الحجة للقراء السبعة سورة الرعد
[الرعد: 3]
اختلفوا في تخفيف الشين وتشديدها من قوله عزّ وجلّ:
يغشي الليل النهار [3].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص
يغشي خفيفة.
وقرأ عاصم، في رواية أبي بكر، وحمزة والكسائي:
(يغشي) بفتح الغين وتشديد الشين «1».
وجه من قرأ: يغشي قوله: فأغشيناهم [يس/ 9].
ووجه من قرأ: (يغشي) قوله: فغشاها ما غشى [النجم/ 54]، وكلا
الأمرين قد جاء به التنزيل.
[الرعد: 4]
اختلفوا في الخفض والرّفع من قوله: (وزرع ونخيل صنوان وغير
صنوان) [4].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص:
وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان رفعا.
__________
(1) السبعة ص 356.
(5/5)
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم، في رواية أبي
بكر، وحمزة والكسائي: (وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان) خفضا.
وكلّهم كسر الصّاد من: (صنوان) إلّا أنّ الحسن حدّثني عن أحمد
بن يزيد الحلوانيّ، عن القوّاس عن حفص عن عاصم: صنوان بضمّ
الصاد والتنوين، ولم يقله غيره عن حفص «1».
من رفع (زرعا) من قوله: وجنات من أعناب وزرع جعله محمولا على
قوله: وفي الأرض تقديره: وفي الأرض قطع متجاورات، وجنات من
أعناب، وفي الأرض زرع ونخيل صنوان، فجعله محمولا على قوله: وفي
الأرض ولم يجعله محمولا على ما الجنّات منه من الأعناب.
والجنّة على هذا يقع على الأرض التي فيها الأعناب دون غيرها،
كما تقع على الأرض التي فيها النخيل دون غيرها ويقوّي ذلك قول
زهير «2»:
كأنّ عينيّ في غربي مقتلة ... من النّواضح تسقي جنّة سحقا
__________
(1) السبعة ص 356.
(2) قال شارح ديوانه ص 38: الغربان: الدلوان الضخمان،
والمقتلة: المذللة يعني: الناقة.
يقول: كأن عيني من كثرة دموعهما في غربي ناقة ينضح عليها، قد
قتلت بالعمل حتى ذلّت، والنواضح: جمح ناضح: كل بعير يستقى
عليه.
(5/6)
والمعنى: تسقي نخيل جنّة، يدلّك على ذلك
أنّ السّحق لا يخلو من أن يكون صفة للنّخيل المرادة، أو
للجنّة. فلا يجوز أن تكون من صفة الجنّة، لأنّ السّحق جمع
سحوق، وإنّما يوصف بها النخيل إذا بسقت، فكأنه سمّى الأرض ذات
النخيل جنّة، ولم يذكر أنّ فيها غيرها، فكما أنّ الجنّة تكون
من النخيل من غير أن يكون فيها شيء آخر غيرها، كذلك تكون
الكروم وإن لم يكن فيها غيرها، فهذا وجه قول من قطع قوله:
وزرع من إعراب ما قبله.
فأمّا من قرأ: (وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان) فإنه حمل
الزرع والنخيل على الأعناب، كأنه: جنات من أعناب، ومن زرع ومن
نخيل. والدّليل على أنّ الأرض إذا كان فيها النخل والكرم
والزرع، سمّيت جنّة، قوله: جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب،
وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا [الكهف/ 32]، فكما سميت
الأرض ذات العنب والنخل والزرع جنّة، كذلك يكون في قول من قرأ:
(وجنات من أعناب وزرع ونخيل) أن يكون الزرع والنخيل محمولين
على الأعناب، فتكون الجنّة من هذه الأشياء، كما كانت منها في
الآية الأخرى، ويقوّي ذلك أيضا قوله «1»:
أقبل سيل جاء من أمر الله ... يحرد حرد الجنّة المغلّة
__________
(1) أمالي ابن الشجري 2/ 16 معاني القرآن للفراء 3/ 176،
الخزانة 4/ 341 واللسان (حرد- أله). وقوله: يحرد: يقصد.
