الحجة للقراء السبعة

ذكر اختلافهم في بني إسرائيل
[الاسراء: 2]
اختلفوا في الياء والتاء من قوله عز وجل: ألا تتخذوا من دوني وكيلا.
فقرأ أبو عمرو وحده: (ألّا يتّخذوا) بالياء.
وقرأ الباقون: ألا تتخذوا بالتاء «1».
قال أبو علي: وجه قول من قرأ بالياء، أن المتقدم ذكرهم على لغة الغيبة فالمعنى: هديناهم أن لا يتخذوا من دوني وكيلا.
ومن قرأ بالتاء فهو على الانصراف إلى الخطاب بعد الغيبة مثل قوله: الحمد لله ثم قال: إياك نعبد [الفاتحة/ 5]، والضمير في تتخذوا وإن كان على لغة الخطاب فإنّما يعني به الغيب في المعنى، ومن زعم أنّ (أن لا يتّخذوا من دوني) على إضمار القول، كأنّه يراد به: قال: أن لا تتخذوا، لم يكن قوله هذا متّجها، وذلك أن القول لا يخلو من أن يقع بعد جملة تحكى، أو معنى جملة يعمل في لفظه القول، فالأول كقوله: قال زيد: عمرو منطلق، فموضع الجملة نصب
__________
(1) السبعة 378.

(5/83)


بالقول، والآخر: يجوز أن يقول القائل: لا إله إلا الله، فتقول: قلت حقّا، أو يقول: الثلج حار، فتقول: قلت باطلا، فهذا معنى ما قاله، وليس نفس المقول، وقوله: (أن لا تتخذوا) خارج من هذين الوجهين، ألا ترى أن ألا تتخذوا ليس هو بمعنى القول، كما أن قولك حقّا، إذا سمعت كلمة الإخلاص: معنى القول، وليس قوله:
(أن لا تتّخذوا) بجملة، فيكون كقولك: قال زيد: عمرو منطلق.
ويجوز أن تكون (أن) بمعنى: أي التي بمعنى التفسير، وانصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب كما انصرف منها إلى الخطاب في قوله: وانطلق الملأ منهم أن امشوا [ص/ 6] والأمر، وكذلك انصرف من الغيبة إلى النهي في قوله: (أن لا تتخذوا)، وكذلك قوله:
أن اعبدوا الله ربي [المائدة/ 117] في وقوع الأمر بعد الخطاب، ويجوز أن يضمر القول ويحمل تتخذوا على القول المضمر إذا جعلت (أن) زائدة، فيكون التقدير: وجعلناه هدى لبني إسرائيل، فقلنا: لا تتخذوا من دوني وكيلا.
فيجوز إذن في قوله: (أن لا تتخذوا) ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون أن الناصبة للفعل، فيكون المعنى: وجعلناه هدى كراهة أن تتخذوا من دوني وكيلا، أو لأن لا يتخذوا من دوني وكيلا.
والآخر: أن تكون بمعنى (أي)، لأنه بعد كلام ناه، فيكون التقدير: أي لا تتخذوا.
والثالث: أن تكون (أن) زائدة وتضمر القول.
فأمّا قوله: ذرية من حملنا، [الإسراء/ 3] فيجوز أن يكون

(5/84)


مفعول الاتخاذ، لأنه فعل يتعدى إلى مفعولين، كقوله: واتخذ الله إبراهيم خليلا [النساء/ 125]. وقوله: اتخذوا أيمانهم جنة [المجادلة/ 16] فأفرد الوكيل وهو في معنى الجمع، لأن فعيلا يكون مفرد اللفظ والمعنى على الجمع، نحو قوله: وحسن أولئك رفيقا [النساء/ 69]. فإذا حمل على هذا كان مفعولا ثانيا في قول من قرأ بالتاء، والياء.
ويجوز أن يكون نداء وذلك على قول من قرأ بالتاء: ألا تتخذوا يا ذرية، ولا يسهل أن يكون نداء على قول من قرأ بالياء، لأن الياء للغيبة والنداء للخطاب، ولو رفع الذرية على البدل من الضمير في قوله: أن لا تتخذوا كان جائزا، وقد ذكر أنها قراءة. ولو رفع على البدل من الضمير المرفوع كان جائزا، ويكون التقدير: أن لا تتّخذ ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلا، ولو جعله بدلا من قوله بنى إسرائيل جاز، وكان التقدير: وجعلناه هدى لذرية من حملنا مع نوح.

[الاسراء: 7]
اختلفوا في قوله: ليسوءوا وجوهكم [7].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو، وحفص عن عاصم:
ليسوءوا بالياء جماع، همزة بين واوين.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر وحمزة: (ليسوء) على واحد بالياء.
وقرأ الكسائي: (لنسوء) بالنون «1».
قال أبو علي: قوله: لتفسدن في الأرض مرتين [الإسراء/ 4] المعنى: فإذا جاء وعد الآخرة، أي: المرّة الآخرة من قوله: لتفسدن
__________
(1) السبعة 378.

(5/85)


في الأرض مرتين بعثناهم ليسوءوا وجوهكم، فحذف بعثناهم، لأن ذكره قد تقدم، ولأنه جواب إذا وشرطها تقتضيه، فحذف للدّلالة عليه.
فأما ليسوءوا فقال أبو زيد: سؤته مساءة، ومسائية، وسواية.
وقال: وجوهكم على أنّ الوجوه مفعول به لسؤت، وعدي إلى الوجوه لأن الوجوه قد يراد بها ذوو الوجوه، كقوله: كل شيء هالك إلا وجهه [القصص/ 88] وقال: وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة [عبس/ 38، 39] وقال: وجوه يومئذ ناضرة [القيامة/ 22] ووجوه يومئذ باسرة [القيامة/ 24]. وقال النابغة:
أقارع عوف لا أحاول غيرها ... وجوه قرود تبتغي من تجادع
«1».
وكأنّ الوجوه إنما خصّت بذلك لأنها تدلّ على ما كان في ذوي الوجوه من الناس من حزن، ومسرّة، وبشارة، وكآبة.
فأما ليسوءوا فالحجة له أنه أشبه بما قبله وما بعده، ألا ترى أن الذي يراد قبله: بعثناهم، وبعده: ليدخلوا المسجد، وهو بيت المقدس، والمبعوثون في الحقيقة هم الذين يسوءونهم بقتلهم إياهم وأسرهم لهم، فهو وفق المعنى.
فأما وجه قول من قرأ: (ليسوء وجوهكم): بالياء، ففاعل ليسوء يجوز أن يكون أحد شيئين:
أحدهما: أن يكون اسم الله عز وجل لأن الذي تقدّم: بعثنا، ورددنا لكم وأمددناكم بأموال.
__________
(1) انظر ديوانه ص 50 والكتاب 1/ 252 وابن الشجري 1/ 344، والخزانة 1/ 426.

(5/86)


والآخر: أن يكون البعث دل عليه: بعثنا المتقدم كقوله: لا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم [آل عمران/ 180]، أي: البخل.
ومن قرأ (لنسوء) بالنون كان في المعنى كقول من قدر أن الفاعل ما تقدم من اسم الله، وجاز أن تنسب المساءة إلى الله سبحانه وتعالى، وإن كانت من الذين جاسوا خلال
الديار في الحقيقة لأنهم فعلوا المساءة بقوة الله عز وجل وتمكينه لهم، فجاز أن ينسب إليه كما: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى [الأنفال/ 17].

[الاسراء: 13]
اختلفوا في قوله عز وجل: كتابا يلقاه منشورا [13].
فقرأ ابن عامر وحده: (كتابا يلقاه) بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف.
وقرأ الباقون: يلقاه بفتح الياء وتسكين اللام وتخفيف القاف.
حمزة والكسائي: يميلان القاف «1».
من قرأ (يخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) فالمعنى: يخرج طائره له كتابا يلقاه منشورا، وهي قراءة الحسن ومجاهد فيما زعموا.
فأما طائره فقيل فيه: حظّه، وقيل: عمله. وما قدّم من خير أو شرّ، فيكون المعنى على هذا، ويخرج عمله كتابا أي ذا كتاب ومعنى ذا كتاب: أنه مثبت في الكتاب الذي قيل فيه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها [الكهف/ 49] وقوله: أحصاه الله ونسوه [المجادلة/ 6] وقال: هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت [يونس/ 30] وقوله: هاؤم اقرؤوا كتابيه [الحاقة/ 19].
__________
(1) السبعة 378

(5/87)


وإنما قيل لعمله طائر، وطير في بعض القراءة على حسب تعارف العرب لذلك في نحو قولهم: جرى طائره بكذا. ومثل هذا في ياسين: قالوا طائركم معكم [19] وفي الأعراف: إنما طائرهم عند الله [131]. وروينا عن أحمد بن يحيى عن أبي المنهال المهلبي قال: حدثنا أبو زيد الأنصاري: أن ما مرّ من طائر أو ظبى أو غيره فكلّ ذلك عندهم طائر، وأنشد أبو زيد لكثير في تصييرهم كل ما زجر طائرا، وإن كان ظبيا أو غيره من البهائم. فقال:
فلست بناسيها ولست بتارك إذا عرض الأدم الجواري سؤالها قال: ثم أخبر في البيت الثاني أن الذي زجره طائر فقال:
أأدرك من أم الحكيم غبطة ... بها خبّرتني الطّير أم قد أتى لها
«1» وأنشد لزهير في ذلك:
فلمّا أن تفرق آل ليلى ... جرت بيني وبينهم ظباء
جرت سنحا فقلت لها مروعا ... نوى مشمولة فمتى اللقاء
«1» قال أبو زيد: فقولهم: سألت الطير، وقلت للطير: إنما هو:
__________
(1) انظر ديوان زهير/ 59. وفيه «تحمل أهل» بدل «تفرق آل» و «الظباء» بدل «ظباء» و «أجيزي» بدل «مروعا».

