم في الأرض [الأعراف/ 74] بوّأكم في الأرض منازل أو بلادا.
وأما قوله: ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق [يونس/ 93]، فالمبوّأ يجوز أن يكون مصدرا، ويجوز أن
__________
يكون ظرفا، لأنه أراد تشبيه مكانه من وائل بمكان القراد من است الجمل في الدناءة والخسة.
(1) جزء بيت للفرزدق سبق بتمامه في 1/ 39 - 252.
(2) البيت لعبيد بن الحصين الراعي النميري، وقد سمّي الراعي لأنه قال هذا البيت يصف فيه الإبل.
انظر الخصائص 2/ 178 وفيه: «لها ما لها» بدل «لها حكمها» و «مرعى» بدل «مأوى». الاشتقاق 295، الجمهرة 2/ 347 وفيها: «لها أمرها».

(4/311)


بكون مكانا، والمفعول الثاني على هذا محذوف كما حذف من قوله: وبوأكم في الأرض، ويجوز أن ينصب المبوّأ على الاتساع، وإن كان مصدرا نصب المفعول به، ألا ترى أنه أجاز ذلك في قوله: أما الضّرب فأنت ضارب، وأما البيوت من قوله:
بمصر بيوتا فمفعول به، وليست البيوت بظرف لاختصاصها «1» فالبيوت كالغرف من قوله: لنبوئنهم من الجنة غرفا [العنكبوت/ 58].
فأما قوله: نتبوأ من الجنة حيث نشاء [الزمر/ 74]، فيجوز في قياس قول أبي الحسن أن يكون قوله: من الجنة كقولك: نتبوّأ الجنّة. فأمّا قوله: حيث نشاء فيحتمل أن يكون ظرفا، فإذا جعلته ظرفا كان المفعول الثاني محذوفا، كأنه: نتبوّأ الجنّة منازلها حيث نشاء، ويجوز أن يكون: حيث نشاء في موضع نصب، بأنه المفعول الثاني، يدلّ على ذلك قول الشمّاخ:
وحلّأها عن ذي الأراكة عامر ... أخو الخضر يرمي حيث تكوى النّواحز
«2»
__________
(1) في الأصل لاختصاها وهو سهو من الناسخ.
(2) حلّأها: منعها من الماء أي: الحمر- عامر أخو الخضر: قانص مشهور كان من أرمى الناس- ذو الأراكة: نخل بموضع من اليمامة لبني عجل، والنواحز: التي بها نحاز، وهو داء يأخذ الإبل والدواب في رئاتها فتسعل سعالا شديدا، قال ابن قتيبة في شرح البيت (المعاني الكبير 2/ 783).
والنواحز: التي بها نحاز فتكوى في جنوبها وأصول أعناقها. وانظر ديوانه/ 182. وفي الأصل: «تكون» بدل «تكوى» وهو سهو من الناسخ.
وقد ورد في طرة النسخة (ط): هنا كلمة: بلغت.

(4/312)


فأمّا قولك: بوّأت فلانا منزلا، وتعدّيه إلى مفعولين، فكأنه مفعول من قولك: باء فلان منزله، أي: لزمه، وإن كنّا لا نروي ذلك. ولكن يدلّ على ذلك قولهم: المباءة، وقالوا:
الإبل في المباءة، وهي المراح الذي تبيت فيه، فالمباءة اسم المكان، وإذا كان اسم المكان مفعلا، أو مفعلة، فالفعل منه قد يكون: فعل يفعل، فكأنّه: باء المنزل، وبوّأته أنا المنزل.
فأمّا وقف عاصم في قوله: تبويا، وقلبه الهمزة ياء في الوقف، وإن كان من بوّأت؛ فلأنّ الهمزة قد تبدل منها في الوقف حروف اللين، ألا ترى أنهم قالوا: هو الكلو «1»، في الوقف، وقالوا: من الكلي، وإنما فعل ذلك بالهمزة عند الوقف لأنّها تخفى فيه كما تخفى الألف، فأبدل منها حرف اللين، كما أبدل من الألف في قولهم: أفعو وأفعي، لأن هذين الحرفين أظهر من الألف والهمزة وأبين للسمع. فإن قلت: فإنّما يفعل ذلك بالهمزة إذا كان آخر الكلمة، وليست الهمزة آخرا في تبويا قيل: يجوز أن يكون لم يعتدّ بالألف لما كانت للتثنية، والتثنية غير لازمة للكلمة، فلمّا لم تلزم لم يعتدّ بها، فصار الوقف كأنّه على الهمزة، لأن كثيرا من الحروف التي لا تلزم لا يعتدّ بها، ومن ثم لم تقع حرف رويّ، كما لم تقع ألف النّصب رويّا لاجتماعها معها في أنها لا تلزم، لأن من العرب من يقول: رأيت زيد، فلا يبدل ويحذف، وعلى هذا قوله «2»:
__________
(1) أي: هو الكلأ.
(2) عجز بيت للأعشى وقد سبق في 1/ 141 وانظر الخصائص 2/ 97 والخزانة 2/ 264 وشرح المفصل 9/ 70.

(4/313)


وآخذ من كلّ حيّ عصم ولا تثبت أيضا في موضع الرفع والجر، فصار الوقف لذلك كأنه على نفس الهمزة.
فأمّا وقف حمزة تبوا* فهذا على أنه خفّف الهمزة، وتخفيف هذه الهمزة أن تجعل بين بين، ولا تلحقه ألف التثنية.
على هذا يتأوله ناس من القراء وهو الصحيح. فأمّا قول أحمد:
يشير إليها بصدره، فهو من ترجمة القراء، وصحّته على ما ذكرت لك، وهذا في قول حمزة على وزن: تبوّعا، إلا أن الهمزة إذا خفّفت نقص الصوت بحركتها، فأشبهت الساكن، وهي متحركة في الحقيقة. فأمّا قوله: والذين تبوؤوا الدار والإيمان [الحشر/ 9]، فيكون على: تبوّءوا الدار، أي:
تبوّءوا دار الهجرة واعتقدوا الإيمان، لأن الإيمان ليس بمكان فيتبوّأ، فيكون كقوله: فأجمعوا أمركم وشركاءكم [يونس/ 71]، ويجوز على: تبوّءوا الدار ومواضع الإيمان، ويجوز أن يكون: تبوّءوا الإيمان، على طريق المثل كما تقول:
تبوّءوا من بني فلان الصّميم، وعلى ذلك قول الشاعر «1»:
وبوّئت في صميم معشرها ... فصحّ في قومها مبوّئها
كلّ هذه الوجوه ممكن.
__________
(1) تقدم ذكره قريبا ص 308.

(4/314)