الحجة للقراء السبعة ذكر اختلافهم في
سورة الحجر
[الحجر: 2]
اختلفوا في تشديد الياء وتخفيفها من قوله: ربما [2].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي:
(ربّما) مشدّدة. عليّ بن نصر قال: سمعت أبا عمرو يقرؤها على
الوجهين جميعا، خفيفا وثقيلا.
وقرأ نافع وعاصم: ربما خفيفة «1».
قال أبو علي: أنشد أبو زيد «2»:
ماويّ بل ربّتما غارة ... شعواء كالّلذعة بالميسم
__________
(1) السبعة 366.
(2) أنشده في نوادره ص 253 (ط. الفاتح) مع ثلاثة أبيات بعده
نسبها لضمرة، وهو ضمرة بن ضمرة النهشلي، شاعر جاهلي. قال ابن
قتيبة في المعاني الكبير 2/ 1005 بعد إيراده البيت: يريد:
كأنها في سرعتها لذعة بميسم في وبر.
والبيت في ابن الشجري 2/ 153 وابن يعيش 8/ 31 والخزانة 4/ 104
عن النوادر، واللسان (ربب).
(5/35)
وأنشد أيضا «1»:
يا صاحبا ربّت إنسان حسن يسأل عنك اليوم أو يسألُ عن وقال
السكري: ربّما، وربّتما، وربما، وربتما، وربّ:
حرف جر عند سيبويه، وتلحقها (ما) على وجهين: أحدهما أن تكون
نكرة بمعنى شيء وذلك كقوله «2»:
ربّما تكره النفوس من الأم ... ر له فرجة كحلّ العقال
ف «ما» في هذا البيت اسم لما يقدّر من عود الذكر إليه من
الصفة، والمعنى: ربّ شيء تكرهه النّفوس، وإذا عاد إليه الهاء
كان اسما، ولم يجز أن يكون حرفا، كما أنّ قوله:
(أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين) [المؤمنون/ 55]، لمّا
عاد الذكر إليه علمت بذلك أنّه اسم.
فأمّا قوله: «له فرجة كحلّ العقال»، فإنّ فرجة يرتفع
__________
(1) البيت من رجز في النوادر ص 343 ونقله عنه في الخزانة 3/
323 و 4/ 105 وفي ابن يعيش 8/ 32.
(2) لأمية بن أبي الصلت في ديوانه 444 وهو من شواهد سيبويه 1/
270 - 362 والمقتضب 1/ 42 وابن الشجري 2/ 238 والمفصل 4/ 2 و
8/ 30 والخزانة 2/ 541 و 4/ 194 - وشرح أبيات المغني 5/ 212
والدرر 1/ 4 والهمع 1/ 8 - 92 وفي اللسان مادة/ فرج/.
وفي نسبة هذا البيت نزاع ذكره البغدادي في الخزانة فهو ينسب
لأبي قيس اليهودي ولابن صرمة الأنصاري ولحنيف بن عمير ولنهار
ابن أخت مسيلمة الكذاب، غير أن المشهور أنه لأمية (انظر
الخزانة 2/ 542 - 543).
(5/36)
بالظرف في قول الناس جميعا، ولا يرتفع
بالابتداء. وأما قوله:
«كحلّ العقال» فإن موضع الكاف يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون في
موضع نصب على الحال من له، والآخر: أن يكون في موضع رفع على
أنه صفة لفرجة.
ويدلّك على أنّ ما تكون اسما إذا وقعت بعد ربّ، وقوع من بعدها
في نحو قوله «1»:
ألا ربّ من يهوى وفاتي ولو دنت ... وفاتي لذلّت للعدوّ مراتبه
وقال:
يا ربّ من يبغض أذوادنا ... رحن على بغضائه واغتدين
«2» وقال «3»:
ألا ربّ من تغتشّه لك ناصح ومؤتمن بالغيب غير أمين
__________
(1) البيت لذي الرمة، ديوانه 2/ 858.
(2) البيت من شواهد سيبويه 1/ 270 ونسبه لعمرو بن قميئة وتابعه
ابن الشجري في أماليه 2/ 311، ونسبه في الوحشيات إلى عمرو بن
لأي التيمي- شاعر جاهلي- وصوب هذه النسبة الأستاذ شاكر. وهو
كذلك في معجم الشعراء للمرزباني ص 24. وانظر الحيوان 3/ 306
والمقتضب 1/ 41 وابن يعيش 4/ 11. قال الأعلم في طرة سيبويه 1/
270: يقول: نحن محسّدون لشرفنا وكثرة مالنا، والحاسد لا ينال
منا أكثر من إظهار البغضاء لنا لعزّنا وامتناعنا.