(5/7)
فقوله: المغلة في وصف الجنّة يدلّ على أن
الجنة يكون فيها الزرع، لأن الغلّة إنّما هي ممّا يكال بالقفيز
في أكثر الأمر، وممّا يقوّي ذلك قول زهير «1»:
فتغلل لكم ما لا تغلّ لأهلها ... قرى بالعراق من قفيز ودرهم
فبين الغلة بالقفيز والدرهم، ومن ذهب من الفقهاء إذا قال:
أوصيت له بغلّة هذه القرية، أنّه يكون على ما فيه في الحال،
والثاني، والثمرة على ما كان وقت الكلام للوصيّة دون ما يحدث
من بعد يشهد له بيت زهير.
فإذا اجتمع النخل والكرم في أرض سمّيت جنّة بدلالة قوله:
وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب [يس/ 34] وقوله: أو تكون لك
جنة من نخيل وعنب [الإسراء/ 91]، وهذا يقوّي قول من جرّ النخيل
في قوله: (وجنات من أعناب وزرع ونخيل)، لأنّه قد ثبت أنّ
الجنّة تكون من الكرم والنخيل في الآيتين اللتين تلوناهما.
والصّنوان فيما يذهب إليه أبو عبيدة، صفة للنخيل قال: والمعنى
أن يكون الأصل واحدا، ثم يتشعب من الرءوس فيصير نخلا ويحملن.
قال: وقال:
(وتسقى بماء واحد)، إنما تشرب من أصل واحد، ونفضل بعضها على
بعض في الأكل وهو الثمر «2».
__________
(1) شرح ديوان زهير ص 21. قال في معناه: إن هذه الحرب تغل لكم
من هذه الدماء ما لا تغل قرى بالعراق: وهي تغل القفيز والدرهم-
وهذا تهكم منه واستهزاء.
(2) انظر مجاز القرآن 1/ 322.
(5/8)
وأجاز غيره أن يكون الصنوان من صفة
الجنّات، قال أبو علي: فكأنّه يكون يراد به في المعنى ما في
الجنات، وإن جرى على لفظ الجنّات، وعلى هذا يجوز أن يرفع، وإن
جرّت النخل، لأنّ الجنات مرفوعة، وهذا لم يحكه في قراءة
السبعة.
وأما الكسرة التي في «صنوان» فليست التي كانت في صنو، كما أن
الكسرة التي في «قنو» ليست التي كانت في قنوان لأنّ تلك قد
حذفت في التكسير، وعاقبتها الكسرة التي يجلبها التكسير، وكذلك
الكسرة التي في هجان، وأنت تريد الجمع، ليست الكسرة التي كانت
في الواحد، ولكنّه مثل الكسرة في ظراف إذا جمعت عليه ظريفا،
وكذلك الضمّة التي في الفلك، إذا أردت التكسير، لا تكون الضمّة
التي كانت في الواحد، ولكن على حدّ أسد، وأسد، ووثن ووثن،
وكذلك الضمّة التي في آخر منصور على قول من قال: يا جار، ليست
التي كانت في قول من قال: يا جار.
وأمّا من ضمّ الصاد من صنوان، فإنه جعله مثل: ذئب وذؤبان،
وربما تعاقب فعلان وفعلان، على البناء الواحد نحو حشّ «1»
وحشّان وحشّان، فكذلك: صنوان، وأظنّ سيبويه قد حكى الضم فيه
«2». والكسر فيه أكثر في الاستعمال.
[الرعد: 4]
اختلفوا في التاء والياء من قوله عزّ وجلّ: (تسقى بماء
__________
(1) الحش: جماعة النخل. والبستان (اللسان).
(2) الكتاب 2/ 180 وفيه: قالوا: صنو وصنوان، وقنو وقنوان، وقال
بعضهم: صنوان وقنوان، كقوله: ذؤبان.