(5/88)


زجرتها، وقولهم: خبرتني الظباء والطير بكذا: إنما هو وقع زجري عليها على كذا وكذا من خير وشرّ، ويقوّى ما ذكره أبو زيد قول الكميت:
ولا أنا ممّن يزجر الطير همّه ... أصاح غراب أم تعرّض ثعلب
«1» وأنشد لحسان بن ثابت:
ذريني وعلمي بالأمور وسيرتي ... فما طائري فيها عليك بأخيلا
«2» أي: رأيي ليس بمشئوم، وأنشد لكثير:
أقول إذا ما الطير مرّت مخيلة ... لعلّك يوما فانتظر أن تنالها
مخيلة: مكروهة. وهو من الأخيل.
فأمّا قوله في عنقه [الإسراء/ 13] فمعناه والله أعلم: لزوم ذلك له وتعلّقه به، وهذا مثل قولهم: طوقتك كذا، وقلّدتك كذا، أي صرفته نحوك، وألزمته إياك. ومنه: قلده السلطان كذا، أي: صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة، ومكان الطوق، قال الأعشى:
قلّدتك الشّعر يا سلامة ذا ال ... إفضال والشّعر حيث ما جعلا
«3»
__________
(1) البيت من قصيدة للكميت من هاشمياته.
انظر شرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 32، والخزانة 2/ 207.
(2) انظر ديوانه 1/ 44، وفيه: «وشيمتي» بدل «وسيرتي» واللسان (خيل).
(3) ديوانه/ 235 وفيه: «التفاضل» بدل «الإفضال» و «والشيء» بدل «والشعر».

(5/89)


وقال أوس بن حجر:
تجول وفي الأعناق منها خزاية ... أوابدها تهوي إلى كلّ موسم
«1» وقال الهذليّ:
فليست كعهد الدار يا أمّ خالد ... ولكن أحاطت بالرّقاب السلاسل
«2» وأنشد الأصمعيّ:
إنّ لي حاجة إليك فقالت ... بين أذني وعاتقي ما تريد
ومن قرأ: ونخرج له يوم القيامة كتابا، وهو قراءة الجمهور، فالكتاب ينتصب بأنه مفعول به كقوله: هاؤم اقرؤوا كتابيه [الحاقة/ 19] وقوله: اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [الإسراء/ 14]، هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [الجاثية/ 29].
فأما قوله: يلقاه منشورا فيدلّ عليه قوله: وإذا الصحف نشرت [التكوير/ 10]. فأما من قرأ: (يلقاه) فهو من قولك: لقيت الكتاب، فإذا ضعفت قلت: لقانيه زيد، فيتعدى الفعل بتضعيف العين إلى مفعولين بعد ما كان يتعدّى بغير التضعيف إلى مفعول واحد. فإذا
__________
(1) ديوانه/ 123، وفيه: «يخيل في» بدل «تجول»، و «منا» بدل «منها».
ويقصد: القصائد السائرة التي تنشد في المواسم وتكون خزاية في أعناق المهجوين.
(2) شرح أشعار الهذليين 3/ 1223 ورواية صدره: «فليس كعهد الدار يا أمّ مالك» وأراد: الإسلام أحاط برقابنا فلا نستطيع أن نعمل شيئا.

(5/90)


بني الفعل للمفعول به نقص مفعول من المفعولين، لأن أحدهما يقوم مقام الفاعل في إسناده فيبقى متعديا إلى مفعول واحد، وعلى هذا قوله: ويلقون فيها تحية وسلاما [الفرقان/ 75] وفي البناء للفاعل:
ولقاهم نضرة وسرورا [الإنسان/ 11].
وإمالة حمزة والكسائي القاف حسنة وتركها حسن.

[الاسراء: 16]
قال: ولم يختلفوا في قوله: أمرنا مترفيها [16] أنها خفيفة الميم، إلا ما روى خارجة عن نافع: (آمرنا) ممدودة مثل: آمنا، حدّثني موسى بن إسحاق القاضي قال: حدثنا هارون بن حاتم، قال:
حدّثنا أبو العباس ختن ليث قال: سمعت أبا عمرو يقرأ: (أمرنا مترفيها)، مشدّدة الميم.
وروى نصر بن عليّ عن أبيه عن حماد بن سلمة، قال سمعت ابن كثير يقرأ: (آمرنا) ممدودا «1».
قال أبو عبيدة: (أمّرنا) «2» أي: أكثرنا، يقال: أمر بنو فلان، إذا كثروا، وأنشد للبيد:
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا ... يوما يصيروا للقلّ والنّفد
«3» قال: وقال بعضهم أمرنا [مثل أخذنا وهي] في معنى: أكثرنا،
__________
(1) السبعة 379.
(2) في «مجاز القرآن»: (آمرنا) وهما سواء كما سيذكر المصنّف.
(3) ديوانه 160 (ط الكويت) من قصيدة وفيه: «للهلك» بدل «للقل».
وهي كذلك في مجاز القرآن. و «النكد» بدل «النفد».
قال شارحه: إن غبطوا يوما فإنهم يموتون، ويهبطوا هاهنا: يموتون.

(5/91)


قال: وزعم يونس أن أبا عمرو قال: لا يكون في هذا المعنى أمرنا، قال أبو عبيدة: وقد وجدنا تثبيتا لهذه اللغة:
«سكّة مأبورة، ومهرة مأمورة»
«1». أي: كثيرة الولد. قال: وقال قوم: أمرنا: من الأمر والنهي «2».
قال أبو علي: لا يخلو قوله: أمرنا فيمن خفّف العين، من أن يكون فعلنا من الأمر، أو من: أمر القوم، وأمرتهم، مثل شترت عينه، وشترتها، ورجع ورجعته، وسار وسرته. فمن لم ير أن يكون أمرنا من أمر القوم، إذا كثروا، كأبي عمرو، فإنّ يونس حكى ذلك عنه، فإنّه ينبغي أن يجعل أمرنا من الأمر الذي هو خلاف النهي، ويكون المعنى أمرناهم بالطاعة فعصوا، وفسقوا. ومن قال: (آمرنا مترفيها) فإنه يكون: أفعلنا، من أمر القوم، إذا كثروا، وآمرهم الله، أي:
أكثرهم. وذلك إن ضاعف فقال: أمّرنا، ونظير ذلك قولهم: سارت الدابة وسيّرتها، وسرتها، وفي التنزيل: هو الذي يسيركم في البر والبحر [يونس/ 22]. وقال لبيد:
لسيّان حرب أو تبوءوا بخزية ... وقد يقبل الضّيم الذليل المسيّر
«3» وكما عدّي بتضعيف العين، كذلك يعدّى بالنقل بالهمز، فيكون آمرنا. وزعم الجرميّ أن آمرنا أكثر في اللغة، ومثل أمر وأمرته، سلك وسلكته، وفي التنزيل: كذلك سلكناه في قلوب المجرمين
__________
(1) وهو من حديث سويد بن هبيرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رواه أحمد في مسنده 3/ 468.
(2) مجاز القرآن 1/ 373 وما بين معقوفين منه.
(3) ديوانه 226 (ط الكويت) وفيه: «لشتّان» بدل «لسيّان».