(3) سيبويه 1/ 271 ولم ينسبه، الهمع 1/ 92، 2/ 28، 39، الدرر
1/ 69، 2/ 21، 43 اللسان (غشش- نصح).
(5/37)
فكما دخلت على من، وكانت نكرة، كذلك تدخل
على ما على الحدّ الذي دخل في من، فهذا ضرب.
والضرب الآخر: أن تدخل كافّة نحو الآية، ونحو قول الشاعر «1»:
ربّما أوفيت في علم ... ترفعن ثوبي شمالات
والنحويّون يسمّون ما هذه الكافّة، يريدون أنّها بدخولها كفّت
الحرف عن العمل الذي كان له، وهيّأته لدخوله على ما لم يكن
يدخل عليه. ألا ترى أنّ رب إنما تدخل على الاسم المفرد، ربّ
رجل يقول ذاك، وربّه رجلا يقول ذاك، ولا تدخل على الفعل، فلمّا
دخلت ما عليها هيّأتها للدّخول على الفعل، فمن ذلك قوله: ربما
يود الذين كفروا [الحجر/ 2]، فوقع الفعل بعدها في الآية، وهو
على لفظ المضارع، ووقع في قوله:
ربّما أوفيت في علم على لفظ المضيّ، وهكذا ينبغي في القياس،
لأنّها تدلّ
__________
(1) البيت لجذيمة الأبرش في سيبويه 1/ 154 النوادر/ 536 (ط.
الفاتح) والمقتضب 3/ 15 وابن الشجري 2/ 243 والمفصل 9/ 40
والهمع 2/ 38 والدرر 2/ 41 - 99 والعيني 3/ 344. والخزانة 4/
567 - 568. وشرح أبيات المغني 3/ 163 و 5/ 257.
وأوفيت على الشيء: أشرفت عليه، والعلم: الجبل، والشمال:
الريح التي تهب من ناحية القطب.
(5/38)
على ما قد مضى وإنّما وقع في الآية على لفظ
المضارع لأنّه حكاية لحال آتية، كما أن قوله: وإن ربك ليحكم
بينهم [النحل/ 124] حكاية لحال آتية أيضا.
ومن حكاية الحال قول القائل «1»:
جارية في رمضان الماضي ... تقطّع الحديث بالإيماض
ومن زعم أن الآية على إضمار كان، وتقدير: ربّما كان يودّ الذين
كفروا، فقد خرج بذلك عن قول سيبويه، ألا ترى أنّ كان لا تضمر
عنده، ولم يجز: عبد الله المقتول، وأنت تريد:
كن عبد الله المقتول.
فأمّا إضمارها بعد إن في قوله: إن خيرا فخير «2»، فإنّما جاز
ذلك لاقتضاء الحرف له، فصار اقتضاء الحرف له كذكره.
فأمّا ما أنشده ابن حبيب لنبهان بن مشرق:
لقد رزئت كعب بن عوف وربّما ... فتى لم يكن يرضى بشيء يضيمها
فإن قوله: فتى، في «ربّما فتى» يحتمل ضروبا، أحدها:
أن يكون لمّا جرى ذكر رزئت، استغنى بجري ذكره عن أن يعيده،
__________
(1) من رجز منسوب لرؤبة وهو في ملحقات ديوانه/ 176 وانظر
الخزانة 3/ 482 وشرح أبيات المغني للبغدادي 8/ 94 وقوله: من
حكاية الحال، يريد بها الحال الماضية كما هو ظاهر. واستشهاد
النحاة بهذا البيت هو من أجل قوله:
رمضان، حيث جاء بدون شهر، وإن كان إثباته أفصح كما نطق به
القرآن.
(2) انظر سيبويه 1/ 130.
