الحجة للقراء السبعة

ذكر اختلافهم في سورة النحل
[النحل: 2]
اختلفوا في قوله تعالى: ينزل الملائكة [2] في التخفيف، والتشديد، والتاء، والياء.
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي: ينزل الملائكة بالياء، غير أنّ ابن كثير وأبا عمرو أسكنا النون، وخفّفا الزاي وشدّدها
الباقون.
وروى الكسائيّ عن أبي بكر عن عاصم: (تنزل الملائكة) بالتاء مضمومة، وفتح الزاي. (الملائكة) رفع «1».
فاعل ينزل الضمير العائد إلى اسم الله تعالى، في أتى أمر الله [1].
فأمّا إسكان النون في (ينزل) وتخفيفها وتشديدها، فكل واحد من القراءتين سائغ؛ قال: إنا نحن نزلنا الذكر [الحجر/ 9] وقال: وأنزلنا إليك الذكر [النحل/ 44].
فأما ما روي عن عاصم من قوله: (تنزل الملائكة) فإنّه
__________
(1) السبعة ص 270 مع اختلاف يسير، وبإسقاط الكسائي من قراءة: (ينزّل) بالياء.

(5/53)


أنّث الفعل لإسناده إلى الملائكة، كما قال: إذ قالت الملائكة [آل عمران/ 45]، وبنى الفعل للمفعول، وأسند إليهم، والأوّل أبين.

[النحل: 11]
قال: كلّهم قرأ: ينبت [11] بالياء إلا عاصما، في رواية أبي بكر، فإنّه قرأ: (ننبت) بالنون، وروى حفص عنه بالياء «1».
ينبت بالياء، لتقدم قوله: هو الذي أنزل من السماء ماء [10]، ينبت وينبت، أشكل لما تقدّم من الإفراد، والنون لا تمتنع أيضا «2»، ويقال: نبت البقل، وأنبته الله وقد روي: أنبت البقل، والأصمعي: يأبى إلا نبت، ويزعم أن قصيدة زهير التي فيها:
... حتى إذا أنبت البقل «3» متّهمة. فأما قوله: تنبت بالدهن [المؤمنون/ 20] فيجوز أن
__________
(1) السبعة ص 370.
(2) قال مكي في الحجة لهذه القراءة: إنه أجراه على الإخبار من الله جل ذكره عن نفسه، لتقدم لفظ الإخبار قبله في قوله: (لا إله إلا أنا) [2].
الكشف 2/ 34.
(3) جزء من بين لزهير من قصيدته اللامية التي يمدح فيها هرم بن سنان والحارث بن عوف، وتمام البيت:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل
انظر ديوانه/ 111 واللسان (نبت).

(5/54)


يكون الباء زائدة كقوله: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [البقرة/ 195]، وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم [النحل/ 15]، فعدّى (ألقى) مرّة بالياء، ومرّة بغيرها.
وإذا ثبت: أنبت، في معنى: نبت، جاز أن تكون الباء للتعدي، كما أنّها لو كانت مع نبت كان كذلك، ويجوز أن تكون الهمزة في أنبت، للتعدي، والمفعول محذوف، والباء للحال كأنه تنبت ثمرة الدّهن، فحذف المفعول، وبالدهن في موضع حال كأنه: تنبت بالدهن، أي: تنبت الثمر، وفيه دهن، ويجوز في تنبت بالدهن، أي: بذي الدّهن، أي تنبت ما فيه دهن.
قال: وقرأ ابن عامر: (والشمس والقمر والنجوم مسخرات) [54] رفع كلّه، وقرأ الباقون: بنصب ذلك كلّه، وأبو بكر عن عاصم.
وروى حفص عن عاصم مثل قراءة ابن عامر في مسخرات «1» وحدها، ونصب الباقي «2».
النصب في قوله: والشمس والقمر أحسن، ليكون معطوفا على ما قبله وداخلا في إعرابه، لاستقامته في المعنى، ألا ترى أن ما في التنزيل من نحو قوله: وكلا ضربنا له الأمثال [الفرقان/ 39]، وقوله: والظالمين أعد لهم عذابا أليما [الإنسان/ 31] يختار فيه النصب، ليكون مثل ما يعطف عليه،
__________
(1) ضبطها في الأصل بالكسر حسب سياقها الإعرابي، وآثرنا ما في السبعة.
(2) السبعة ص 370.

(5/55)


ومشاكلا له، فكذلك إذا حمل ذلك على التسخير، كان أشبه، فإن قلت: فكيف جاء (مسخرات) بعد هذه الأشياء المنصوبة المحمولة على (سخر)؟ فإن ذلك لا يمتنع، لأنّ الحال تكون مؤكّدة ومجيء الحال مؤكّدة في التنزيل وفي غيره كثير، كقوله:
وهو الحق مصدقا [البقرة/ 91]، و:
أنا ابن دارة معروفا «1» و:
كفى بالنأي من أسماء كافي «2»
__________
(1) جزء من بيت لسالم بن دارة وتمامه:
أنا ابن دارة معروفا بها نسبي ... وهل بدارة يا للنّاس من عار
وقد جاء قوله: «معروفا» حالا مؤكدة لمضمون الجملة قبلها «أنا ابن دارة».
وهو من شواهد سيبويه 1/ 257 والخصائص 2/ 268 - 317 - 340، و 3/ 60 ابن الشجري 2/ 285 الخزانة 1/ 553.
(2) صدر بيت لبشر بن أبي خازم الأسدي وهو مطلع قصيدة في ديوانه ص 142 يمدح بها أوس بن حارثة لما خلي سبيله من الأسر والقتل- وعجز البيت برواية الديوان:
وليس لحبها إذ طال شافي وفي البيت شاهدان: الأول على تسكين المنقوص في حالة النصب على أنه لغة، أو للضرورة، والأصل: كافيا. والثاني وهو الذي أراده المصنف، وهو مجيء «كاف» هذه حالا مؤكدة عنده.
انظر الكامل 2/ 729 والمقتضب 4/ 22، والخصائص 2/ 268

