الحجة للقراء السبعة

ذكر اختلافهم في سورة الدخان
[الدخان: 7، 6]
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر هاهنا رب السموات [7] برفع الباء.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي هاهنا: رب السموات بكسر الباء.
وفي المزّمّل: رب المشرق* [9] بكسر الباء.
وفي عمّ يتساءلون: رب السموات [37] كسرا، ووافقهم ابن عامر على هذين الحرفين في المزّمّل، وفي عمّ يتساءلون.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: ذلك كلّه بالرفع.
وقرأ عاصم في رواية حفص في المزّمّل: رب المشرق والمغرب رفعا، وفي الدّخان، وعمّ يتساءلون: بالخفض «1».
رفع الباء من رب السماوات على القطع من الأوّل، لأنّ ما بعده قد تمّ فانقطع الكلام بقوله: إنه هو السميع العليم [الدخان/ 6].
__________
(1) السبعة ص 592.

(6/164)


والرفع فيه على أحد أمرين: إمّا أن يكون خبر مبتدأ محذوف لما قال: رحمة من ربك إنه هو السميع العليم [الدخان/ 6] قال: هو رب السماوات فحذف المبتدأ، أو يكون: رب السماوات مبتدأ وخبره الجملة التي عاد الذّكر منها إليه، وهو قوله: لا إله إلا هو ويقوّي هذا قوله: رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو، ومن قرأ:
رب السموات والأرض جعله بدلا من ربك المتقدّم ذكره.
قال أبو الحسن: الرفع أجود وبه نقرأ.
وما في المزّمّل: واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق [المزّمّل/ 8، 9] فقد تمّ الكلام بقوله: وتبتل إليه تبتيلا، وانقطع، فالاستئناف فيه أحسن كما كان في قوله: رب السموات والأرض في الدّخان، ومن لم يستأنف أبدله من ربك من قوله: واذكر اسم ربك- رب المشرق كما أبدل في الدّخان، فإذا قطعه من قوله:
واذكر اسم ربك فرفع رب المشرق والمغرب كان على الوجهين اللّذين ذكرناهما في الآية التي في الدّخان، وما في عمّ يتساءلون، فقوله: جزاء من ربك عطاء حسابا [النبأ/ 36] فمن استأنف أيضا جاز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، وجاز أن يكون: رب السموات مبتدأ وخبره الرحمن*، ومن أبدل فقال: رب السموات والأرض كان الرحمن على قوله مبتدأ وما بعده خبره.

[الدخان: 47]
اختلفوا في كسر التاء وضمها من قوله عزّ وجلّ: فاعتلوه [الدخان/ 47] فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: خذوه فاعتلوه بضمّ التاء. عبيد عن أبي عمرو: فاعتلوه وفاعتلوه بالكسر والضمّ جميعا، لم يذكر عبيد الباقين بشيء. وعن عبيد عن هارون عن أبي عمرو:
فاعتلوه كسرا.

(6/165)


وقرأ الباقون: فاعتلوه بالكسر «1».
قيل في قوله: فاعتلوه: قودوه بعنف، ويعتل ويعتل مثل يعكف ويعكف ويحشر ويحشر، ويفسق ويفسق، ونحو ذلك من الكلم التي يجيء فيه يفعل ويفعل جميعا.

[الدخان: 45]
اختلفوا في الياء والتاء من قوله عزّ وجلّ: يغلي [الدخان/ 45].
فقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية حفص: يغلي بالياء. وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم: تغلي بالتاء «2».
من قال: تغلي بالتاء حمله على الشجرة، كأنّ الشجرة تغلي في البطون، ومن قال: يغلي، جعله على الطّعام لأنّ الطّعام هو الشجرة في المعنى. ألا ترى أنّه خبر الشجرة؟ والخبر في المعنى إذا كان مفردا هو الابتداء، ولا يجعل على المهل، إنّما ذكر للتشبيه في الذّوب.
فأمّا قوله: ألم يك نطفة من مني تمنى [القيامة/ 37] فالتاء فيه كالياء، لأنّ كلّ واحد منهما هو الآخر، قال: إنا خلقنا الإنسان من نطفة [الإنسان/ 2].

[الدخان: 49]
قال: قرأ الكسائي وحده: ذق أنك أنت العزيز الكريم [الدخان/ 49].
وقرأ الباقون: إنك بكسر الألف «3».
__________
(1) السبعة ص 592 - 593.
(2) السبعة ص 592.
(3) السبعة ص 593.