(5/39)
فكأنّه قال: ربّما رزئت فتى، فيكون انتصاب
فتى برزئت هذه المضمرة، كقوله: آلآن وقد عصيت قبل [يونس/ 91]،
فاستغنى بذكر (آمنت) المتقدّم عن إظهاره بعد، ويجوز أن ينتصب
فتى برزئت هذه المذكورة، كأنّه قال: لقد رزئت كعب ابن عوف فتى،
وربّما لم يكن يرضى، أي: رزئت فتى لم يكن يضام، ويكون هذا
الفصل في أنه أجنبيّ بمنزلة قوله «1»:
أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه ويجوز أن يكون مرتفعا بفعل مضمر،
كأنّه قال: ربّما لم يرض فتى، وكقوله «2»:
... وقلّما وصال على طول الصّدود يدوم
__________
(1) عجز بيت للفرزدق وصدره:
وما مثله في النّاس إلا مملّكا وهو من شواهد سيبويه 1/ 14 (في
الحاشية، وهو من إنشاد الأخفش عند الشنتمري). ولم يرد في أصول
الديوان ومعناه: وما مثل إبراهيم في الناس من يشبهه في الفضل
إلا هشاما الذي أبو أمه أبو إبراهيم. وقد كان خال هشام
وإبراهيم هو: إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن
عبد الملك. انظر ديوانه 1/ 108.
(2) عجز بيت للمرار الفقعسي، وتمام صدره: «صددت فأطولت الصدود
وقلما» وقد نسبه بعضهم إلى عمر بن أبي ربيعة.
انظر سيبويه 1/ 12 - 459 - المنصف 1/ 191 - 2/ 69 والمحتسب 1/
96 أمالي ابن الشجري 2/ 139 - 144 - وابن يعيش 4/ 43 و 7/ 116
و 8/ 132 و 10/ 76 وشرح أبيات المغني 5/ 247 و 7/ 222، 241.
(5/40)
ويجوز أن تكون «ما» نكرة بمنزلة شيء، ويكون
فتى وصفا لها، لأنّها لما كانت كالأسماء المبهمة في إبهامها،
وصفت بأسماء الأجناس، كأنه: ربّ شيء فتى لم يكن، فكان كذا
وكذا، هذه الأوجه فيها ممكنة.
ويجوز في الآية أن تكون ما بمنزلة شيء، و (يودّ) صفة له وذلك
أن ما لعمومها تقع على كلّ شيء، فيجوز أن يعنى بها الودّ، كأنه
قال: ربّ ودّ يودّه الذين كفروا، ويكون يودّ في هذا الوجه أيضا
حكاية حال، ألا ترى أنه لم يكن بعد، وهذه الآية في المعنى
كقوله: فارجعنا نعمل صالحا [السجدة/ 12]، وكقوله: (حتى إذا جاء
أحدهم الموت قال رب ارجعون [المؤمنون/ 99] وكتمنيّهم الردّ في
قوله: يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا [الأنعام/ 27].
وأمّا قول من قال: (ربما) بالتخفيف، فلأنه حرف مضاعف، والحروف
المضاعفة قد تحذف وإن لم يحذف غير المضاعف.
فمن المضاعف الذي حذف قولهم: إنّ، وأنّ، ولكنّ، قد حذف كلّ
واحد من هذه الحروف، وليس كلّ المضاعف يحذف، لم أعلم الحذف في
ثمّ.
وأمّا دخول التاء في «ربّتما» فإنّ من الحروف ما يدخل عليه حرف
التأنيث نحو: ثمّ وثمّت، ولا ولات، قال «1»:
__________
(1) البيت للأعشى ورواية الديوان ص 117: هنالك لا تجزونني ..
ولا شاهد فيها. وهو من شواهد سيبويه 1/ 423.
(5/41)
ثمّت لا تجزونني عند ذاكم ولكن سيجزيني
الإله فيعقبا فكذلك ألحقت التاء في ربّ في قوله: ربّتما.
[الحجر: 8]
اختلفوا في قوله عزّ وجلّ: (ما تنزل الملائكة إلا بالحق) [8].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: (ما تنزل الملائكة
إلا بالحق) مفتوحة التاء والنون، والزاي مشدّدة، (الملائكة)
رفع، فاعله.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: (ما تنزل الملائكة) مضمومة
[التاء] مفتوحة النون، (الملائكة) رفع لم يسمّ فاعله.
وقرأ حمزة والكسائيّ وحفص عن عاصم: ما ننزل الملائكة بالنون
مشدّدة الزاي، (الملائكة) نصبا، مفعول به، والأولى لم يختلفوا
فيها «1».