(5/92)


[الحجر/ 12] وما سلككم في سقر [المدثر/ 42] وقال:
حتّى إذا سلكوهم في قتائدة «1» ...
ويقوّي حمل أمرنا على النقل من أمر، وإن لا يجعل من الأمر الذي هو خلاف النهي، لأن الأمر بالطاعة على هذا يكون مقصورا على المترفين، وقد أمر الله بطاعته جميع خلقه، من مترف وغيره، ويحمل أمرنا على أنه مثل: آمرنا. ونظير هذا كثر وأكثره الله وكثره، ولا يحمل أمرنا على المعنى: جعلناهم أمراء، لأنه لا يكاد يكون في قرية واحدة عدّة أمراء، فإن قلت: يكون منهم الواحد بعد الواحد، فإنهم إذا كانوا كذلك لا يكثرون في حال، وإنما يهلك الله لكثرة المعاصي في الأرض، وعلى هذا جاء الأمر في التنزيل في قوله: يا عباد الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياى فاعبدون [العنكبوت/ 56] فأمرهم بالهجرة من الأرض التي تكثر فيها المعاصي إلى ما كان بخلاف هذه الصفة.
ومما جاء فيه أمر بمعنى الكثرة قول زهير:
والإثم من شرّ ما يصال به ... والبرّ كالغيث نبته أمر
«2» فقوله: أمر: اسم الفاعل من أمر يأمر، وزعموا أن في حرف أبيّ (بعثنا فيها أكابر مجرميها) «3» فهذا يقوي معنى الكثرة.
__________
(1) هذا صدر بيت لعبد مناف بن ربع الهذلي عجزة:
شلّا كما تطرد الجمّالة الشّردا انظر شرح أشعار الهذليين 2/ 675 واللسان (قتد) و (سلك). وجاءت روايته فيها: «أسلكوهم» بدل «سلكوهم». وقتائدة: مكان. والشل: الطرد، والجمالة: أصحاب الجمال.
(2) البيت في ديوان/ 315، ما يصال به: ما يفتخر به.
(3) نص الآية في غير ما زعموه في الأنعام/ 123: وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها.

(5/93)


[الاسراء: 23]
اختلفوا في فتح الفاء وكسرها من قوله: فلا تقل لهما أف والتنوين [23].
فقرأ ابن كثير، وابن عامر (أفّ ولا) بفتح الفاء.
وقرأ نافع: أف ولا بالتنوين، وكذلك في الأنبياء [67] والأحقاف [17] حفص عن عاصم مثله.
وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي (أفّ) خفضا بغير تنوين «1».
قول ابن كثير: (أفّ ولا) الفاء فيه مبني على الفتح، لأنه وإن كان في الأصل مصدرا في قولهم: أفة وتفة، يراد بها: نتنا وذفرا، قد سمّي الفعل به فبني، وهذا في البناء على الفتح كقولهم: «سرعان ذي إهالة» «2» كما صار اسما لسرع، وكذلك أفّ، لما كان اسما لأتكره وأتفجّر ونحو ذلك، ومثل سرعان قولهم: وشكان ذلك، وأنشد أبو زيد:
لو شكان لو غنيتم وشمتم ... بإخوانكم والعزّ لم يتجمّع
«3» ومثل ذلك قولهم: رويد، في أنه سمّي به الفعل فبني ولم يلحق
__________
(1) السبعة 379.
(2) هذا مثل وأصله أن رجلا كان يحمق، اشترى شاة عجفاء يسيل رغامها هزالا وسوء حال، فظن أنه ودك، فقال: سرعان ذا إهالة. انظر اللسان (سرع) والأمثال لابن سلام 305.
(3) هذا البيت للحناك (أو الحبال) وهو أخو بني أبي بكر الكلابي جاهلي. كما في النوادر (ط. الفاتح) ص 284 وفيه: «والغرّ لم يتجمعوا» وهو عند الآمدي في المؤتلف والمختلف 118، واللسان (وشك) مع اختلاف في الرواية. وفي النوادر عن أبي الحسن: الثبت عندي أن العرب تقول:
لو شكان ولو شكان بالضم والفتح ...

(5/94)


التنوين، إلا أن هذا في الأمر والنهي، وأفّ في الخبر. وقال:
رويد عليّا جدّ ما ثدي أمّهم ... إلينا ولكن بغضهم متماين
«1» وقول نافع: أف ولا فإنه في البناء على الكسر مع التنوين مثل (أفّ) في البناء على الفتح، إلا أنه بدخول التنوين دل على التنكير مثل إيه، وصه، ومثله قولهم: فداء لك، فبنوه على الكسر وإن كان في الأصل مصدرا، كما كان أفة في الأصل كذلك، ومن قال: أفّ، ولم ينون جعله معرفة فلم ينوّن، كما أن من قال: صه وغاق «2» فلم ينوّن أراد به المعرفة، فإن قلت: ما موضع أفّ في هذه اللغات بعد القول، هل يكون موضعه نصبا كما ينتصب المفرد بعده، أو كما تكون الجمل؛ فالقول إن موضعه موضع الجمل، كما أنك لو قلت: رويد، لكان موضعه موضع الجمل، وكذلك لو قلت: فدا.
قال أبو الحسن: وقول الذين قالوا: أفّ أكثر وأجود، ولو جاء أفّ لك، وأفّا لك، لاحتمل أمرين: أحدهما أن يكون الذي صار اسما للفعل، لحقه التنوين لعلامة التنكير. والآخر: أن يكون نصبا معربا، وكذلك الضم، فإن لم يكن معه لك كان ضعيفا، ألا ترى أنك لا تقول: ويل حتى توصل به: لك، فيكون في موضع الخبر.
__________
(1) البيت للمعطل الهذلي انظر شرح أشعار الهذليين 1/ 447 والمقتضب 3/ 208، 278 وفيه: ودّهم بدل بغضهم، وسيبويه 1/ 124 واللسان (جدد)
(بين) والأشموني 3/ 202. والمين: الكذب. والمعنى: أمهلهم حتى يئوبوا إلينا ويرجعوا عماهم عليه من قطيعتهم وبغضهم، فقطيعتهم لنا على غير أصل وبغضهم إيانا لا حقيقة له. انظر شرح الأعلم 1/ 124.
(2) غاق: حكاية صوت الغراب فإن نكرته نونته، ثم سمي الغراب غاقا، فيقال:
سمعت صوت الغاق. انظر اللسان (غوق).

(5/95)


[الاسراء: 23]
اختلفوا في التوحيد والتثنية من قوله عز وجل: إما يبلغن عندك [الإسراء/ 23].
فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم وابن عامر: (إمّا يبلغن عندك) على واحد. وقرأ حمزة والكسائي: (يبلغان) «1».
قال أبو علي: (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما) مرتفع بالفعل وقوله: أو كلاهما معطوف عليه. والذكر الذي عاد من قوله (أحدهما) يغني عن إثبات علامة الضمير في (يبلغان) فلا وجه لمن قال: إن الوجه ثبات الألف لتقديم ذكر الوالدين. ووجه ذلك أنه على الشيء الذي يذكر على وجه التوكيد، ولو لم يذكر لم يقع بترك ذكره إخلال نحو قوله: أموات غير أحياء [النحل/ 21] وقوله: غير أحياء توكيد، لأن قوله أموات قد دلّ عليه.

[الاسراء: 31]
اختلفوا في قوله جل وعز: خطئا كبيرا [31].
فقرأ ابن كثير: (خطاءا كبيرا)، مكسورة الخاء، ممدودة مهموزة وقرأ ابن عامر: (خطأ) بنصب الخاء. والطاء وبالهمز من غير مدّ.
وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي: خطأ مكسورة الخاء ساكنة الطاء مهموز مقصور.
وروى عبيد عن شبل عن ابن كثير خطأ مثل أبي عمرو «2».
قول ابن كثير: (خطاءا كبيرا)، يجوز أن يكون مصدر خاطأ،
__________
(1) السبعة 379.
(2) السبعة 379، 380.

(5/96)


وإن لم يسمع خاطأ، ولكن قد جاء ما يدل عليه. وذلك أن أبا عبيدة أنشد:
تخاطأت النّبل أحشاءه «1» وأنشد محمد بن السّري في وصف كمأة:
وأشعث قد ناولته أحرش القرى أربّت عليه المدجنات الهواضب «2» تخاطأه القعّاص حتى وجدته وخرطومه «3» في منقع الماء راسب فتخاطأت يدلّ على خاطأ لأن تفاعل مطاوع فاعل كما أن تفعل مطاوع فعل.
وقول ابن عامر: (خطأ) فإن الخطأ ما لم يتعمّد، وما كان المأثم فيه موضوعا عن فاعله، وقد قالوا: أخطأ في معنى خطئ، كما أن خطئ في معنى أخطأ، وقال:
عبادك يخطئون وأنت ربّ ... كريم لا تليق بك الذموم
«4» ففحوى الكلام أنهم خاطئون، وفي التنزيل: لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [البقرة/ 286] فالمؤاخذة عن المخطئ موضوع، فهذا
__________
(1) سبق في ص 300.
(2) أحرش القرى: في ظهره أثر. والقعاص: من القعص وهو القتل المعجل.
الهواضب: الممطرة.
(3) في الأصل: خرطوموه.
(4) ورد في التهذيب (خطئ) 7/ 498 واللسان (خطأ) بدون عز وجل وفيهما «يخطئون» بدل «يخطئون».

