الحجة للقراء السبعة ذكر اختلافهم في سورة الصّافّات
[الصافات: 3، 2، 1]
قرأ أبو عمرو إذا أدغم، وحمزة على كلّ حال: والصافات صفا،
فالزاجرات زجرا، فالتاليات ذكرا [1 - 2 - 3] والذاريات ذروا
[الذاريات/ 1]، وقرأ أبو عمرو وحده: والعاديات ضبحا [العاديات/
1] مدغما، والمغيرات صبحا [العاديات/ 2]، فالتاليات ذكرا
[الصّافّات/ 3]، والسابحات سبحا، فالسابقات سبقا [النازعات/ 3
- 4]، مدغما.
عبّاس «1» عن أبي عمرو لا يدغم شيئا من ذلك، وفالملقيات ذكرا
[الذاريات/ 5] والسابحات سبحا، فالسابقات سبقا [النازعات/ 3 -
4].
وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر والكسائي بإظهار التاء في
ذلك كله «2».
__________
(1) سبقت ترجمته في 1/ 376 و 2/ 75.
(2) السبعة ص 546.
(6/48)
قتادة: الصّافّات صفّا: الملائكة صفوف في
السماء، والزاجرات زجرا: ما زجر اللَّه عنه في آي القرآن،
والتاليات ذكرا: ما يتلى من آي القرآن.
أبو عبيدة: كلّ شيء في السماء والأرض ممّا لم يضمّ قتريه فهو
صافّ، والتالي: القارئ «1».
قال أبو علي: إدغام التاء في الصّاد حسن لمقاربة الحرفين، ألا
ترى أنّهما من طرف اللسان، وأصول الثنايا، ويجتمعان في الهمس؟
والمدغم فيه يزيد على المدغم بخلّتين هما: الإطباق، والصّفير،
وحسن أن يدغم الأنقص في الأزيد، ولا يجوز أن يدغم الأزيد صوتا
في الأنقص، ألا ترى أن الطّاء والدّال، والتاء والظاء، والذال
والثاء يدغمن في الصّاد والسّين والزّاي، ولا تدغم الصّاد
وأختاها فيهنّ لزيادة الصّاد وأختيها عليهنّ في الصّفير؟ وكذلك
يدغم اللّام في الرّاء، ولا تدغم الرّاء في اللّام لزيادة
التكرير في الرّاء، فقد علمت- فيما ذكر- حسن إدغام التّاء في
الصّاد، وإدغام التاء في الزّاي في قوله:
فالزاجرات زجرا حسن. لأنّ التاء مهموسة، والزّاي مجهورة، وفيها
زيادة صفير، كما كان في الصّاد، وكذلك حسن إدغام التاء في
الذال في قوله: والتاليات ذكرا، والذاريات ذروا، لاتفاقهما في
أنّهما من طرف اللسان، وأصول الثنايا، فأمّا إدغام التاء في
الضاد من قوله:
والعاديات ضبحا، فإنّ التاء أقرب إلى الذّال والزّاي منها إلى
الضاد.
لأنّ الذّال والزّاي والصّاد من حروف طرف اللّسان، وأصول
الثنايا، والضّاد أبعد منهنّ لأنها من وسط اللّسان.
__________
(1) مجاز القرآن 2/ 166 والقتر: الناحية والجانب، لغة في القطر
وهي الأقتار والأقطار، اللسان/ قتر/.
(6/49)
ولكن حمل حسن الإدغام التاء فيها، لأنّ
الصّاد تفشّى الصوت بها، واتّسع واستطال حتّى اتّصل صوتها
بأصول الثنايا وطرف اللسان، فأدغم التاء فيها وسائر حروف طرف
اللّسان، وأصول الثنايا إلّا حروف الصّفير، فإنّها لم تدغم في
الصاد، ولم تدغم الصّاد في شيء من هذه الحروف لما فيها من
زيادة الصوت فكره إدغامها فيما أدغم فيها من هذه الحروف، لما
فيها من التّفشّي والاستطالة، حتى اتّصلت بأصول الثنايا مع
أنّها من وسط اللّسان.
