الحجة للقراء السبعة سورة يوسف عليه
السلام
[يوسف: 4]
اختلفوا في كسر التاء وفتحها من قوله: يا أبت [يوسف/ 4].
فقرأ ابن عامر وحده: يا أبت* بفتح التاء في جميع القرآن.
وقرأ الباقون: بكسر التاء.
وابن كثير يقف على الهاء ب يا أبه وكذلك ابن عامر فيما أرى.
والباقون يقفون بالتاء وهم يكسرون «1».
قال أبو علي: من فتح يا أبت* فله وجهان: أحدهما:
أن يكون مثل: يا طلحة أقبل. ووجه قول من قال: يا طلحة، أن هذا
النحو من الأسماء التي فيها تاء التأنيث أكثر ما يدعى مرخّما،
فلمّا كان كذلك ردّ التاء المحذوفة في الترخيم إليه، وترك
الآخر يجري على ما كان عليه في الترخيم من الفتح، فلم يعتدّ
بالهاء، وأقحمها، كما أن أكثر ما تقول: اجتمعت اليمامة، وهو
يريد أهل اليمامة، فردّ الأهل ولم يعتدّ به، فقال:
__________
(1) السبعة 344.
(4/390)
اجتمعت أهل اليمامة، فجعله على ما كان يكون
عليه من الكثرة.
والوجه الآخر: أن يكون أراد: يا أبتا فحذف الألف كما يحذف
التاء، فتبقى الفتحة دالّة على الألف، كما أن الكسرة تبقى دالة
على الياء، والدليل على قوة هذا الوجه كثرة ما جاء من هذه
الكلمة على هذا الوجه كقول الشاعر «1»:
وقد زعموا أني جزعت عليهما* وهل جزع أن قلت وا بأباهما وكقول
رؤبة «2»:
وهي ترثي يا أبا وابنيما وقال الأعشى «3»:
ويا أبتا لا تزل عندنا* فإنّا نخاف بأن تخترم وقال رؤبة «4»:
يا أبتا علّك أو عساكا وقال آخر «5»:
__________
(1) سبق ذكره في هذا الجزء/ 339.
(2) روايته في الديوان- «فهي ترثي بأب .. » وبعده:
إنّ تميما خلقت ملموما ديوانه/ 185 - المفصّل 2/ 12.
(3) ديوانه/ 41. تخترم: يقال: اخترمه الموت: أخذه.
(4) تقدم في هذا الجزء/ 350.
(5) انظر المفصل 2/ 12.
(4/391)
يا أبتا ويا أبه* حسنت إلا الرّقبه فلما
كثرت هذه الكلمة في كلامهم هذه الكثرة ألزموها القلب والحذف
على أن أبا عثمان قد رأى أن ذلك مطّردا في جميع هذا الباب.
وأما وقف ابن كثير على الهاء وقوله: يا أبه، فإنما وقف بالهاء
لأن التاء التي للتأنيث يبدل منها الهاء في الوقف، فيتغيّر
الحرف في الوقف ولذلك كما غيّر التنوين فانفتح ما قبله بأن
أبدل منه الألف، وكما غيّرت الألف بأن أبدل منها قوم الهمزة في
الوقف، وتغييرات الوقف كثيرة، فإن قلت: هلّا أبدلت التاء ياء
في الوقف، ولم تبدل منها الهاء، لأنه مّمن يكسر، فيقرأ:
يا أبت* وإذا كان كذلك، فالإضافة في الاسم مرادة، كما أنه لو
أضاف صحّح التاء ولم يبدل منها الهاء، كذلك إذا وقف، وهو
يريدها؛ قيل له: لا يلزم اعتبار الإضافة، لأنه إذا وقف عليها
سكنت للوقف، وإذا سكنت كانت بمنزلة ما لا يراد فيه الإضافة،
فتبدل منها الهاء، كما أنه إذا قال: يا طلحة أقبل، ففتح التاء
ووقف عليها، أبدل التاء، فقد ساوى ما يراد به الإضافة ما لا
يراد به الإضافة في الوقف، ويدلّ على صحة هذا أن سيبويه قال:
لو رخّمت اسم رجل يسمى خمسة عشر، فحذفت الاسم الآخر للترخيم
لقلت: يا خمسه، فأبدلت من التاء الهاء، ولم تصحّح التاء «1»،
وإن كان الاسم الآخر
__________
(1) انظر سيبويه 1/ 342.
(4/392)
المضموم إلى الصدر مرادا فيه، بدلالة ترك
الآخر من الاسم الأوّل على الحركة التي كانت تكون عليها قبل أن
تحذف الاسم الآخر للترخيم، فكذلك تبدل من التاء في يا أبت
الهاء في الوقف، كما تبدل من سائر تاءات التأنيث الهاء في أكثر
الاستعمال.
وأما ابن عامر، فإنه إن أراد بقوله: يا أبت* غير الإضافة وقف
بالهاء، كما أنه لو نادى مثل طلحة وحمزة فوقف، وقف بالهاء، وإن
أراد به الإضافة قال: يا أبت* فحذف الألف، كما حذف الباقون
الياء في: يا عباد فاتقون [الزمر/ 16]، فوقف بالهاء كان كوقف
ابن كثير بالهاء، وإن كان يريد الإضافة لكسر التاء في يا أبت.
قال أحمد: والباقون يقفون بالتاء، وهم يكسرون، ووقف الباقون
بالتاء في: يا أبت وفصلوا بين هذا وبين رجل يسمّى: خمسة عشر،
ثم يرخّم، وبين: يا طلحة زيد، لأن المضاف إليه على حرف واحد،
فهو لذلك بمنزلة الحركة، من حيث كان حرفا واحدا، والحرف قد
يكون بمنزلة الحركة، من حيث كان حرفا واحدا، والحرف قد يكون
بمنزلة الحركة، والدالّ على الاسم المضمر هنا حركة، والحركة لا
تكون في تقدير الانفصال من الكلمة، كما أن الحرف الواحد كذلك،
كما يكون الاسم الثاني في نحو: خمسة عشر، والمضاف إلى المظهر
نحو: طلحة زيد، لأن المضاف إليه هنا في الأصل على حرف واحد قد
حذف، وتركت الحركة تدل عليه، والحركة لا تكون في تقدير
الانفصال من الكلمة، كما يكون الاسم الثاني في نحو خمسة عشر،
وطلحة زيد في تقدير
(4/393)
الانفصال، ألا ترى أن المضاف إلى الظاهر
يفصل بينهما في نحو «1»:
لله درّ اليوم من لامها ولا يجوز ذلك في الضمير إذا كان على
حرف واحد، ولا في الحركة. فجعلوا الياء المحذوفة في تقدير
الثبات كما جعلوا الحركة كذلك، ويدل على أن الحركة في تقدير
الثبات تحريكهم الساكن الذي قبل الحرف الموقوف عليه بالحركة
التي تجب للحرف الموقوف عليه في الإدراج نحو «2»:
إذ جدّ النّقر فكذلك تكون الحركة فيمن قرأ: يا أبت، إذا وقف،
وقف بالتاء، كما أن الحركة إذا كانت ثابتة كالحرف، وقد جرت
الحركة المحذوفة في غير هذا الموضع مجرى المثبتة، ألا ترى أنهم
قالوا: لقضو الرجل، فكانت الحركة المحذوفة بمنزلة المثبتة
وكذلك الحركة، في قولهم:
رضي وغزي وشقي، وقد حكي أن قوما يقفون على التاء في الوقف ولا
يبدلون منها الهاء. وأنشد أبو الحسن «3»:
__________
(1) عجز بيت لعمرو بن قميئة تقدم ذكره في ص 214 من هذا الجزء.
(2) جزء من بيت تقدم ذكره في 1/ 98، 140، 349 و 2/ 301 و 4/
208.
(3) الأبيات منسوبة إلى سؤر الذّئب كما في اللسان. والحجفة:
الترس من جلد الإبل. وقوله: بل جوز تيهاء، يريد: رب جوز تيهاء.
انظر الخصائص 1/ 304 و 2/ 98 - المحتسب 2/ 92 - المخصص 9/ 7 -
16/ 84 - 96 اللسان مادة (حجف) و (بلل).
(4/394)
ما بال عين عن كراها قد جفت مسبلة تستنّ
لما عرفت بل جوز تيهاء كظهر الحجفت أما ما أنشده أبو زيد وأبو
الحسن من قول الشاعر «1»:
تقول ابنتي لمّا رأتني شاحبا ... كأنّك فينا يا أبات غريب
فالقول فيه: أنه ردّ المحذوف من الأب، وزاد عليها التاء كما
تزاد إذا كان اللام ساقطا، كما ردّ اللام الأخرى في إنشاد من
أنشد «2»:
... تحيّزت ... ثباتا عليها ذلّها واكتئابها
__________
(1) البيت لأبي الحدرجان كما جاء في النوادر 575 وهو من
الشعراء المجهولين وانظر الخصائص 1/ 339 واللسان (أبي).
(2) عجز بيت لأبي ذؤيب الهذلي وتمامه:
فلما اجتلاها بالإيام تحيّزت ... ثبات عليها ذلّها واكتئابها
يصف النحل والرجل المشتار لعسلها- والإيام: الدخان، تحيزت:
اجتمعت، ثبات: جماعات، الواحدة ثبة. ولم ترد لها رواية بالفتح
كما استشهد بها أبو علي. يقول: إن النحل لجأت إلى خلاياها
فدخّن عليها فخرجت وبرزت- وهنا تحيزت وتضامّت جماعات يبدو
عليها الذلّ والاكتئاب- فقد تمكن منها المشتار.
ديوان الهذليين 1/ 79 وشرحه للسكري 1/ 53 والخصائص 3/ 304.
(4/395)
لا يكون إلا كذلك، لأن أحدا لا يقول: رأيت
مسلماتا، قال سيبويه «1»: من حذف التنوين من نحو:
تخيّرها أخو عانات شهرا «2».
لم يقل: حللت عانات فيفتح إنما يكسر التاء، وقد ردّوا هذا
المحذوف مع التاء، كما ردّوه مع غير التاء في قولهم: غد وغدو،
وقالوا سما، في قولهم اسم، فردّ اللام. حكاه أحمد بن يحيى.
[يوسف: 7]
اختلفوا في التوحيد والجمع من قوله عزّ وجلّ: آيات للسائلين
[يوسف/ 7].
فقرأ ابن كثير: آية للسائلين واحدة.
وقرأ الباقون: آيات للسائلين جماعة «3».
وجه الإفراد أنه جعل شأنه كله آية، ويقوي ذلك قوله:
وجعلنا ابن مريم وأمه آية [المؤمنون/ 50]، فأفرد وكلّ واحد
منهم على انفراده يجوز أن يقال فيه. آية* فأفرد مع ذلك.
ومن جمع جعل كلّ حال من أحواله آية، وجمع على
__________
(1) لم يرد هذا النقل في سيبويه فليتأمل.
(2) صدر بيت للأعشى وعجزه:
ورجّى أولها عاما فعاما انظر ديوانه/ 197 واللسان/ عون/ وفيه:
«خيرها» بدل «أولها».
(3) السبعة 344.
(4/396)
ذلك، على أن المفرد المذكور في الإيجاب يقع
على الكثرة، كما يكون ذلك في غير الإيجاب. قال «1»:
فقتلا بتقتيل وضربا بضربكم ... جزاء العطاس لا ينام من اتّأر
[يوسف: 9، 8]
قال. وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي: مبين اقتلوا [يوسف/ 98]
بضم التنوين.
وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة بكسر التنوين «2».
وجه قول من ضمّ التنوين: أن تحريكه يلزم لالتقاء الساكنين وهما
التنوين والقاف في اقتلوا فلما التقيا لزم تحريك الأول منهما،
وحركه بالضم ليتبع الضمّة الضمّة، كما قالوا: مدّ، وكما قالوا:
«ظلمات» فأتبعوا الضمة الضمة، وكذلك: أن اقتلوا [النساء/ 66].
فإذا كانوا قد أبدلوا من غير الضمة لتتبع. ضمّة الإعراب في
نحو: أجوؤك وأنبؤك، وهو منحدر من الجبل، مع أن ضمة الإعراب،
ليست لازمة، ولم يعتدّ بها في نحو: هذه كتف، ثابتة، فأن يتبعوا
الضمّة الثانية في عين: اقتلوا اللازمة أولى.
ومن قال: مبين اقتلوا، لم يتبع الضمّ. كما أن من قال: مدّ
وظلمات، لم يتبع، وكسر الساكن على ما يجري عليه
__________
(1) سبق انظر 2/ 291 و 4/ 203.