(5/97)


يدلّ على أن أخطأنا في معنى خطئنا، وكما جاء أخطأ في معنى خطئ، كذلك جاء خطئ في معنى أخطأ في قوله:
يا لهف نفسي إذ خطئن كاهلا «1» وفي قول الآخر:
والناس يحلون الأمير إذا هم ... خطئوا الصواب ولا يلام المرشد
«2» أي: أخطئوه. فكذلك قول ابن عامر: خطأ في معنى خطئا جاء الخطأ في معنى الخطء، كما جاء خطئ في معنى الخطأ.
ووجه قول من قرأ: خطأ بيّن، يقال: خطئ يخطأ خطئا: إذا تعمد الشيء، حكاه الأصمعى، والفاعل منه خاطئ، وقد جاء الوعيد فيه في قوله عز وجل: لا يأكله إلا الخاطئون [الحاقة/ 37] ويجوز في قول ابن عامر أن يكون الخطأ لغة في الخطء. مثل: المثل والمثل، والشّبه والشّبه، والبدل والبدل. وقال أبو الحسن: هذا خطاء من رأيك. فيمكن أن يكون خطاء لغة فيه أيضا.

[الاسراء: 33]
اختلفوا في الياء والتاء من قوله: (فلا تسرف في القتل) [33].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم: فلا يسرف بالياء جزما.
__________
(1) سبق انظر 2/ 115.
(2) سبق انظر 2/ 116 وانظر معاني القرآن للأخفش 2/ 389.

(5/98)


وقرأ حمزة وابن عامر والكسائي بالتاء جزما «1».
قوله: فلا يسرف في القتل: فاعل يسرف يجوز أن يكون أحد شيئين:
أحدهما: أن يكون القاتل الأول فيكون التقدير: فلا يسرف القاتل في القتل، وجاز أن يضمر، وإن لم يجر له ذكر، لأن الحال يدل عليه. فإن قلت: أمر بأن لا يسرف في القتل، والإسراف: مجاوزة الاقتصاد، بدلالة قوله: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما [الفرقان/ 67] أي: كان قصدا بين السرف وأن يقتر، ولا يكون في القتل قصد بين شيئين كما كان ذلك في الإنفاق، قيل: لا يمتنع أن يكون فيه الإسراف كما جاء في أموال اليتامى: ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا [النساء/ 6] ولم يجز أن يأكل منه على الاقتصاد ولا على غيره. لقوله إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا [النساء/ 10] وقال: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن [الإسراء/ 34] فحظر كل مال اليتيم حظرا عاما على جميع الوجوه، فكذلك لا يمتنع أن يقال للقاتل الأول: لا تسرف في القتل، لأنه يكون لقتله مسرفا، ويدلّ على جواز وقوع الإسراف عليه قوله: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم [الزمر/ 53] والقاتل يدخل في هذا في قوله: إنه كان منصورا، لقوله: ومن قتل مظلوما تقديره: فلا يسرف القاتل المبتدئ في القتل، لأنّ من قتل مظلوما كان منصورا كأن يقتصّ له وليّه أو السلطان إن لم يكن له وليّ
__________
(1) السبعة 380.

(5/99)


غيره، ليكون هذا ردعا للقاتل عن القتل. كما أن قوله: ولكم في القصاص حياة [البقرة/ 179] كذلك، فالوليّ إذا اقتصّ فإنما يقتصّ للمقتول، ومنه انتقل إلى الوليّ بدلالة أن المقتول لو أنّه أبرأ من السبب المؤدّى إلى القتل لم يكن للولي أن يقتص، ولو صالح الوليّ من العمد على مال، كان للمقتول أن يؤدّي منه ديته «1»، ولا يمتنع أن يقال في المقتول: منصور، لأنّه قد جاء: ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا [الأنبياء/ 77].
والآخر: أن يكون في (يسرف) ضمير الولي فلا يسرف الولي في القتل، وإسرافه فيه: أن يقتل غير من قتل، أو يقتل أكثر من قاتل وليه، وكان مشركوا العرب يفعلون
ذلك، والتقدير: فلا يسرف الوليّ في القتل، إن الولي كان منصورا بقتل قاتل وليّه، والاقتصاص من القاتل.
ومن قرأ: (فلا تسرف) بالتاء، احتمل أيضا وجهين:
أحدهما: أن يكون المبتدئ القاتل ظلما، فقيل له: لا تسرف أيها الإنسان فتقتل ظلما من ليس لك قتله، إن من قتل ظلما كان منصورا بأخذ القصاص له.
والآخر: أن يكون الخطاب للوليّ فيكون التقدير: لا تسرف في القتل أيها الوليّ، فتعدّى قاتل وليّك إلى من لم يقتله، إن المقتول ظلما كان منصورا، وكلّ واحد من المقتول ظلما. ومن وليّ المقتول قد تقدّم ذكره في قوله: ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا [الإسراء/ 33].
__________
(1) في الأصل: دينه.

(5/100)


[الاسراء: 35]
اختلفوا في ضم القاف وكسرها من قوله عز وجل:
بالقسطاس [الإسراء/ 35].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر: (بالقسطاس) بضم القاف. وفي الشعراء [182] مثله.
حفص عن عاصم بالقسطاس كسرا.
وقرأ حمزة والكسائي بكسر القاف فيهما جميعا «1».
قال: القسطاس والقسطاس لغتان، ومثله القرطاس والقرطاس.
قال أبو الحسن: الضمّ في القسطاس أكثر. وهذا كقوله: وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان [الرحمن/ 9]، وكقوله: الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون [المطففين/ 2، 3] وكقوله: ولا تنقصوا المكيال والميزان [هود/ 84] والوعيد في البخس في المكيال والميزان إنما يلحق من نقص أو بخس ما يتقارب بين الكيلين والوزنين، فأمّا ما لا يتقارب من الزيادة والنقصان بينهما فهو إن شاء الله موضوع، لأن ذلك لا يخلو الناس منه، فليس عليهم إلا الاجتهاد في الإيفاء. وكذلك جاء في الأنعام لما ذكرهما لا نكلف نفسا إلا وسعها [الأنعام/ 152] إنما عليه الاجتهاد في تحرّيه الإيفاء وقصده له، وأما ما لا يضبط فموضوع عنه، لأنه لم يكلّف في ذلك إلا الوسع.

[الاسراء: 31]
اختلفوا في الإضافة والتنوين من قوله: كان سيئه عند ربك [الإسراء/ 38].
__________
(1) السبعة 380.

(5/101)


فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (سيّئة) غير مضاف مؤنثا.
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: سيئه مضافا مذكّرا «1».
زعموا أن الحسن قرأ: كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها [الإسراء/ 38] وقال: قد ذكر أمورا قبل منها حسن ومنها سيّئ، فقال:
كل ذلك كان سيئه لأن فيما ذكر الحسن والسّيّئ من المذكور المكروه، ويقوّي ذلك قوله: مكروها التذكير فيه، ولو كان (سيّئه) غير مضاف لزم أن يكون مكروهة، فإن قيل: إن التأنيث غير حقيقي، ولا يمتنع أن يذكّر، قيل: تذكير هذا لا يحسن، وإن لم يكن حقيقيا لأن المؤنث قد تقدّم ذكره، ألا ترى أن قوله:
ولا أرض أبقل إبقالها «2» مستقيم عندهم ولو قال: أبقل أرض، لم يستقبح، فليس ما تقدّم ذكره مما أريت بمنزلة ما لم يتقدّم ذكره، لأن المتقدم الذكر ينبغي أن يكون الراجع وفقه، كما يكون وفقه في التثنية والجمع، فإذا لم يتقدّم له ذكر لم يلزم أن يراعى هذا الذي روعي في المتقدم ذكره.
وجه من قال: (كل ذلك كان سيئه) أنه يشبه أن يكون لما رأى الكلام انقطع عند قوله ذلك خير وأحسن تأويلا [الإسراء/ 35] وكان الذي بعد من قوله: ولا تقف ما ليس لك به علم [36] أمرا حسنا فيه. كما كان بعد قوله: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه [23] إلى
__________
(1) السبعة 380.
(2) سبق في 4/ 238. وانظر الأشموني 2/ 53.