حجّة من قرأ: (ما تنزّل) قوله: (تنزل الملائكة والروح فيها)
[القدر/ 4]، وحجة من قال: (ما تنزل الملائكة) قوله: (ونزل
الملائكة تنزيلا) [الفرقان/ 25].
وحجة من قال: (ننزل) قوله: ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة
وكلمهم الموتى [الأنعام/ 111].
__________
(1) السبعة ص 366. وما بين معقوفين زيادة منه.
(5/42)
[الحجر: 15]
اختلفوا في تشديد الكاف وتخفيفها من قوله عزّ وجلّ:
سكرت [15].
فقرأ ابن كثير: (سكرت) خفيفة.
وقرأ الباقون: سكرت مشدّدة «1».
أبو عبيدة: (سكرت): غشّيت «2»، وكأن معنى سكرت:
لا ينفذ نورها، ولا تدرك الأشياء على حقيقتها، وكأنّ معنى
الكلمة انقطاع الشيء عن سببه الجاري، فمن ذلك: سكر الماء، هو
ردّه عن سيبه في الجرية، وقالوا: التسكير في الرأي قبل أن يعزم
على شيء، فإذا عزم على أمر ذهب التسكير، ومنه السكر في الشراب،
إنّما هو أن ينقطع عن ما هو عليه من المضاء في حال الصحو، فلا
ينفذ رأيه ونظره على حدّ نفاذه في صحوه، وقالوا: سكران لا يبت،
فعبروا عن هذا المعنى فيه.
ووجه التثقيل أنّ الفعل مسند إلى جماعة فهو مثل:
مفتحة لهم الأبواب [ص/ 50] ووجه التخفيف أنّ هذا النحو من
الفعل المسند إلى الجماعة قد يخفّف. قال «3»:
ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها وإنّما حملت التثقيل في سكرت على
التكثير، على تنزيل أن (سكرت) بالتخفيف قد ثبت تعدّيه في قراءة
ابن كثير،
__________
(1) السبعة 366.
(2) انظر مجاز القرآن 1/ 347.
(3) صدر بيت للراعي سبق ذكره في 3/ 441.
(5/43)
والذي عليه الظاهر في سكر أنه يتعدى، وإذا
بني الفعل للمفعول فلا بدّ من تنزيله معدّى، فيكون تعدّيه على
قول ابن كثير مثل: شترت عينه، وشترتها، وعارت وعرتها.
ويجوز أن يكون أراد التثقيل، فحذفه لما كان زائدا، وهو يريده،
كما جاز ذلك في المصادر وأسماء الفاعلين نحو قولهم:
عمرك الله، وقعدك الله «1»، و:
دلو الدالي «2» والرياح لواقح «3» [الحجر/ 22]، ويجوز أن يكون
فعلا قد سمع معدى في البصر. والتثقيل الذي هو قول الأكثر أعجب
إلينا، ويكون التضعيف للتعدية.
__________
(1) قال سيبويه 1/ 162 في «باب من المصادر ينتصب بإضمار الفعل
المتروك إظهاره»: كأنه حيث قال: عمرك الله وقعدك الله. قال:
عمّرتك الله، بمنزلة: نشدتك الله؛ فصارت: عمرك الله، منصوبة
بعمرتك الله، كأنّك قلت: عمّرتك عمرا، ونشدتك نشدا، ولكنّهم
خزلوا الفعل لأنهم جعلوه بدلا من اللفظ به ... فقعدك الله يجري
هذا المجرى وإن لم يكن له فعل. ا. هـ. وقوله عمرتك الله: أي
سألت تعميرك وطول بقائك.
وقيل: معناه ذكرتك به.
(2) قطعة من بيت من الرجز تمامه:
يكشف عن جمّاته دلو الدال وهو للعجاج، وقد سبق في 2/ 254 وهو
في المقتضب 4/ 179 والمخصص 9/ 167 وايضاح الشعر للمؤلف 580،
590.
(3) قال المبرد المقتضب 4/ 179 بعد ذكره للآية: ولو كان على
لفظه لكان ملاقح، لأنه يقال: ألقحت فهي ملقحة، ولكنه على حذف
الزوائد. وقد أشار الفارسي إلى ذلك في 2/ 253 عند استشهاده
بالآية والرجز.