(5/56)


ويقوي النصب قوله: وسخر لكم الشمس والقمر دائبين [إبراهيم/ 33]، فكما حملا هنا على التسخير كذلك في الأخرى، وكذلك النجوم قد حملت «1» على التسخير كذلك في وهو الذي جعل «2» لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر [الأنعام/ 97].
وكأنّ ابن عامر قطعه عن سخّر، لئلّا يجعل الحال مؤكّدة، فابتدأ الشمس والقمر والنجوم، وجعل مسخّرات خبرا عنها. ويدل على جواز ذلك أنه إذا جاء: سخر لكم الشمس والقمر علم من هذا أنهما مسخران، فجاز الإخبار بالتسخير عنها لذلك.

[النحل: 12]
ووجه ما روي عن عاصم من الرفع في مسخّرات وحدها، أنّه لم يجعلها حالا مؤكّدة، وجعلها خبر ابتداء محذوف، كأنّه لما قال: وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم [النحل/ 12] قال بعد: هي مسخرات، فحذف المبتدأ، وأضمره لدلالة الخبر عليه، وهو إذا جعله خبر ابتداء محذوف فقد علم ذلك بما تقدّم، كما أنّه إذا جعل مسخرات حالا مؤكدة فقد علم ذلك بما تقدم، وهذا المعنى
__________
المنصف 2/ 115 ابن الشجري 1/ 183 - 283 - 296 - 298.
وابن يعيش 6/ 51 و 10/ 103 والخزانة 2/ 261 وشرح الحماسة للمرزوقي ص 294، 790، 1032.
(1) في الأصل (ط): «قد حملت قد على التسخير» بإقحام قد الثانية.
(2) في الأصل: «سخر» بدل «جعل» وليس في القرآن آية أو قراءة بهذا اللفظ، وعليه فلا حجة فيها نصا.

(5/57)


في الحال أسوغ منه في الخبر، لأنّ الخبر ينبغي أن يكون مفيدا، لم يجيء إلّا كذلك، ألا ترى أنّه حمل قوله على الحال، ولم يحمله على الخبر، والحال قد جاءت مؤكّدة.

[النحل: 21، 20، 19]
اختلفوا في قوله عزّ وجلّ: والله يعلم ما تسرون وما تعلنون «1» والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا [النخل/ 20 - 21].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي: (والله يعلم ما تسرون وما تعلنون والذين تدعون) كلّهن بالتاء.
وقرأ عاصم: والله يعلم ما تسرون وما تعلنون بالتاء، والذين يدعون بالياء.
أخبرنا الخزاز عن هبيرة، عن حفص عن عاصم: أنّه قرأهن ثلاثتهن بالياء. وقال ابن اليتيم عن أبي حفص عمرو بن الصباح عن حفص عن عاصم مثل أبي بكر عن عاصم.
وروى الكسائيّ عن أبي بكر عن عاصم: ذلك كلّه بالياء «2» في الثلاثة «3».
هذا يكون كلّه على الخطاب، لأنّ ما بعده خطاب كقوله بعد: أفلا تذكرون. وقوله: وألقى في الأرض رواسي أن
__________
(1) لم ترد هذه الآية في الأصل.
(2) في السبعة: «بالتاء» بدل «بالياء».
(3) السبعة 371.

(5/58)


تميد بكم [النحل/ 15] وإلهكم إله واحد [النحل/ 22]، فكلّ هذا خطاب، فإن قلت: إنّ فيه (والذين تدعون من دون الله) وهذا لا يكون خطابا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا للمسلمين، فإنّه يكون على إرادة: قل، كأنّه: قل لهم: (والذين تدعون من دون الله) فلا يمتنع الخطاب إذا كان على هذا الوجه، ولهذا قرأ عاصم:
والذين يدعون بالياء، لما كان ذلك عنده إخبارا عن المشركين، ولم يجز أن يكون في الظاهر خطابا للمسلمين.
فأما ما روي عن عاصم من أنه قرأ كلّه بالياء، فهذا على توجيه الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، كأنه: قل لهم: والله يعلم ما يسرّون وما يعلنون، والذين يدعون.

[النحل: 27]
اختلفوا في فتح النون وكسرها من قوله عزّ وجلّ:
تشاقون فيهم [27].
فقرأ نافع وحده: (تشاقون فيهم) بكسر النون وتخفيفها.
وقرأ الباقون: تشاقون فيهم بفتح النون «1».
قد ذكرنا وجه قول نافع فيما تقدم «2»، ومعنى (تشاقون):
تكونون في جانب والمسلمون في جانب، ولا تكونون معهم يدا واحدة. ومن هذا قيل لمن خرج عن طاعة الإمام وعن جملة جماعة المسلمين: شقّ العصا، أي: صار في جانب عنهم، فلم يكن ملائما لهم، ولا مجتمعا معهم في كلمتهم «3».
__________
(1) السبعة ص 373.
(2) يريد في قوله عز وجل: فبم تبشرون الحجر/ 54. انظر ص 45.
(3) على هامش النسخة كلمة «بلغت».

