الحجة للقراء السبعة اختلافهم في
سورة إبراهيم
[إبراهيم: 1، 2]
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي:
الحميد* الله [1، 2] على البدل.
وقرأ نافع وابن عامر: (الحميد* الله) رفعا.
حدثني عبيد الله بن عليّ قال: حدّثنا نصر بن علي عن الأصمعيّ
عن نافع: الله.
حفص مثل أبي عمرو، ولم يرو عن نافع ذلك غيره «1».
قال أبو علي: من جرّ جعله بدلا من الحميد «2»، ولم يكن صفة،
لأنّ الاسم، وإن كان في الأصل مصدرا، صفة، والمصادر يوصف بها
كما يوصف بأسماء الفاعلين وكذلك كان هذا الاسم في الأصل
(الإله) ومعناه: ذو العبادة، أي: العبادة تجب له. قال أبو زيد:
تألّه الرجل: إذا نسك، وأنشد لرؤبة «3»:
__________
(1) السبعة ص 362.
(2) وجعله مكي بدلا من العزيز، الذي قبله في الآية. الكشف 2/
25.
(3) قبله: «لله درّ الغانيات المدّة» والمدّة: من مدهه يمدهه
مدها مثل مدحه.
ديوانه: 165، والمحتسب 1/ 256، والمخصص 13/ 97، 17/ 136 ابن
الشجري 2/ 15 المفصل 1/ 3 اللسان (أله) و (مده).
(5/25)
سبّحن واسترجعن من تألّهي فهذا في أنه في
الأصل مصدر قد وصف به مثل السلام والعدل، إلّا أنّ هذا الاسم
غلب حتّى صار في الغلبة لكثرة استعمال هذا الاسم كالعلم.
وقد يغلب ما أصله الصفة، فيصير بمنزلة العلم، قال «1»:
ونابغة الجعديّ بالرّمل بيته عليه صفيح ...
والأصل: النابغة، فلمّا غلب نزع منه الألف واللام، كما نزع من
الأعلام نحو: زيد وجعفر، وربما استعمل في هذا النحو الوجهان،
قال «2»:
تقعدهم أعراق حذلم بعد ما رجا الهتم إدراك العلى والمكارم وقال
«3»:
وجلّت عن وجوه الأهاتم وأما قوله «4»:
__________
(1) وهو لمسكين الدارمي وقد سبق في 3/ 343 وانظر المقتضب 3/
373 4/ 375.
(2) للفرزدق وليس في ديوانه، وهو أشبه بقصيدته التي يهجو فيها
بني الأهتم في 2/ 785. وقد سبق انظر 3/ 339.
(3) للفرزدق أيضا سبق انظر 3/ 339.
(4) لجرير سبق انظر 3/ 341.
(5/26)
والتّيم ألأم من يمشي وألأمهم ... ذهل بن
تيم بنو السّوء المدانيس
فيجوز أن يكون جعل التيم، لمّا كان في الأصل مصدرا بمنزلة
الصفة، ويجوز أن يكون جعل التيم جمع تيمي، كيهودي ويهود، وعلى
هذا ما في التنزيل من قوله: وقالت اليهود [البقرة/ 113
المائدة/ 18، 64 التوبة/ 30]، ألا ترى أن يهود قد جرى في
كلامهم اسما للقبيلة، كما أن مجوس كذلك فلولا أن المراد بها
الجمع، لم يدخلهما الألف واللام، كما لا تدخل المعارف نحو: زيد
وجعفر، إلّا أنه جمع، فحذف الياءين اللتين للنسب، كما جمع:
شعيرة وشعير فحذف الهاء، ومثل ذلك: روميّ وروم، وزنجيّ وزنج.