قال: وسمعناهم ينشدون:
ثار فضجّت ضجّة ركائبه «1» فأمّا الإدغام في السّابحات سبحا،
والسّابقات سبقا، فحسن لمقاربة الحروف، وأمّا من قرأ بالإظهار
في هذه، وترك إدغامها، فذلك لاختلاف المخارج، وإنّ المدغم فيه
ليس بلازم، فلم يدغموا لتباين المخارج، وانتفاء الرفع، ألا ترى
أنّهم بيّنوا نحو أفعل؟ وإن كان من كلمة واحدة، لما لم تلزم
التاء- هذه- البناء، فما كان من كلمتين منفصلتين أجدر بالبيان.
[الصافات: 6]
اختلفوا في قوله عزّ وجلّ: بزينة الكواكب [الصافات/ 6] فقرأ
حمزة وعاصم في رواية حفص: بزينة، خفض منوّنة الكواكب بكسر
الباء.
وقرأ عاصم في رواية في أبي بكر بزينة خفض الكواكب* بفتح الباء.
__________
(1) قال سيبويه في الكتاب 2/ 420: «وسمعنا من يوثق بعربيته
قال» وذكره. قال الأعلم: وصف رجلا ثار بسيفه في ركائبه
ليعرقبها ثم ينحرها للأضياف فجعلت تضج.
(6/50)
وقرأ الباقون: بزينة الكواكب مضافا «1».
قال أبو علي: من قال: بزينة الكواكب جعل الكواكب بدلا من
الزينة، لأنّها هي، كما تقول: مررت بأبي عبد اللَّه زيد.
ومن قال: بزينة الكواكب، أعمل الزينة في الكواكب، والمعنى: بأن
زينا الكواكب فيها، ومثل ذلك قوله: أو إطعام في يوم ذي مسغبة
يتيما [البلد/ 14، 15] ومثله: ولا يملك لهم رزقا من السموات
والأرض شيئا [النحل/ 73] تقديره: ما لا يملك أن يرزق شيئا.
فأمّا قوله: قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا [الطلاق/ 10، 11]
فيجوز أن يكون الرّسول بدلا من الذكر، كما كان الكواكب بدلا من
الزينة، والمعنى ذا ذكر رسولا، ويجوز أن يكون كقوله: أو إطعام
في يوم ذي مسغبة يتيما [البلد/ 14، 15] فأمّا قوله: ألم نجعل
الأرض كفاتا أحياء وأمواتا [المرسلات/ 25، 26] فإن كان الكفات
مصدرا لكفت، كما أنّ الكتاب مصدر لكتب، فقد انتصب «أحياء» به،
والمعنى: نكفت أحياء، كما أنّ قوله: أو إطعام في يوم ذي مسغبة
يتيما تقديره: أو أن تطعم مسكينا، وقد قيل: إنّ الكفات جمع
الكافتة، فأحياء على هذا منتصب بالجمع كقوله:
... أنّهم في قومهم غفر ذنبهم «2» ...
__________
(1) السبعة ص 546.
(2) من بيت لطرفة وتمامه:
ثم زادوا أنّهم في قومهم غفر ذنبهم غير فخر انظر ديوانه/ 64.
والشاهد فيه نصب ذنبهم بغفر لأنه جمع غفور وغفور تكثير غافر
وعامل عمله فجرى جمعه على العمل مجراه .. ومعناه:
(6/51)
ومن قال: بزينة الكواكب أضاف المصدر إلى
المفعول به كقوله: من دعاء الخير [فصلت/ 49] وسؤال نعجتك [ص/
24] ولو جاء إطعام يتيم في يوم ذي مسغبة جاز في القياس،
والمعنى:
بأن زينّا الكواكب فيها.
[الصافات: 8]
اختلفوا في التّشديد والتّخفيف من قوله عزّ وجلّ: لا يسمعون*
[الصافات/ 8].
فقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص: لا يسمعون مشدّدة.
وقرأ الباقون وعاصم في رواية أبي بكر: لا يسمعون* خفيفة «1».