(5/59)


[النحل: 27]
اختلفوا في الهمز من قوله عزّ وجلّ: أين شركائي الذين [27]، فقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر- إن شاء الله- وحمزة والكسائي: أين شركائي الذين بهمزة وفتح الياء.
وقال البزيّ عن ابن كثير: (شركاي الذين) بغير همز وفتح الياء، مثل: هداي [البقرة/ 38].
وروى القوّاس عن ابن كثير: شركائي الذين مهموزة «1».
الوجه فيه الهمز: لأن شريكا وشركاء كخليط وخلطاء، وفي التنزيل: وإن كثيرا من الخلطاء [ص/ 24]، ولا نعلم أحدا جمعه على غير فعلاء.
ووجه القصر: أن هذا الضرب من الممدود قد قصر في الآحاد مرّة، ومدّ أخرى، قال «2»:
وأربد فارس الهيجا إذا ما ... تقعرت المشاجر بالفئام
__________
(1) السبعة 371.
(2) البيت للبيد يرثي أخاه، ديوانه ص 200 وفيه وفي مختار الشعر الجاهلي، 2/ 471: «بالخيام» بدل: «بالفئام» وتقعرت: تفوّضت- والمشاجر:
مراكب للنساء أكبر من الهوادج.
وفي اللسان مادة (شجر) وفيه: «وأرثد» و «بالقيام» وفي مادة «فأم» كما هي عندنا. والفئام: عكم كالجوالق صغير الفم يغطى به مركب المرأة، يجعل واحد من هذا الجانب وآخر من هذا الجانب (اللسان).

(5/60)


وقال آخر «1»:
إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا ... فحسبك والضّحّاك سيف مهنّد
فكذلك الجموع، وقد حذفت الهمزة إذا كانت لاما، قالوا في: سوائية: سواية «2»، وإنّما السوائية مثل الكراهية.
وذهب أبو الحسن في قولهم: أشياء، إلى أنه أفعلاء:
أشيئاء، فحذفت والوجه المدّ في (شركاي).
وأمّا قوله: أين شركائي فإنّ القديم سبحانه لم يثبت بهذا الكلام له شريكا، وإنما أضيف على حسب ما كانوا يقولونه وينسبونه، وكما أضيفت هذه الإضافة، فكذلك أضيف إليهم، فقال: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون [الأنعام/ 22]، وفي أخرى: وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون [يونس/ 28]، فإنّما أضيفوا هذه الإضافة على حسب ما كانوا يسمّونهم ويعتقدونه فيهم، ومثل ذلك قوله: ذق إنك أنت العزيز الكريم [الدخان/ 49]، ومثله: يا أيها الساحر ادع لنا ربك [الزخرف/ 49]، فهذا على حسب ما كانوا يقولون فيه، ويسمّونه به، وقد تقع الإضافة لبعض الملابسة دون التحقيق، كقول الشاعر «3»:
__________
(1) لم يعرف قائله وهو في شرح أبيات المغني 7/ 191. وانشقت العصا:
تفرقت الجماعة.
(2) عند سيبويه 2/ 378: سؤته سوائية: هي: فعالية، بمنزلة علانية، والذين قالوا: سواية، حذفوا الهمزة، كما حذفوا همزة هار ولاث.
(3) وهو حريث بن عناب- سبق انظر 2/ 50.

(5/61)


إذا قلت قدني قال بالله حلفة ... لتغني عني ذا إنائك أجمعا
فأضاف الإناء إليه لشربه منه، والإناء في الحقيقة لمن يسقي به، دون من يشرب منه، ومثل ذلك قول الهذليّ، أنشدناه علي بن سليمان:
وكنت كعظم العاجمات اكتنفنه ... بأطرافها حتى استدقّ نُحولُها
«1» فهذا كما تقول لمن يحمل خشبة ونحوها: خذ طرفك، وآخذ طرفي، فتنسب إليه الطرف الذي يليه، كما تنسب إلى نفسك الطرف الذي يليك، فعلى هذا تجري الإضافة في قوله:
أين شركائي.

[النحل: 28، 32]
اختلفوا في الياء والتاء من قوله تعالى: تتوفاهم الملائكة [28 - 32].
فقرأ حمزة وحده: (يتوفاهم الملائكة) بالياء والتاء وبالإمالة.
وقرأ الباقون بتاءين في الموضعين.
أبو عمارة عن حفص عن عاصم مثل حمزة، وروى
__________
(1) لأبي ذؤيب، وعظم العاجمات: الإبل التي تمضغ العظم. والنحول: رمّ العظم، والواحد: نحل، واستدق نحولها: دقت دقّتها- يريد: كنت للمصيبة كالعظم ترتمه الإبل. شرح أشعار الهذليين 1/ 175.

(5/62)


هبيرة عن حفص عن عاصم، وابن اليتيم عن ابن عمر عن عاصم «1» مثل أبي بكر «2».
قول حمزة: (يتوفّاهم) بالياء، لأنّ الفعل متقدّم، والإمالة حسنة في هذا النحو من الفعل، وعلى هذا قرأ الأخرى بالياء أيضا.
وأما تتوفاهم فلأنّ الفعل مسند إلى جماعة، والجماعة مؤنث، كما جاء: وإذ قالت الملائكة [آل عمران/ 42، 45] في غير موضع في التنزيل، وقرأ كثير من القراء: كالذي استهوته الشياطين [الأنعام/ 71] ولو كان استهواه كان حسنا أيضا.

[النحل: 33]
اختلفوا في الياء والتاء من قوله: إلا أن تأتيهم الملائكة [33].
فقرأ حمزة والكسائي: (إلا أن يأتيهم الملائكة) بالياء.
وقرأ ابن كثير وعاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر:
تأتيهم بالتاء «3».
قد تقدم القول في هذا ونحوه.

[النحل: 37]
اختلفوا في فتح الياء وضمّها من قوله: فإن الله لا يهدي من يضل [37].
__________
(1) في السبعة: وابن اليتيم عن عمرو بن الصباح عن حفص عن عاصم:
بالتاء.
(2) السبعة ص 372.
(3) السبعة ص 372.