(6/166)


من كسر أن* فعلى ما كان يقوله، فالمعنى: إنّك أنت العزيز الكريم في زعمك، وفيما تقوله، فأجري ذلك على حسب ما كان يذكره أو يذكر به، ومثل هذا قوله: أين شركائي الذين كنتم تزعمون [القصص/ 62] أي شركائي فيما يفترون ويدّعون، وأخبرنا بعض الرواة أن زهرة اليمن قال في جرير:
أبلغ كليبا وأبلغ عنك شاعرها أني الأغرّ وأنّي زهرة اليمن «1» وأجابه جرير:
ألم تكن في وسوم قد وسمت بها من حال موعظة يا زهرة اليمن «2» أي: زهرة اليمن فيما تقول، وكذلك أبو جهل كان يقول: أنا أعزّ الوادي وأمنعهم، فعلى ما يقول جاء التنزيل بتكذيبه، فأمّا قول الكسائي: ذق أنك بفتح الهمزة فالمعنى: ذق بأنك، والناس على الأوّل.

[الدخان: 51]
قرأ نافع وابن عامر في مقام أمين [الدخان/ 51] بضمّ الميم.
__________
(1) سبق في 2/ 183 والبيت في المسائل الحلبيات ص 82 مع بيت جرير الآتي دونما فاصل وهو خطأ واضح.
(2) سبق في 2/ 183 وهو في المسائل الحلبيات ص 82 مع بيت زهرة اليمن دونما فاصل ونسبهما فيها لجرير، وأظن أن هذا من خطأ النساخ لأن أبا علي ذكر الشعر في أكثر من مكان في الحجة دونما مزج بين البيتين، ودونما خطأ في نسبة كل بيت منهما لصاحبه.

(6/167)


وقرأ الباقون: في مقام بفتح الميم «1».
من فتح الميم من مقام أراد به المجلس والمشهد، كما قال:
في مقعد صدق [القمر/ 55] ووصفه بالأمن، يقوّي أنّه يراد به المكان، ووصف بالأمن كما يوصف بالخوف.
وأمّا من ضمّ فإنّه يحتمل أن يريد به المكان من أقام فيكون على هذا معنى القراءتين واحدا، ويجوز أن يجعله مصدرا ويقدّر المضاف محذوفا في موضع إقامة أمين.
__________
(1) السبعة 593.

(6/168)


ذكر اختلافهم في سورة الجاثية
[الجاثية: 5، 4]
قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر: وما يبث من دابة آيات [4] رفعا، وتصريف الرياح آيات [5] رفعا.
وقرأ حمزة والكسائي: كسرا فيهما «1».
من قال: وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات جاز الرفع في قوله: آيات من وجهين: أحدهما: العطف على موضع إن* وما عملت فيه، لأنّ موضعها رفع بالابتداء، فيحمل الرفع فيه على الموضع، والآخر: أن يكون مستأنفا، ويكون الكلام جملة معطوفة على جملة، فيكون قوله: آيات على هذا مرتفعا بالظرف في قول من رأى الرفع بالظرف، أو بالابتداء في قول من لم ير الرفع بالظرف، فهذا وجه قول من رفع آيات في الموضعين.
قال أبو الحسن: من دابة آيات قراءة الناس الرفع، وهو أجود، وبها نقرأ، لأنّه قد صار على كلام آخر. نحو: إنّ في الدّار زيدا وفي
__________
(1) السبعة ص 594.

(6/169)


البيت غيره، لأنّك إنّما تعطف الكلام كلّه على الكلام كلّه.
قال: وقد قرئ بالنصب وهو عربيّ، انتهت الحكاية عنه.
فأمّا قوله: واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون [الجاثية/ 5] فإنّك إن تركت الكلام على ظاهره، فإنّ فيه عطفا على عاملين: أحد العاملين: الجارّ بالذي هو في* من قوله: وفي خلقكم وما يبث من دابة [الجاثية/ 4] والعامل الآخر: إن نصبت إنّ، وإن رفعت، فالعامل المعطوف عليه مع في: الابتداء أو الظرف.
ووجه قراءة حمزة والكسائي: وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات [الجاثية/ 4] وتصريف الرياح آيات [الجاثية/ 5] فعلى أنّه لم يحمل على موضع إنّ كما حمله من رفع آيات في الموضعين أو قطعه واستأنف، ولكن حمل على لفظ إنّ دون موضعها فحمل آيات في الموضعين على نصب إن في قوله: إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين [الجاثية/ 3] فإن قلت إنّه يعرض في هذه القراءة العطف على عاملين، وذلك في قوله: واختلاف الليل والنهار آيات [الجاثية/ 5] وسيبويه وكثير من النحويين لا يجيزونه،
قيل يجوز أن يقدر في قوله: واختلاف الليل والنهار آيات، وإن كانت محذوفة من اللّفظ في حكم المثبت فيه، وذلك أن ذكره قد تقدّم في قوله: إن في السموات وفي خلقكم فيجوز أن يكون حذفها لأنّ حرف الجرّ قد تقدّم ذكره في قوله: إن في السموات وقوله: وفي خلقكم فلمّا تقدّم ذكر الجارّ في هذين قدّر فيه الإثبات في اللّفظ، وإن كان محذوفا منه كما قدّر سيبويه في قوله:

(6/170)


أكلّ امرئ تحسبين امرأ ونار توقّد باللّيل نارا «1» إن كل* في حكم الملفوظ به، واستغني عن إظهاره بتقدّم ذكره، وكذلك فعلت العرب في الجارّ، ألا ترى أنّهم لم يجيزوا: من تضرب أمرّ، ولو قلت: بمن تمرّ أمرّ، كان جائزا؟ وعلى أنّهم قالوا:
على من تنزل أنزل عليه، فحذفوا الجارّ، وحسن ذلك لتقدّم ذكر الجارّ، وعلى هذا قول الشاعر:
إنّ الكريم وأبيك يعتمل إن لم يجد يوما على من يتّكل «2» لمّا ذكر على* وإن كانت زائدة في قول سيبويه حسن حذف الجارّ من الصلة، ولو لم يذكره لم يجز، وكذلك ما حكاه يونس، من قولهم: مررت برجل صالح إلّا صالح، فطالح، لمّا تقدّم ذكر الجارّ حسن ذلك، ولو لم يذكر الجارّ لم يكن هذا، وممّا يؤكّد قول حمزة والكسائي، وأن آيات* محمولة على إنّ ما ذكر من أنّه في قراءة «3» ثلاث لامات. وفي خلقكم وما يبث من دابة لآيات وكذلك الموضعان الآخران. فدخول اللّامات يدلّ على أنّ
__________
(1) سبق البيت ص 47 من هذا الجزء.
(2) البيت لبعض الأعراب استشهد به الفارسي في المسائل العسكرية ص 190.
انظر سيبويه في الكتاب 1/ 443، والخصائص 2/ 305، والمحتسب 1/ 281، والخزانة 4/ 252، والبيت من شواهد المغني وشرحه للبغدادي 3/ 241، 304.
(3) في الهامش: في أخرى: في قراءة أبي.

(6/171)


الكلام محمول على إن*، وإذا كان محمولا عليها حسن النصب على ما قرأ حمزة والكسائي، وصار كلّ موضع من ذلك كأن إن* مذكورة فيه، بدلالة دخول اللّام، لأنّ هذه اللّام إنّما تدخل على خبر إنّ، أو على اسمها، وممّا يجوز أن يتأوّل على ما ذكرنا في قوله: واختلاف الليل والنهار آيات قول الفرزدق:
وباشر راعيها الصّلا بلبانه وجنبيه حرّ النّار ما يتحرّف «1» فهذا إن حملت الكلام على ظاهره كان عطفا على عاملين على الفعل والباء، وإن قدّرت أن الياء ملفوظ بها لتقدّم ذكرها، صارت في حكم الثبات في اللّفظ، وإذا كان كذلك كان العطف على عامل واحد. وهو الفعل دون الجارّ، وكذلك قول الآخر:
أوصيت من برّة قلبا حرا بالكلب خيرا والحماة شرّا «2» إن قدّرت الجارّ في حكم المذكور بها بدلالة المتقدّم عليه لم يكن عطفا على عاملين كما لم يكن قوله: واختلاف الليل والنهار آيات كذلك وقد يخرج قوله: واختلاف الليل والنهار آيات وآيات من أن يكون عطفا على عاملين من وجه آخر، وهو أن تقدّر قوله: واختلاف الليل والنهار معطوفا على في* المتقدّم ذكرها،
__________
(1) انظر ديوانه 2/ 559، وفيه: وكفّيه بدل وجنبيه والبيت في المسائل العسكريات ص 163.
(2) البيت من رجز لأبي النجم في شرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 372، والمسائل العسكريات ص 163.

(6/172)


ويجعل آيات متكررة كرّرتها لما تراخى الكلام وطال، قال بعض شيوخنا في قوله: ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له [التوبة/ 63] إنّ أن له هي الأولى كررت، وكما جاء فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به [البقرة/ 89] لما تراخى عن قوله: ولما جاءهم كتاب من عند الله [البقرة/ 89] وهذا النحو من كلامهم ضيّق.