(5/9)
واحد) [4] وفي الياء والنّون من قوله:
ونفضل بعضها على بعض [الرعد/ 4].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (تسقى) بالتاء ونفضل بالنون.
وحمزة والكسائي (تسقى) أيضا، ممالة القاف، وقرأ (ويفضل) بالياء
مكسورة الضاد.
وقرأ عاصم وابن عامر: يسقى بالياء ونفضل بالنون «1».
من قال: (تسقى بماء واحد) أراد: تسقى هذه الأشياء بماء واحد،
ولا يكون التذكير لأنّك إن حملته على الزرع وحده، تركت غيره،
وإن حملته على الجنّات مع حمله على الزرع فقد ذكّر المؤنّث.
ويقوّي التأنيث قوله: ونفضل بعضها على بعض، فكما حمل هذا على
التأنيث كذلك يحمل (تسقى).
ومن قال: يسقى كان التقدير: يسقى ما قصصناه وما ذكرناه.
[الرعد: 5]
اختلفوا في الاستفهام وتركه من قوله: أئذا كنا ترابا أئنا لفي
خلق جديد [الرعد/ 5].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (أيذا كنا ترابا أينا لفي خلق جديد)
جميعا بالاستفهام، غير أنّ أبا عمرو يمدّ الهمزة، ثم
__________
(1) السبعة ص 356 - 357.
(5/10)
يأتي بالياء ساكنة، وابن كثير يأتي بياء
ساكنة بعد الهمزة من غير مدّ.
وقرأ نافع: (أيذا كنا) مثل أبي عمرو، واختلف عنه في المدّ،
وقرأ: إنا لفي خلق جديد مكسورة على الخبر ووافقه الكسائيّ في
اكتفائه بالاستفهام الأول من الثاني، غير أنّه كان يهمز
همزتين.
وقرأ عاصم وحمزة: أإذا كنا .. أئنا بهمزتين فيهما.
وقرأ ابن عامر: (إذا كنا) مكسورة الألف من غير استفهام (آئنا)
يهمز ثم يمدّ، ثم يهمز في وزن: عاعنا، هكذا قال لي أحمد بن
محمد بن بكر عن هشام بن عمّار بإسناده عن ابن عامر، يدخل
بينهما ألفا، فذكر بعض من روى عن ابن ذكوان عن يحيى بن الحارث
أإذا بهمزتين لا ألف بينهما، مثل قراءة حمزة، والمعروف عن ابن
عامر أإذا «1» بهمزتين من غير ألف «2».
من قرأ: أإذا «1» كنا ترابا، أئنا جميعا بالاستفهام فموضع أإذا
نصب بفعل مضمر يدلّ عليه قوله: أإنا لفي خلق جديد لأن هذا
الكلام يدلّ على: نبعث ونحشر، فكأنّه قال: أنبعث إذا كنّا
ترابا؟ ومن لم يدخل الاستفهام في الجملة الثانية كان موضع
(إذا) أيضا نصبا بما دلّ عليه قوله: (إنا لفي خلق جديد) كأنه
قال: أنبعث إذا كنا ترابا؟
__________
(1) في الأصل (ط): «أإ» بإسقاط (ذا).
(2) السبعة ص 357 - 358.
(5/11)
وما بعد إنّ، في أنّه لا يجوز أن يعمل فيما
قبله، بمنزلة الاستفهام، فكما قدّرت هذا الناصب لإذا مع
الاستفهام، لأنّ الاستفهام لا يعمل ما بعده فيما قبله؛ كذلك
تقدّره في إنّ لأنّ ما بعدها أيضا لا يعمل فيما قبلها.
وقول ابن عامر: (إذا كنا ترابا) من غير استفهام، أئنا ينبغي أن
يكون على مضمر، كما حمل ما تقدّم على ذلك، لأنّ ما بعد
الاستفهام منقطع ممّا قبله.