(5/44)
[الحجر: 45]
اختلفوا في فتح النون وكسرها من قوله جلّ وعزّ: فبم تبشرون
[54].
فقرأ ابن كثير ونافع، كسرا، غير أن ابن كثير شدد النون، وخففها
نافع.
وقرأ أبو عمرو وعاصم، وابن عامر وحمزة والكسائيّ:
فبم تبشرون بفتح النون «1».
تشديد ابن كثير النون أنّه أدغم النون الأولى التي لعلامة
الرفع في الثانية المتّصلة بالياء التي هي المضمر المنصوب
المتكلّم.
وفتحها «2» لأنّه لم يعدّ الفعل إلى المفعول به، كما عدّاه
غيره، وحذف المفعول كثير.
ولو لم يدغم وبيّن لكان حسنا في القياس، مثل: اقتتلوا، في جواز
البيان فيه والإدغام.
وأمّا قراءة نافع فبم تبشرون فإنّه أراد: «تبشرونني» وتعدية
الفعل إلى المضمر المنصوب، لأنّ المعنى عليه، فأثبت ما أخذ به
غيره من الكسرة التي تدلّ على الياء المفعولة، وحذف النون
الثانية، لأنّ التكرير بها وقع، ولم يحذف الأولى
__________
(1) السبعة ص 367.
(2) كذا الأصل وقد انتقل إلى توجيه قراءة من فتح النون، والتي
سيذكرها في آخر كلامه على الحرف أيضا.
(5/45)
التي هي علامة الرفع، وقد حذفوا هذه النون
في كلامهم لأنّها زائدة، ولأنّ علامة الضمير الياء دونها،
ونظير حذفهم لها من المنصوب حذفهم لها من المجرور في قولهم:
قدني، وقدي، قال «1»:
قدني من نصر الخبيبين قدي فحذف وأثبت في بيت. وقال الأعشى في
حذف هذه النون اللاحقة مع الياء «2»:
فهل يمنعني ارتياد البلا ... د من حذر الموت أن يأتين
وإنّما هو: يمنعنّني. وقال آخر «3»:
أبا لموت الذي لا بدّ أنّي ... ملاق لا أباك تخوّفيني
فهذا مثل الآية. وقال «4»:
تراه كالثّغام يعلم مسكا ... يسوء الفاليات إذا فليني
فحذف الثانية، فكذلك قراءة نافع.
__________
(1) لحميد الأرقط، وقد سبق 3/ 334.
(2) البيت للأعشى وقد سبق 4/ 115 وص 34 من هذا الجزء.
(3) سبق في 3/ 334.
(4) سبق 3/ 334، 4/ 346.
(5/46)
ومن قرأ: تبشرون ففتح النون، فالنون علامة
الرفع، ولم يعدّ الفعل فتجتمع نونان.
[الحجر: 56]
اختلفوا في فتح النون وكسرها من قوله: عزّ وجلّ:
(ومن يقنط) [56].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة: (من يقنط) بفتح
النون في كلّ القرآن.
وقرأ أبو عمرو والكسائي: (ومن يقنط) بكسر النون.
وكلّهم قرأ: من بعد ما قنطوا بفتح النون «1».
قنط يقنط، وقنط يقنط، لغتان، ومثله: نقم ينقم، ونقم ينقم:
لغتان، وكأن يقنط «2» أعلى، ويدلّ على ذلك اجتماعهم في قوله:
من بعد ما قنطوا.
وحكي أنّ يقنط لغة، فهذا يدلّ على أن يقنط أكثر، لأن مضارع فعل
يجيء على يفعل ويفعل، مثل: يفسق، ويفسق، ولا يجيء مضارع فعل
على: يفعل «3».
[الحجر: 59]
اختلفوا في تخفيف الجيم وتشديدها من قوله عزّ وجلّ:
إنا لمنجوهم [59].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر لمنجوهم مشدّدة
الجيم.
__________
(1) السبعة 367.
(2) ضبطت في الأصل بكسر النون وهو خلاف المراد.
(3) إنما يأتي على: يفعل. ويفعل.
(5/47)
وقرأ حمزة والكسائي: (لمنجوهم) خفيفا «1».
حجّة التثقيل قوله: ونجينا الذين آمنوا [فصلت/ 18].
وحجّة التخفيف: فأنجاه الله من النار [العنكبوت/ 24].