قال أبو علي: يسمعون إنّما هو: لا يتسمعون، فأدغم التاء في
السّين، وقد تقدّم حسن إدغام التاء في السّين، وقد يتسمع، ولا
يسمع، فإذا نفى التسمع عنهم فقد نفى سمعه من جهة التسمّع، ومن
جهة غيره، فهو أبلغ. ويقال: سمعت الشيء واستمعته كما تقول:
حفرته واحتفرته، وشويته واشتويته. وقد قال: وإذا قرىء القرآن
فاستمعوا له وأنصتوا [الأعراف/ 204] وقال: ومنهم من يسستمع
إليك [الأنعام/ 25] فتعدّى الفعل مرّة بإلى، ومرّة باللّام،
كقوله:
وهديناهم إلى صراط مستقيم [الأنعام/ 87] والحمد لله الذي هدانا
لهذا [الأعراف/ 43] وقال: وأوحى ربك إلى النحل
__________
مدح قومه فيقول لهم فضل على الناس وزيادة عليهم بأنهم يغفرون
ذنب المذنب إليهم ولا يفخرون بذلك سترا لمعروفهم. ويروى غير
فجر. انظر الكتاب لسيبويه 1/ 58.
(1) السبعة ص 546.
(6/52)
[النحل/ 68] وقال: بأن ربك أوحى لها
[الزلزلة/ 5] فتعدّى الفعل مرّة بإلى، ومرّة باللّام، ولا فصل
بين فعلت وافتعلت في ذلك لاتفاقهما في التّعدّي.
ومن حجّة من قرأ يسمعون* قوله: إنهم عن السمع لمعزولون
[الشعراء/ 212] والسّمع: مصدر يسمع.
[الصافات: 12]
اختلفوا في قوله عزّ وجلّ: بل عجبت [الصافّات/ 12]، في ضمّ
التاء وفتحها.
فقرأ حمزة والكسائي بل عجبت، بضم التاء.
وقرأ الباقون بل عجبت بنصب التاء «1».
قال أبو علي: من فتح فالمعنى: بل عجبت من إنكارهم البعث وهم
يسخرون، أو عجبت من نزول الوحي عليك وهم يسخرون.
والضّمّ فيما زعموا قراءة عليّ، وعبد الله، وابن عباس، وروي عن
شريح إنكاره له، وأنّه قال: إنّ الله لا يعجب، وقد احتجّ بعضهم
للضّمّ بقوله: وإن تعجب فعجب قولهم
[الرعد/ 5]، وليس في هذا دلالة على أنّ الله سبحانه أضاف العجب
إلى نفسه، ولكن المعنى: وإن تعجب فعجب قولهم عندكم.
والمعنى في الضّمّ أنّ إنكار البعث والنّشر مع ثبات القدرة على
الابتداء والإنشاء، ويبيّن ذلك عند من استدل: عجب عندكم، ومما
يقولون فيه هذا النحو من الكلام إذا ورد عليكم مثله «2».
__________
(1) السبعة ص 547.
(2) ورد على هامش الأصل: «كذا عنده». إشارة إلى أن اضطراب
العبارة في الأصل.
(6/53)
كما أنّ قوله: أسمع بهم وأبصر [مريم/ 38]
معناه: أنّ هؤلاء ممّن تقولون أنتم فيه هذا النحو، وكذلك قوله:
فما أصبرهم على النار [البقرة/ 175] عند من لم يجعل اللّفظ على
الاستفهام، وعلى هذا النحو قوله: ويل للمطففين [المطففين/ 1]
وويل يومئذ للمكذبين [المرسلات/ 15] وقوله: لعله يتذكر أو يخشى
[طه/ 44] ولا يجوز أن يكون الوصف بالعجب في وصف القديم سبحانه،
كما يكون في وصف الإنسان، لأنّ العجب فينا إنّما يكون إذا
شاهدنا ما لم نشاهد مثله، ولم نعرف سببه، وهذا منتف عن القديم
سبحانه.
[الصافات: 47]
اختلفوا في قوله عزّ وجلّ: ولا هم عنها ينزفون [الصافّات/ 47].
في فتح الزّاي وكسرها، فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن
عامر ينزفون هاهنا بفتح الزاي، وفي الواقعة [19].
وقرأ عاصم هاهنا ينزفون بنصب الزاي، وفي الواقعة:
ينزفون* بكسر الزاي.
وقرأ حمزة والكسائي: ينزفون* بكسر الزاي في الموضعين «1».
يقال: أنزف الرجل على معنيين: أحدهما: أنّه يراد به: سكر.
وأنشد أبو عبيدة وغيره:
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم لبئس النّدامى كنتم آل أبجرا «2»
__________
(1) السبعة ص 547.