فأمّا قول أحمد: إنّ أبا عمرو يمدّ الهمزة، ثمّ يأتي بالياء
ساكنة؛ فعبارة فيها تجوّز، وحقيقتها: إن أبا عمرو يأتي بهمزة
الاستفهام. ويدخل بينها وبين همزة (إذا) مدّة، كما يفعل ذلك
بقوله: أأنذرتهم [البقرة/ 6] ونحو ذلك مما يفصل فيه بالألف بين
الهمزتين، كما يفصل بها بين النونات في: اخشينان، ويأتي
بالهمزة بعد الألف بين بين، كما يأتي به بعد الألف في أئذا،
إنّما هي همزة بين بين، بين الكسرة والياء، وليست ياء محضة،
كما أنّ الهمزة في «المسائل» ليست ياء محضة إنّما هي همزة بين
بين، فهذا تحقيق ما يريد، إن شاء الله.
وقول أحمد بن موسى: وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من
غير مدّ، فهذا ليس على التخفيف القياسي، ولو كان عليه، لوجب أن
تكون الهمزة بين بين، بين الياء وبين الهمزة، كما أنّ قولهم:
سئم في المتصل، وإذ قال إبراهيم «1» في المنفصل
__________
(1) من الآية 126، 260 من البقرة، و 74 من الأنعام، و 35 من
إبراهيم، و 26 من الزخرف.
(5/12)
كذلك، ولكنّه يبدل الياء من الهمزة إبدالا
محضا، وهذا كما حكاه سيبويه من أنه سمع بعض العرب يقول: بيس
«1»، وقد جاء في الشعر في يومئذ، يومئذ، والأوّل «2» يدلّان
على قول ابن كثير.
[الرعد: 9، 10]
قال أحمد: قرأ ابن كثير (الكبير المتعالي. سواء منكم) (الرعد/
9، 10]، بياء في الوصل والوقف، وكذلك قال الحلواني عن أبي معمر
«3» عن عبد الوارث عن أبي عمرو، وكذلك أخبرني أبو حاتم الرازي
في كتابه إلي عن أبي زيد عن أبي عمرو. الباقون لا يثبتون الياء
في وصل ولا وقف «4».
أما إثبات ابن كثير وأبي عمرو الياء في: (الكبير المتعالي) فهو
في القياس، وليس ما فيه الألف واللام من هذا، كما لا ألف ولام
فيه من هذا النحو، نحو: قاض وغاز.
قال سيبويه: إذا لم يكن في موضع تنوين- يعني اسم الفاعل- فإنّ
البيان أجود في الوقف، وذلك قولك: هذا القاضي، وهذا العمي،
لأنّها ثابتة في الوصل «5» يريد أن الياء مع الألف واللام تثبت
ولا تحذف، كما تحذف من اسم الفاعل إذا لم يكن فيه الألف
واللام، نحو هذا قاض؛ فاعلم.
__________
(1). 2/ 255 وقد ضبط بيس عنده بكسر الباء وتسكين الياء، ضبط
قلم.
(2) كذا الأصل.
(3) زاد في السبعة: المنقري.
(4) السبعة ص 358.
(5) الكتاب 2/ 288 باب ما يحذف من أواخر الأسماء في الوقف، وهي
الياءات.
(5/13)
فالياء مع غير الألف واللام تحذف في الوصل،
فإذا حذفت في الوصل كان القياس أن تحذف في الوقف، وهي اللغة
التي هي أشيع وأفشى، فإذا دخلت الألف واللام فلا تحذف اللام
«1» في اللغة التي هي أكثر عند سيبويه.
وأمّا قول من حذف في الوصل والوقف في المتعال فإنّ الحجّة في
حذفها في الوقف أن سيبويه زعم: «أن من العرب من يحذف هذا في
الوقف، شبّهوه بما ليس فيه ألف ولام، إذ كانت تذهب الياء في
الوصل في التنوين لو لم تكن ألف ولام» «2».