[الحجر: 60]
قال: وكلّهم قرأ: إلا امرأته قدرنا [60] مشدّدة الدال،
وقدرناها مثله في سورة النمل [الآية/ 57] مشدّدا في كلّ القرآن
إلّا عاصما، فإنّه خفّفها، في رواية أبي بكر، في كلّ القرآن،
وشدّدها في رواية حفص في كلّ القرآن.
وقرأ ابن كثير وحده: (نحن قدرنا بينكم الموت) [الواقعة/ 60]
خفيفا والباقون يشدّدون.
وقرأ نافع والكسائيّ (فقدرنا فنعم القادرون) [المرسلات/ 23]
مشدّدة، وقرأ الباقون: فقدرنا مخففة.
وقرأ الكسائيّ وحده: (قدر فهدى) [الأعلى/ 3]، خفيفا، وقرأ
الباقون: قدر مشدّدة «2».
قال أبو علي: يقال: قدرت الشيء في معنى: قدّرته، يدلّك على ذلك
قول الهذليّ «3»:
__________
(1) السبعة 367.
(2) السبعة ص 367، 368.
(3) هو أبو ذؤيب الهذلي، وفى ديوانه 1/ 93 بشرح السكري:
«لرجلها» بدل «لساقها». والمفرهة: الناقة التي تجيء بأولاد
فواره، والعنس: الصلبة الشديدة- قدرت: هيأت، القفل: ما جف من
ورق الشجر. والبيت في المنصف 3/ 70.
(5/48)
ومفرهة عنس قدرت لساقها ... فخرّت كما
تتابع الريح بالقفل
المعنى: قدّرت ضربتي لساقها فضربتها، فحذف ضربتها لدلالة
الكلام عليه، كقوله: فمن كان منكم مريضا ففدية [البقرة/ 196]
أي: فحلق. وهذا في المعنى كقول الآخر «1»:
وإن تعتذر بالمحل من ذى ضروعها ... على الضيف يجرح
«2» في عراقيبها نصلي وقال أيضا: يقدر في معنى يقدّر، قال
الراجز «3»:
يا ربّ قد أولع بي وقد عبث ... فاقدر له أصيلة مثل الحفث
المعنى: قدّر له ووفّقه، ويقال: قدر الشيء يقدره: إذا ضيّقه،
قال: ومن قدر عليه رزقه، فلينفق مما أتاه الله [الطلاق/ 7]،
وقال: الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له [العنكبوت/
62]، فقوله: يقدر مقابل لقوله:
يبسط، فقوله: يقدر خلاف: يبسط، وكذلك قوله: فظن
__________
(1) البيت لذي الرمة في ديوانه 1/ 156. قوله: «من ذي ضروعها»:
يريد:
اللبن، والعراقيب: ج عرقوب، وعرقوب الدابة في رجلها بمنزلة
الركبة في يدها. والمعنى: إن اعتذرت بقلة اللبن بسبب القحط إلى
الضيف أعقرها لتكون هي عوض اللبن. والبيت في المفصل 2/ 39 -
والخزانة 1/ 284 و 4/ 290، شرح أبيات المغني 6/ 132.
(2) في الأصل: يخرج.
(3) الحفث: حية عظيمة كالحراب، والأصيلة: تصغير أصلة، وهي حية
ضخمة عظيمة قصيرة الجسم. والأصلة: للأفعى. وقائل الرجز مجهول.
(5/49)
أن لن نقدر عليه [الأنبياء/ 87] أي: ظنّ أن
لن نضيّق عليه، وكونه: في بطن الحوت تضييق عليه، وخلاف
الاتساع.
وقراءة ابن كثير: (قدرنا بينكم الموت) مخفّفا في معنى قدرنا.
وقراءة نافع والكسائي: فقدرنا فنعم القادرون بمعنى:
(قدرنا) الخفيفة، وعليه جاء: القادرون ومن قرأ: (قدرنا)
مخفّفا، كان في معنى التشديد.
وقوله: القادرون بعد قدرنا يحتمل وجهين: أحدهما:
أن يكون قدرنا في معنى (قدرنا). فجاء القادرون على اللغة
الخفيفة، كأنهما جميعا بين اللغتين.
ويجوز أن يكون: فنعم المقدّرون. فحذف تضعيف العين، كما حذفت
الهمزة «1» من نحو:
دلو الدّالي «2».