(2) السبعة 345.
(4/397)
أمر تحريك الأول من الساكنين المنفصلين في
الأمر الشائع.
[يوسف: 5]
قال أحمد: كان الكسائيّ يميل قوله: رؤياي [100] ورؤياك [5]
والرؤيا* [43] في كلّ القرآن. وروى أبو الحارث الليث بن خالد
عن الكسائي أنه لم يمل هذا الحرف، لا تقصص رؤياك وحده، وأمال
سائر القرآن. أبو عمر الدوري عن الكسائي الإمالة في ذلك كله،
ولا يستثني.
وكان حمزة يفتح رؤياك والرؤيا*، في كل القرآن، وكذلك الباقون
«1».
قال أبو علي: الرؤيا مصدر كالبشرى والسقيا، والبقيا، والشورى،
إلا أنه لما صار اسما لهذا المتخيّل في المنام جرى مجرى
الأسماء، كما أن درّا لما كثر في كلامهم في قولهم: لله درّك،
جرى مجرى الأسماء، وخرج من حكم الإعمال، فلا يعمل واحد منهما
إعمال المصادر.
وممّا يقوّي خروجه عن أحكام المصادر تكسيرهم رؤى.
فصار بمنزلة ظلم، والمصادر في أكثر الأمر لا تكسّر، والرؤيا
على تحقيق الهمز، فإن خفّفت الرؤيا فقلبتها في اللفظ، ولم «2»
تدغم الواو في الياء وإن كانت قد تقدمتها ساكنة، كما تقلب نحو
طيّ وليّ، لأن الواو في تقدير الهمزة، فهي لذلك غير لازمة،
فإذا لم تلزم لم يقع الاعتداد فلم تدغم، كما لم تقلب
__________
(1) السبعة 344 وقد جاء هذا الحرف عنده حسب ترتيبه في المصحف
سابقا لقوله سبحانه: (مبين اقتلوا).
(2) كذا الأصل، والوجه: «لم» بحذف الواو.
(4/398)
الأولى من ووري عنهما [الأعراف/ 20] لما
كانت الثانية غير لازمة، ومن ثمّ جاز: ضو وشي في تخفيف ضوء
وشيء، فبقي الاسم على حرفين أحدهما حرف لين، وجاز تحرّك حرف
اللين، وتصحيحه مع انفتاح ما قبله، لأن الهمزة في تقدير
الثبات، وقد كسر أولها قوم فقالوا: «ريّا» فهؤلاء قلبوا الواو
قلبا على غير وجه التخفيف، ومن ثم كسروا الفاء، كما كسروه من
قولهم: قرن ألوى، وقرون ليّ.
[يوسف: 10]
اختلفوا في الجمع والتوحيد من قوله عز وجل في غيابة الجب
[يوسف/ 10].
فقرأ نافع وحده: غيابات جماعة.
وقرأ الباقون: غيابة واحدة «1».
قال أبو عبيدة: كلّ شيء غيّب عنك فهو غيابة. قال منخّل بن سبيع
[وفي أخرى سميع] «2»:
فإن أنا يوما غيّبتني غيابتي ... فسيروا بسيري في العشيرة
والأهل
«3» وقال ابن أحمر «4»:
__________
(1) السبعة 345.
(2) ما بين معقوفين ورد على هامش النسخة (ط).
(3) مجاز القرآن 1/ 302. والمنخل: هو المنخل بن سبيع بن زيد بن
معاوية بن العنبر، له ترجمة في المؤتلف 178. ومعجم المرزباني
388، والبيت في معجم المرزباني والقرطبي 9/ 132، وصدره في
التاج (غيب).
(4) شعره ص 171 من قصيدة في هجاء يزيد بن معاوية، وانظر
المحتسب
(4/399)
ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث ... إلى
ذاكما ما غيّبتني غيابيا
جمع غيابة.
قال: والجبّ: الركيّة التي لم تطو.
وجه قول من أفرد: أن الجبّ لا يخلو من أن يكون له غيابة واحدة،
أو غيابات، فغيابة المفرد يجوز أن يعنى به الجمع، كما يعنى به
الواحد، ووجه قول من جمع: أنه يجوز أن تكون له غيابة واحدة
فجعل كلّ جزء منه غيابة، فجمع على ذلك، كقولهم: شابت مفارقه،
وبعير ذو عثانين، ويجوز أن يكون للجب عدّة غيابات، فجمع لذلك،
والدليل على جواز الجمع فيه قوله:
إلى ذاكما ما غيّبتني غيابيا فجعل له غيابات مع أن ذا الغيابة
واحد، كذلك الجبّ المذكور في التنزيل، يجوز أن يكون له غيابات.
[يوسف: 11]
قال: وكلّهم قرأ: لا تأمنا [يوسف/ 11]، بفتح الميم وإدغام
النون الأولى في الثانية والإشارة إلى إعراب النون المدغمة
بالضمّ اتفاقا «1».
وجهه: أن الحرف المدغم بمنزلة الحرف الموقوف عليه من حيث جمعها
السكون، فمن حيث أشمّوا الحرف الموقوف
__________
2/ 227 - 228. والخصائص 2/ 460 وابن الشجري 2/ 317 والإنصاف/
483. وشواهد الشعر في كتاب سيبويه 129.
(1) السبعة 345.
(4/400)
عليه إذا كان مرفوعا في الإدراج أشمّوا
النون المدغمة في تأمنا وليس ذلك بصوت خارج إلى اللفظ، إنّما
تهيئة العضو لإخراج ذلك الصوت به، ليعلم بالتهيئة أنه يريد ذلك
المتهيّئ له، ويدلّك على أنه يجري مجرى الوقف أن الهمزة إذا
كان قبلها ساكن حذفت حذفا، ولم تخفف بأن تجعل بين بين كما
أنّها إذا ابتدئت لا تخفف، لأن التخفيف تقريب من الساكن، فكما
لا يبتدأ بالساكن، كذلك لا يبتدأ بالمقرّب منه، ولو رام الحركة
فيها لم يجز مع الإدغام، كما جاز الإشمام مع الإدغام لأن روم
الحركة حركة، وإن كان الصوت قد أضعف بها، ألا ترى أنهم قالوا:
إن روم الحركة يفصل به بين المذكر والمؤنث، نحو:
رأيتك، ورأيتك، وإذا كان كذلك، فالحركة تفصل بين المدغم
والمدغم فيه، فلا يجوز الإدغام مع الحركة، وإن كانت قد أضعفت،
لأن اللسان لا يرتفع عن الحرفين ارتفاعة واحدة، كما لا يرتفع
إذا فصل بينهما حرف لانفكاك الإدغام بالحركة إذا دخلت بين
المثلين أو المتقاربين، كانفكاكه بالحرف إذا دخل بينهما،
وتضعيف الصوت بالحركة لا يمنع أن تكون الحركة مع تضعيفها في
الفصل، كما أنّ الفصل بالحرف الضعيف القليل الجرس يجري مجرى
الفصل بالحرف الزائد الصوت، ألا ترى أن الفصل بالنون التي هي
من الخياشيم كالفصل بالصاد في منع المثلين من الإدغام، فكذلك
الحركة التي قد أضعفت الصوت بها تفصل كما تفصل الحركة أشبعت
ومططت، فهذا وجه الإدغام، والإشارة بالضم إلى الحرف المدغم.
وقد يجوز في ذلك وجه آخر في العربية؛ وهو أن تبيّن
(4/401)
ولا تدغم، ولكنك تخفي الحركة، وإخفاؤها هو
أن لا تشبعها بالتمطيط، ولكنك تختلسها اختلاسا، وجاز الإدغام
والبيان جميعا، لأن الحرفين ليسا يلزمان، فلمّا لم يلزما صار
بمنزلة:
اقتتلوا* في جواز البيان فيه والإدغام جميعا، ومثل ذلك: نعما
يعظكم به [النساء/ 58]، فيمن أسكن العين، فالذي أسكن العين لم
يدغم، كما يجوز أن يدغم من كسر العين،
والذي كسر العين لم يحرك الساكن من أجل الإدغام، لأن تحريك ما
قبل الحرف المدغم لا يجوز في الإدغام، إذا كان المدغم منفصلا
من المدغم فيه، ولكن: نعم* على لغة من حرك العين قبل الإدغام،
ولو حرّكه وألقى حركة المدغم عليه لوجب أن يكون مفتوحا أو يجوز
فيه التحريك بالفتح، لأن حركة المدغم الفتحة من حيث كان آخر
المثال الماضي.
[يوسف: 12]
اختلفوا في قوله تعالى: نرتع ونلعب [يوسف/ 12].
فقرأ ابن كثير: نرتع ونلعب بفتح النون فيهما وكسر العين في
نرتع من ارتعيت. وحدثني عبيد الله «1» بن علي قال: حدثنا نصر
بن علي قال: حدثنا أبو بكر البكراوي عن إسماعيل المكي قال:
سمعت ابن كثير يقرأ: نرتع ويلعب نرتع بالنون وكسر العين، ويلعب
بالياء وجزم الباء.
وقرأ أبو عمرو وابن عامر: نرتع ونلعب بالنون فيهما وتسكين
الباء والعين.
__________
(1) جاء في هامش (ط): في أخرى: أبو بحر.
(4/402)
وقرأ نافع: يرتع ويلعب مثل ابن كثير في كسر
العين وهي بياء، ويلعب بالياء وجزم الباء.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: يرتع ويلعب بالياء فيهما وجزم العين
والباء «1».
قراءة ابن كثير: نرتع ويلعب بالياء «2» أحسن، لأنه جعل
الارتعاء والقيام على المال لمن بلغ وجاوز الصّغر، وأسند اللعب
إلى يوسف لصغره، ولا لوم على الصغير في اللعب ولا ذمّ، والدليل
على صغر يوسف، قول إخوته: وإنا له لحافظون [يوسف/ 12]، ولو كان
كبيرا لم يحتج إلى حفظهم، ويدلّ على ذلك أيضا قول يعقوب: وأخاف
أن يأكله الذئب [يوسف/ 13]، ولو لم يكن صغيرا قاوم الذئب،
وإنما يخاف الذئب على من لا دفاع فيه ولا ممانعة عنده من شيخ
فان وصبيّ صغير، وعلى هذا قال «3»:
أصبحت لا أحمل السّلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
__________
(1) السبعة 345 - 346.
(2) في قوله: (يلعب).
(3) البيتان للربيع بن ضبع الفزاري، وهما من شواهد سيبويه. وقد
وصف الشاعر في البيتين انتهاء شبيبته وذهاب قوته، فلا يطيق حمل
السلاح لحرب، ولا يملك رأس البعير إن نفر من شيء، وإذا خلا
بالذئب خشيه على نفسه، وأنه لا يحتمل برد الرياح وأذى المطر
لهزمه وضعفه.
انظر سيبويه 1/ 46 - النوادر 446 (ط: الفاتح) مع جملة أبيات
الجمهرة/ 52. التصريح 2/ 36 المفصل 7/ 105 ابن الشجري 4/ 118.
(4/403)
والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى
الرّياح والمطرا
وفي المثل: «بما لا أخشى الذئب» «1».
وأما اللعب فمما لا ينبغي أن ينسب إلى أهل النسك والصلاح، ألا
ترى قوله: أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين [الأنبياء/ 55]
فقوبل اللعب بالحق، فدلّ أنه خلافه، وقال:
ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب [التوبة/ 65]، وقال:
وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا [الأعراف/ 51].
فأما الارتعاء: فهو افتعال من رعيت مثل: شويت واشتويت، وكل
واحد منهما متعدّ إلى مفعول به، قال الأعشى «2»:
ترتعي السّفح فالكثيب فذاقا ... ر فروض القطا فذات الرّئال
وقال الآخر «3»:
رعى بارض البهمى جميما وبسرة ... وصمعاء حتّى آنفته نصالها
__________
(1) المثل: «لقد كنت وما أخشى بالذئب» قال ذلك الأصمعي، وأصله
أن الرجل كان يطول عمره حتى يخرف، فيصير إلى أن يخوّف بمجيء
الذئب، كتاب الأمثال لأبي عبيد 118.
(2) ديوانه/ 3.
(3) البيت لذي الرمة من قصيدة يهجو بها بني امرئ القيس.
وروايته في الديوان 1/ 519: «رعت بارض ... وآنفتها».