(5/102)


قوله: ولن تبلغ الجبال طولا [37] منه حسن ومنه سيّئ، قال:
(كل ذلك كان سيئة)، فأفرد ولم يضف.
فإن قلت: فكيف ذكر المؤنث في قوله: مكروها فإنه يجوز أن لا يجعله صفة لسيئة، فيلزم أن يكون له فيه ذكر، ولكن يجعله بدلا، ولا يلزم أن يكون في البدل ذكر المبدل منه كما وجب ذلك في الصفة ويجوز أن يكون قوله: مكروها حالا من الذكر الذي في قوله: عند ربك على أن يجعل عند ربك مكروها صفة للنكرة سيئة.
والسيئة والحسنة قد جاءتا في التنزيل على ضربين: أحدهما مأخوذ بها، وحسنة مثاب عليها، كقوله: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها [الأنعام/ 160] وتكون الحسنة والسيئة لما يستثقل في الطباع أو يستخفّ نحو قوله: فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه [الأعراف/ 131] وكقوله: ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا [الأعراف/ 95] فهذا على الخصب والجدب، وكذلك الفساد قد يكون فسادا معاقبا عليه كقوله: ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين [القصص/ 77] ويكون على ذلك: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس [الروم/ 41] فهذا على الجدب، والبحر: الريف «1» قال:
حسبت فيه تاجرا بصريّا ... نشر من ملائه البحريّا
«2»
__________
(1) انظر تفسير الطبري 21/ 49 وتفصيل ذلك فيه.
(2) رجز في إيضاح الشعر 496 للمصنّف. وهو مما أنشده الأصمعي، قال فيه:
أراد بالبحري: الريفيّ. وفي تهذيب اللغة (بحر) 5/ 41: البيت الأول، برواية: «كأن» بدل «حسبت».

(5/103)


وكذلك السوء كقوله: إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين [النحل/ 27] وقوله: تخرج بيضاء من غير سوء [طه/ 22] ومن الجدب والخصب قوله: ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك فقوله: فمن نفسك اي: عقوبة معجلة، كما أنّ قوله: بما كسبت أيدي الناس كذلك.

[الاسراء: 41]
اختلفوا في تشديد الذال وتخفيفها من قوله جل وعز:
ليذكروا [الإسراء/ 41].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر ليذكروا مشدّدا، وكذلك في الفرقان [50].
وقرأ حمزة والكسائي (ليذكروا) وكذلك في الفرقان بالتخفيف «1».
ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا أي: صرّفنا القول فيه كما قال: ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون [القصص/ 51] فهذا حجة من قال: ليذكروا، فالتّذكر هنا أشبه من الذكر، لأنه كأنه يراد به التدبّر، وليس التذكّر الذي بعد نسيان، ولكن كما قال: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ص/ 29]، فإنّما المعنى: ليتدبروه بعقولهم، وليس المراد ليتذكروه بعد نسيانهم.
ووجه التخفيف أن التخفيف قد جاء في هذا المعنى، قال:
خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه [البقرة/ 63] فهذا ليس على: لا تنسوا، ولكن تدبروه يقوي ذلك: خذوا ما آتيناكم بقوة [البقرة/ 93]
__________
(1) السبعة 380.

(5/104)


ففي هذا بعث على البصر فيه والتدبر له، والأوّل لهذا المعنى ألزم به وأخصّ.
فأمّا قوله: واذكروه كما هداكم [البقرة/ 198] فيراد به الذكر باللسان، لأن ضروب الذكر من التلبية وغيرها مندوب إليها، وكذلك قوله: فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا [البقرة/ 200] وكذلك ما في القرآن من قوله: ولقد صرفناه بينهم ليذكروا [الفرقان/ 50] أي: ليدبروا نعمة الله عليهم في سقياهم ويشكروه عليها، فأبى أكثر الناس إلا كفورا [الفرقان/ 50]. فقوله: فأبى أكثر الناس إلا كفورا قريب من قوله: وما يزيدهم إلا نفورا [الإسراء/ 41] أي: ما يزيدهم تصريفنا الآيات لهم وتكريرها إلا نفورا منهم عنها. فهذا على أنهم ازدادوا كفورا عند تفصيل الآي لهم، لا لأن تصريف الآي نفّرهم، ومثل هذا قوله: وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم [التوبة/ 125] وكقوله في الأصنام:
رب إنهن أضللن كثيرا من الناس [إبراهيم/ 36] وإنما ضلّوا هم بعبادتها لا أنها هي فعلت بهم شيئا من ذلك، ويدلّ على أنّ التذكر قد لا يكون عن النسيان قوله:
تذكّر من أنّى ومن أين شربه ... يؤامر نفسيه كذي الهجمة الأبل
«1»

[الاسراء: 42، 43، 44]
اختلفوا في الياء والتاء من قوله: آلهة كما يقولون ... عما يقولون ... يسبح [الإسراء/ 42، 43، 44].
__________
(1) سبق في 1/ 317.

(5/105)


فقرأ ابن كثير: آلهة كما يقولون بالياء: عما يقولون (يسبح له)، ثلاثتهنّ بالياء.
وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر: (كما تقولون) بالتاء هذه وحدها، عما يقولون (يسبح) بالياء في هذين الموضعين.
وقرأ أبو عمرو: (آلهة كما تقولون) بالتاء عما يقولون بالياء، تسبح بالتاء.
وروى حفص عن عاصم آلهة كما يقولون بالياء، سبحانه وتعالى عما يقولون كلاهما بالياء، تسبح بالتاء، وقرأ حمزة والكسائي: (آلهة كما تقولون) تسبح كلّهن بالتاء «1».
من قرأ بالياء عما يقولون فالمعنى: عما يقول المشركون من إثبات آلهة من دونه فهو مثل قوله: (قل للذين كفروا سيغلبون) [آل عمران/ 12] لأنهم غيب.
فأما من قرأ: سبحانه وتعالى عما يقولون، فإنه يحتمل وجهين: أحدهما: أن يعطف على يقولون كما عطف قوله:
(يحشرون إلى جهنّم) على (سيغلبون). والآخر: أن يكون نزّه نفسه سبحانه عن دعواهم، فقال: سبحانه وتعالى عما يقولون وقراءة نافع وعاصم وابن عامر: (كما تقولون) على ما تقدم. وقوله: عما يقولون على أنه نزّه نفسه عن قولهم، ويجوز أن تحمله على القول، كأنه: قل أنت: سبحانه وتعالى عما يقولون.
فأما قوله: كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا وذلك
__________
(1) السبعة 381

(5/106)


أن المشركين كانوا يعبدون الملائكة، فقيل لهم: إن الذين عبدتموهم وجعلتموهم آلهة معه يبتغون أن يتخذوا إلى ذي العرش سبيلا بعبادتهم له وتقرّبهم إليه لها، ومثل ذلك قوله: إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا [الدهر/ 29] فهذا قول، وقال قوم من أهل التأويل: إنّ قوله: إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا اتخذت سبيلا إلى مضادّته وممانعته، وزعموا أن ذلك بمنزلة قوله: وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله [المؤمنون/ 91] وتعالى عما يقولون مما يدعونه ويفترونه من اتخاذ الولد، ومن أن يكون معه آلهة.
فأما قوله: تسبح له السموات السبع [الإسراء/ 44] فكل واحد من الياء والتاء حسن وقد تقدم ذكر ذلك في مواضع، وزعموا أن في حرف عبد الله: (سبحت له السموات) فهذا يقوّي التأنيث هنا.

[الاسراء: 49]
اختلفوا في قوله عز وجل: أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون [الإسراء/ 49].
فقرأ ابن كثير (أيذا) يهمز، ثم يأتي بياء ساكنة من غير مدّ:
أيذا، (أينّا) مثله، وكذلك في كلّ القرآن. وكذلك روى أحمد بن صالح عن ورش وقالون عن نافع، غير أن نافعا كان لا يستفهم في أئنا، كان يجعل الثاني خبرا في كلّ القرآن.
وكذلك مذهب الكسائي غير أنه يهمز الأولى همزتين، وقد بيّنت قراءتهما، وما كانا يقولان في سورة النمل [67] والعنكبوت [28] في قوله: أئنا لمخرجون. وفي قوله: (أئنّكم لتأتون الفاحشة)، وشرحته في سورة الرّعد [5].

(5/107)


وقرأ عاصم وحمزة بهمزتين في الحرفين جميعا.
وكان ابن عامر يقرأ: (إذا كنّا) بغير استفهام بهمزة واحدة.
(أئنّا) بهمزتين، كان يمد بين الهمزتين مدّة، أخبرني بذلك أحمد بن محمد بن بكر عن هشام بن عمار.
وقرأ أبو عمرو: (آئذا) (آئنا) ممدودتين مهموزتين «1».
قول ابن كثير (أيذا) هو في الأصل أإذا وخفف الهمزة الثانية، وقياسها إذا خفّفت أن تجعل بين بين، بين الياء والهمزة، فقلبها ياء قلبا وأسكنها ولم يخفّفها تخفيفا
قياسيا، ولكن على ما حكاه سيبويه من أن بعضهم قال: بئس وبيس، وشبه ابن كثير المنفصل بالمتصل، وعلى هذا ما جاء في الشعر في قولهم: يومئذ ويومئذ «2» ومن ألحق همزة الاستفهام (إنا) ومن لم يلحق، فموضع إذا عنده تصير بما دلّ عليه قوله: (إنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون) [الواقعة/ 47، 48] لمبعوثون، لا يكون إلا كذلك، وقد تقدم تفسير هذا فيما تقدم.