(5/63)


فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر: (لا يهدى) برفع الياء وفتح الدال.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: يهدي بفتح الياء وكسر الدال.
ولم يختلفوا في يضل أنها مضمومة الياء مكسورة الضاد «1».
الراجع إلى اسم (إنّ) هو الذّكر الذي في قوله: يضل في قراءة من قرأ: (يهدى)، ومن قرأ: يهدي: فمن جعل يهدي من: هديته:
جاز أن يعود الذكر الفاعل الذي فيه إلى اسم إنّ، ومن جعل يهدي في معنى: يهتدي، وجعل: من يضل مرتفعا به، فالراجع إلى اسم إنّ الذكر الذي في يضل كما كان كذلك في قول من قال: (يهدى) فالراجع إلى الموصول الذي هو (من) الهاء المحذوفة من الصّلة تقديره: «يضلّه» والمعنى: إن من حكم بإضلاله له وتكذيبه، فلا يهدى. ومثل هذا في المعنى قوله: فمن يهديه من بعد الله، [الجاثية/ 23]، تقديره: من بعد إضلال الله إيّاه والمفعول محذوف، أي: بعد حكمه بإضلاله.
وقراءة عاصم وحمزة والكسائي: لا يهدي من يضل في المعنى كقوله: من يضلل الله فلا هادي له [الأعراف/ 186]، وهذا كقوله: والله لا يهدي القوم الظالمين [البقرة/ 258]، وقوله: وما يضل به إلا الفاسقين [البقرة/ 26] فموضع (من) نصب ب (يهدي) وقد قيل: إن
__________
(1) السبعة 372.

(5/64)


(يهدي) في معنى يهتدي، بدلالة قوله: لا يهدي إلا أن يهدى [يونس/ 35] فموضع (من) على هذا رفع، كما أنه لو قال: يهتدي كان كذلك.
قال: ولم يختلفوا في يضل أنّه مضموم الياء، فهذا من قولك: ضلّ الرجل، وأضلّه الله. أي: حكم بإضلاله، كقولك:
كفر زيد وأكفره الناس، أي: نسبوه إلى الكفر، وقالوا: إنه كافر، كما أن أسقيته قلت له: سقاك الله. قال «1»:
وأسقيه حتى كاد ممّا أبثّه ... تكلّمني أحجاره وملاعبه

[النحل: 40]
اختلفوا في فتح النون وضمّها من قوله تعالى: (كن فيكون) [40].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وحمزة: كن فيكون رفعا، وكذلك في كل القرآن.
وقرأ ابن عامر والكسائي: (فيكون) نصبا، وفي سورة يس [82] مثله فتح «2».
أمّا نصب الكسائي: (فيكون) هاهنا، وفي سورة يس فإنّه يحمله على أن، كأنّه: أن يقول .. فيكون، قال: وسمعت ذلك بالنصب مرارا ذكرها.
فأمّا ابن عامر فإنّه قد نصب (فيكون) وإن لم يكن قبله
__________
(1) الذي الرمة سبق ذكره في الجزء 3/ 302 من كتابنا.
(2) السبعة: 373.

(5/65)


أن نحو: إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون [البقرة/ 617 آل عمران/ 47] فإن نصب هنا على هذا الحدّ، فقد مضى القول عليه قبل «1»، وإن نصبه من حيث نصبه الكسائي، فمستقيم.

[النحل: 48]
اختلفوا في التاء والياء من قوله عزّ وجلّ: أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء [النحل/ 48].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء [وكذلك] أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده، في العنكبوت [19]، بالياء جميعا.
واختلف عن عاصم، فروى يحيى بن آدم عن أبي بكر، وابن المنذر عن عاصم أيضا عن أبي بكر وابن أبي أمية عن أبي بكر عن عاصم في العنكبوت بالتاء. وروى حسين الجعفيّ والكسائيّ والأعشى وعبد الجبار بن محمد، عن أبي بكر عن عاصم، وحفص عن عاصم في العنكبوت بالياء، ولم يختلف عن عاصم في النحل أنّها بالياء.
وقرأ حمزة والكسائي: (أو لم تروا إلى ما لم خلق الله من شيء) بالتاء، أولم تروا كيف يبدئ الله بالتاء جميعا.
[النحل: 48]
وكلّهم قرأ: يتفيأ ظلاله [48] بالياء، غير أبي عمرو، فإنه قرأ: (تتفيأ) بالتاء «2».
__________
(1) انظر كلامه عن سورة البقرة/ 117 في 1/ 203.
(2) السبعة 374 ولم يرد ما بعد فيه.

(5/66)


[النحل: 48]
وقرأ حمزة وابن عامر: (ألم تروا إلى الطير) [79] بالتاء، وقرأ الباقون: بالياء.
قوله: أولم يروا.
حجة الياء: أن ما قبله غيبة، وهو قوله: أن يخسف الله بهم أو يأتيهم العذاب ... أو يأخذهم [45، 46] أولم يروا [48]، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأصحابه قد رأوا ذلك وتيقّنوه.
ومن قرأ بالتاء: أراد جميع الناس، فوقع التّنبيه على الجمع بقوله: (أولم تروا).
قال: كلّهم قرأ: يتفيأ بالياء، غير أبي عمرو، فإنّه قرأ بالتاء: التذكير والتأنيث- في فعل هذا الضرب من الجميع، إذا تقدّم- جميعا حسنان، وقد تقدّم في غير موضع.
فأمّا يتفيّأ، فيتفعل من الفيء، يقال: فاء الظلّ يفيء فيئا، إذا رجع وعاد بعد ما كان ضياء الشمس نسخه، ومنه فيء المسلمين: لما يعود عليهم وقتا بعد وقت من خراج الأرضين المفتتحة والغنائم، فإذا عدّي قولهم: فاء، عدّي بزيادة الهمزة، أو تضعيف العين، فممّا عدّي بنقل الهمزة: ما أفاء الله على رسوله [الحشر/ 7] وبالتضعيف: فاء الظلّ وفيّأه الله، فتفيّأ: مطاوع فيّأه، فالفيء: ما نسخه ضوء الشمس، والظلّ: ما كان قائما لم تنسخه الشمس، مما يدل على ذلك قوله: ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا [الفرقان/ 45]، فالشمس ينسخ ضياؤها هذا الظل، فإذا زال ضياء الشمس الناسخ للظلّ، فاء الظلّ، أي:
رجع كما كان أوّلا، قال أبو زيد: ظهّر تظهيرا، وذلك قبل