(4/404)
وقد يستقيم أن يقال: نرتع وترتع إبلهم فيما
قال أبو عبيدة، ووجه ذلك أنه كان الأصل: ترتع إبلنا، ثم حذف
المضاف، وأسند الفعل إلى المتكلمين فصار نرتع، وكذلك نرتعي
على: ترتعي إبلنا، ثم يحذف المضاف فيكون: نرتعي.
وقال أبو عبيدة «1»: نرتع: نلهو، وقد تكون هذه الكلمة على غير
معنى اللهو، ولكن على معنى النّيل من الشيء، كقولهم: «القيد
والرّتعة» «2»، وكان هذا على النيل
والتناول مما يحتاج إليه الحيوان، وقد قال الأعشى «3»:
صدر النهار تراعي ثيرة رتعا
__________
والبارض: ما بدأ أن يخرج، والجميم من كل نبت: ما ارتفع منه-
وبسرة: غضة، والصمعاء ما اجتماع فامتلأ كمامه من الثمرة فكاد
يتفقأ، والنصال: ج نصل وهي شوكة تصيب أنوفها.
انظر معجم تهذيب اللغة 2/ 60 - 6/ 339 و 12/ 412 - واللسان
مادة/ صمع/.
(1) في مجاز القرآن 1/ 303.
(2) وهو من أمثال العرب نسبه في الأمثال لأبي عبيد ص 56
للغضبان بن القبعثرى، قاله للعجاج عند ما حبسه. وتمامه: «القيد
والرّتعة، والخفض والدّعة، وقلّة التّعتعة، ومن يك ضيف الأمير
يسمن». وفي الفاخر ص 208 أن أول من قاله: عمرو بن الصعق بن
خويلد بن نفيل، وكانت شاكر من همدان أسروه فأحسنوا إليه
وروّحوا عنه.
(3) عجز بيت للأعشى وصدره في ديوانه ص 105:
فظلّ يأكل منها وهي راتعة ... حدّ ... البيت
ثيرة جمع ثور. وانظر الخصائص 1/ 113، المنصف 1/ 349.
(4/405)
وعلى هذا قالوا: رأيت مرتع إبلك، لمرادها
الذي ترعى فيه، فهذا لا يكون على اللهو، لأنه جمع ثور راتع أو
رتوع.
وأما قراءة أبي عمرو وابن عامر: نرتع ونلعب فيكون:
نرتع على: ترتع إبلنا، أو على أنّنا ننال مما نحتاج إليه وتنال
معنا.
فأمّا نلعب فحكي أنّ أبا عمرو قيل له: كيف يقولون:
نلعب وهم أنبياء؟! فقال: لم يكونوا يومئذ أنبياء، فلو صحّت هذه
الحكاية عن أبي عمرو، وصحّ عنده هذا التاريخ فذاك وإلا ... فقد
قال الشاعر «1»:
جدّت جذاذ بلاعب وتقشّعت ... غمرات قالب لبسة حيران
فكأنّ اللاعب هنا الذي يشمّر في أمره فدخله بعض الهوينى، فهذا
أسهل من الوجه الذي قوبل به الحق، وقد روي
عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال لجابر: «فهلّا
بكرا تلاعبها وتلاعبك» «2»
فهذا كأنه يتشاغل بمباح وتنفيس وجمام من الجدّ وتعمّل لما
يتقوّى به عمل النظر في العلم والعبادة، وقد روي عن بعض السلف
أنه كان إذا أكثر النظر في مسائل الفقه قال:
«أحمضوا»،
وروي: «إنّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن
__________
(1) البيت غير منسوب في المعاني الكبير 2/ 964 وفسره بقوله:
لبس ثوبه مقلوبا من الدهش. وأنشده في إيضاح الشعر ص 270.
برواية «جداد».
(2) أخرجه مسلم 2/ 1087 برقم/ 56/. ولا يقصد المصنف المدلول
الاصطلاحي لكلمة «روي» والتي تدل على التمريض عند علماء مصطلح
الحديث.
(4/406)
المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» «1»
وليس هذا اللعب كاللعب في قوله: ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا
نخوض ونلعب [التوبة/ 65].
فأما قراءة عاصم وحمزة والكسائيّ يرتع ويلعب جميعا بالياء، فإن
كان يرتع من اللهو، كما فسّره أبو عبيدة، فلا يمتنع أن يخبر به
عن يوسف لصغره، كما لا يمتنع أن ينسب إليه اللعب لذلك، فإن كان
يرتع من النيل من الشيء، فذلك لا يمتنع عليه أيضا فوجهه بيّن،
وهذا أبين من قول من قال:
ونلعب بالنون، لأنهم إنما سألوا إرساله ليتنفس بلعبه، ولم
يسألوا إرساله ليلعبوا هم.
[يوسف: 14]
اختلفوا في همز الذئب وتركه. [13 - 14].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة: بالهمز.
وقرأ الكسائيّ وحده بغير همز.
حدثني عبيد الله عن نصر عن أبيه قال: سمعت أبا عمرو يقرأ:
فأكله الذيب لا يهمز.
قال: وأهل الحجاز يهمزون.
وروى عباس بن الفضل عن أبي عمرو أنه لا يهمز.
وروى ورش عن نافع أنه لم يهمز، وقال ابن جمّاز:
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 3/ 199.
(4/407)
أبو جعفر، وشيبة ونافع: لا يهمزون الذيب.
قال أبو بكر: وهذا وهم، إنما هو أبو جعفر وشيبة لا يهمزانه،
ونافع يهمز. كذا قال إسماعيل بن جعفر عنهم، وروى المسيّبي وأبو
بكر بن أبي أويس وقالون، وإسماعيل ويعقوب ابنا جعفر «1» بن أبي
كثير عن نافع أنه همز. وأخبرنا أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد
الحارثي البصري كريزان «2» عن الأصمعي قال: سألت نافعا عن
الذئب والبئر، فقال: إن كانت العرب تهمزها فاهمزها «3».
قال أبو علي: الذئب مهموز في الأصل، وقالوا: تذاءبت الرّيح إذا
جاءت من كلّ جهة، كأن المعنى أنها أتت كما يأتي الذئب. قال
«4»:
غدا كأنّ به جنّا تذاء به ... من كلّ أقطاره يخشى ويرتقب
أي: يأتيه من جميع جهاته فإذا خفّفت الهمزة منه قلبت ياء،
وكذلك البير، ولو وقعت في ردف لقلبتها قلبا إلى الياء، كما
تقلب ألف رال في قوله «5»:
__________
(1) انظر ترجمته في طبقات القراء 2/ 389.
(2) انظر ترجمته في طبقات القراء 1/ 379.
(3) السبعة 346.
(4) البيت لذي الرمة في ديوانه 1/ 95. قوله: غدا: يريد غدا
الثور كأن به جنونا.
(5) عجز بيت لامرئ القيس وصدره:
وصمّ صلاب ما يقين من الوجى
(4/408)
كأنّ مكان الرّدف منه على رال وقد جمعوا
فقالوا في العدد القليل: أذؤب، وقالوا: ذئب وذؤبان، كما قالوا
زقّ وزقّان. قال «1»:
وأزور يمطو في بلاد بعيدة ... تعاوى به ذؤبانه
«2» وثعالبه وقالوا: ذئاب، قال «3»:
ولكنّما أهلي بواد أنيسه ... ذئاب تبغّى الناس مثنى وموحد
فإن خفّفت الهمزة أبدلت منها الياء فقلت: دياب.
[يوسف: 31]
قال: وروى عبد الله عن أبيه عن عامر عن خارجة عن نافع: وقالت
اخرج بكسر التاء [يوسف/ 31]، ولم يروه غيره.
__________
أراد بالصم: حوافره، ما يقين من الوجى: لا يهبن المشي من حفا
لصلابتهن، والرأل: فرخ النعامة- فشبه موضع الرديف منها خلف
الفارس بمؤخر الرأل. ديوانه/ 36.
(1) البيت لذي الرمة وروايته في الديوان 2/ 848:
وأزور يمطو في بلاد عريضة ... تعاوى به ذؤبانه وثعالبه
وأزور: يعني الطريق فيه عوج، ويمطو: يمدّ.
(2) في الأصل (ط): رسمت: «ذيبانه» والوجه ما أثبتناه.
(3) لساعدة بن جؤية، سبق انظر 2/ 171.
(4/409)
الباقون عن نافع: وقالت اخرج بضم التاء
«1».
وقد ذكرته «2»
[يوسف: 19]
اختلفوا في فتح الياء وإثبات الألف وإسكانها، وإسقاط الألف من
قوله عزّ وجلّ: يا بشراي هذا غلام [يوسف/ 19].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: يا بشراي بفتح الياء
وإثبات الألف «3».
وروى ورش عن نافع: يا بشراي [يوسف/ 19] ومثواي [يوسف/ 23]
ومحياي [الأنعام/ 162] وعصاي [طه/ 18] بسكون الياء.
الباقون عن نافع: بتحريك الياء إلا محياي. ورأيت أصحاب ورش لا
يعرفون هذا، ويروون عنه بفتح الياء في ذلك كلّه.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائيّ: يا بشرى بألف بغير ياء.
وعاصم بفتح الراء وحمزة والكسائيّ يميلانها «4».
من قال: يا بشراي هذا فأضاف إلى الياء التي للمتكلم كان للألف
التي هي حرف الإعراب عنده موضعان من وجهين:
أحدهما: أن الألف في موضع نصب من حيث كان نداء
__________
(1) السبعة 348 وليس مكان هذا الحرف هنا من حيث ترتيب الآيات.
(2) ذكر نظائره في سورة يوسف/ 98.
(3) زادت (ط): هنا: «وروى ورش عن نافع: (يا بشراي) بفتح الياء
وإثبات الألف» ووضعت هذه الزيادة بين قوسين. ولم ترد في
السبعة.
(4) السبعة ص 347. وجاء على هامش (ط): عبارة: بلغت.
(4/410)
مضاف، والآخر: أن تكون في موضع كسر من حيث
كانت بمنزلة حرف الإعراب في: غلامي.
والدليل على استحقاقها لهذا الموضع قولهم: كسرت فيّ، فلولا أنّ
حرف الإعراب الذي ولي ياء الإضافة في موضع كسر ما كسرت الفاء
من فيّ، فلما كسرت كما كسرت في قولهم: بفيك، وكما فتحت من
قولهم: رأيت فاك، لما كانت في موضع الفتحة في قولك: رأيت
غلامك، وانضمت في قولك: هذا فوك، لاتباعه الضمّة المقدرة فيها،
كالتي في قولك: هذا غلامك، كذلك كسرت في قولهم: كسرت فيّ، وهذا
يدل على أنه ليس يعرب من مكانين: ألا ترى أنها تبعت حركة غير
الإعراب في قولك: كسرت فيّ يا هذا، كما تبعت الإعراب في: رأيت
فاك.
ومن قال: يا بشرى هذا غلام احتمل وجهين: أحدهما:
أن يكون في موضع ضمّ مثل: يا رجل لاختصاصه بالنداء، كاختصاص
الرجل ونحوه من الأسماء الشائعة به. والآخر: أن يكون في موضع
نصب، وذلك لأنك أشعت النداء ولم تخصصه، كما فعلت في الوجه
الأول، فصار كقوله: يا حسرة على العباد [يس/ 30]، فالوجه الأول
على أنه بشرى مختصة بالنداء، والآخر: أن تنزّله من جملة كلّها
مثلها في الشّياع، إلا أن التنوين لم يلحق بشرى لأنها لا
تنصرف.
فأما قوله: لا بشرى يومئذ للمجرمين [الفرقان/ 22]، فإن حرف
الإعراب فيه يحتمل أيضا وجهين: أحدهما: أن
(4/411)
يكون في موضع فتحة لبناء الذي في: لا ريب،
و: لا رجل، والآخر: أن يكون في موضع نصب.
فأما الوجه الذي يكون فيه في موضع فتحه للبناء، فأن تجعل قوله
للمجرمين الخبر وتجعل يومئذ متعلقا باللام، وإن كان قوله:
يومئذ متقدّما عليها. والوجه الذي يكون فيه في موضع نصب مثل:
لا خيرا من زيد عندك هو أن تجعل يومئذ من صلة بشرى، فيصير لذلك
اسما طويلا ينتصب لطوله في النفي، كما ينتصب المضاف، وكذلك في
النداء، ولم يدخله التنوين، لأنه لم ينصرف، وامتناع دخول
التنوين عليه لذلك ليس مما يمتنع أن تكون الألف في موضع فتح،
وهو نصب، فأما من زعم أنّ بشرى اسم لرجل منادى فيحتاج إلى ثبات
ذلك بخبر يسكن إليه، كما أنّ من قال في ولد يعقوب النبيّ صلّى
الله عليه وآله وسلّم: إنهم لم يكونوا أنبياء، حين أخبر عنهم
باللعب، يحتاج إلى ذلك. ووجه نداء البشرى على الوجهين اللذين
قدّمنا، والمعنى فيه: أن هذا الوقت من أوانك، ولو كنت ممّن
تخاطب نحو: طبت الآن، ومثل ذلك: يا حسرة على العباد [يس/ 30].