[الاسراء: 55]
قال: قرأ حمزة وحده: داود زبورا [الإسراء/ 55] مضمومة الزاي.
وقرأ الباقون زبورا بفتح الزاي «3».
يحتمل ضم الزاي أمرين: إما أن يكون جمع الزبور، فحذف الزيادة ثم جمع، ونظير ذلك قولهم في جمع ظريف ظروف.
وإمّا أن يكون سمّى ما أتى به داود، عليه السلام، زبرا كما
__________
(1) السبعة 382.
(2) لم أقف بعد على شاهد لما ذكره.
(3) السبعة: 382.

(5/108)


سمّى القرآن كتابا، فسمّي الكتابان باسم المصدر، لأن زبرت بمنزلة كتبت، ثم جمع كأنه جعل أنحاء، ثم جعل كلّ نحو زبرا، ثم جمعه زبورا كما جمع الكتاب على كتب حيث صارت التسمية مثل عماد وعمد.

[الاسراء: 62]
قال: قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (لئن أخرتني لأحتنكن) [الإسراء/ 62] بياء في الوصل، ابن كثير يقف بياء.
وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بغير ياء في وصل ولا وقف «1».
إثبات الياء حسن لأنه بفاصلة، فيحسن الحذف كما يحسن من القافية، نحو قوله:
فهل يمنعني ارتيادي البلا ... د من حذر الموت أن يأتين
«2» وأما وقف ابن كثير بالياء فلأنه ليس بفاصلة، وأما من قرأ بغير ياء في وصل ولا وقف فلأنه أشبه ياء قاض من حيث كانت ياء قبلها كسرة، ويوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه [هود/ 105]، فحذفوها كما حذفت في هذا النحو من الأسماء والأفعال.

[الاسراء: 64]
قال: قرأ عاصم في رواية حفص: بخيلك ورجلك [64] مكسورة الجيم.
أبو بكر عن عاصم ساكنة الجيم، وكذلك قرأ الباقون (ورجلك) ساكنة الجيم «3».
__________
(1) السبعة 382.
(2) البيت للأعشى سبق انظر 3/ 219.
(3) السبعة 382.

(5/109)


قال أبو علي: من أسكن فقال: (ورجلك) جعله جمع راجل، وقالوا: راجل ورجل، كما قالوا: تاجر وتجر، وراكب وركب، وصاحب وصحب، وقالوا: راجل ورجال، كما قالوا: صاحب وصاحب، وراع ورعاء، وفي التنزيل: فرجالا أو ركبانا [البقرة/ 239] وقال: يأتوك رجالا وعلى كل ضامر [الحج/ 27] وقالوا: رجلى ورجال.
فأما ما روى عن عاصم في قوله: ورجلك، فقال أبو زيد:
يقال: رجل رجل للراجل، ويقال: جاءنا حافيا رجلا، وأنشد أبو زيد «1»:
أما أقاتل عن ديني على فرس ... ولا كذا رجلا إلّا بأصحاب
كأنه قال: أما أقاتل فارسا وراجلا، ورجل على ما حكاه أبو زيد صفة ومثله: ندس «2»، وحذر وأخر ونحوها، قد قالوا فيها: فعل وفعل، وكذلك جاء رجل كما جاء ندس.
ويجوز أن يكون فيمن أسكن الجيم أن يكون قوله: (ورجلك)، فعل الذي هو مخفّف من فعل أو فعل، مثل عضد وكتف، ويكون المضاف واحدا يعنى به الكثرة.
__________
(1) في النوادر ص 148 (ط. الفاتح) والبيت نسبه لحبيّ بن وائل، وأدرك قطري بن الفجاءة أحد بني مازن. وأنشد معه بيتا آخر. وعنده بأصحاب بفتح الهمزة: وفي شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1/ 464: «بأصحابي».
(2) النّدس: هو الذي يبحث عن الأخبار ويكون بصيرا بها.
انظر سيبويه 3/ 630 (ط. هارون) واللسان (ندس).

(5/110)


ومن أهل التأويل من يقول: إن قوله: (بخيلك ورجلك) يجوز أن يكون مثلا، كما تقول للرجل المجد في الأمر: جئت بخيلك ورجلك، وقد قيل: إن كل راكب في معصية الله فهو من خيل إبليس، وكلّ راجل في معصية الله فهو من رجالة إبليس، وفي التنزيل: وجنود إبليس أجمعون [الشعراء/ 95] والجند يعم الفارس والراجل، فيجوز أن يكون الخيل والرّجل مثل من ذكر من جنوده.

[الاسراء: 68، 69]
اختلفوا في الياء والنون من قوله عز وجل: (أن نخسف بكم، أو نرسل عليكم ... أن نعيدكم ... فنرسل عليكم ... فنغرقكم) [الإسراء/ 68، 69].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنون ذلك كلّه.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ذلك كلّه بالياء «1».
من قرأ بالياء: فلأنه قد تقدم: ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم [67] أفأمنتم أن يخسف بكم.
وأما من قرأ بالنون، فلأن هذا النحو قد يقطع بعضه من بعض وهو سهل، لأن المعنى واحد، ألا ترى أنه قد جاء: وجعلناه هدى لبني إسرائيل، ألا تتخذوا من دوني وكيلا [الإسراء/ 2، 3] فكما انتقل من الجميع إلى الإفراد لا تفاق المعنى، كذلك يجوز أن ينتقل من الغيبة إلى الخطاب، والمعنى واحد، وكلّ حسن، والخسف بهم نحو الخسف بمن كان قبلهم من الكفار، نحو قوم لوط وقوم فرعون.
__________
(1) السبعة 383.

(5/111)


[الاسراء: 72]
اختلفوا في فتح الميم وكسرها من قوله جل وعز: أعمى، و (أعمى) [الإسراء/ 72].
فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر، أعمى فهو في الآخرة أعمى مفتوحتي الميم.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي: (أعمى فهو في الآخرة أعمى) بكسر الميم فيهما جميعا.
حفص عن عاصم: لا يكسرهما.
وقرأ أبو عمرو (في هذه أعمى) بكسر الميم فهو في الآخرة أعمى بفتحها. «1»
قال أبو علي: من قرأ أعمى بالفتحة غير ممالة كان قوله حسنا، لأن كثيرا من العرب لا يميلون هذه الفتحة.
ومن أمال الجميع فحسن، لأنه ينحو بالألف نحو الياء ليعلم أنها تنقلب إلى الياء، وإن كانت فاصلة أو مشبهة للفاصلة. والإمالة فيها حسنة لأن الفاصلة موضع وقف، والألف تخفى في الوقف، فإذا أمالها نحا بها نحو الياء ليكون أظهر لها وأبين. ومما يقوّي ذلك أنّ من العرب من يقلب هذه الألفات في الوقف ياءات ليكون أبين لها، فيقول:
أفعي، وحبلى، ومنهم من يقول: أفعو، وهم كأنّهم أحرص على البيان من الأولين من حيث كانت الواو أظهر من الياء، والياء أخفى منها من حيث كانت أقرب إلى الألف من الواو إليها.
وأما قراءة أبي عمرو: (أعمى فهو في الآخرة أعمى) فأمال الألف من الكلمة الأولى، ولم يملها في الثانية، فلأنه يجوز أن لا يجعل أعمى في الكلمة الثانية عبارة عن العوارف الجارحة، ولكن
__________
(1) السبعة 383.

(5/112)


جعله أفعل من كذا، مثل: أبلد من فلان، فجاز أن يقول فيه: أفعل من كذا وإن لم يجز أن يقال ذلك في المصاب ببصره، وإذا جعله كذلك لم تقع الألف في آخر الكلمة لأن آخرها إنما هو من كذا، وإنما تحسن الإمالة في الأواخر لما تقدم. وقد حذف من أفعل الذي هو للتفضيل الجارّ والمجرور وهما مرادان في المعنى مع الحذف، وذلك نحو قوله: فإنه يعلم السر وأخفى [طه/ 7] المعنى: أخفى من السر، وكذلك قولهم: عام أول، أي: أول من عامك، وكذلك قوله: فهو في الآخرة أعمى أي: أعمى منه في الدنيا، ومعنى العمى في الآخرة: أنه لا يهتدي إلى طرق الثواب ويؤكّد ذلك ظاهر ما عطف عليه من قوله: وأضل سبيلا، وكما أن هذا لا يكون إلّا على أفعل، كذلك المعطوف عليه، ومعنى أضلّ سبيلا في الآخرة: أن ضلاله في الدنيا قد كان ممكنا من الخروج منه، وضلاله في الآخرة لا سبيل له إلى الخروج منه، ويجوز أن يكون قوله: أعمى، فيمن تأوله أفعل من كذا على هذا التأويل أيضا.