(5/67)


نصف النهار إلى أن تزيغ الشمس وزيغها: إذا فاء الفيء، انتهى كلام أبي زيد.
قال أبو على: والضمير في قوله: ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا [الفرقان/ 46]. يجوز أن يكون للظلّ، ويجوز أن يكون لضياء الشمس، لأنّ كل واحد منهما يقبض قبضا يسيرا على التدريج.
وقال: أكلها دائم وظلها [الرعد/ 35]، وقال: وظل ممدود [الواقعة/ 30]، هما في الجنّة، فيكون ظلّا، ولا يكون فيئا، لأنّ ضياء الشمس لا ينسخه، على أن أبا زيد أنشد للنابغة الجعدي «1»:
فسلام الإله يغدو عليهم ... وفيوء الفردوس ذات الظّلال
وهذا الشعر قد أوقع فيه الفيء على ما لم تنسخه الشمس، وجمعه على فيوء، مثل بيت وبيوت، ويدلّ على أن الظل ما لم تنسخه الشمس قول النابغة: ذات الظلال، فسمّى ما في الجنة ظلّا، ويدل عليه قول الآخر «2»:
فلا الظلّ من برد الضّحى تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشيّ تذوق
فجعل الظلّ وقت الضحى، لأنّ الشمس لم تنسخه في
__________
(1) شعره ص 231. والنوادر: 220 (ط: الفاتح) واللسان (ظلل).
(2) لحميد بن ثور ورواية الديوان ص 40: «منها بالضحى» وفي الأصل:
«من بعد برد الضحى» بإقحام كلمة «بعد» وينكسر البيت بها. وانظر اللسان (فيأ).

(5/68)


ذلك الوقت، بدلالة ما تقدم حكايته، عن أبي زيد، وقال أبو عمر: أكثر ما تقول العرب: أفياء، وأنشد لعلقمة «1»:
تتّبع أفياء الظّلال عشيّة ... على طرق كأنّهن سبوب
قال أبو علي: فقول علقمة: أفياء الظلال، يجوز أن يكون جمع فيئا على أفياء، وأضافه إلى الظلال، على معنى أن الفيء يعود به الظل الذي كان نسخه ضوء الشمس، وأضافها إلى الظلّ كما يضاف المصدر إلى الفاعل، وأفياء يكون للعدد القليل مثل: أبيات وأعيان، وفيوء للكثير، كالبيوت والعيون، وقال:
أرى المال أفياء الظّلال فتارة يئوب وأخرى يخبل المال خابله «2» ومن هذا الباب قوله حتى تفيء إلى أمر الله [الحجرات/ 9] أي: ترجع عن بغيها إلى جملة أهل العدل، والفيء في الإيلاء مثل الرجعة في الطلاق، وهذه الآية في المعنى مثل قوله: ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاو كرها وظلالهم بالغدو والآصال [الرعد/ 15]
__________
(1) علقمة الفحل- والسبوب شقاق الكتان- الواحد (سب).
يقول: إنها تسير في الهاجرة حتى تعيا، فإذا رأت فيئا مالت في سيرها إليه، تبتغيه لتستريح بذلك. ديوانه/ 40/.
(2) الخبل: القرض والاستعارة، والإخبال: أن يعطى الرجل البعير أو الناقة ليركبها ويجتز وبرها، وينتفع بها ثم يردها. والمال: الإبل. (اللسان) ولم نقف للبيت على قائل.

(5/69)


، وزعموا أن الحسن كان يقول: يا ابن آدم أما ظلك فيسجد لله، وأما أنت فتكفر بالله.
وقال: (ظلاله) فأضاف الظلال إلى مفرد، ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال، لأن الذي يعود إليه الضمير واحد، يدلّ على الكثرة، وهو قوله: ما خلق الله [البقرة/ 228] وهذا مثل قوله: لتستووا على ظهوره [الزخرف/ 13]، فأضاف الظهور وهو جمع إلى ضمير مفرد، لأنه يعود إلى واحد يراد به الكثرة، وهو قوله: ما تركبون [الزخرف/ 12]، ومثل ذلك إضافة بين إلى ضمير المفرد في قوله: يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما [النور/ 43]، ولو أنّث لجاز من وجهين:
أحدهما: على قياس نخل خاوية [الحاقة/ 7] على قوله:
وينشىء السحاب الثقال [الرعد/ 12].
وممّا ينسب إلى ثعلب أنه قال: أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤية قال: كلّ ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظلّ، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظلّ. وقال بعض أهل التأويل: الظلّ هو الشخص نفسه، ويدلّ عندي على ما قال:
قول علقمة «1»:
__________
(1) هذا البيت ليس في ديوان علقمة، وإنما ينسب لعبدة بن الطبيب وهو من قصيدة له في المفضليات. وقد أنشده ابن عبد ربه في العقد الفريد 1/ 192 - والأخبية ج: خباء، والمراجيل: ج: مرجل- وهو القدر الذي يطبخ فيها الطعام- يقول: إنهم حين حطوا رحالهم أسرعوا فنحروا الذبائح وأوقدوا عليها ففارت قدورهم باللحم.