وأما فتح عاصم الراء في بشرى فحسن لمكان الراء، وهي تجري مجرى
المستعلية، إذا كانت مفتوحة في منع الإمالة، وإمالة حمزة
والكسائيّ إياها حسنة أيضا، لأن الراء في هذا النحو لا تمنع
الإمالة، كما لا يمنع في طغى وصغى، وكما لم تمنع في قولهم: صار
مكان كذا.
فأما قول نافع محياي ومماتي [الأنعام/ 162]،
(4/412)
وجمعه بين الساكنين على غير حدّ دابّة
وشابّة، فوجه ذلك أنّه يجوز أن يختص به الألف لزيادة المدّ
الذي فيها على زيادة المدّ الذي في أختها، واختصت بهذا كما
اختصت القوافي بالتأسيس، وكما اختصت في تخفيف الهمزة بعدها،
نحو:
هباءة، وليس شيء من ذلك الياء والواو، وكذلك يجوز أن تختص
لوقوع الساكن بعدها فيما قرأه نافع.
ويقوّي ذلك ما ذهب إليه يونس، في قولهم في الخفيفة:
اضربان، واضربنان، فجمع بين الساكنين على الحدّ الذي قرأ به
نافع.
وحكى هشام: «التقت حلقتا البطان» «1». فهذه الأشياء مثل ما قرأ
به نافع من قوله: محياي، والتحريك للياء بعد الألف أكثر، وعليه
العامة من القراء والعرب والنحويين.
والدليل على ضعف ذلك من طريق القياس مع قلته في السماع أنهم
قالوا: جأنّ، ودأبّة، وأنشد «2»:
خاطمها زأمّها كي يركبا فكرهوا التقاء الساكنين، مع أنّ الثاني
منهما مدغم يرتفع اللسان عنه، وعن المدغم فيه ارتفاعة واحدة
فإذا كره كارهون هذا الكثير في الاستعمال،
فحكم ما قلّ في الاستعمال، ولم يكن على حدّ دابّة الرفض
والاطّراح.
__________
(1) انظر الأمثال لابن سلام/ 343.
(2) الرجز في اللسان (زمم) بغير نسبة، وروايته: «أن تذهبا» بدل
«كي يركبا» وبعده:
(4/413)
وقد قرأ ناس من غير القرّاء السبعة هذا
النحو بقلب الألف ياء، وإدغامها في ياء الإضافة، فقالوا: هدي
وبشري*، والقول في ذلك أن ما يضاف إلى الياء يحرّك بالكسر إذا
كان الحرف صحيحا نحو: غلامي وداري. فلمّا لم تحتمل الألف
الكسرة؛ قرّبت الألف من الياء بقلبها إليها، كما كان الحرف
يكون مكسورا والألف قريبة من الياء، فكذلك أبدل كلّ واحد منهما
من الآخر في حاري وضاري. وقوله «1»:
لنضربن بسيفنا قفيكا فإن قلت: أتقول إن في قولك: هديّ حركة
مقدّرة في الياء المنقلبة عن الألف، كما كانت في غلامي؟
فالقول: إن الياء لا ينبغي أن تقدر فيها الحركة التي قدّرت في
غلامي، لأن انقلابها إلى الياء فيه دلالة على الكسرة، فلم يلزم
أن تقدّر فيه الحركة، كما لم تقدّر الحركة له في الألف والياء
في رجلان، ورجلين، ألا ترى أنّه قال في حرف التثنية غير محرّك
ولا منوّن، فإنّما يريد غير مقدّرة فيه الحركة التي تقدّر في
نحو: قال وباع، ولو قدّرت فيها الحركة للزم أن تقلب الياء من
رجلين، ولا تثبت ياء. فإن قلت: هلّا قلت: إن الحركة في بشري
مقدّرة، وإن كانت الياء قد أبدلت من الألف فيها، لأن القلب ليس
يختص بهذا الموضع، ألا ترى أنهم يقولون أيضا في الوقف: أفعي
وأعشي، وإذا لم يختص بهذا الموضع، لم يكن مثل
__________
فقلت أردفني فقال: مرحبا
(1) من أرجوزة لرجل من حمير، سبق انظر: 1/ 84 - 416.
(4/414)
التثنية! قيل: هذا يختصّ به الوقف، فلا
يثبت في الوصل ويسقط، وإذا لم تثبت لم يقع الاعتداد بها، وكان
في تقدير الألف. فإن قلت: إنه قد حكي أن منهم من يقول في الوصل
والوقف:
أفعي، وأعشي؛ فالقول في ذلك: أنه يجوز أن يكون جعل الحرف في
الوصل مثله في الوقف، كما يجري الوصل مجرى الوقف في أشياء.
وكأنّهم أرادوا بذلك أن يكون الحرف أبين، على أنّي رأيت أبا
إسحاق لا يرتضي هذه اللغة، ويقدح فيها من طريق القياس.
قال أبو الحسن: قرأ بعض أهل المدينة بالكسر للياء في الإضافة،
قال: وذا رديء!.
قال أبو علي: لا وجه لذلك إلا أن يكون جاء به على قول من قال
«1»:
هل لك يا تافيّ فحذف الياء التي تتبع الياء وهذا قليل في
الاستعمال، ورديء في القياس، ألا ترى أن الياء للمتكلم، بمنزلة
الكاف للمخاطب، فكما لا تلحق الكاف زيادة في الأمر الشائع،
__________
(1) جزء من بيت للأغلب العجلي شاعر مخضرم، وهو من أرجوزة،
وتمامه مع ما بعده:
قال لها هل لك يا تافيّ ... قالت له ما أنت بالمرضي
معاني القرآن 2/ 76، المحتسب 2/ 49، والخزانة 2/ 257.
(4/415)
كذلك لا تلحق الياء زيادة الياء، ومن ألحق
الكاف الزيادة فقال: أعطيتكاه؛ جعل الكاف بمنزلة الهاء التي
للغائب في لحاق الزيادة له، وعلى هذا ألحق التاء التي للخطاب
حرف المد وذلك في قوله «1»:
رميتيه فأصممت ... فما أخطأت الرّمية
عباس عن أبي عمرو أبي إبراهيم: لا يحرك الياء، الباقون بتحريك
الياء، وروى اليزيدي عن أبي عمرو فتحها، لا فصل بين الإسكان
والتحريك، بل يجريان مجرى واحدا، قال أبو الحسن: الياء تخفى
بعد الهمزة، فكأنهم أرادوا إيضاحها فذا حجّتها.
[يوسف: 23]
اختلفوا في قوله جلّ وعزّ «2»: هيت لك [يوسف/ 23].
فقرأ ابن كثير: هيت لك بفتح الهاء، وتسكين الياء، وضم التاء.
وقرأ نافع وابن عامر: هيت* بكسر الهاء، وسكون الياء، ونصب
التاء.
وروى هشام بن عامر بإسناده عن ابن عامر: هئت لك من تهيّأت لك
بكسر الهاء وهمز الياء وضمّ التاء.
وكذلك حدّثني ابن بكر مولى بني سليم عن هشام. وقال
__________
(1) انظر 1/ 73.
(2) في الأصل (ط): جلّ وعزّ وجلّ.
(4/416)
الحلواني عن هشام: هئت لك مهموز بكسر الهاء
وفتح التاء، وهو خطأ، ولم يذكره ابن ذكوان «1».
أبو عبيدة: هيت لك أي: هلمّ لك، قال رجل لعلي ابن أبي طالب رضي
الله عنه «2»:
أبلغ أمير المؤمنين ... أخا العراق إذا أتيتا
أنّ العراق وأهله ... عنق إليك فهيت هيتا
«3» أي: هلمّ إلينا.
وقال أبو الحسن: وقد كسر بعضهم التاء، وهي لغة في ذا المعنى،
ورفعت في ذا المعنى.
قال: وقراءة أهل المدينة: هيت لك في ذا المعنى، الهاء مكسورة،
والتاء مفتوحة، قال: وقال بعضهم: هئت لك مهموز، جعلها من
تهيّأت لك، وهي حسنة، إلا أن المعنى الآخر أثبت، لأنها دعته،
والمفتوحة في ذا المعنى أكثر اللغات.
__________
(1) السبعة 347 وزاد بعده: وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة
والكسائي: (هيت لك) بفتح الهاء وسكون الياء وفتح التاء.
(2) في مجاز القرآن: أنشدني أبو عمرو. والبيتان في المحتسب 1/
337 والخصائص 1/ 279 والمفصل 4/ 32 واللسان مادة (هيت) غير
منسوبين، وانظر حجة القراءات لابن زنجلة/ 357.
(3) مجاز القرآن 1/ 305. قوله: عنق، أي: مائلون.
(4/417)
فأما قولهم: هيّت فلان بفلان: إذا دعاه،
فينبغي أن يكون مأخوذا من قوله: هيت لك.
كما أن قولهم: أفف «1» مأخوذ من أفّ، وجعلوها بمنزلة الأصوات،
لموافقتها لها في البناء، واشتقوا منها كما اشتقوا من الأصوات
نحو: دعدع إذا قالوا: داع داع، ويجري هذا المجرى: سبّح ولبّى
إذا قال: سبحان الله، ولبّيك. وأنشد بعض البغداديين «2»:
قد رابني أنّ الكريّ أسكتا ... لو كان معنيا بنا لهيّتا
أسكت: صار ذا سكوت، مثل: أجرب وأقطف «3».
قد تقدم من قول أبي الحسن الأخفش ما يعلم منه: أن في هيت، الذي
يراد به اسم الفعل، ثلاث لغات: هيت لك، وهيت لك، وهيت لك إلا
أن الهاء مكسورة وذلك قراءة نافع وابن عامر، ونسبه أبو الحسن
إلى أهل المدينة ومثل هذه الكلمة في أن الآخر منها قد جازت فيه
الحركات الثلاث لالتقاء
__________
(1) الأفف في اللسان: الضجر.
(2) ذكره اللسان ولم ينسبه في مادة/ هيت/.
(3) أقحم الناسخ هنا ما سبق أن ذكره من الكلام على سورة يوسف/
31 وهو قوله: «روى عبد الله عن أبيه عن ابن عباس، عن خارجة عن
نافع (قالت اخرج) كسر التاء، ولم يروه غيره، الباقون عن نافع
(قالت اخرج) بضم التاء». وقد رأينا أن حذفه من المتن أولى.
(4/418)
الساكنين قولهم: كان من الأمر ذيت وذيت
وذيت، ولو قرأ قارئ: هيت لك كان اسما للفعل، وفتح كما فتح
الآخر من رويد، ألا ترى أنه اسم فعل، كما أن رويد اسم فعل، ولك
على هذا للتبيين، بمنزلة لك في قولهم: هلمّ لك، ومثل تبيينهم
إياه ب: لك، تبيينهم رويد بالكاف في رويدك، وتبيينهم ها، وهاء
بقولهم: هاك، وهاءك، ولك في: هلمّ لك، يتعلق بهذا الاسم الذي
سمّي الفعل به، ولا يجوز أن يتعلق بمضمر، لأنك لو علقته بمضمر
لصار وصفا، وهذه الأسماء التي سمّيت بها الأفعال لا توصف،
لأنها بمنزلة مثال الأمر، فكما لا يوصف مثال الأمر، كذلك لا
توصف هذه الأسماء، وقول ابن كثير:
هيت لك بضم التاء لغة في ذا المعنى وحرّك الآخر بالضم، كما
حرّك آخر ما ذكرته من ذيت، وحيث في أنه حرّك مرّة بالضم وأخرى
بالفتح لالتقاء الساكنين. ومعنى هيت: هلمّ، وقد تقدم تفسيره
بقول أبي عبيدة.
وقراءة ابن عامر فيما روى هشام عنه: هئت لك بكسر الهاء والهمزة
وضم التاء، وجهها أنه فعلت من الهيئة، والتاء في هئت ضمير
الفاعل المسند إليه الفعل.