ومن رفع قطع من الأول، وجعل (الذي) الخبر، أو جعله صفة، وأضمر
خبرا، ومثل ذلك في القطع قوله: (قل بلى وربي لتأتينكم عالم
الغيب) [سبأ/ 3] فمن قطع ورفع جعل قوله: لا يعزب عنه [سبأ/ 3]
خبرا لقوله: (عالم الغيب)، ومن جرّ أجرى (عالم الغيب) صفة على
الأول، وعلى هذا يجوز: من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن
[يس/ 52] إن شئت جعلت هذا صفة لقوله: من مرقدنا وأضمرت خبرا
لقوله: ما وعد الرحمن وإن شئت جعلت قوله: هذا ابتداء، وجعلت
قوله: ما وعد الرحمن خبرا، وكذلك: عطاء حسابا* رب السموات
والأرض وما بنيهما الرحمن [النبأ/ 36 - 37]، إن شئت جعلته صفة،
وإن شئت جعلته ابتداء ولا يملكون خبره، ومثل ذلك: إن الله
اشترى من
(5/27)
المؤمنين أنفسهم [التوبة/ 111]، ثم انقطع
قوله: التائبون [التوبة/ 112] عنهم، واستؤنف به، وزعموا أن في
بعض الحروف: التائبين على إتباع المؤمنين، فكذلك قراءة من قرأ:
(الله) فقطعه مما قبله، واستأنف به.
[إبراهيم: 19]
اختلفوا في قوله جل وعز: ألم تر أن الله خلق السموات والأرض
بالحق [19].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم:
خلق على فعل.
وقرأ حمزة والكسائي: (خالق) على فاعل «1».
وجه قول من قرأ: (خلق) أن ذلك أمر ماض فأخبروا عنه بلفظ المضيّ
على فعل.
ووجه من قال: (خالق) أنّه جعله مثل: فاطر السموات والأرض
[إبراهيم/ 10 يوسف/ 101 فاطر/ 1] ألا ترى أنّ فاطرا بمعنى
خالق، وكذلك قوله: (فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا) [الأنعام/
96] هو على فاعل دون فعل، وهما مما قد فعل فيما مضى.
[إبراهيم: 22]
اختلفوا في قوله عزّ وجلّ: (وما أنتم بمصرخي* إني) [22]، فحرّك
حمزة ياؤها الثانية، إلى الكسر، وحرّكها الباقون إلى الفتح.
وروى إسحاق الأزرق عن حمزة بمصرخي بفتح الياء الثانية «2»
__________
(1) السبعة ص 362 وزاد: وكذلك في النور.
(2) السبعة ص 362.
(5/28)
قال أبو علي: قال الفرّاء في كتابه في
التصريف: هو قراءة الأعمش، ويحيى بن وثّاب قال: وزعم القاسم بن
معن أنّه صواب، قال: وكان ثقة بصيرا، وزعم قطرب أنّه لغة في
بني يربوع، يزيدون على ياء الإضافة ياء، وأنشد «1»:
ماض إذا ما همّ بالمضيّ ... قال لها هل لك يا تافيّ
وقد أنشد الفراء ذلك أيضا «2».
ووجه ذلك من القياس: أن الياء ليست تخلو من أن تكون في موضع
نصب، أو جر، فالياء في النصب والجر كالهاء فيهما، وكالكاف في:
في أكبر منك، وهذا لك، فكما أن الهاء قد لحقتها الزيادة في:
هذا لهو، وضربهو. ولحق الكاف أيضا الزيادة في قول من قال:
أعطيتكاه وأعطيتكيه، فيما حكاه سيبويه «3»، وهما أختا الياء
كذلك ألحقوا الياء الزيادة من المدّ، فقالوا: فيّي ثم حذفت
الياء الزائدة على الياء، كما حذفت الزيادة من الهاء في قول من
قال «4»:
له أرقان وزعم أبو الحسن أنها لغة، وكما حذفت الزيادة من
الكاف، فقالوا: أعطيتكه وأعطيتُكِهِ، كذلك حذفت الياء اللاحقة
__________
(1) للأغلب العجلي سبق انظر الجزء 4/ 415. وبعده:
قالت له ما أنت بالمرضيّ.
(2) انظر معاني القرآن 2/ 76.
(3) الكتاب 2/ 296. ومثّل للزيادة بقوله: أعطيكيها وأعطيكيه
للمؤنث، وأعطيكاه وأعطيكاها للتذكير.