(5/70)


إذا نزلنا نصبنا ظلّ أخبية ... وفار للقوم باللحم المراجيل
ألا ترى أنّهم ينصبون الظلّ الذي هو فيء، وإنما ينصبون الأخبية فيصير لها فيء ويمكن أيضا أن يستدلّ بقوله:
... أفياء الظلال عشيّة أي: أفياء الشخوص، فيحمل على هذا دون ما تأوّلناه، وقال: ظلّ أخبية، ولم يقل: ظلال أخبية، كما تقول:
شخوص أخبية، ولكنّه أفرد كما قال «1»:
جلد الجواميس يريد: جلودها، فوضع الواحد موضع الجميع، ولا يكون ذلك على حذف المضاف، كأنه: ذا ظلّ أخبية، لأنّك حينئذ تضيف الشيء إلى نفسه، ألا ترى أن ذا ظل في قولك: ذا ظل، هو الظل، ويقوّي ذلك قول عمارة «2»:
__________
انظر شرح المفضليات: 1/ 284 - والإنصاف 1/ 29. وجاء في المفضليات برواية:
لما وردنا رفعنا ظل أردية ... وفار باللحم للقوم المراجيل
(1) يشير في ذلك إلى قول جرير:
تدعوك تيم وتيم في قرى سبأ ... قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس
وقد سبق انظر 4/ 81.
(2) الرجز في نوادر أبي زيد: ص 197 (ط: الفاتح) وهو في وصف

(5/71)


كأنّهنّ الفتيات اللّعس ... كأنّ في أظلالهنّ الشّمس
أي: في أشخاصهن، لأنّ شبه الشمس إنّما هو في أشخاصها، دون ما يفيء من أفيائها، ويزعم هذا المتأوّل أن المعنى: أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء له ظلّ من جبل وشجر وبناء يتفيّأ ظلاله، أي: يكون للأشخاص فيء عن اليمين والشمائل، إذا كانت الشمس عن يمين الشخص، كان الفيء عن شماله، وإذا كانت على شماله، كان الفيء عن يمينه! وقيل: أول النهار عن يمين القبلة، وآخره عن شمال القبلة.
وقول الشاعر:
أفياء الظلال عشيّة وقولهم: أظلّ القوم عليهم، فيهما دلالة أيضا على أن الظلّ نفس الشخص.
وكلّهم قرأ: (إلا رجالا يوحى إليهم) [43] بالياء، إلا عاصما في رواية حفص، فإنه قرأ: نوحي إليهم بالنون، وكسر الحاء «1».
وجه الفعل المبني للمفعول قوله: وأوحي إلى نوح [هود/ 36]، وو ما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه [الأنبياء/ 25].
__________
النخل، واللعس: اللواتي في شفاههن سواد وهن بيضاوات واسم كأن ضمير الشأن المحذوف.
(1) السبعة 373.

(5/72)


ووجه قراءة عاصم: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده [النساء/ 163]. وأوحينا إلى أم موسى [يونس/ 87].

[النحل: 62]
قال: قرأ نافع وحده: (وأنهم مفرطون) [62] بكسر الراء خفيفة من أفرطت.
وقرأ الباقون: مفرطون بفتح الراء، من أفرطوا فهم مفرطون «1».
أبو عبيدة: مفرطون: معجلون، قال: وقالوا: متروكون منسيّون «2»، وقال أبو زيد: فرط الرجل أصحابه، يفرطهم أحسن الفراطة، وهو رجل فارط. قال: والفارط: الذي يتقدم الواردة، فيصلح الدّلاء والأرسان، وقوله: مفرطون، يمكن أن يكون من هذا كأنه فرط هو، وأفرطه القوم، فكذلك:
(مفرطون)، كأنهم أعجلوا إلى النار فهم فيها فرط للذي يدخلون بعدهم، ومن هذا قولهم في الدعاء للطفل، ومن جرى مجراه:
«اجعله لنا فرطا»
«3» ومنه ما
في الحديث من قوله: «أنا فرطكم على الحوض»
«4».
__________
(1) السبعة 373.
(2) انظر مجاز القرآن 1/ 361.
(3) رواه البخاري في الجنائز رقم 1335.
(4) رواه البخاري في الرقاق باب في الحوض رقم 6575، 6576، 7049. ومسلم في الطهارة رقم (249) وابن ماجة في الفتن رقم 3944 وأحمد 1/ 257 و 2/ 408 و 3/ 18.

(5/73)


فأما قول نافع فكأنه: من أفرط أي: صار ذا فرط:
فهو مفرط مثل: أقطف وأجرب أي: هو ذو فرط إلى النار، وسبق إليها، فالقراءتان على هذا متقاربتا المعنى.
قال أبو الحسن: قال أهل المدينة: مفرطون، أي أفرطوا في أعمالهم.

[النحل: 66]
اختلفوا في فتح النون وضمّها من قوله تعالى: لعبرة نسقيكم [66] فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي نسقيكم بضم النون، وفي المؤمنين [21] مثله.
وقرأ ابن عامر ونافع وعاصم في رواية أبي بكر:
(نسقيكم) بفتح النون فيهما. حفص عن عاصم (نسقيكم) بضم النون، وفي المؤمنين مثلها «1».
قال أبو علي: تقول: سقيته حتى روي، أسقيه، وعلى هذا قوله وسقاهم ربهم شرابا طهورا [الإنسان/ 21]، وقال:
والذي هو يطعمني ويسقن [الشعراء/ 79] وقال: وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم [محمد/ 15]، وقال: شاربون شرب الهيم [الواقعة/ 55] وقال «2»:
انحنا فسمناها النّطاف فشارب ... قليلا وآب صدّ عن كلّ مشرب
__________
(1) السبعة 374.
(2) البيت للطفيل الغنوي- وأنخنا: حططنا- سمناها: عرضناها على الماء.
النطاف: الماء، والواحدة: نطفة. ديوانه/ 28.