قال أبو زيد: هئت للأمر أهيء هيئة، وهيّأت، فهئت:
فعلت، وقال غير أبي زيد: رجل هيّئ صيّر شيّر، إذا كان حسن
الهيئة والصورة، والشارة، ونظير ما حكاه أبو زيد من هئت وتهيأت
قولهم: فئت وتفيّأت، وفي التنزيل يتفيأ ظلاله [النحل/ 48]،
وحتى تفيء إلى أمر الله [الحجرات/ 9]، فإن فاؤوا فإن الله غفور
رحيم [البقرة/ 226].
(4/419)
ويجوز في قراءة من حذف الهمزة أن يقول: هيت
لك بغير همز، والتاء ضمير الفاعل، أن يكون خفّف الهمزة كما
تخفّف من: جئت، وشئت، وفئت، ومن الأسماء نحو: ذيب، وبير. فإن
قلت: فلم لا يكون: هئت* في الآية من: هؤت بالرجل خيرا أهوء به
هوءا؛ إذا أزننته به، حكاه أبو زيد، ويكون الفعل مبنيا للمفعول
دون الفاعل مثل: سؤت زيدا، وسيء زيد، وسيئت، قيل: لا يشبه ذلك،
لأن سياق الآية يدلّ على التهيؤ الذي هو استعداد، وليس المعنى
على التّهمة والإزنان، ألا ترى أن المراودة وتغليق الأبواب
إنما هو تهيّؤ وتعمّل لطلب الخلوة وما تلتمسه المرأة فيها!
وأما ما رواه الحلواني عن هشام: هئت* مهموزا بفتح التاء وكسر
الهاء، فهو أن يشبه أن يكون وهما من الراوي، لأن الخطاب يكون
من المرأة ليوسف، وهو لم يتهيأ لها، يبيّن ذلك أن في السورة
مواضع تدلّ على خلاف ذلك من قوله: وراودته التي هو في بيتها عن
نفسه [يوسف/ 23]، وقوله: امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه
[يوسف/ 30] وقوله: أنا راودته عن نفسه [يوسف/ 32] وقوله: ذلك
ليعلم أني لم أخنه بالغيب [يوسف/ 32]، ولو كان على هذه الرواية
لقالت له: هيت لي، فالوهم في هذه الرواية ظاهر.
[يوسف: 24]
اختلفوا في كسر اللام وفتحها من قوله جلّ وعزّ:
المخلصين*، [24].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: المخلصين ومخلصا* [مريم/
51] بكسر اللام، وتابعهم نافع في قوله:
(4/420)
إنه كان مخلصا في مريم بكسر اللام، وقرأ
سائر القرآن المخلصين بفتح اللام، فأما ما فيه الدين [الأعراف/
29، والزمر/ 11] أو ديني [الزمر/ 14]، فلم: يختلف فيه أنه بكسر
اللام.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: المخلصين، ومخلصا في سائر القرآن
بفتح اللام «1».
حجّة من كسر اللام من المخلصين* ومخلصا* قوله:
وأخلصوا دينهم لله [النساء/ 146]. فأما قراءة نافع في مريم:
مخلصا بكسر اللام فعلى معنى أنه كان مخلصا دينه، أو مخلصا
عبادته.
فأما ما فيه الدين كقوله: مخلصين له الدين [غافر/ 14] قل الله
أعبد مخلصا له ديني [الزمر/ 14] فلأن الدين وديني مفعول به،
وفي اسم الفاعل ذكر مرتفع بأنه فاعل. ومعنى: مخلصا له ديني:
أي: أتوجه في عبادتي إليه، من غير مراءاة في ذلك، وكذلك مخلصين
له الدين أي: لا يشركون في عبادته أحدا، كما قال: ولا يشرك
بعبادة ربه أحدا [الكهف/ 110]، ولم يكونوا كمن قال: ما نعبدهم
إلا ليقربونا إلى الله زلفى [الزمر/ 3]. وأقول في ذلك: أخلصت
ديني لله، ولا يكون أخلصت ديني لله، كما لا يكون: أخلصوا دينهم
لله، ويجوز في التي في الزّمر: وهو مخلصا له ديني أي: أخلصه
أنا، ومخلصا له ديني أي: يخلص ديني له، يكون هو المخلص في
المعنى، إلّا أنه بني الفعل للمفعول به، وهذا يجوز في العربية.
__________
(1) السبعة 348.
(4/421)
وحجة من كسر اللام قوله: وأخلصوا دينهم
لله، فإذا أخلصوا فهم مخلصون، كما أنهم إذا أخلصوا لهم كانوا
مخلصين.
[يوسف: 31]
اختلفوا في قوله عزّ وجلّ: حاشا لله [31].
فقرأ أبو عمرو وحده: حاشا لله بألف.
وقرأ الباقون: حاش لله بغير ألف.
حدّثني عبيد الله بن علي قال: حدّثنا نصر بن علي قال:
أخبرنا الأصمعيّ قال: سمعت نافعا يقرأ: حاشا لله فيها بألف
ساكنة، كذا في الحديث «1».
أبو عبيدة: حاش لله وحاشا لله يطلقونها، وهي تبرئة واستثناء.
وأنشد «2»:
حاشا أبي ثوبان إنّ به ... ضنّا على الملحاة والشّتم
«3» قال أبو علي: لا يخلو قولهم: حاش لله من أن يكون الحرف
الجارّ، في الاستثناء، أو يكون فاعل من قولهم: حاشا يحاشي، فلا
يجوز أن يكون الحرف الجارّ، لأن الحرف الجارّ
__________
(1) انظر مسند أحمد 2/ 296. السبعة 348.
(2) البيت للجميح الأسدي وهو من قصيدة مفضلية في المفضليات رقم
109 ص 367 والأصمعيات ص 254 والمحتسب 1/ 341 - الإنصاف 280 -
المفصل 2/ 84 و 8/ 47 وهو الشاهد رقم 184 من شرح أبيات المغني
ج 3/ 88 والخزانة 2/ 150.
(3) مجاز القرآن 1/ 310.
(4/422)
لا يدخل على مثله، ولأنّ الحروف لا تحذف
إذا لم يكن فيها تضعيف، فإذا لم يكن الجارّ ثبت أنه الذي على
فاعل، وهو مأخوذ من الحشا الذي يعنى به: الناحية. قال الهذليّ
«1»:
يقول الذي يمشي إلى الحرز أهله ... بأيّ الحشا صار الخليط
المباين
فحاشا: فاعل من هذا، والمعنى أنه صار في حشا، أي:
في ناحية مما قرف فيه، أي: لم يقترفه، ولم يلابسه، وصار في
عزلة عنه وناحية، وإذا كان فعلا من هذا الذي ذكرنا، فلا بدّ له
من فاعل، وفاعله يوسف، كأنّ المعنى: بعد من هذا الذي رمي به
لله، أي: لخوفه ومراقبة أمره.
فأما حذف الألف فيه، فلأن الأفعال قد حذف منها نحو:
لم يك، ولا أدر، ولم أبل. وقد حذفوا الألف من الفعل في قولهم:
أصاب الناس جهد، ولو تر ما أهل مكة، فإنما هو:
ترى؛ فحذفت الألف المنقلبة عن اللام، كما حذفت من حاشا من
قوله: حاش لله.
ومن حجة الحذف: أنهم زعموا أنه في الخطّ محذوف، وقد قال رؤبة
«2»:
__________
(1) لمالك بن خالد الخناعي ويقال: إنها للمعطل- والحشا: أجواف
الأودية- والخليط الذين يخالطون في الدار- والمباين: المفارق
المزايل. شرح أشعار الهذليين للسكري 1/ 446.
(2) من أرجوزة له في ديوانه 187 وقبله:
مسرول في آلة مربّن ... يمشي العرضنى في الحديد المتقن
(4/423)
وصّاني العجّاج فيما وصّني ومن ذلك قول
الشاعر «1»:
ولا يتحشّى الفحل إن أعرضت به ... ولا يمنع المرباع منها
فصيلها
فحاشا وحشّى بمنزلة: ضاعف وضعّف، وتحشّى مطاوع حشّ، وإن لم
أسمع فيه حشّى، فهذا لم يستعمل ما هو مطاوع له، كما أنّ قولهم:
انطلق كذلك، والمعنى: لا يصير الفحل من عقره في ناحية، أي: لا
يمنعه ذلك من عقره للنحر وإطعام الضيف، وكذلك: لا يمنع المرباع
فصيلها، أي: لا يمنع المرباع من عقره لها فصيلها إشفاقا عليه،
ولكن يعقرها، كما يعقر الفحل.
وأما قول أبي عمرو: حاشا فإنه جاء به على التمام، والأصل، قال
أبو الحسن: ولم أسمعها إلا أنها قد كثرت في القراءة، فكأنه
تمّم لأنه رأى الحذف في هذا النحو قليلا، ويدلّ على جودة
التمام: أنّ «ترى» وإن كانت قد حذفت في بعض المواضع، فإتمامها
جيّد، فكذلك حاشا.
[يوسف: 47]
اختلفوا في إسكان الهمزة وتحريكها وإسقاطها من قوله تعالى:
دأبا [يوسف/ 47].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر، وحمزة،
__________
(1) سبق انظر 1/ 38.
(4/424)
والكسائي: دأبا ساكنة الهمزة؛ إلا أنّ أبا
عمرو كان إذا أدرج القراءة لم يهمزها.
وروى حفص عن عاصم: دأبا بفتح الهمزة. وروى أبو بكر [عنه] ساكنة
الهمزة، وكذلك روى موسى الزابي عن عاصم بالفتح «1».
الأكثر في دأب* الإسكان، ولعلّ الفتح لغة فيكون كشمع وشمع،
ونهر ونهر. وقصّ وقصص، وانتصاب دأبا لمّا قال: تزرعون [يوسف/
47] دلّ على تدأبون فانتصب دأبا بما دلّ عليه تزرعون وغير
سيبويه يجيز أن يكون انتصابه ب تزرعون كأنه إذا قال: تزرعون
وفيه علاج ودءوب؛ فقد قال: تدأبون، فانتصب دأبا به لا بالمضمر.
[يوسف: 49]
اختلفوا في الياء والتاء من قوله: وفيه يعصرون [يوسف/ 49].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر:
يعصرون بالياء.
وقرأ حمزة والكسائي: تعصرون بالتاء «2».
قوله: يعصرون يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون العصر الذي يراد به
الضغط الذي يلحق ما فيه دهن أو ماء، نحو: الزيتون، والسّمسم
والعنب والتمر ليخرج ذلك منه! وهذا
__________
(1) السبعة 349 وما بين معقوفين منه.
(2) السبعة 349.
(4/425)
يمكن أن يكون تأويل الآية عليه «1»، لأن من
المتأولين من يحكي أنهم لم يعصروا أربع عشرة سنة زيتا ولا
عنبا، فيكون المعنى: تعصرون للخصب الذي أتاكم، كما كنتم تعصرون
أيام الخصب وقبل الجدب الذي دفعتم إليه، ويكون:
يعصرون من العصر الذي هو الالتجاء إلى ما تقدّر النجاة به، قال
ابن مقبل «2»:
وصاحبي وهوه مستوهل زعل ... يحول بين حمار الوحش
«2» والعصر أي: يحول بينه وبين الملجأ الذي يقدّر به النجاة.
وقال آخر «4»:
في ضريح عليه عبء ثقيل ... ولقد كان عصرة المنجود
__________
(1) انظر الطبري في تفسيره 12/ 232.
(2) من قصيدة بلغت 78 بيتا في ديوانه ص 96 قال عنها ابن قتيبة
في الشعراء 426: وهي أجود شعره. وهو في المعاني 26 والجمهرة 2/
354 واللسان (زعل). قوله: صاحبي، يريد فرسه، والوهوه من الخيل:
النشيط سريع الجري- والمستوهل: الفزع النشيط والزعل:
النشيط الأشر- والعصر: الملجأ.
(4) عجز هذا البيت هو عجز بيت لأبي زبيد الطائي وهو بتمامه:
صاديا يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود
وهو في الطبري 12/ والاقتضاب 390 والمحتسب 1/ 345 والبحر 5/
315 واللسان (عصر) و (نجد) - والمنجود: المكروب.
(4/426)
وقال أبو عبيدة: تعصرون: تنجون. وأنشد
للبيد «1»:
فبات وأسرى القوم آخر ليلهم ... وما كان وقّافا بغير معصّر
قال: والعصر: المنجاة «2»، قال عدي «3»:
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصّان بالماء اعتصاري
فأما من قال: يعصرون بالياء «4»، فإنه جعل الفاعلين الناس، لأن
ذكرهم قد تقدّم هذا الفعل.