(4) سبق في 1/ 203، 205.
(5/29)
للياء كما حذف من أختيها، وأقرّت الكسرة
التي كانت تلي الياء المحذوفة، فبقيت الياء على ما كانت عليه
من الكسرة، وكما لحقت الكاف والتاء والهاء الزيادة، كذلك لحقت
الياء الزيادة، فلحاق التاء الزيادة نحو ما أنشد من قول الشاعر
«1»:
رميتيه فأصميت ... فما أخطأت الرّمية
فإذا كانت هذه الكسرة في الياء على هذه اللغة، وإن كان غيرها
أفشى منها، وعضده من القياس ما ذكرنا؛ لم يجز لقائل أن يقول:
إن القراءة بذلك لحن لاستفاضة ذلك في السماع والقياس، وما كان
كذلك لا يكون لحنا.
[إبراهيم: 42]
قال: روى عبّاس عن أبي عمرو: (إنما نؤخرهم ليوم) [إبراهيم/ 42]
بالنون ولم يروها غيره.
وقرأ الباقون بالياء «2». اليزيديّ وغيره عن أبي عمرو يؤخرهم
على ياء.
وجه الياء أنّ لفظ الغيبة المفرد قد تقدّم، فيكون بالياء:
ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون «3» إنما يؤخرهم [42].
__________
(1) سبق انظر 1/ 73 في الحاشية و 4/ 416.
(2) السبعة ص 363 ولم يرد ما رواه اليزيدي بعد فيه.
(3) في الأصل: «فلا تحسبن الله مخلف وعده» وهي الآية 47 من
سورة إبراهيم وليس فيها موطن الاستشهاد، وقد جعلنا مكانها ما
أثبتناه مما يتفق ومقتضى الكلام.
(5/30)
ووجه النون أنّه قرأ في المعنى. مثل الياء،
وقد تقدّم مثله.
[إبراهيم: 46]
اختلفوا في كسر اللام الأولى وفتح الثانية من قوله:
لتزول منه الجبال [46].
فقرأ الكسائي وحده: (لتزول منه الجبال) بفتح اللام الأولى من
(تزول) وضمّ الثانية.
وقرأ الباقون: (لتزول) بكسر اللام الأولى وفتح الثانية «1».
من قرأ: وإن كان مكرهم لتزول منه فإن (إن) على قوله: بمعنى
«ما» التقدير: ما كان مكرهم لتزول، وإن مثل التي في قوله: إن
الكافرون إلا في غرور [الملك/ 20] وهذا مثل
قوله: ما كان الله ليذر المؤمنين ... وما كان الله ليطلعكم على
الغيب [آل عمران/ 179]. والمعنى: وقد مكروا مكرهم وعند الله
مكرهم أي: جزاء مكرهم، فحذف المضاف كما حذف من قوله: ترى
الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم [الشورى/ 22]، أي:
جزاؤه، أي: قد عرف الله مكرهم فهو يجازيهم عليه، وما كان مكرهم
لتزول منه الجبال، والجبال كأنه أمر النبيّ، وأعلامه ودلالته،
أي: ما كان مكرهم لتزول منه ما هو مثل الجبال في امتناعه ممّن
أراد إزالته.
ومن قرأ: (وإن كان مكرهم لتزول منه) كانت (إن)
__________
(1) السبعة ص 363.
(5/31)
المخفّفة من الثقيلة على تعظيم أمر مكرهم،
على خلاف القراءة الأخرى، وهو في تعظيم مكرهم، كقوله: ومكروا
مكرا كبارا [نوح/ 22] أي: قد كان مكرهم من كبره وعظمه يكاد
يزيل ما هو مثل الجبال في الامتناع على من أراد إزالته
وثباتها، ومثل هذا في تعظيم الأمر قول الشاعر «1»:
ألم تر صدعا في السماء مبيّنا ... على ابن لبينى الحارث بن
هشام
وقال «2»:
بكى حارث الجولان من موت ربّه ... وحوران منه خاشع متضائل
وقال أوس «3»:
ألم تكسف الشمس شمس النّهار ... مع النّجم والقمر الواجب
__________
(1) البحر المحيط 6/ 218 ولم ينسبه لقائل.