وأمّا حذفهم لها في الوصل، فلم يكن القياس، لأنّه لم يضطرّ إلى
حذفه شيء، كما اضطرّ إلى حذف ما لا ألف ولام فيه التقاء
الساكنين، وكره التحريك فيه لتحرّك الياء بالكسر وهي لا تحرّك
بضمّة ولا كسرة، ولكن حذف ذلك من حذف لأنّها في الفواصل، وما
أشبه الفواصل من الكلام التامّ، تحذف تشبيها بالقوافي،
والقوافي قد كثر حذف ذلك منها. والفواصل وما أشبهها في حكمها
فحذفت منها كما حذفت في القوافي.
[الرعد: 11]
قال أحمد: وروى عباس عن خارجة إمالة الواو من أول وال [11]،
قال: وكلّهم يفتحها «3».
__________
(1) كذا الأصل، والظاهر أن تكون الياء بدل اللام، إلا أن يقصد
بها لام الكلمة.
(2) الكتاب الباب السابق 2/ 288.
(3) لم ترد في مكانها في السبعة.
(5/14)
الإمالة في وال حسنة في قياس العربية، كما
أنّها في عامر وواقد حسنة، لا مانع يمنع منها، ووال: فاعل، من
ولي يلي. ووال ووليّ، كعالم وعليم، وقادر وقدير، وراحم ورحيم،
والوالي والوليّ: من يلي أمرك خلاف العدو، والله وليّ
المؤمنين.
[الرعد: 16]
اختلفوا في الياء والتاء من قوله عزّ وجلّ: (أم هل تستوي
الظلمات والنور) [16].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: (تستوي) بالتاء.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي بالياء.
حفص عن عاصم بالتاء «1».
التأنيث حسن، لأنّه فعل مؤنّث لم يفصل بينه وبين فاعله شيء،
وعلى هذا جاء: قالت الأعراب [الحجرات/ 14]، وقالت اليهود
[البقرة/ 113] وقالت النصارى [التوبة/ 30]، وإذ قالت أمة منهم
[الأعراف/ 164]، وقد جاء: وقال نسوة في المدينة [يوسف/ 30] وقد
جاء التأنيث في هذا النحو: وإذ قالت أمة منهم وهو اسم جماعة
مؤنّثة، كما أنّ نسوة كذلك.
والتذكير سائغ، لأنّه تأنيث غير حقيقيّ، والفعل مقدّم.
__________
(1) السبعة ص 358.
(5/15)
[الرعد: 17]
اختلفوا في الياء والتاء من قوله عزّ وجلّ: (ومما توقدون عليه
في النار) [17].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي
بكر: (توقدون) بالتاء.
وقرأ حمزة والكسائيّ وحفص عن عاصم بالياء.
علي بن نصر عن أبي عمرو (توقدون) ويقرأ أيضا:
يوقدون والغالب عليه (توقدون) بالتاء «1».
من قرأ بالتاء فلما قبله من الخطاب، وهو قوله: قل أفاتخذتم
[16]، ويجوز أن يكون خطابا عامّا، يراد به الكافّة.
كأنّ المعنى: ممّا توقدون عليه أيّها الموقدون زبد مثل زبد
الماء الذي يحمله السيل، فأمّا الزّبد فيذهب جفاء لا ينتفع به
كما لا ينتفع الكافر بما يتخذه من الآلهة، مثل الزبد الذي لا
ينتفع به كما ينتفع بما يخلص منه الزبد من الماء والذهب
والصّفر والفضّة.
ومن قرأ بالياء، فلأنّ ذكر الغيبة قد تقدّم في قوله: أم جعلوا
لله شركاء [16]، ويجوز أن يراد به جميع الناس، ويقوّي ذلك
قوله: وأما ما ينفع الناس [17]، فكما أن الناس يعمّ المؤمن
والكافر، كذلك الضمير في يوقدون وقال: ومما يوقدون عليه في
النار، فجعل الظرف متعلّقا بيوقدون، لأنّه قد يوقد على ما ليس
في النار كقوله: فأوقد لي يا هامان على
__________
(1) السبعة ص 358، 359.
(5/16)
الطين [القصص 38] فهذا إيقاد على ما ليس في
النار، وإن كان يلحقه وهجها ولهبها.