(2) البيت للأبيرد الرياحي اليربوعي، وأبجر: هو أبجر بن جابر
العجلي. مجاز القرآن 2/ 169، وانظر المحتسب 2/ 308، واللسان
(نزف).
(6/54)
فمقابلته له بصحوتم يدلّك على إرادة سكرتم.
والآخر: أنزف:
إذا نفد شرابه، ومعنى أنزف صادر ذا إنفاد لشرابه، كما أنّ
الأول معناه النفاد من عقله، فقول حمزة والكسائي ينزفون*، يجوز
أن يراد به:
ولا يسكرون عن شربها، ويجوز أن يراد: لا ينفد ذلك عندهم كما
ينفد شراب أهل الدنيا، فإذا كان معنى لا فيها غول [الصافّات/
47] لا تغتال عقولهم، حمل قول حمزة والكسائي: لا ينزفون في
الصافّات على: لا ينفد شرابهم، لأنّك إن حملته على أنّهم لا
يسكرون صرت كأنّك كررت يسكرون مرتين، وإن حملت لا فيها غول على
لا تغتال صحتهم ولا يصيبهم عنها العلل التي تحدث عن شربها كما
ترى أنّ عاصما ذهب إليه، حملت ينزفون في والصافات على أنّهم لا
يكسرون، ويقال للسكران منزوف. وفي الواقعة قال: ينزفون* أي:
لا ينفد شرابهم، لأنّه قد تقدّم أنّهم لا يصيبهم فيها الصداع،
فقوله:
لا يصدعون عنها [الواقعة/ 19] كتأويل قوله في الصّافات: لا
تغتال من صحّتهم، فيصرف لا ينزفون في الصافّات إلى أنّه لا
ينفد شرابهم.
وأمّا من قرأ: ولا ينزفون في الموضعين، فإنّه أراد: لا يسكرون،
وهو مثل لا يضربون وليس يفعلون من أفعل، ألا ترى أنّ أنزف الذي
معناه سكر وأنزف الذي يراد به نفد شرابه لا يتعدى واحد منهما
إلى المفعول به، وإذا لم يتعدّ إلى المفعول به لم يجز أن يبنى
له، فإذا لم يجز ذلك علمت أن ينزفون من نزف وهو منزوف إذا سكر.
[الصافات: 55، 54]
قال: وكلّهم قرأ: مطلعون. فاطلع [الصافّات/ 54، 55] إلّا أنّ
ابن حيّان أخبرنا عن أبي هشام عن حسين [الجعفي] «1» عن أبي
__________
(1) زيادة من السبعة.
(6/55)
عمرو أنّه قرأ هل أنتم مطلعون. فأطلع الألف
مضمومة، والطاء ساكنة، واللّام مكسورة، والعين مفتوحة «1».
قال أبو علي: من قال: هل أنتم مطّلعون، فالمعنى: هل أنتم
مشرفون لتنظروا، فاطّلع فرأى قرينة في سواء الجحيم. قال أبو
الحسن: مطّلعون مثقلة أكثر في كلام العرب، وقال: واطّلعت-
افتعلت- أكثر من أطلعت، قال: وهما عربيّتان.
قال أبو علي: المعنى في هل أنتم مطلعون: هل أنتم مطلعيّ فأطلع.
تقديره: أفعل، تقول: طلع زيد، وأطلعه غيره.
[الصافات: 94]
اختلفوا في قوله: يزفون [الصافّات/ 94] فقرأ حمزة وحده يزفون،
برفع الياء وكسر الزاي، المفضل عن عاصم مثله.
وقرأها الباقون: يزفون بفتح الياء «2».
قال أبو علي: يقال: زفّت الإبل تزفّ: إذا أسرعت، وقال الهذلي:
وزفّت الشّول من برد العشيّ كما زفت النّعام إلى حفّانة الرّوح
«3»
__________
(1) السبعة ص 548.
(2) السبعة ص 548.
(3) المعنى: الشول: ج شامله وهي التي قد خفّ لبنها وأتى على
نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية، وخصّها دون غيرها، لأنّه أراد
أنّها خفيفة البطن، فلا تقوى على البرد، فتسرع هذه النياق إلى
مكان تستدفئ فيه، كما يسرع النعام إلى فراخه. والبيت لأبي ذؤيب
الهذلي، انظر ديوان الهذليين 1/ 107، وانظر المحتسب 2/ 221،
والبيت من شواهد البغدادي في شرح أبيات المغني 2/ 35 مع أبيات
من القصيدة.