(5/74)


وقوله: ويسقى من ماء صديد [إبراهيم/ 16] مثل يضرب، وليس مثل يكرم، يدل على ذلك قوله: وسقوا ماء حميما، وتقدير من ماء صديد من ماء ذي صديد فهذا خلاف قوله: وسقاهم ربهم شرابا طهورا [الإنسان/ 21].
فأما قوله: وأسقيناكم ماء فراتا [المرسلات/ 27]، وقوله: فأسقيناكموه [الحجر/ 22] فمعنى ذلك جعلناه سقيا لكم، كما تقول: أسقيته نهرا، أي جعلته شربا له، وقالوا:
سقيته في معنى: أسقيته يدل على ذلك قوله «1»:
سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميرا والقبائل من هلال
فسقى قومي: ليس يريد به ما يروي عطاشهم، ولكن يريد: رزقهم سقيا لبلادهم، يخصبون منها- وبعيد أن يسأل لقومه ما يروي العطاش، ولغيرهم ما يخصبون منه، ويبيّن ذلك قول الشاعر «2»:
أخطا الربيع بلادهم فسقوا ... ومن أجلهم أحببت كلّ يمان
فقوله: سقوا، دعا لهم بالسّقيا التي أخطأت بلادهم.
وهذا- وإن كان الأكثر فيما يرفع العطش- سقى، وفي السقيا:
__________
(1) البيت للبيد من قصيدة له يعاتب فيها قومه- ومجد: ابنة تيم بن غالب- ديوانه/ 110 والنوادر/ 213.
(2) لم نعثر على قائله.

(5/75)


أسقى، فإن من قرأ: نسقيكم يريد: إنّا جعلناه في كثرته، وإدامته كالسقيا، فهو كقولك: أسقيته نهرا. وأما من فتح النون، فإنه لما كان للشفة فتح النون، فجعله بمنزلة قوله:
وسقاهم ربهم شرابا طهورا والذين ضمّوا النون جعلوا ذلك لدوامه «1» عليهم كالسقيا لهم.
قال: كلهم قرأ: أفبنعمة الله يجحدون [71] بالياء، غير عاصم فإنه قرأ في رواية أبي بكر: (تجحدون) بالتاء. وروى حفص عن عاصم بالياء «2».
ومن قال: يجحدون بالياء، فلأنه يراد به غير المسلمين والمسلمون لا يخاطبون بجحدهم نعمة الله.
ووجه التاء: قل لهم: أفبنعمة الله بهذه الأشياء التي تقدم اقتصاصها تجحدون، ويقوّي الياء قوله: وبنعمة الله هم يكفرون [النحل/ 72].

[النحل: 68]
قال: قرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر (يعرشون) [68] بضم الراء.
وقرأ الباقون بكسر الراء، وروى حفص عن عاصم:
يعرشون بكسر الراء «3».
هما لغتان: (يعرش ويعرش) ومثله: يحشر ويحشر، ويعكف
__________
(1) في الأصل: لدوامه.
(2) السبعة 374.
(3) السبعة 374.

(5/76)


ويعكف، ويفسق ويفسق، قال أبو عبيدة «1»: كلّ شيء مما عرش فهو عريش، وحكى الضم والكسر في يعرش.

[النحل: 80]
اختلفوا في فتح العين وإسكانها من قوله عز وجلّ: يوم ظعنكم [80]. فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (ظعنكم) بفتح العين.
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: ظعنكم، ساكنة العين «2».
هما لغتان. ومثل ذلك: الشّمع والشّمع، والنّهر والنّهر، قال الأعشى:
فقد أشرب الراح قد تعلمي ... ن يوم المقام ويوم الظّعن
«3» ولا يجوز أن يكون الظّعن مخففا عن الظّعن، كما أن عضدا وكتفا ونحو ذلك، مخفّف عن الكسر والضم، ألا ترى أن من قال: في عضد، وعضد لم يخفّف نحو: جمل ورسن كما أن الذي يقول: والليل إذا يسر [الفجر/ 4] وذلك ما كنا نبغ [الكهف/ 64] لا يقول إلا: والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى [الليل/ 1، 2] وحرف الحلق وغيره في ذلك سواء.

[النحل: 96]
اختلفوا في قوله تعالى: (وليجزين الذين صبروا) [96] في الياء والنون.
__________
(1) انظر مجاز القرآن 1/ 364.
(2) السبعة 375.
(3) انظر ديوانه/ 17.

(5/77)


فقرأ ابن كثير وعاصم: ولنجزين الذين صبروا بالنون.
وقرأ نافع، وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي:
(وليجزينّ) بالياء.
عليّ بن نصر عن أبي عمرو ولنجزين بالنون مثل عاصم ولم يختلفوا في قوله: ولنجزينهم أجرهم [النحل/ 97] أنها بالنون «1».
حجّة الياء: وما عند الله باق [النحل/ 96] والنون في المعنى مثل الياء.

[النحل: 103]
اختلفوا في فتح الياء والحاء وضمها من قوله: يلحدون [103] فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: يلحدون بضم الياء وكسر الحاء وقرأ حمزة والكسائي (يلحدون) بفتح الياء والحاء «1».
حجة يلحدون بالضم قوله: ومن يرد فيه بإلحاد [الحج/ 25] ويلحدون لغة. وينبغي أن يكون الضم أرجح من حيث كان لغة التنزيل.

[النحل: 102]
قال: قرأ ابن كثير: (روح القدس) [102] خفيفة ساكنة الدال.
الباقون القدس متحركة الدال «3».
__________
(1) السبعة 375.
(3) السبعة 375.

(5/78)


قال: التحريك أكثر. والإسكان تخفيف من التحريك، وقد تقدم ذكر هذا الحرف.