(2) البيت للذبياني من قصيدة يرثي فيها النعمان ورواية
الديوان:
بكى حارث الجولان من فقد ربّه ... وحوران منه موحّش متضائل
وحارث الجولان: جبل في الشام. انظر ديوانه/ 121.
(3) رواية الديوان لهذا البيت:
ألم تكسف الشمس والبدر وال ... كواكب للجبل الواجب
والواجب: الساقط الذاهب. ديوانه/ 10.
(5/32)
فهذا كلّه على تعظيم الأمر وتفخيمه. ويدلّ
على أن الجبال يعنى به أمر النبي، صلّى الله عليه وسلم، قوله
بعد: (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) [إبراهيم/ 47] أي: فقد
وعدك الظهور عليهم والغلبة لهم في قوله: ليظهره على الدين كله
[التوبة/ 33 الفتح/ 28 الصف/ 9]، وقوله: قل للذين كفروا
ستغلبون [آل عمران/ 12]، وقد استعمل لفظ الجبال في غير هذا في
تعظيم الشيء وتفخيمه، قال ابن مقبل «1»:
إذا متّ عن ذكر القوافي فلن ترى ... لها شاعرا مثلي أطبّ
وأشعرا
وأكثر بيتا شاعرا ضربت به ... بطون جبال الشعر حتى تيسّرا
[إبراهيم: 40]
اختلفوا في قوله: (وتقبل دعائي ربنا) [40] في إثبات الياء في
الوصل والوقف.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وهبيرة عن حفص عن عاصم: (وتقبل
دعائي ربنا) بياء في الوصل وقال البزي عن ابن كثير: يصل ويقف
بياء، وقال قنبل عن ابن كثير: يشمّ الياء في الوصل ولا يثبتها،
ويقف عليها بالألف.
والباقون: (دعاء) بغير ياء.
__________
(1) ديوانه 136 ورواية البيت الأول « ... لها تاليا مثلي ...
». والثاني:
« ... شاعرا ضربت له ... حزون جبال الشعر ... ».
أمالي ابن الشجري 1/ 72 وفيه: «حبال» بالحاء المهملة وفسرها
بالأسباب. وعليها فلا شاهد فيه. الشعراء/ 427 دلائل الإعجاز/
391 - 392.
(5/33)
وروى نصر بن علي عن الأصمعي قال: سمعت
نافعا يقرأ: (وتقبل دعائي ربنا) بياء في الوصل وروى غير هذين
عن نافع: بغير ياء في وصل ولا وقف.
وروى أبو عمارة عن أبي حفص عن أبي عمر عن عاصم: بغير ياء في
وصل ولا وقف.
الكسائيّ وابن عامر: بغير ياء في وصل ولا وقف «1».
أما وقف ابن كثير ووصله بياء فهو القياس، وأما وصل عاصم:
(وتقبّل دعائي) بياء فقياس. وأما ما رواه قنبل عن ابن كثير أنه
يشمّ الياء في الوصل ولا يثبتها، فالقياس كما قدمنا، وهذا
الوجه أيضا جائز لدلالة الكسرة على الياء، ولأنّ الفواصل وما
أشبه الفواصل من الكلام التام يحسن الحذف فيه، كما يحسن في
القوافي، وذلك كثير قال الأعشى «2»:
فهل يمنعنّي ارتيادي البلا ... د من حذر الموت أن يأتين
ومن شانئ كاسف وجهه ... إذا ما انتسبت له أنكرن
وحذفها في الوقف أحسن من حذفها في الوصل، لأن الوقف موضع
تغيير، يغيّر فيه الحرف الموقوف عليه كثيرا.
__________
(1) لم ترد في السبعة بهذا التفصيل انظر ص 363.
(2) سبق انظر 4/ 115.
(5/34)
|