(6/56)
الحفان: صغار النعام. والرّوح: جمع روحاء،
وهي التي بين رجليها فرجة.
وقول حمزة: يزفون يحملون غيرهم على الزفيف، قال الأصمعي: أزففت
الإبل: إذا حملتها على أن تزفّ، وهو سرعة الخطو، ومقاربة
المشي، والمفعول محذوف على قراءته، كأنّهم حملوا ظهورهم على
الإسراع والجدّ في المشي.
[الصافات: 102]
اختلفوا في ضمّ التاء وفتحها من قوله عزّ وجلّ: ماذا ترى
[الصافّات/ 102].
فقرأ حمزة والكسائي: ماذا تري بضمّ التاء وكسر الراء.
وقرأ الباقون ماذا ترى بفتح التاء «1».
قال أبو علي: من فتح التاء فقال: ماذا ترى كان مفعول ترى أحد
شيئين:
أحدهما أن يكون ما* مع ذا* بمنزلة اسم واحد فيكونان في موضع
نصب بأنّه مفعول ترى.
والآخر: ذا* بمنزلة الذي* فيكون مفعول ترى، والهاء محذوفة من
الصلة، وتكون ترى على هذا التي معناها: الرّأي، وليس إدراك
الحاجة كما تقول: فلان يرى رأي أبي حنيفة، ومن هذا قوله عزّ
وجلّ:
لتحكم بين الناس بما أراك الله [النساء/ 106] فلا يخلوا أراك
من أن يكون نقلها بالهمزة من التي هي رأيت، تريد رؤية البصر،
أو رأيت التي تتعدّى إلى مفعولين، أو رأيت التي بمعنى: الرأي
الذي هو
__________
(1) السبعة ص 548.
(6/57)
الاعتقاد والمذهب. فلا يجوز أن يكون من
الرؤية التي معناه: أبصرت يعني لأنّ الحكم في الحوادث بين
الناس ليس مما يدور بالبصر، فلا يجوز أن يكون هذا القسم، ولا
يجوز أن يكون من رأيت التي تتعدّى إلى مفعولين، لأنّه كان يلزم
بالنقل بالهمزة أن يتعدّى إلى ثلاثة مفعولين، وفي تعدية إلى
مفعولين، أحدهما الكاف التي للخطاب، والآخر المفعول المقدّر
حذفه من الصلة تقديره: بما أراكه الله، ولا مفعول ثالثا في
الكلام، دلالة على أنّه من رأيت الّتي معناها الاعتقاد والرأي،
وهي تتعدّى إلى مفعول واحد، فإذا نقل بالهمزة تعدّى إلى
مفعولين كما جاء في قوله: بما أراك الله [النساء/ 106] فإذا
جعلت قوله: ذا* من قوله ماذا ترى بمنزلة الذي، صار تقديره: ما
الذي تراه، فيصير ما* في موضع ابتداء، ابتداء، والذي* في موضع
خبره، ويكون المعنى: ما الذي تذهب إليه فيما ألقيت إليك؟ هل
تستسلم له وتتلقاه بالقبول، أو تأتي غير ذلك؟ فهذا وجه قول من
قال: ماذا ترى بفتح التاء، وقوله يا أبت افعل ما تؤمر
[الصافّات/ 102] دلالة على الاستسلام والانقياد لأمر الله عزّ
وجلّ.