[الاسراء: 76]
اختلفوا في كسر الخاء وإثبات الألف في قوله عز وجل:
(خلفك) [الإسراء/ 76].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر: (لا يلبثون خلفك).
حفص عن عاصم: خلافك.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي خلافك «1».
زعم أبو الحسن أنّ خلافك في معنى خلفك، وأنّ يونس روى
__________
(1) السبعة 383، 384.

(5/113)


ذلك عن عيسى وأن معناه: بعدك. فمن قرأ (خلفك) وخلافك فهو في تقدير القراءتين جميعا على حذف المضاف، كأنّه: لا يلبثون بعد خروجك. وكان حذف المضاف في الآية وفي قول ذي الرّمة:
له واحف والصّلب حتى تقطّعت ... خلاف الثّريّا من أريك مآربه
«1» المعنى: خلاف طلوع الثريا، وحسن حذف المضاف لأنه إحدى الجهات التي تضاف إلى الأسماء التي هي أعيان وليست أحداثا. وقد أضافوا هذه الظروف كما يضاف إلى أسماء الأعيان، وكأنّهم لم يستحبّوا إضافتها إلى خلاف ما جرى عليه كلامهم في إضافتها، كما أنّها لما جرت منصوبة في كلامهم تركوها على نصبها إذا وقعت في غير موضع النصب كقوله: وإنا منا الصالحون ومنادون ذلك [الجن/ 11] وقوله: يوم القيامة يفصل بينكم [الممتحنة/ 3] فكما تركوها على النصب هنا، كذلك أضافوها إلى الأسماء الأعيان، وكان كذلك من جعل قوله: خلاف رسول الله [التوبة/ 81] اسما للجهة على حذف المضاف، كأنه: خلاف خروج رسول الله، ومن جعله مصدرا جعله مضافا إلى المفعول به، وعلى أيّ الأمرين حمل في سورة التوبة كان قوله: بمقعدهم. المقعد فيه مصدر في معنى القعود، ولا يكون اسما للمكان، لأن أسماء الأماكن لا يتعلّق بها شيء.
ومعنى قوله: وإن كادوا ليستفزونك من الأرض قال أبو
__________
(1) انظر ديوانه 2/ 842. واحف والصلب: موضعان: خلاف الثريا: يريد بعد طلوع الثريا، وأريك: اسم جبل بالبادية يقول: تقطعت حوائج هذا الحمار من هذا الموضع لأنه يبس مرعاه فتحول عنه إلى غيره.

(5/114)


عبيدة: ليخرجوك منها. [الإسراء/ 76] فأمّا الأرض فهو بلده، وحيث يستوطنه، وكذلك قوله: أو ينفوا من الأرض [المائدة/ 33]، إنما هو من حيث كانوا يتصرّفون فيه لمعاشهم ومصالحهم، ولا يجوز أن يعنى به جميع الأرض، لأنه لا سبيل إلى إخراجه من جميعها، وكذلك قوله: فلن أبرح الأرض [يوسف/ 80] إنما يريد به الأرض التي كان قصدها للامتياز منها، فربّما أطلقت اللفظة، والمراد بها المكان المخصوص، وربما خصّص في اللفظ: يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره [الشعراء/ 35] إنما يعني به بلادهم ومواطنهم.
ولو أخرجوك من أرضك، لم يلبثوا بعدك إلا قليلا حتى يستأصلوا، وهذه الآية كقوله: وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك، أو يقتلوك، أو يخرجوك [الأنفال/ 30] فلو أخرجوك لاستأصلناهم كسنّتنا في إخراج الرسل قبلك إذا أخرجوا من ديارهم، ومن ظهرانيهم. وقد أخرج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من مكة قال: وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم [محمد/ 13] فحكم فيهم بالقتل، ولم يؤخذوا بالاستئصال لما سبق من القول بأنه لا تهلك هذه الأمة بالاستئصال.
وكذلك جاء وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون [الإسراء/ 59].

[الاسراء: 83]
اختلفوا في قوله عز وجل (ونأى بجانبه) [الإسراء/ 83].
فقرأ ابن كثير ونافع: (ونأى بجانبه) في وزن نعى حيث وقع بفتح النون والهمزة.
وقرأ ابن عامر وحده: (وناء بجانبه) مثل باع «1». وقرأ حمزة
__________
(1) في الأصل (ط): ناعء، وما أثبتناه من السبعة.

(5/115)


والكسائي: (وناي) في رواية خلف عن سليم بإمالة النون وكسر «1» الهمزة، كذلك حدثني أبو الزعراء «2» عن أبي عمر عن سليم عن حمزة.
واختلف عن عاصم فروى أبو بكر أنه كسر هذه التي في سورة بني إسرائيل «3» وفتح الهمزة في السجدة «4» [51]. وروى حفص عن عاصم أنه فتحهما جميعا.
وأما أبو عمرو فروى عنه اليزيدي: (ونأى) مفتوحة الهمزة هاهنا وفي السجدة. وقال عبد الوارث مثله هاهنا. وقال في السجدة: بهمزة بعدها ياء، ونأى في وزن نعى «5».
وقال عباس: ونأي مكسورة مهموزة في وزن نعى: أعرض، أي: ولى عرضه، أي: ناحيته، كأنه لم يقبل على الدعاء والابتهال على حسب ما يقبل في حال البلوى والمحنة، ونأى بجانبه قال أبو عبيدة:
تباعد.
ابن كثير ونافع: (ونأى) لم يميلا واحدة من الفتحتين، وترك
__________
(1) في الأصل (ط): وكسرها. وما أثبتناه من السبعة.
(2) أبو الزعراء: عبد الرحمن بن عبدوس أبو الزعراء البغدادي ثقة ضابط محرر، أخذ القراءة عرضا عن أبي عمر الدوري بعدة روايات وأكثر عنه، روى عنه القراءات عرضا أبو بكر بن مجاهد وعليه اعتماده في العرض، قال ابن مجاهد: قرأت عليه لنافع نحوا من عشرين ختمة، وقرأت عليه للكسائي ولأبي عمرو وحمزة. مات سنة بضع وثمانين ومائتين. (انظر طبقات القراء 1/ 374).
(3) هي سورة الإسراء نفسها.
(4) هي سورة فصلت السجدة، من الحواميم.
(5) السبعة 384.
مجاز القرآن 1/ 389.

(5/116)


الإمالة كثير سائغ، وهو قول أهل الحجاز. ابن عامر: ناء مثل ناع، وهذا على القلب، وتقديره فلع، ومثل هذا في القلب قولهم راء، ورأى قال:
وكلّ خليل راءني فهو قائل ... من أجلك هذا هامة اليوم أو غد
«1» حمزة والكسائي: نأي بإمالة الفتحتين، ووجه ذلك أنه أمال فتحة الهمزة لأن الألف منقلبة من الياء التي في النأي، فأراد أن ينحو نحوها، وأمال فتحة النون لإمالة الفتحة فتحة الهمزة، وقد قالوا: رأيت عمادا، فأمالوا الألف لإمالة الألف، وكذلك أمالا الفتحة لإمالة الفتحة، لأنهم قد يجرون الحركة مجرى الحرف في أشياء.
ووجه رواية خلّاد عن سليم (ونأي) بفتح النون وكسر الهمزة أنه لم يمل الفتحة الأولى لإمالة الفتحة الثانية، كما لم يميلوا الألف لإمالة الألف في رأيت عمادا.
قال: واختلف عن عاصم، فروى أبو بكر أنه كسر هذه التي في بني إسرائيل، وفتح الهمزة في السجدة، إن كان يريد بهذه التي في بني إسرائيل كسر النون من غير أن يميل الفتحة التي في الهمزة فوجهها أن مضارع نأى ينأى على يفعل، فإذا كان المضارع على يفعل أشبه الماضي ما كان على فعل والعين همزة فكسرها كما كسر شهد، كما أن من قال: أبي يأبى كان على هذا، وهذا كقول من قال: رأى «2» القمر
__________
(1) البيت لكثير عزّة، انظر الكتاب 2/ 130، وابن الشجري 2/ 19 واللسان (رأي).
(2) رسمتا في الأصل (ط): (رأ). بدون ألف. و (رأى) بكسر الراء وفتح الهمزة هي قراءة عاصم، وقد سبقت في 3/ 329.

(5/117)


[الأنعام/ 77] وإن كان يريد بقوله كسر هذه أنه أمال الفتحة، فهو مثل قول حمزة.
قال: وروى حفص عن عاصم أنه فتحهما جميعا، فهذا مثل قول ابن كثير ونافع قال: وأما أبو عمرو فروى عنه اليزيدي (نأى) مفتوحة الهمزة هاهنا وفي السجدة. قال: وقال عبد الوارث مثله هاهنا.
قال: وقال في السجدة بهمزة بعدها ياء، (ونأى) في وزن نعا، وقال عباس مثل ذلك.
قال أبو علي: قد مضى القول في ذلك كله.