وأمّا قوله: بورك من في النار ومن [النمل/ 8]، فالمعنى: من في
قرب النار، وليس يراد به متوغّلها، ومن حولها ممّن لم يقرب
منها قرب الآخرين، ألا ترى أنّ قوله:
وممن حولكم من الأعراب منافقون [التوبة/ 99]، لم يقرب
المنافقون الذين حولهم فيه قرب المخالطين لهم، حيث يحضرونه
ويشهدونه في مشاهدهم.
حدّثنا أحمد بن محمد البصري قال: حدّثنا المؤمّل قال:
حدّثنا إسماعيل بن عليّة عن أبي رجاء قال: سمعت الحسن يقول:
الله أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها إلى قوله: ابتغاء
حلية: الذهب والفضة، والمتاع: الصفر والحديد، كذلك يضرب الله
الحقّ والباطل، كما أوقد على الذهب والفضة والصفر والحديد،
فخلص خالصه كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب
جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، قال: وكذلك الحقّ
بقي لأهله فانتفعوا به «1».
[الرعد: 33]
اختلفوا في «2»: فتح الصاد وضمّها من قوله جلّ وعزّ:
(وصدوا عن السبيل) [33].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: (وصدوا) بفتح الصاد،
وفي حم المؤمن [37] مثله.
__________
(1) انظر الطبري في تفسيره 13/ 135.
(2) جاء في (ط): ي قوله ... والوجه ما في السبعة.
(5/17)
وقرأ عاصم وحمزة والكسائيّ: وصدوا عن
السبيل بالضمّ فيهما «1».
وقال أبو عمر عن أبي الحسن: صدّ وصددته مثل: رجع ورجعته، ومن
ذلك قول الشاعر «2»:
صدّت كما صدّ عما لا يحلّ له ... ساقي نصارى قبيل الفصح صوّام
فهذا صدّت في نفسها. وقال آخر:
صددت الكأس عنّا أمّ عمرو «3» فأما قوله: إن الذين كفروا
ويصدون عن سبيل الله [الحج/ 25]، فالمعنى: يصدّون المسلمين عن
المسجد الحرام، فكأنّ المفعول محذوف، وقوله: رأيت المنافقين
يصدون عنك صدودا [النساء/ 61]، يكون على: يصدّون عنك، أي: لا
يبايعونك كما يبايعك المسلمون، ويجوز أن يكونوا يصدّون غيرهم
عن الإيمان، كما صدّوا هم، ويثبّطونهم عنه.
__________
(1) السبعة ص 359.
(2) للنّمر بن تولب، وهو من شواهد سيبويه 2/ 29 قال الأعلم:
وصف ناقة عرض عليها الماء فعافته فصدّت عنه كما صد ساقي
النصارى عما لا يحل له من الطعام والشراب في مدة صيامهم، وقبل
يوم فصحهم.
(3) هو عمرو بن كلثوم، وعجزه:
وكان الكأس مجراها اليمينا وهو من معلقته، انظر شرحها للتبريزي
ص 323
(5/18)
وحجّة من قال: (وصدوا عن السبيل) فأسند
الفعل إلى الفاعل: قوله: الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله
[محمد/ 1] وقوله: إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله، وقال:
هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام [الفتح/ 25]. فكما
أسند الفعل إلى الفاعل في جميع هذه الآي، كذلك يكون مسندا
إليهم في قوله: (وصدوا عن السبيل). وقد زعموا أن قوله: (وصدوا
عن السبيل) نزلت في قوم جلسوا على الطريق، فصدّوا الناس عن
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
ومن بنى الفعل للمفعول به فقال: وصدوا عن السبيل، فإنّ فاعل
الصدّ غواتهم والعتاة منهم في كفرهم. وقد يكون صدّ على نحو ما
يقولون: حدّ فلان عن الخير، وصدّ عنه،
يريد أنه لم يفعل خيرا، ولا يريد أن مانعا منعه منه.
فأمّا قوله: (وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل) [غافر/
37] فالفتح الوجه، لأنّه لم يصدّه عن الإيمان أحد، ولم يمنعه
منه.