فأمّا قول حمزة والكسائي: ماذا ترى، فإنّه يجوز أن يكون ما* مع
ذا* بمنزلة اسم واحد، فيكونان في موضع نصب، والمعنى:
أجلدا تري على ما تحمل عليه أم خورا؟ ويجوز أن تجعل ما* مبتدأ
وذا* بمنزلة الذي ويعود إليه الذكر المحذوف من الصلة، والفعل
منقول من رأى زيد الشيء وأريته الشيء إلّا أنّه من باب أعطيت
فيجوز أن يقتصر على أحد المفعولين دون الآخر، كما أن أعطيت
كذلك، ولو ذكرت المفعول كان أريت زيدا جلدا، ولو قرأ قارئ:
ماذا ترى
لم يجز لأن ترى* يتعدّى إلى مفعولين، وليس هنا إلّا مفعول
واحد،
(6/58)
والمفعول الواحد إمّا أن يكون ماذا
بمجموعه، وإمّا أن يكون الهاء التي تقدرها محذوفة من الصلة إذا
قدرت ذا* بمنزلة الذي*، فإذا قدرتها محذوفة كانت العائدة إلى
الموصول، فإذا عاد إلى الموصول اقتضى المفعول الثاني فيكون ذلك
كقوله: أين شركائي الذين كنتم تزعمون [القصص/ 62] ألا ترى أن
التقدير: أين شركائي الذين كنتم تزعمونهم إيّاهم، أي: تزعمونهم
شركائي، فحذف المفعول الثاني لاقتضاء المفعول الأوّل الذي في
تقدير الإثبات في الصلة إيّاه فهو قول، ويكون مثل هذه الآية،
وكذلك إن قدّرت ما* وذا* بمنزلة اسم واحد صار ماذا في موضع نصب
بكونه مفعولا لترى، ويكون المفعول الثاني محذوفا، كأنّه: ماذا
تري كائنا منك، أو واقعا منك، ونحو ذلك، وأري بمنزلة زعمت
وظننت ونحوه، ألا ترى أنّه ذكره في هذا الباب؟ وذلك أنّه منقول
من أريت زيدا عمرا خير الناس، فإذا بنيته للمفعول أقمت المفعول
الأوّل مقام الفاعل، فبقي المفعولان اللّذان كانا مفعولي ظننت،
وخلت ونحوهما.
[الصافات: 123]
قال: قرأ ابن عامر وحده: وإن الياس [الصافّات/ 123] بغير همزة.
وقرأ الباقون: بالهمز.
[الصافات: 130]
وقرأ نافع وابن عامر: سلام على آل ياسين [الصافات/ 130].
وقرأ الباقون: سلام على إلياسين مكسورة الألف ساكنة اللام «1».
__________
(1) السبعة ص 548 - 549.
(6/59)
قول ابن عامر يحتمل وجهين:
احدهما: أن يكون حذف الهمزة من الياس* حذفا كما حذفها ابن كثير
من قوله: إنها لحدى الكبر [المدّثر/ 35]. ألا ترى أن ياء ليا*
بمنزلة لإحدى والمنفصل قد ينزّل منزلة المتّصل في كثير من
الأمر.
والآخر: أن تكون الهمزة التي تصحب اللّام للتعريف كقوله:
واليسع [الأنعام/ 86، ص/ 48].
وأمّا قول من أثبت الهمزة مكسورة فيقويه قول من قال: سلام على
آل ياسين، فهذا يدلّ على أن الهمزة ثابتة في إلياس ثبوتها في
قوله: وإن إدريس لمن المرسلين «1» [الصافّات/ 123] وفي بعض
الحروف: سلام على إدراسين «2» [الصافّات/ 130] ويقوّي ثبات
الهمزة في إلياس أنّ هذا ليس بموضع تحذف فيه الهمزة، إنّما هو
موضع تجعل فيه بين بين في التخفيف، كما يخفّف: سئم، وبئس، وإذ
قال إبراهيم [البقرة/ 260].
وأمّا قراءة نافع وابن عامر: سلام على آل ياسين فحجّتهما أنّهم
زعموا أنّها في المصحف مفصولة من ياسين، ولو كانت الألف
واللّام التي للتعريف لوصلت في الخط ولم تفصل، ففي فصل ذلك في
الكتاب دلالة على آل* الذي تصغيره أهيل، وليس بلام التعريف
التي تصحبها الهمزة الموصولة.
__________
(1) هذه قراءة ابن مسعود ويحيى والأعمش والمنهال بن عمرو
والحكم بن عتيبة (وان ادريس). انظر البحر المحيط 7/ 372، وانظر
المحتسب 2/ 224.
(2) قراءة أخرى في الآية (130) من سورة الصافّات، انظر المحتسب
2/ 224 - 225، والبحر المحيط 7/ 372.