ومن قال: تعصرون، وجّه الخطاب إلى المستفتين الذين قالوا:
أفتنا في كذا، وعلى هذا قالوا: إلا قليلا مما تحصنون [يوسف/
48]، إلا أن الناس أقرب إلى الفعل منهم ويجوز: أن يكون أريد
المستفتون وغيرهم، إلا أنه حمل الكلام
__________
(1) في الديوان برواية (بدار معصّر) والمعصر: الملجأ والحرز
(ديوانه/ 68).
(2) مجاز القرآن 1/ 313. وقد خطأ أبا عبيدة في تفسيره هذا
الطبري، فقال في جامع البيان 12/ 233: وكان بعض من لا علم له
بأقوال السلف من أهل التأويل ممن يفسر القرآن برأيه على مذهب
كلام العرب يوجه معنى قوله: (وفيه يعصرون) إلى: وفيه ينجون من
الجدب والقحط بالغيث، ويزعم أنه من العصر، والعصر التي بمعنى
المنجاة من قول أبي زبيد البيت ... الخ.
(3) هو من شواهد سيبويه 1/ 462 والاشتقاق 269، والخزانة 3/ 594
والبحر المحيط 5/ 316. واللسان مادة/ عصر/.
(4) في الأصل (تعصرون) بالتاء. والوجه ما أثبتناه.
(4/427)
على المخاطبين. لأن الخطاب والغيبة، إذا
اجتمعا غلّب الخطاب على الغيبة، كما يغلب التذكير على التأنيث.
[يوسف: 56]
وقرأ ابن كثير وحده: يتبوأ منها حيث نشاء [يوسف/ 56] بالنون.
وقرأ الباقون بالياء «1».
قال أبو علي: يتبوأ منها حيث يشاء من قال: حيث يشاء، فيشاء
مسند إلى فعل الغائب، كما كان يتبوأ كذلك.
ويقوي ذلك: وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء [الزمر/
74]. وكما أن قوله: حيث نشاء وفق فعل المتبوءين فكذلك قوله:
حيث يشاء وفق لقوله: يتبوأ في إسناده إلى الغيبة.
وأما قراءة ابن كثير حيث نشاء فإنه على أحد وجهين:
إما يكون أسند المشيئة إليه، وهي ليوسف في المعنى، لأن مشيئته
لما كانت بقوّته وإقداره عليها جاز أن ينسب إلى الله سبحانه،
وإن كان في المعنى ليوسف، كما قال: وما رميت إذ رميت ولكن الله
رمى [الأنفال/ 17]، فأضيف الرمي إلى الله سبحانه لما كان
بقوته، وإن كان الرمي للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
والآخر: أن يكون الموضع المتبوّأ مواضع نسك وقرب، أو مواضع
يقام فيها الحقّ من أمر بمعروف أو نهي عن منكر،
__________
(1) السبعة 349 وقد جاء الكلام عن هذا الحرف متأخرا في الأصل
عن:
(وقال لفتيانه) الآية 62. ورتبناه حسب تسلسل الآيات.
(4/428)
فالتبوّؤ في نحو هذه الأماكن والمكث فيها
قرب إلى الله سبحانه، فهو يشاؤه ويريده.
ويقوي النون أن الفعل المعطوف عليه كذلك، وهو:
نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين [يوسف/ 56]، فأما
اللام في قوله: مكنا ليوسف [يوسف/ 21]، وفي قوله: إنا مكنا له
في الأرض [الكهف/ 84] فيجوز أن يكون على حدّ التي في قوله: ردف
لكم [النمل/ 72] وللرؤيا تعبرون [يوسف/ 43]، يدلّ على ذلك
قوله: ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه [الأحقاف/ 26]، وقوله:
مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم [الأنعام/ 6]. وتكون اللام في
قوله: ما لم نمكن لكم على هذا أيضا.
وقوله: يتبوأ في موضع نصب على الحال تقديره مكّنّاه متبوّئا
حيث يشاء، فأما قوله: حيث يشاء فيحتمل موضعه أمرين، أحدهما: أن
يكون في موضع نصب بأنه ظرف، والآخر: أن يكون في موضع بأنه
مفعول به، ويدل على جواز هذا الوجه قول الشمّاخ «1»:
وحلّأها عن ذي الأراكة عامر ... أخو الخضر يرمي حيث تكوى
النّواحز
[يوسف: 62]
اختلفوا في النون والتاء من قوله عزّ وجلّ: وقال لفتيانه
[يوسف/ 62].
__________
(1) سبق ذكره في هذا الجزء ص 310
(4/429)
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر:
لفتيته بالتاء.
واختلف عن عاصم فروى أبو بكر عنه مثل أبي عمرو، وروى حفص عنه
لفتيانه مثل حمزة بالنون.
وقرأ حمزة والكسائي: لفتيانه بالنون.
الفتية جمع فتى في العدد القليل، والفتيان في الكثير، فمثل فتى
وفتية، أخ وإخوة، وولد وولدة، ونار ونيرة، وقاع وقيعة، ومثل
الفتيان: برق وبرقان، وخرب وخربان وجار وجيران وتاج وتيجان.
وقد جاء فعله في العدد القليل، فيما زادت عدّته على ثلاثة
أحرف: نحو: صبيّ وصبية، وغلام وغلمة، وعلي وعلية.
فوجه البناء الذي للعدد القليل: أن الذين يحيطون بما يجعلون
بضاعتهم فيه من رحالهم يكفون من الكثير.
ووجه الجمع الكثير: أنه يجوز أن يقال ذلك للكثير، ويتولى الفعل
منهم القليل. ويقوّي البناء الكثير قوله: اجعلوا بضاعتهم في
رحالهم [يوسف/ 62]، فكما أن الرحال للعدد الكثير، لأن جمع
القليل: أرحل: فكذلك المتولّون ذلك يكونون كثرة.
وقال أبو الحسن: كلام العرب: قل لفتيانك، وما فعل فتيانك؟ وإن
كانوا في أدنى العدد، إلا أن يقولوا: ثلاثة
(4/430)
وأربعة، فإن قلت: هلّا كان فتية، أولى
لقوله: إذ أوى الفتية إلى الكهف [الكهف/ 10]، ولقوله: فبدأ
بأوعيتهم قبل وعاء أخيه [يوسف/ 76]، والأوعية للعدد القليل؟
قيل: لا دلالة على ما ذكرت من واحد من الأمرين، فأما قوله:
الفتية في أصحاب الكهف، فزعموا أنهم كانوا أقل من عشرة، وأما
قوله: فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، فإنه وإن كان أفعلة لأدنى
العدد، فإنه في هذا الباب يجوز أن يعنى به العدد الكثير، ألا
ترى أنه لا يستعمل في هذا الباب البناء الذي لأكثر العدد، وهو
فعل، فإذا رفضوا ذلك فيه، ولم
يستعملوه، جاز أن يعنى به العدد الكثير، ألا ترى أن قولهم:
رداء وكساء، ورشاء، وعباء، لا يقال في تكسيره إلّا: أعبية
وأردية، وأرشية، وأكسية، ولم يجيء شيء منه على فعل، لأنه لو
جاء على ذلك لم يخل من أن تخفف العين كما خفّف في رسل، ورسل،
أو تثقّل كما ثقلت العين في رسل، فإن خففت العين في ذلك، لم
يجز، لأن العين إذا خفّفت في هذا النحو كان في حكم التثقيل
بدلالة قولهم: لقضو الرجل، ورضي، وغزي، فكما أن التخفيف في حكم
التثقيل لتقريرهم حروف اللين على ما هي عليه، والحركة ثابتة
غير محذوفة، كذلك في فعل، لو خفّف فقيل: رشي، كان في حكم
التثقيل، ولم يثقل لما كان يلزم من القلب والإعلال، وقد يقوم
البناء الذي للقليل مقام البناء الذي للكثير، وكذلك الكثير
يقوم مقام القليل حيث لا قلب ولا إعلال، وذلك نحو: أرجل،
وأقدام وأرسان، وفي الكثير قولهم: ثلاثة شسوع؛ فإذا فعل ذلك
فيما لا إعلال فيه،
(4/431)
فأن يرفض فيما يؤدي إلى ما ذكرنا من
الإعلال والقلب أولى.
فأما قولهم: ثن في جمع ثنيّ، فمن الشاذّ الذي لم يعدّ إلى
غيره، ورفض فيما عداه.
[يوسف: 63]
اختلفوا في الياء والنون من قوله عزّ وجلّ: نكتل [يوسف/ 63].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر.
نكتل بالنون.
وقرأ حمزة والكسائي: يكتل بالياء «1».
يدلّ على النون قوله: ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير
[يوسف/ 65]، ألا ترى أنهم إنما يميرون أهلهم مما يكتالونه،
فيكون نكتل مثل نمير، وأيضا فإذا قالوا: نكتل، جاز أن يكون
أخوهم داخلا معهم، وإذا قالوا: يكتل بالياء لم يدخلوا هم في
هذه الجملة، وزعموا أن في قراءة عبد الله:
نكتل بالنون، وكان بالنون لقولهم: منع منّا الكيل لغيبة أخينا،
فأرسله نكتل ما منعناه، لغيبته.
ووجه الياء كأنه يكتل هو حمله، كما نكتال نحن أحمالنا.
[يوسف: 80]
قال أحمد: روى خلف والهيثم عن عبيد عن شبل عن ابن كثير: فلما
استأيسوا منه [يوسف/ 80] بغير همز.
__________
(1) السبعة 349، 350
(4/432)
ومحمد بن صالح عن شبل عن ابن كثير مثله.
وقرأ الباقون: استيأسوا منه الهمزة بين السين والياء، وكذلك
قرأت على قنبل عن ابن كثير: استيأسوا مثل حمزة ولا تيأسوا
[يوسف/ 87].
وكلّهم قرأ في آخرها: استيأس الرسل [110] إلا ما ذكرت عن ابن
كثير «1».
قولهم: يئس واستيأس مثل: عجب واستعجب، وسخر واستسخر، وفي
التنزيل: وإذا رأوا آية يستسخرون [الصافات/ 14]، وقال أوس «2»:
ومستعجب ممّا يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم
ومن قال: استأيس الرسل قلب العين إلى موضع الفاء فصارت استعفل
«3»، ولفظه استأيس، ثم خفّف الهمزة وأبدلها ألفا لسكونها،
وانفتاح ما قبلها فصار مثل راس وفاس، فإن قلت:
فلم لا يكون استيأس فأبدل من الياء الألف وإن كانت ساكنة كما
قلب قوم نحو: يا تعد، ويا تزر، وياتيس؟ قيل: لو كان كذلك لكان:
فلمّا استاأسوا، فكانت الهمزة التي هي عين مخففة، فإن خفّفها
كانت بين بين كالتي في هاأة. والرواية عن ابن كثير: استأيسوا
بالياء والهمزة لا تقلب ياء في هذا النحو
__________
(1) السبعة: 350.
(2) سبق في 1/ 352 وانظر المحتسب 2/ 108.
(3) في الأصل «استفعل» والوجه ما أثبتناه.
(4/433)
في التخفيف القياسيّ. وقد قلب هذا الحرف في
غير هذا الموضع قالوا: أيس يأيس، وهذا مقلوب من يئس ييأس، وهو
الأصل. يدلّك على ذلك، أن المصدر لا نعلمه جاء إلّا على تقديم
الياء نحو قوله «1»:
من يأسة اليائس أو حدادا ونحو ما أنشده أبو زيد «2»:
بلا عزف تسلو ولكن يآسة ... وأشفى لمطلول العلاقة لو يسلو
فأما قولهم: الإياس وتسميتهم الرجل إياسا فليس مصدر أيس، ولو
كان كذلك لكان من باب جبذ وجذب في أنّ كلّ واحد منهما أصل على
حدة، وليس أحدهما مقلوبا عن
صاحبه، ولكن إياسا مصدر أسته أؤوسه أوسا: إذا أعطيته، والإياس
مثل القياس والقياد، وإنّما سمّي الرجل بإياس «3» وأوس كما
سمّي بعطاء وعطيّة، ومن ذلك قول النابغة الجعدي «4»:
وكان الإله هو المستآسا
__________
(1) لم نعثر على قائله.
(2) النوادر 562 مع بيت سابق له دون عزو.
(3) جاء في الأصل (ط): «بإياس كما» وهي زيادة لا معنى لها.
(4) عجز بيت وصدره:
ثلاثة أهلين أفنيتهم والمستآس: المستعاض. انظر شعره 78 واللسان
مادة/ أوس/.