والذي زيّن له ذلك الشيطان، كما جاء في الأخرى: وإذ زين لهم
الشيطان أعمالهم [الأنفال/ 48]، وزين لهم الشيطان أعمالهم
فصدهم عن السبيل [النمل/ 24].
[الرعد: 39]
اختلفوا في تشديد الباء وتخفيفها من قوله جلّ وعزّ:
ويثبت [39].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم: ويثبت ساكنة الثاء.
خفيفة الباء.
(5/19)
وقرأ ابن عامر ونافع وحمزة والكسائيّ:
(ويثبت) مشدّدة الباء مفتوحة الثاء «1».
المعنى: يمحو الله ما يشاء ويثبته، فاستغني بتعدية الأوّل من
الفعلين عن تعدية الثاني، والمعنى يثبته، ومثل ذلك قوله:
والحافظين فروجهم والحافظات، والذاكرين الله كثيرا والذاكرات
[الأحزاب/ 35].
وزعم سيبويه أن من العرب من يعمل الأوّل من الفعلين، ولا يعمل
الثاني في شيء كقولهم: متى رأيت، أو قلت: زيدا منطلقا «2».
وقال الشاعر «3»:
بأيّ كتاب أم بأيّة سنّة ... ترى حبّهم عارا عليّ وتحسب
ولم يعمل الثاني.
__________
(1) السبعة ص 359.
(2) أورد سيبويه في «باب الفاعلين والمفعولين اللذين كلّ منهما
يفعل بفاعله مثل الذي يفعل به وما كان نحوه» الآية التي في
الأحزاب/ 35 السابقة مستدلا بها على استغناء الفعل الثاني عن
عمله بعمل الأول؟ ثم قال:
ومثل ذلك: «ونخلع ونترك من يفجرك». وهذا شاهد على استغناء عمل
الأول بعمل الثاني وهو عكس ما سبق. ثم قال بعد صفحات في آخر
الباب: «وقد يجوز ضربت وضربني زيدا. لأن بعضهم قد يقول: متى
رأيت أو قلت زيدا منطلقا؟ والوجه: متى رأيت أو قلت زيد منطلق».
انظر الكتاب 1/ 37 و 41.
(3) وهو الكميت يمدح آل البيت. المحتسب 1/ 183 - الخزانة 4/ 5
العيني 2/ 413 الهمع 1/ 152 الدرر 1/ 134.
(5/20)
وهذا والله أعلم فيما يحتمل النّسخ
والتبديل من الشرائع الموقوفة على المصالح على حسب الأوقات.
فأمّا ما كان من غير ذلك فلا يمحى ولا يبدّل، وأمّ الكتاب: هو
الذكر المذكور في قوله: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر
[الأنبياء/ 105] «1».
وحجة من قال: (يثبت) قوله: وأشد تثبيتا [النساء/ 66] وقوله:
(فتثبتوا) [النساء/ 94] لأن تثبّت مطاوع ثبّت.
وحجّة من قال يثبت ما
روي عن عائشة: «كان إذا صلّى صلاة أثبتها»
«2» وقولهم: ثابت، من قوله: بالقول الثابت [إبراهيم/ 27] لأنّ
ثبت مطاوع أثبت، كما أن تثبّت مطاوع ثبّت.
[الرعد: 42]
اختلفوا في الجمع والتوحيد من قوله تعالى: وسيعلم الكافر [42].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (وسيعلم الكافر) واحدا.
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ: الكفار على الجمع «3».
العلم في قوله: (سيعلم الكافر) هو المتعدّي إلى
__________
(1) وانظر تفسير الطبري 13/ 169 - 171.
(2) قطعة من حديث رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها رقم
298 والنسائي في المواقيت ص 281 وأحمد 6/ 40، 61، 241.
(3) السبعة 359.