(6/60)
وأمّا من قرأ سلام على إلياسين فهو جمع،
معنى واحدة الإضافة بالياء. مثل: تميمي وبكري، والقول فيه أنّه
لا يخلو من أن يراد بهذا الجمع الذي على حدّ: مسلم ومسلمون،
وزيد وزيدون، أو الذي واحدة يراد به النسب، فمن البيّن أنّه لا
يجوز أن يكون على حدّ: مسلم ومسلمون لأنّه ليس كلّ واحد منهم
اسمه إلياس، وإنّما إلياس اسم نبيّهم، وإذا لم يكن على هذا علم
أنّه على معنى إرادة النسب بالياء، إلّا أنّ الياءين حذفتا في
جمع الاسم على التصحيح، كما حذف ياءً النسب والتكسير، وذلك
نحو: المسامعة، والمهالبة، والمناذرة، فإنّما هذا على أن كلّ
واحد منهم مسمعيّ ومهلّبي فحذف في التكسير الياءات كما حذف في
التصحيح. ومما يدلّ على ذلك قولهم: فارسي وفرس، وليس الفرس جمع
فارس، إنّما هو جمع فارسيّ، حذفت منه ياء النّسب ثم جمع الاسم
بعد على حدّ: باذل، ولذلك جمع على حدّ الصّفة، وليس اسم الآحاد
المجموعة فارس، ولكنّه فارسي، قال:
طافت به الفرس حتى بذّ ناهضها «1» ومما يدلّ على أنّ جمع
التصحيح على تقدير إرادة النصب به في المعنى وإن حذف الحرف في
اللفظ قولهم: الأعجمون. ألا ترى أنّه ليس يخلو من أن يكون
المجموع: أعجم أو أعجمي؟ فلا يجوز أن يكون المجموع بالياء
والنون الأعجم، لأنّ هذا الضرب من الآحاد التي هي صفات لا تجمع
بالواو والنون، كما أنّ مؤنثه لا يجمع بالألف
__________
(1) هذا صدر بيت لابن مقبل عجزه:
عمّ لقحن لقاحا غير مبتسر
(6/61)
والتاء، لا يقال في الأحمر الأحمرون، فإذا
لم يجز ذلك علم أنّه إنّما جمع على الأعجمي، وإذا قامت الدلالة
من هذا على أنّ المجموع لا يكون الأعجم علمت أنّه الأعجمي،
وعلى هذا قالوا: النميرون والهبيرات، إنّما هو الهبريّات،
ويدلّ أيضا على أنّ المراد بجمع التصحيح هو ما فيه ياء
الإضافة، فحذفتا منه قولهم: مقتوون. ألا ترى أنّه لولا إرادة
الياء التي للنسب لم يجمع هذا الجمع؟ ولاعتلّت الواو التي هي
لام من: القتوة، وانقلبت كما انقلبت في نحو هذا ممّا جاء على
مفعل فثبات الواو في هذا دلالة على أنّ إرادة الياء التي
للإضافة كما كان الجمع في الأعجمين دلالة على إرادة النسب، فمن
ثمّ جاز:
الأعجمون، وجاز: مقتوون، والتكسير في هذا النحو كالتصحيح،
وكذلك قوله: سلام على إلياسين [الصافّات/ 130] تقديره إرادة
ياءي النسب، كما أنّ الأعجمون كذلك، والتقدير: إلياسيّين، فحذف
كما حذف من سائر هذه الكلم التي يراد بها الصّفة، ومما يثبت
ذلك قوله:
وإن إدريس لمن المرسلين [الصافّات/ 123] سلام على إدراسين
[الصافّات/ 130]، فكما جاء إدراسين، والمراد به إدراسين «1»
كذلك المراد بإلياسين، فإن قلت: فكيف قال: إدراسين، وإنّما
الواحد إدريس، والمجموع إدريسين في المعنى ليس بإدراس ولا
إدراسيّ؟
فإن ذلك يجوز أن يكون كإبراهيم، وإبراهام، اختلاف لغة في
الاسم، ومثل ذلك قوله:
قدني من نصر الخبيبين قدي «2» وأراد عبد الله ومن كان على
رأيه، وكذلك إدراسين من كان من
__________
(1) كذا الأصل والأظهر أن تكون: (إدراسيين).
(2) البيت لحميد الأرقط، سبق في 3/ 334، وانظر المحتسب 2/ 223.