و:
يخرجن من أجواز ليل غاض «3».
ونحو ذلك، وكذلك قراءة الكسائيّ: (قدر) فهذا خفيفا، ومعناه:
قدّر، وكأن المشدّدة في هذا المعنى أكثر في الاستعمال، وفي
التنزيل، كقوله: (قدر فيها أقواتها) [فصلت/
__________
(1) كذا الأصل، والظاهر أن تكون «الزيادة» بدل «الهمزة» وانظر
ما سبق عند إيراد الشاهدين. 4/ 380.
(2) أي: المدلي، وقد سبق قريبا/ 44.
(3) أي: مغضي، وسبق في 4/ 380. وانظر مجاز القرآن 1/ 349.
(5/50)
10]، وخلق كل شيء فقدره تقديرا [الفرقان/
2].
أصحاب الأيكة [الحجر/ 78]: لم يختلفوا في هذه السورة، ولا في
سورة قاف «1» [14].
[الحجر: 78]
واختلفوا فى سورة الشعراء، وفي سورة ص [13]، فقرأ ابن كثير
ونافع وابن عامر في سورة الشعراء: (أصحاب ليكة) «2» [176] غير
أن ورشا روى عن نافع (الايكة) متروكة الهمزة «3»، مفتوحة اللام
بحركة الهمزة، والهمزة ساقطة.
لأنه ألقى عليها «4» حركة الهمزة في الحجر، وفي قاف.
وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي (الأيكة) في كلّ القرآن
«5».
قال أبو علي: تقول: هي أيكة، فإذا ألحقت لام المعرفة كانت
الأيكة، قال الهذلي «6»:
__________
(1) يريد أنهم أجمعوا على الخفض، وإدخال الألف واللام.
(2) بلام مفتوحة وبالنصب، على وزن فعلة.
(3) أيّ: مسهلة.
(4) أي على اللام.
(5) السبعة 368.
(6) أبو ذؤيب من قصيدة يرثي بها نشيبة بن محرّث في شرح أشعار
الهذليين 1/ 77. الطرتان: طريقتان في جنبيها، وهو حيث ينقطع
اختلاف لون الظهر من لون البطن- والجنى: الثمر- يضفو: يكثر
ويسبغ عليها أي:
يطول عليها قصارها، فقال: إذا سبغ عليها القصار من أغصان
الشجرة، فالطوال أحرى أن تكون أسبغ.
(5/51)
موشّحة بالطّرتين دنا لها ... جنى أيكة
يضفو عليها قصارها
وأنشد الأصمعي «1»:
وما خليج من المرّوت ذو حدب ... يرمي الضرير بخشب الأيك
والضّال
فأيك وأيكة، مثل: تمر وتمرة، فقد ثبت أن الأيك تعريف أيك، فإذا
خفّفت الهمزة في أيكة، وقد ألحقتها الألف واللام، حذفتها،
وألقيت حركتها على اللام التي هي فاء من أيكة، فيجوز فيها إذا
استأنفت لغتان: من قال: الأحمر «2»، قال: «أليكة» ومن قال:
لحمر، قال: «ليكة»، وإذا كان كذلك فقول من قال: ليكة، ففتح
التاء، مشكل «3»، لأنّه فتح مع لحاق اللام الكلمة، وهذا في
الامتناع كقول من قال: بلحمر، فيفتح الآخر مع لحاق لام
المعرفة، وإنّما يخرج قول من قال:
(أصحاب ليكة) على أن هذا المعنى قد يسمى بكلمة تكون اللام فيها
فاء، ويكون مقلوب: كيل، فإن لم يثبت هذا مشكلا «4»، ولم أسمع
بها.
ويبعد أن يفتح نافع ذلك مع ما قال ورش عنه.
__________
(1) البيت لأوس وقد سبق في 4/ 136.
(2) ولفظها: (الحمر)، كما سبق أن رسمها في غير هذا الموضع.
(3) - نشأ الإشكال من توجيهه الذي وجه به الكلمة، أما إذا نظر
إليها على أنها على وزن: فعلة؛ اسم للقرية التي كانوا فيها،
كما حكاه أبو عبيد، فلا إشكال. انظر الكشف عن وجوه القراءات 2/
32.
(4) كذا الأصل، وفي العبارة اضطراب.
(5/52)
|