[النحل: 110]
اختلفوا في فتح الفاء وضمها من قوله جل وعز: فتنوا [110] فقرأ ابن عامر وحده: (فتنوا) بفتح الفاء والتاء. وقرأ الباقون: فتنوا بضم الفاء وكسر التاء.
حجة من قال: فتنوا: أن الآية في المستضعفين المقيمين كانوا بمكة، وهم: صهيب وعمّار وبلال. فتنوا وحملوا على الارتداد عن دينهم فمنهم من أعطى للتقيّة. وروي أن عمّارا كان ممّن أظهر ذلك ثم هاجروا إلى المدينة، فالآية فيهم، والمعنى على فتنوا.
فأمّا قول ابن عامر: (فتنوا): فيكون على أنه: فتن نفسه وكأنّ المعنى: من بعد ما فتن بعضهم نفسه بإظهار ما أظهر للتقية، وكأنه يحكي الحال التي كانوا عليها من إظهار ما أخذوا به من التقية، لأن الرحمة فيه لم تكن نزلت بعد، وهي قوله:
إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم إلى قوله: إلا المستضعفين [النساء/ 97، 98] وقوله: من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [106].

[النحل: 127]
اختلفوا في فتح الضاد وكسرها من قوله عز وجل: في ضيق [127].
فقرأ ابن كثير: (في ضيق) كسرا، وكذلك روى أبو عبيد عن إسماعيل بن جعفر عن نافع، وخلف عن المسيبي عن نافع وهو غلط في روايتهما جميعا.

(5/79)


وقرأ الباقون: في ضيق وكذلك في النمل [70] من كسر هذه كسر تلك، ومن فتح هذه فتح تلك «1».
وقال أبو عبيدة: في ضيق: تخفيف ضيّق، يقال: أمر ضيّق وضيق «2».
قال أبو الحسن: الضّيق والضّيق: لغتان في المصدر، وأما المثقلة فيكون فيها التخفيف، فيكون ضيق مثل ميت، وينبغي أن يحمل على أن ضيقا مصدر، لأنك إن حملته على أنه مخفف من ضيق، فقد أقمت الصفة مقام الموصوف من غير ضرورة، والمعنى: لا تك في ضيق. أي: لا يضق صدرك من مكرهم، كما قال: وضائق به صدرك [هود/ 12] وليس المراد: لا تكن في أمر ضيّق، فمن فتح ضيقا، كان في معنى من كسر، وهما لغتان كما قال أبو الحسن.

[النحل: 112]
وكلّهم قرأ: لباس الجوع والخوف [112] بخفضهما إلا ما روى علي بن نصر وعباس بن الفضل وداود الأزديّ وعبيد بن عقيل عن أبي عمرو: (لباس الجوع والخوف) بفتح الفاء. وروى اليزيدي وغيره عن أبي عمرو لباس الجوع والخوف بكسر الفاء «1».
قوله: فأذاقها الله لباس الجوع والخوف المعنى فيه:
مقاربة الجوع لهم ومسّه إياهم، كمخالطة الذائق ما يذوقه، أو اللابس لما يلبسه، واتصاله به فأوقع عليه الذوق كما قال:
__________
(1) السبعة 376.
(2) مجاز القرآن 1/ 369.

(5/80)


دونك ما جنيته فاحس وذق «1» وكذلك لباس الجوع هو مسّه لهم كمسّ الثوب للابسه قال الشاعر «2»:
وقد لبست بعد الزبير مجاشع ... ثياب التي حاضت ولم تغسل الدما
يريد أن العار والسّبّة لحقهم، واتصل بهم لغدرهم، فجعل ذلك لباسا لهم، وقال أوس بن حجر:
وإن هزّ أقوام إلي وحدّدوا ... كسوتهم من برد برد متحم
«3» وقال آخر:
إذا ما الضجيع ثنى عطفها ... تثنّت فصارت عليه لباسا
«4» فإنّما المعنى أن اتصالها به ومسها له، كمسّ الملبوس للابسه، ومن ثمّ جاء في التنزيل: هن لباس لكم وأنتم لباس
__________
(1) هذا شطر بيت. في البحر المحيط 5/ 543 ولم ينسبه لقائل.
(2) هذا البيت لجرير، وقد سبق في 2/ 327.
(3) متحم: من البز الأتحمي وهو ضرب من برود اليمن، يقول: أكسوهم من أحسن ذلك البز، وإنما هذا مثل: أي أهجوهم هجاء يرى عليهم ويشتهرون به كما يشتهر به صاحب هذا اللباس.
انظر ديوان أوس/ 123 وفيه: «خبر بز» بدل «برد برد».
(4) البيت للنابغة الجعدي وهو في شعره ص 81 من قصيدة. والبحر المحيط 5/ 543 ونسبه للأعشى وانظر مجاز القرآن 1/ 67.

(5/81)


لهن [البقرة/ 187] ولذلك سمى المرأة إزارا في قوله:
ألا أبلغ أبا حفص رسولا ... فدى لك من أخي ثقة إزاري
«1» فسمّى المرأة إزارا، كما جاء هن لباس لكم وأنتم لباس لهن فالجر على لباس الجوع ولباس الخوف، جعل مسّ كلّ واحد منهما لأصحابهما كمس الآخر لهم، وجعل للجوع لباسا كما جعله للخوف. ويقوّي الجر في الخوف أنّ في حرف أبيّ لباس الخوف والجوع فقد جعل للخوف لباسا، كما جعله للجوع.
وأما ما روي من نصب الخوف عن أبي عمرو فإنه حمله على الإذاقة، والخوف لا يذاق في الحقيقة، فإذا لم يذق على الحقيقة كان حمله على اللباس أولى، لأن اللباس أقرب إليه من الإذاقة، فحمله على الأقرب أولى، وليكونا محمولين على عامل واحد، كما كان في قوله: ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع [البقرة/ 155] الحمل على عامل واحد.
__________
(1) البيت لجعدة بن عبد الله السلمي من قصيدة أرسلها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشير فيها إلى حال وال كان على مدينتهم. فدى لك: أي أهلي ونفسي انظر اللسان (أزر).

(5/82)