(5/21)
مفعولين، بدلالة تعليقه ووقوع الاستفهام
بعده، تقول: علمت لمن الغلام، فتعلّقه مع الجار كما تعلّقه مع
غير الجار في نحو: فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار
[الأنعام/
135] وموضع الجار مع المجرور نصب من حيث سدّ الكلام الذي هو
فيه مسدّ المفعولين، لا من حيث حكمت في نحو: مررت بزيد بأنّ
موضعه نصب، ولكنّ اللام الجارة كانت متعلقة في الأصل بفعل فصار
مثل: علمت بمن تمرّ، في أنّ الجار يتعلّق بالمرور، والجملة
التي هي منها في موضع نصب، وقد علّق الفعل عنها.
فأمّا من قرأ: (الكافر) فإنّه جعل الكافر اسما شائعا كالإنسان
في قوله: إن الإنسان لفي خسر [العصر/ 2] وزعموا أنه لا ألف
فيه، وهذا الحذف إنّما يقع في فاعل نحو:
خالد وصالح، ولا يكاد يحذف في فعّال «1»؛ فذا حجّة لمن قال:
الكافر.
وزعموا أن في بعض الحروف «2»: وسيعلم الذين كفروا فهو يقوّي
الجمع.
وقد جاء فاعل يراد به اسم الجنس، أنشد أبو زيد «3»:
إن تبخلي يا جمل أو تعتلّي ... أو تصبحي في الظّاعن المولي
__________
(1) قال مكي في الكشف 2/ 24: لئلا يتغير بناء الجمع، ويشبه
صورة المصدر.
(2) ذكر مكي في الكشف 2/ 23 أنها في حرف أبي.
(3) سبق في 1/ 151 و 2/ 133 و 4/ 357.
(5/22)
فهذا إنّما يكون على الكثرة، وليس المعنى
على كافر واحد؛ والجمع الذي هو الكفار، المراد في الآية لا
إشكال فيه.
قال: ابن كثير وحده: يقف على (هادي) [7، 33] و (واقى) [34،
37]، وكذلك من (والي) [11] بالياء «1».
حجّة قول من لم يقف بالياء، وهو الوجه، أنك تقول في الوصل: هذا
قاض وهاد وواق، فتحذف الياء لسكونها والتقائها مع التنوين،
فإذا وقفت فالتنوين يحذف في الوقف في الجر والرفع، لا يبدل منه
شيء، والياء قد كانت انحذفت في الوصل، فيصادف الوقف الحركة
التي هي كسرة في عين فاعل، فتحذفها كما تحذف حركة سائر
المتحرّكات التي نقف عليها، فإذا حذفتها سكن الحرف في الوقف،
كما تسكن سائر الحروف المتحركات فيه، فيصير (داع) و (واق) و
(هاد)، هذا الكثير في الاستعمال، الشائع فيه.
ووجه قول ابن كثير أن سيبويه قال: حدثنا أبو الخطاب ويونس: أن
بعض من يوثق به من العرب يقول: هذا داعي وعمي، فيقفون بالياء
«2» ووجه ذلك أنّهم قد كانوا حذفوا الياء في الوصل لالتقائها
مع التنوين ساكنة، وقد أمن في الوقف أن يلحق التنوين، فإذا أمن
التنوين الذي كانت الياء حذفت في الوصل من أجل التقائها معها
في الوصل، ردّت الياء فصار:
__________
(1) السبعة 360 وفيه: وقرأ الباقون بغير ياء.
(2) الكتاب 2/ 288.
(5/23)
هذا قاضي وهادي والأول أكثر في استعمالهم،
ومن ثم قال الخليل في نداء قاض ونحوه: يا قاضي، بإثبات الياء،
لأنّ النداء موضع لا يلحق فيه التنوين وإذا لم يلحق لم يلتق
ساكن مع التنوين، فيلزم حذفها، فثبتت الياء في النداء لمّا أمن
لحاق التنوين، كما ثبتت مع الألف واللام لما أمن التنوين معهما
في نحو: (المتعالي) [الرعد/ 9]، و (دعوة الداعي) [البقرة/
186]. كذلك تثبت في النداء لذلك.
(5/24)
|