(4/434)
إنما هو مستفعل من العطاء، أي: يسأل أن
يعطي، ومن فسره من أهل اللغة على غير هذا، فإنما هو تفسير على
المعنى دون ما عليه اللفظ، فأمّا الأسو فهو من قولك: أسوت
الجرح أأسوه أسوا، والفاعل آس كما ترى، والمفعول: مأسوّ وأسيّ.
وقول الحطيئة «1»:
... الأطبّة والإساء الإساء: فعال، مثل صاحب وصحاب، وآم وإمام،
ومنه: واجعلنا للمتقين إماما [الفرقان/ 74] في قول أبي الحسن،
وقالوا: أسيّ فعيل مثل أسير، ومن ثم جمع على أساوى مثل أسارى.
قال «2»:
__________
(1) جزء من بيت للحطيئة وتمامه:
هم الآسون أمّ الرأس لمّا ... تواكلها الأطبّة والإساء
والآسون: المداوون، والآسي: الطبيب، فمعناه: أنهم يصلحون
الفاسد وأم الرأس: الجلدة الرقيقة التي ألبست الدماغ. وتواكلها
ذا إلى ذا: من تفاقمها. والإساء: جمع آسي، كما يقال: راعي
ورعاء. والدواء بعينه انظر ديوانه/ 102، ومعجم تهذيب اللغة 13/
140 واللسان (أسي).
(2) من قصيدة لأبي ذؤيب الهذلي يرثي نشيبة بن محرث- وتمام
البيت كما جاء في شرح أشعار الهذليين:
ترى شربها حمر الحداق كأنّهم ... أساوى إذا ما مار فيهم سوارها
والأساوى: الذين برءوسهم جراح، فأسيت، أي:
(4/435)
كأنّهم أساوى إذا ما سار فيهم سوارها وقال
«1»:
أسيّ على أمّ الدّماغ حجيج فانقلبت الواو كما انقلبت في غزيّ،
وأما أسيت آسى أسى في الحزن: وهو مثل: فرقت أفرق فرقا، فقالوا:
أسيان، وأحسبني قد سمعت: أسوان، فإن لم يك كذلك، فأسيت مثل
رضيت، أو يكون في الكلمة لغتان: الياء والواو، وقال: فلا تأس
على القوم [المائدة/ 26]: فكيف آسى على قوم، [الأعراف/ 93]،
ولكي لا تأسوا على ما فاتكم [الحديد/ 23]، وأما السّأو للهمّة
فمصدر، وقوله «2»:
__________
أصلحت- وسوارها: سورتها- والسّوار: دبيب الخمرة في الجسد- شرح
أشعار الهذليين للسكري 1/ 75.
(1) أبو ذؤيب أيضا، وصدر البيت:
وصبّ عليها الطيب حتى كأنها والأسي: المشجوج المداوى والآسي:
الطبيب المداوي- وأم الدماغ: الجليدة الرقيقة التي تجمع
الدماغ. حاشية السكري 1/ 134 اللسان مادة/ حجج/.
(2) جزء من بيت لذي الرمة وتمامه:
كأنني من هوى خرقاء مطّرف ... دامي الأظلّ بعيد الشأو مهيوم
ديوانه 1/ 382 وجاءت روايته فيه «الشأو» بالشين بدل «السأو».
وفي تهذيب اللغة والصحاح واللسان والتاج روي بالسين المهملة.
قال في اللسان: «السأو»: الوطن، ثم أنشد البيت. والسأو: الهمة،
يقال: فلان بعيد السأو، أي: بعيد الهمة. وأنشد أيضا بيت ذي
الرمة، قال: وفسره فقال:
(4/436)
بعيد السّأو مهيوم التقدير: بعيد المكان
الذي يحنّ إليه ويهيم بلحاقه به، فوضع المصدر موضع الصفة، فهو
من باب: ضرب الأمير، ونسج اليمن.
وقال أبو عبيدة في قوله: أفلم ييأس الذين آمنوا [الرعد/ 31]،
ألم يتبيّن ويعلم، وأنشد لسحيم بن وثيل «1».
أقول لأهل الشّعب إذ ييسرونني ... ألم تيأسوا أنّي ابن فارس
زهدم
«2» يروى: ييسرونني: أي يقتسمونني «3»، وبعضهم يقول:
يأسرونني من الأسر، وقال بعض البصريّين: أفلم ييأس الذين آمنوا
أي: ألم يعلموا، قال: وهي لغة وهبيل من النّخع «4»،
__________
يعني همه الذي تنازعه نفسه إليه، ويروى هذا البيت بالشين
المعجمة من الشأو، وهو الغاية. (اللسان سأو) ومطّرف: البعير
الذي يؤتى به من وطنه إلى وطن غيره، فهو يحنّ إلى ألّافه
ويشتاق. والأظل: باطن المنسم من الخفّ. (شرح ديوانه).
(1) نسب لولده جابر بن زهدم- في المسائل البصريات 587 برواية
«يأسرونني» والمحتسب 1/ 357 والأساس (يئس) واللسان (يسر)
والبحر المحيط 5/ 392 وزهدم: اسم فرس لسحيم.
(2) مجاز القرآن 1/ 332.
(3) قال في المسائل البصريات: وقد روي ييسرونني، أي:
يقتسمونني، من يسرت الجزور.
(4) هي لغة حي من النخع وهو رهط شريك. انظر اللسان (يأس).
(4/437)
هكذا رواه أبو عبد الله اليزيدي، وأنشد
بيتا آخر «1»:
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه ... وإن كنت عن أرض العشيرة
نائيا
وينبغي أن تكون أن بعدها وهو قوله: أن لو يشاء الله لهدى الناس
جميعا [الرعد/ 31] مخفّفة من الثقيلة، وفيه ضمير القصة
والحديث، كما أنه في قوله: علم أن سيكون منكم مرضى [المزمل/
20] أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا
نفعا [طه/ 89]، على ذلك، وحسن وقوع الفعل بعدها لفصل الحرف،
كما فصل في هذه المواضع الأخر.
ولا يجوز في: ييأس، هذا الذي بمعنى العلم الشذوذ الذي جاء في:
حسب يحسب، ويئس ييأس، لأن ذلك إنما جاء في يئس الذي هو خلاف
يرجو، والشذوذ حكمه أن يقصر على ما جاء فيه، ولا يتعدى إلى
غيره، ويقوّي ذلك أنه يئس ييأس، إذا أريد به خلاف الرجاء مثل:
علم يعلم، ويؤكد ذلك أيضا أن خلافه على هذا المثال وهو: جهل
يجهل جهلا، ومصدره ينبغي أن يكون يأسا مثل: جهلا.
[يوسف: 64]
اختلفوا في إسقاط الألف وإثباتها، وفتح الحاء وكسرها من قوله:
خير حفظا [يوسف/ 64].
فقرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي
بكر: خير حفظا بغير ألف.
__________
(1) البيت لرياح بن عدي. انظر المحتسب 1/ 357 والبحر المحيط 5/
392.
(4/438)
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم حافظا
بألف «1».
وجه من قال: خير حفظا أنه قد ثبت قوله: ونحفظ أخانا [يوسف/ 65]
وقوله: وإنا له لحافظون [يوسف/ 12]، أنهم قد أضافوا إلى أنفسهم
حفظا، فالمعنى على الحفظ الذي نسبوه إلى أنفسهم، وإن كان منهم
تفريط في حفظهم ليوسف، كما أن قوله: أين شركائي [النحل/ 27 -
القصص/ 62] لم يثبت لله تعالى شريكا، ولكن المعنى على الشركاء
الذين نسبتموهم إليّ؛ فكذلك المعنى على الحفظ الذي نسبوه إلى
أنفسهم، وإن كان منهم تفريط فإذا كان كذلك، كان معنى: الله خير
حفظا من حفظكم الذي نسبتموه إلى أنفسكم لقولكم: ونحفظ أخانا
وإنا له لحافظون وإن كان منكم فيه تفريط، وإضافة خير إلى حفظ
محال، ولكن تقول: حفظ الله خير من حفظكم، لأن الله حافظ «2»،
بدلالة قوله: حافظات للغيب بما حفظ الله [النساء/ 34].
وأما من قال: خير حافظا فينبغي أن يكون: حافظا منتصبا على
التمييز دون الحال كما كان حفظا* كذلك، ولا تستحيل الإضافة في
قوله: خير حافظا وخير الحافظين كما تستحيل في: خير حفظا فإن
قلت: فهل كان ثمّ حافظ كما ثبت أنه قد كان حفظ بما قدّمه،
فالقول فيه: إنه قد ثبت أنه كان ثمّ حافظ لقوله: وإنا له
لحافظون، ولقوله: يحفظونه من
__________
(1) السبعة 350.
(2) في الأصل: «حفظا».
(4/439)
أمر الله [الرعد/ 11] فتقول: حافظ الله خير
من حافظكم، كما قلت: حفظ الله خير من حفظكم، لأن لله سبحانه
حفظة، كما أن له حفظا، فحافظه خير من حافظكم، كما كان
حفظه خيرا من حفظكم، وتقول: هو أحفظ حافظ، كما تقول: هو أرحم
راحم، لأنه سبحانه من الحافظين، كما كان من الراحمين، ولا يكون
حافظا في الآية منتصبا على الحال.
قال: قرأ عاصم في رواية أبي بكر: يوحي إليهم [109] بفتح الحاء،
وفي رواية حفص: نوحي إليهم بالنون وكسر الحاء في جميع القرآن
إلا في قوله في عسق: كذلك يوحي إليك [الشورى/ 3] فإنه قرأ:
يوحي بالياء مكسورة الحاء «1».
وجه: نوحي بالنون قوله: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح
والنبيين من بعده [النساء/ 163].
ووجه: يوحى* قوله: وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك [هود/
36]، وقوله: قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا [الجن/
1]، وأما قراءة عاصم في عسق: كذلك يوحي إليك فلأن الفعل مسند
إلى اسم الله تعالى، فارتفاع الاسم كأنه فاعل يوحي، ولو قرأ:
يوحى إليك وإلى الذين من قبلك؛ جاز، وأسند الفعل إلى الجار
والمجرور وإن لم يكن في حسن ما قرأ به، وكان يكون اسم الله في
قوله: الله العزيز الحكيم [الشورى/ 3]: مبتدأ، والعزيز الحكيم،
خبره إلّا أنّ
__________
(1) السبعة 351.
(4/440)
العزيز الحكيم أن تجيء به صفة جارية على
اسم الله جلّ وعز، أحسن من أن تجعله خبرا عنه، وكذلك إذا أسندت
الفعل إلى الاسم المفرد كان أولى من أن يسند الفعل إلى الجار
والمجرور، ألا ترى أن الفعل في قوله: قل أوحي إلي أنه استمع
نفر من الجن [الجن/ 1] ومن قوله: وأوحي إلى نوح [هود/ 36] أنه
لم يسند في واحد من الموضعين إلى الجار والمجرور، وإنما أسند
إلى أن في الموضعين جميعا، فلعل عاصما اعتبر ذلك في الموضعين،
فأسند الفعل إلى الفاعل الذي هو اسم الله دون الجار والمجرور.
[يوسف: 110]
اختلفوا في تشديد الذّال وتخفيفها من قوله تعالى:
وظنوا أنهم قد كذبوا [110].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: كذبوا مشددة الذال.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي كذبوا خفيف. وكلهم ضم الكاف «1».
الضمير في ظنوا في قول من شدّد للرّسل تقديره: ظن الرّسل، أي:
تيقّنوا، وظنّوا الظن الذي هو حسبان، ومعنى:
كذبوا* تلقّوا بالتكذيب، كقولهم: حيّيته، وخطّأته وفسّقته،
وجدّعته، وعقّرته، وزنّيته. أي استقبلته بحيّاك الله، وجدعك
الله وسقاك الله «2»، فتكذيبهم إياهم يكون بأن تلقوا بذلك
كقوله: وإن نظنك لمن الكاذبين [الشعراء/ 186]، أو بما
__________
(1) السبعة 351.
(2) ولم يورد لها مثلا فيما أورده من أفعال.
(4/441)
يدل عليه، وإن خالفه في اللفظ، ومن حجة
التثقيل قوله: فقد كذبت رسل [فاطر/ 4]، وقوله: فكذبوا رسلي
[سبأ/ 45]، وقوله: إن كل «1» إلا كذب الرسل [ص/ 14].
وأما من خفّف فقال: كذبوا فهو من كذبتك الحديث، أي: لم أصدقك.