[الاسراء: 90]
اختلفوا في ضم التاء والتشديد وفتحها والتخفيف من قوله:
حتى تفجر لنا [الإسراء/ 90].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر (حتى تفجّر لنا) بضم التاء وفتح الفاء وتشديد الجيم مع الكسرة.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي حتى تفجر بفتح التاء وتسكين الفاء وضم الجيم مع التخفيف «1».
وجه قول من ثقل: أنهم أرادوا كثرة الانفجار من الينبوع، وهو وإن كان واحدا فلتكرر الانفجار فيه يحسن أن يثقل كما تقول: ضرب زيد إذا أكثر الضرب، فيكثر الفعل، وإن كان فاعله واحدا.
ووجه قول الكوفيين: تفجر، فلأن الينبوع واحد فلا يكون كقوله: (فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا) [الإسراء/ 91] لأن فجّرت الأنهار، مثل: غلّقت الأبواب، فلذلك اتفق الجميع على التثقيل في (تفجر). وتفجر يصلح للقليل والكثير، وتضعيف العين إنما يكون
__________
(1) السبعة 384، 385.

(5/118)


للتكثير، وممّا يقوّي تفجر قوله: فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا [البقرة/ 60] وانفجر مطاوع فجرته.

[الاسراء: 92]
اختلفوا في فتح السين وإسكانها من قوله: كسفا [الإسراء/ 92].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي: (كسفا) [ساكنة] في كلّ القرآن إلا في الروم [48] فإنهم قرءوا كسفا متحركة.
وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر: علينا كسفا متحركة هاهنا وفي الروم كسفا متحركة السين أيضا وسائر القرآن (كسفا) في الشعراء [187] وفي سبأ [9] والطور [44].
وروى حفص عن عاصم أنه يقرأ كسفا في كل القرآن إلّا في والطور، فإنه قرأ وإن يروا كسفا. السين ساكنة هذه وحدها خفيفة.
وقرأ ابن عامر غير ذلك كلّه: قرأ في بني إسرائيل بفتح السين، وفي سائر القرآن (كسفا) ساكنة السين «1».
قال أبو زيد: قالوا كسفت الثوب أكسفه كسفا إذا قطعته قطعا، والكسف: القطع، الواحدة قطعة، وكسفه، وقال أبو عبيدة: كسفا:
قطعا. ومن جعله جمع كسفة قال: كسفا، مثل قطعة وقطع «2».
قال أبو علي: إذا كان المصدر: الكسف، فالكسف الشيء المقطوع، كالطّحن، والطّحن، والسّقي والسّقي ونحوه. ويجوز أن يكون الكسف جمع كسفة، مثل سدرة وسدر، فإذا كان كذلك جاز أن يكون قول ابن كثير ومن اتبعه: (أو تسقط السّماء كما زعمت علينا كسفا)
__________
(1) السبعة 385.
(2) انظر مجاز القرآن وطرته 1/ 390.

(5/119)


أي: ذات قطع، وذلك أنّه أسقط فعل لا يتعدى إلّا إلى مفعول واحد، فإذا كان كذلك وجب أن ينتصب كسفا على الحال، والحال ذو الحال في المعنى، فإذا كان كذلك وجب أن يكون الكسف هو السماء، فيصير المعنى: أو تسقط السماء علينا مقطعة أو قطعا، وإنما قرءوا في الروم في قوله: الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا متحركة السين، لأن السحاب يكون قطعا، وإنّما يتضامّ عن تفرّق، فأمّا قوله: من خلاله [النور/ 43] فالذّكر يرجع إلى السحاب، وأما قراءة نافع وعاصم في رواية أبي بكر: (علينا كسفا) هاهنا، وفي الروم فقد مضى ما جاء من ذلك في الروم، وفي بني إسرائيل كذلك، لأن المعنى: تسقط السماء علينا كسفا، أي: قطعا، وكسف في جمع كسفة مثل: سدرة وسدر، وكسف على هذا يجوز أن يكون مثل: سدرة وسدر، ودرّة ودرر. وإذا لم يكن المعنى في بني إسرائيل: تسقط السماء علينا قطعة، وإنما المعنى تسقطها قطعا، كان التقدير ذات كسف.
فأما ما في الشعراء من قوله: فأسقط علينا كسفا فتقديره:
قطعا، وهذا يقوي قراءة نافع وعاصم في إحدى الروايتين كسفا في بني إسرائيل. وفي الشعراء يتبين في اللفظ أيضا على أنه يراد به القطع وهو قوله: من السماء فكأنه دلّ على بعض السماء، وعلى قطع منها. وأما ما في سبأ من قوله: أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء فكما أن المعنى في قوله: إن نشأ نخسف بهم الأرض التي يتقلبون فيها ويتصرّفون في بلادهم ومساكنهم، وكذلك نسقط عليهم من السماء ما أظلّهم منها دون سائر السماء فهو واحد. وأمّا ما في

(5/120)


الطور من قوله: وإن يروا كسفا من السماء ساقطا فقد أبان قوله:
(ساقطا) والتذكير فيه أنه مفرد ليس بجمع، وإن كان جمعا فهو على حدّ شعيرة وشعير.
وما رواه حفص عن عاصم أنه قرأ كسفا في كلّ القرآن إلا في الطور، فقد ذكرنا وجه الجميع فيه، فيما مرّ وخصّ هذا الذي في الطور لوصفه بالواحد المذكر. وأما قراءة ابن عامر ما في بني إسرائيل كسفا بفتح السين فإن المعنى: أو تسقط السماء قطعا، وقرأ ما عدا التي في بني إسرائيل كسفا، فوجه ذلك: أن الذي في الطور قد مضى وجهه، وفي الشعراء كأنه قال: أسقط علينا قطعة من السماء، فاقترحوا إسقاط قطعة منها، ولم يقترحوا إسقاط جميعها، وكذلك في سبأ: أو تسقط عليهم كسفا من السماء أي: قطعة
منها مظلّة لأرضهم دون سائرها، وأما قوله: الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا [الروم/ 48] أي:
يجعل ما يلتئم ويجتمع من السحاب قطعة قطعة، فتمطر، فكأنه اعتبر ما يؤول إليه حال السحاب من الالتئام والاجتماع، كما اعتبر من قرأه كسفا حاله قبل، وكلتا القراءتين مذهب.

[الاسراء: 93]
اختلفوا في قوله جل وعز: قل سبحان ربي [الإسراء/ 93] في ضم القاف وإسقاط الألف.
فقرأ ابن كثير وابن عامر: (قال سبحان ربي)، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والشام.
وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو، وحمزة والكسائي: قل سبحان ربي بغير ألف «1».
__________
(1) السبعة: 385.

(5/121)


وجه من قرأ: (قال سبحان ربي) أنّ الرسول، عليه السلام، قال عند اقتراحهم هذه الأشياء التي ليس في طاقة البشر أن يفعله، ويأتي به سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا، كقوله: إنما أنا بشر مثلكم [الكهف/ 110] وهذه الأشياء ليس في قوى البشر أن يأتوا بها، وإنما يظهرها الله، جلّ وعز، في أزمان الأنبياء علما لتصديقهم وليفصلهم بها من المتنبّئين. (وقل) على الأمر له بأن يقول ذلك.
ويقوّي ذلك قوله: قل إنما أنا بشر مثلكم ونحو ذلك مما يجيء على لفظ الأمر دون الخبر.

[الاسراء: 122]
اختلفوا في ضم التاء وفتحها من قوله عز وجل: (لقد علمت ما).
فقرأ الكسائي وحده: (لقد علمت) بضم التاء. وقرأ الباقون:
لقد علمت «1» [الإسراء/ 102].
حجة من فتح قال: لقد علمت أن فرعون ومن كان تبعه قد علموا صحة أمر موسى بدلالة قوله: لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك [الأعراف/ 134] وقوله: فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين. وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [النمل/ 13، 14] وقوله: وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون [الزخرف/ 49].
ومن قال: (لقد علمت) فضمّ التاء ... «2»؟ فإن قلت: كيف
__________
(1) في الأصل هنا بياض، بمقدار ربع سطر وسياق الكلام يدل على سقط فيه ولعل تقديره: فالضمير يرجع إلى موسى.
(2) السبعة 386.

(5/122)


يصح الاحتجاج عليه بعلمه، وعلمه لا يكون حجّة على فرعون، إنّما يكون علم فرعون ما علمه من صحة أمر موسى حجة عليه، فالقول أنه لما قيل له: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون، [الشعراء/ 27]، كان ذلك قدحا في علمه. لأن المجنون لا يعلم، فكأنه نفى ذلك، فقال: لقد علمت صحّة ما أتيت به علما صحيحا كعلم العقلاء، فصار الحجّة عليه من هذا الوجه، وزعموا أنّ هذه القراءة رويت عن عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه.

(5/123)