(6/62)
شيعته وأهل دينه، والمعنى يدلّك على إرادة
ياء النسب، وقال بعضهم: يجوز أن يكون إلياس وإلياسين كقوله:
ميكال وميكائيل، وليس كذلك لأنّ ميكال وميكائيل لغتان في اسم
واحد، وليس أحدهما مفردا والآخر جمعا كإدريس، وإدراسين
وإلياسين، وزعموا أن إلياسين قراءة أهل البصرة والكوفة.
[الصافات: 126]
اختلفوا في النصب والرفع من قوله عزّ وجلّ: الله ربكم ورب
آبائكم الأولين [الصافّات/ 126].
فقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم الله ربكم ورب آبائكم نصبا.
وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم: الله ربكم ورب آباؤكم رفعا
«1».
حجّة من قرأ: الله بالنصب أن يكون الكلام فيه من وجه واحد وهو
يدلّ على معنى الرفع، والمعنى: لم تعبدون ما لا ينفع ولا يضر،
وتذرون عبادة أحسن الخالقين.
ومن رفع استأنف، وحسن الاستئناف لتمام الكلام الأوّل، والمعنى:
الله ربكم وربّ آبائكم الأولين، أي: خالقكم ورازقكم فهو الذي
تحقّ له العبادة دون من لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عن أحد
شيئا.
[الصافات: 153، 152]
قال: كلّهم قرأ: لكاذبون. أصطفى [الصافّات/ 152، 153] مهموزا.
واختلف عن نافع فروى المسيبي وقالون وأبو بكر بن أبي
__________
(1) السبعة ص 549.
(6/63)
أويس: لكاذبون أصطفى مهموز، وروى ابن جماز
وإسماعيل عن نافع وأبي جعفر وشيبة لكاذبون اصطفى غير مهموز ولا
ممدود ورأيت من أصحاب ورش من يرويه: لكاذبون اصطفى غير مهموز
ممدود مثل رواية إسماعيل. أخبرني بذلك محمد بن عبد الرحيم
الأصفهاني عن أصحابه عن ورش فإذا ابتدأت في قراءة نافع في
رواية إسماعيل وابن جماز فبالكسر «1».
الوجه الهمز على وجه التقريع لهم بذلك والتوبيخ، ويقوّي ذلك
قوله: أم اتخذ مما يخلق بنات [الزخرف/ 16] وقوله: أم له البنات
ولكم البنون [الطور/ 39] ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا
[النجم/ 21، 22] فكما أنّ هذه المواضع كلّها استفهام كذلك
قوله: أصطفى البنات وغير الاستفهام ليس باتجاه الاستفهام.
ووجه ما روي عن نافع أنّه على وجه الخبر، كأنّه: اصطفى البنات
فيما يقولون، كقوله: ذق إنك أنت العزيز الكريم [الدخان/ 49] أي
عند نفسك وفيما كنت تقوله، وتذهب إليه ومثله قوله: وقالوا يا
أيها الذي نزل عليه الذكر [الحجر/ 6] أي فيما يقول هو ومن
يتّبعه، ويجوز أن يكون المعنى: وإنّهم لكاذبون، قالوا اصطفى
البنات، فحذف: قالوا، وقوله بعد: ما لكم كيف تحكمون [الصافّات/
154] توبيخ لهم على قولهم الكذب. ويجوز أن يكون قوله: اصطفى
البنات بدلا من قوله: ولد الله [الصافّات/ 152]، لأنّ
ولادة البنات واتخاذهنّ اصطفاء لهنّ، فيصير اصطفى بدلا من
المثال الماضي، كما أنّ قوله: يضاعف له العذاب [الفرقان/ 69]
__________
(1) السبعة ص 549.
(6/64)
بدل من قوله: يلق أثاما [الفرقان/ 68]،
ويجوز أن يكون اصطفى* في رواية من كسر الهمزة عن نافع: تفسيرا
لكذبهم الذي نسب إليهم في قولهم، ولد الله وإنهم لكاذبون
[الصافّات/ 152]، كما أن لهم مغفرة [المائدة/ 9] تفسير للوعد
ويجوز أن يكون قوله: اصطفى متعلقا بالقول على أنه أريد حرف
العطف فلم يذكر، واستغنى بما في الجملة الثانية من الاتصال
بالأولى عن حرف العطف، كقوله:
سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم [الكهف/ 22] ونحو ذلك مما حذف حرف
العطف فيه لالتباس الثانية بالأولى.
(6/65)
|