وفي التنزيل وقعد الذين كذبوا الله ورسوله [التوبة/ 90]،
وقياسه إذا اعتبر بالخلاف أن يتعدى إلى مفعولين، كما تعدّى صدق
في قوله: لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق [الفتح/ 27]، وقال
الأعشى «2»:
فصدقته وكذبته ... والمرء ينفعه كذابه
قال سيبويه: كذب يكذب كذبا، وقالوا: كذّابا، فجاءوا به على
فعّال، وقد خففه الأعشى، وقال ذو الرمة «3»:
وقد حلفت بالله ميّة ما الّذي ... أقول لها إلا الذي أنا كاذبه
والضمير في قوله: وظنوا أنهم قد كذبوا للمرسل إليهم، التقدير:
ظنّ المرسل إليهم أن الرّسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به من أنهم
إن لم يؤمنوا نزل بهم العذاب، وإنما ظنّوا
__________
(1) في الأصل المخطوط: إن كل نفس إلا كذب.
(2) سبق انظر 1/ 329.
(3) هذا البيت رواه ثعلب وليس في مخطوطات الديوان وهو من ثلاثة
أبيات أضيفت إلى قصيدته انظر ديوان ذي الرمة 2/ 833.
(4/442)
ذلك لما شاهدوه من إمهال الله إياهم،
وإملائه لهم، فإن قلت: كيف يجوز أن يحمل الضمير في ظنّوا على
أنه للمرسل إليهم الرسل، والذي تقدم ذكرهم الرسل دون المرسل
إليهم؟
قيل: إن ذلك لا يمتنع، لأن ذكر الرسل، يدلّ على المرسل إليهم
لمقارنة أحد الاسمين للآخر، ولما في لفظ الرسل من الدلالة على
المرسل إليهم، وقد قال الشاعر «1»:
أمنك البرق أرقبه فهاجا ... فبتّ إخاله دهما خلاجا
أي بتّ أخال الرعد صوت دهم، فأضمر الرعد ولم يجر له ذكر لدلالة
البرق عليه لمقارنة لفظ كلّ واحد منهما الآخر، وفي التنزيل:
سرابيل تقيكم الحر [النحل/ 81] واستغني عن ذكر البرد، لدلالة
الحرّ عليه، وإن شئت قلت: إنّ ذكرهم قد جرى في قوله: أفلم
يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم [يوسف/
109]، فيكون الضمير للذين من قبلهم من مكذبي الرسل وإن ذهب
ذاهب إلى أن المعنى: ظنّ الرسل أن الذي وعد الله أممهم على
لسانهم قد كذبوا أو كذبوا فقد أتى عظيما لا يجوز أن ينسب مثله
إلى الأنبياء، ولا إلى صالحي عباد الله، وكذلك من زعم أن ابن
عباس ذهب إلى أن الرسل قد ضعفوا فظنوا أنهم قد أخلفوا، لأن
الله لا يخلف الميعاد، ولا مبدّل لكلماته.
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي ورواية الديوان له «أو أومض ثم
هاجا» والخلاج من الإبل: التي اختلجت أولادها عنها واحدها
«خلوج» تخلج عنها إما بموت وإما بذبح، «دهما»: سودا. انظر شرح
السكري 1/ 177.
(4/443)
حدثنا أحمد بن محمد قال: حدّثنا المؤمّل بن
إسماعيل ابن عليّة عن أبي المعلى عن سعيد بن جبير في قوله: حتى
إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا قال: فقال ابن جبير: إن
الرسل يئسوا من قومهم أن يؤمنوا، وإن قومهم ظنّوا أن الرسل قد
كذبوا فيما قالوا لهم، فأتاهم نصر الله «1» على ذلك.
اختلفوا في قوله تعالى: فننجي من نشاء [110] فقرأ ابن كثير
ونافع، وأبو عمرو، وحمزة والكسائي: فننجي من نشاء بنونين:
الأولى مضمومة، والثانية ساكنة.
وروى نصر بن علي عن أبيه عن أبي عمرو فنجي من نشاء يدغم. قال
أحمد: هذا غلط في قوله: يدغم، ليس هذا موضعا يدغم فيه، إنما
أراد أنّها محذوفة النون الثانية في الكتاب وفي اللفظ بنونين،
الأولى متحركة، والثانية ساكنة، [ولا يجوز إدغام المتحرك في
الساكن، لأن النون الثانية ساكنة، والساكن لا يدغم فيه متحرك]
و [كذلك] النون لا تدغم في الجيم، [فمن قال: يدغم فهو غلط،
ولكنها حذفت من الكتاب، أعني النون الثانية لأنها ساكنة تخرج
من الأنف، فحذفت من الكتاب، وهي في اللفظ مثبتة]. وقرأ عاصم في
رواية أبي بكر وحفص وابن عامر: فنجي من نشاء مشدّدة الجيم
مفتوحة الياء بنون واحدة. وروى ابن اليتيم عن أبي حفص عمرو بن
الصباح عن أبي عمر عن عاصم: فنجي بنون واحدة.
__________
(1) في الأصل: فأتاهم الله نصر الله.
(4/444)
وروى هبيرة عن حفص عن عاصم بنونين، وفتح
الياء، وهذا غلط من قول هبيرة «1».
من قال: فننجي من نشاء كان ننجي* حكاية حال.
ألا ترى أن القصّة فيما مضى، وإنما حكى فعل الحال على ما كانت
عليه، كما أنّ قوله: إن ربك ليحكم بينهم [النحل/ 124] حكاية
للحال الكائنة، وكما أنّ قوله: ربما يود الذين كفروا [الحجر/
2]، جاء «2» هذا النحو على الحكاية، كما أنّ قوله: هذا من
شيعته، وهذا من عدوه [القصص/ 15]، إشارة إلى الحاضر، والقصة
ماضية لأنه حكى الحال.
ومن حكاية الحال قوله: وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد [الكهف/
18]، فلولا حكاية الحال لم يعمل اسم الفاعل، لأنه إذا مضى
اختصّ، وصار معهودا، فخرج بذلك من شبه الفعل، ألا ترى أن الفعل
لا يكون معهودا، فكما أن اسم الفاعل إذا وصف أو حقّر لم يعمل
عمل الفعل لزوال شبه الفعل عنه باختصاصه الذي يحدثه فيه
التحقير والوصف كذلك إذا كان ماضيا.
فأما النون الثانية من ننجي* فهي مخفاة مع الجيم، كذلك النون
مع سائر حروف الفم، لا تكون إلّا مخفاة، قال أبو عثمان:
وتثبيتها معها لحن.
والنون مع الحروف ثلاث أحوال: الإدغام، والإخفاء،
__________
(1) السبعة 352 وما بين معقوفين زيادة منه.
(2) جاء على هامش (ط) قوله: (كذا عنده).
(4/445)
والبيان، فإنما تدغم إذا كانت مع مقاربها،
كما يدغم سائر المقاربة فيما قاربة، والإخفاء فيها مع حروف
الفم التي لا تقاربها، والبيان فيها مع حروف الحلق، فأما حذف
النون الثانية من الخط فيشبه أن يكون لكراهة اجتماع المثلين
فيه، ألا ترى أنهم كتبوا مثل: العليا، والدنيا، ويحيا، ونحو
ذلك بالألف، ولولا اجتماعها مع الياء لكتبت
بالياء، كما كتبت:
حبلى ويخشى، وما لم يكن فيه ياء، من هذا النحو بالياء فكأنهم
لما كرهوا اجتماع المثلين في الخط، حذفوا النون، وقوّى ذلك أنه
لا يجوز فيها إلا الإخفاء، ولا يجوز فيها البيان، فأشبه بذلك
الإدغام، لأن الإخفاء لا يتبيّن فيه الحرف المخفى، كما أن
الإدغام لا يبيّن فيه الحرف المدغم بيانه في غير الإدغام، فلما
وافق النون المدغم في هذا الوجه استجيز حذفه في الخط، ومن ذهب
إلى أن النون الثانية مدغمة في الجيم، فقد غلط لأنها ليست بمثل
للجيم، ولا مقارب له، فإذا خلا الحرف من هذين الوجهين لم يدغم
فيما اجتمع فيه.
ووجه قراءة عاصم: فنجي من نشاء أنه أتى به على لفظ الماضي لأن
القصة ماضية. ويقوّي قوله: أنه قد عطف عليه فعل مسند إلى
المفعول وهو قوله: ولا يرد بأسنا [يوسف/ 110] ولو كان ننجي*
مسندا إلى الفاعل كقول من خالفه، لكان لا نردّ أشبه ليكون مثل
المعطوف عليه.
وما رواه هبيرة عن حفص عن عاصم بنونين، وفتح الياء فهو غلط-
كما قال أحمد بن موسى- من الراوي لأنه لا شيء هاهنا ينتصب به
الياء من قوله: فننجي والنون الأولى
(4/446)
للمضارعة، فلا يجوز أن تنتصب من غير ناصب
له.
[يوسف: 90]
قال أحمد: وكلهم قرأ: أإنك لأنت يوسف [90] بالاستفهام غير ابن
كثير فإنّه قرأ: إنك لأنت يوسف على الخبر «1».
يدلّ على الاستفهام، قوله: أنا يوسف [90]، فإنّما أجابهم عمّا
استفهموا عنه، وزعموا أن في حرف أبيّ: أو أنت يوسف؟ فهذا يقوّي
الاستفهام.
قال أبو الحسن في قوله: وتلك نعمة تمنها علي [الشعراء/ 22] أنه
على الاستفهام، كأنه: أو تلك نعمة؟
فيجوز أن يكون قول ابن كثير على هذا، فتكون القراءتان على هذا
متفقتين، وقلّما يحذف حرف الاستفهام.
قال: واختلفوا في الهمزة، فكان حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر:
يهمزون همزتين.
الباقون «2»: همزة واحدة «1».
هذا على أصولهم في الجمع بين همزتين وقد تقدم القول في ذلك.
[يوسف: 90]
قال قرأ ابن كثير وحده: إنه من يتقي ويصبر [90] بياء في الوصل
والوقف، فيما قرأت على قنبل.
__________
(1) السبعة 351.
(2) جاء على هامش الأصل (ط): بلغت.
(4/447)
الباقون بغير ياء في وصل ولا وقف «1».
وقراءة ابن كثير إنه من يتقي ويصبر فإن الله يحتمل ثلاثة أضرب:
أحدهما: أن يقدّر في الياء الحركة، فيحذفها منها، فتبقى الياء
ساكنة للجزم كما قدّر ذلك في «2»:
ألم يأتيك والأنباء تنمي وهذا لا تحمله عليه، لأنه مما يجيء في
الشعر دون الكلام. والآخر: أن يجعل من يتقي بمنزلة: الذي يتقي،
ويحمل المعطوف على المعنى، لأن من يتقي إذا كان من بمنزلة
الذي، كان بمنزلة الجزاء الجازم بدلالة أن كلّ واحد منهما يصلح
دخول الفاء في جوابه، فإذا اجتمعا في ذلك لما يتضمنانه من معنى
الجزاء، جاز أيضا أن يعطف عليه كما يعطف على الشرط المجزوم،
لكونه بمنزلته فيما ذكرنا، ومثل ذلك: فأصدق وأكن [المنافقين/
10] حملت وأكن على موضع الفاء، ومثله أيضا قول من قال: ويذرهم
في طغيانهم [الأعراف/ 186] جزما. ومثله قول الشاعر «3»:
فأبلوني بليّتكم لعلي ... أصالحكم وأستدرج نويّا
__________
(1) السبعة 351.
(2) سبق انظر 1/ 93 - 325 و 2/ 99.
(3) البيت لأبي دؤاد، سبق انظر ص 110 من هذا الجزء.
(4/448)
فحمل على موضع الفاء المحذوفة، وما بعدها
فكذلك يحمل ويصبر ومما يقارب ذلك قوله «1»:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا ونحو ذلك ممّا يحمل على المعنى،
ويجوز أن يقدّر الضمة في قوله: ويصبر ويحذفها للاستخفاف، كما
يحذف نحو:
عضد وسبع، وجاز هذا في حركة الإعراب، كجوازه في حركة البناء،
وزعم أبو الحسن أنه سمع: رسلنا لديهم [الزخرف/ 80] بإسكان
اللام من رسلنا، فكذلك يكون في قوله: ويصبر فإن الله. ومما
يقوّي ذلك ويسوّغ حمله عليه أنه قرأ: ويتقه [النور/ 52] ألا
ترى أنه جعل تقه، بمنزلة:
كتف وعلم، فأسكن؛ فكذلك يسكن على هذا: ويصبر فإن الله لا يضيع.
__________
(1) عجز بيت لعقيبة الأسدي، سبق في 284 و 363.
(4/449)
|