[الجاثية: 6]
اختلفوا في التاء والياء من قوله عزّ وجلّ: وآياته يؤمنون [الجاثية/ 6].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية حفص والأعشى عن أبي بكر «1» وأبو عمرو يؤمنون بالياء.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: تؤمنون* بالتاء، وكذلك يحيى عن أبي بكر عن عاصم بالتاء أيضا «2».
حجّة من قرأ بالياء أنّ قبله غيبة، وهو قوله: لقوم يوقنون [الجاثية/ 4]، ومن حجّته أنّه قال: تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق [الجاثية/ 6] مخاطبة للنّبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يكون في خطابه: فبأي حديث بعد الله وآياته تؤمنون [الجاثية/ 6] فإن قلت: إنّ في أوّل الكلام خطابا، وهو قوله: وفي خلقكم وما يبث من دابة [الجاثية/ 4] قيل: والغيبة التي ذكرنا أقرب إلى الحرف المختلف فيه، والأقرب إليه أولى أن يحمل عليه، والتّاء على: نتلوها عليك بالحق فقل لهم: بأي حديث بعد ذلك تؤمنون.
__________
(1) في السبعة زيادة عن عاصم، ولا حاجة لذكر عاصم لأنّه تقدّم ذكر رواية حفص عنه كما ترى في النص.
(2) السبعة ص 594.

(6/173)


[الجاثية: 14]
قال، قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: لنجزي قوما بالنون [الجاثية/ 14].
وقرأ الباقون بالياء «1».
حجّة الياء: أنّ ذكر الله عزّ وجلّ قد تقدّم في قوله: لا يرجون أيام الله [الجاثية/ 14] فيكون فاعل يجزي، ومن قرأه بالنون، فالنون في معنى الياء، وإن كانت الياء أشدّ مطابقة لما في اللّفظ.

[الجاثية: 11]
ابن كثير وعاصم في رواية حفص: من رجز أليم [الجاثية/ 11] رفع.
الباقون وأبو بكر عن عاصم: أليم* خفض «2».
قال أبو علي: الرجز: العذاب، بدلالة قوله: فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء [البقرة/ 59] وقوله: لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك [الأعراف/ 134] وقال: فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه [الأعراف/ 135] وفي موضع آخر: فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم [الزخرف/ 50] فمعنى قول من جرّ فقال: لهم عذاب من رجز أليم*: لهم عذاب من عذاب أليم، فإذا كان عذابهم من عذاب أليم. كان عذابهم أيضا أليما وقوله: من رجز على صفة العذاب، لأنّه نكرة فيكون فيه ذكر منه، ومن قال: لهم عذاب من رجز أليم فرفع أليما، كان المعنى: لهم عذاب أليم من عذاب، وليس فائدته كذلك فالقول في ذلك أمران:
أحدهما: أنّ الصفة قد تجيء على وجه التأكيد، كما أنّ الحال قد
__________
(1) السبعة ص 594.
(2) السبعة ص 594.

(6/174)


تجيء كذلك، وذلك نحو ما روي من أنّه في بعض الحروف: نعجة أنثى، وقوله: فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة [الحاقة/ 13] وقوله:
ومناة الثالثة الأخرى [النجم/ 20] وقولهم: أمس الدّابر، وأمس المدبر، قال:
وأبي الّذي ترك الملوك وجمعهم بصهاب هامدة كأمس الدّابر «1» والآخر: أن يحمل على الذي بمعنى الرّجس الذي هو النجاسة على البدل للمقاربة، ومعنى النجاسة فيه قوله: ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه [إبراهيم/ 16، 17] فكأنّ المعنى: لهم عذاب من تجرّع رجس، أو شرب رجس، فيكون من* تبيينا للعذاب ممّ هو.

[الجاثية: 21]
اختلفوا في الرفع والنصب من قوله: سواء محياهم ومماتهم [الجاثية/ 21] فقرأ الكسائي وحمزة وحفص عن عاصم: سواء نصبا. الباقون وأبو بكر عن عاصم سواء محياهم رفع «2».
قال أبو علي: ليس الوجه في الآية نصب سواء إذا نصبه على أن يجريه على ما قبله على حدّ قوله: مررت برجل هارب أبوه، وبرجل خارجا أخوه، لأنّه ليس باسم فاعل، ولا بما شبّه به من حسن وشديد ونحو ذلك، إنّما هو مصدر فلا ينبغي أن يجرى على ما قبله، كما
__________
(1) البيت أنشده الأصمعي ولم ينسبه، صهاب: اسم موضع. انظر الخصائص 2/ 267، واللسان (صهب) وقال فيه: وبين البصرة والبحرين عين تعرف بعين الأصهب.
(2) السبعة ص 595.

(6/175)


يجرى اسم الفاعل وما شبّه به، لتعرّيه من المعاني التي أعمل لها فاعل وما شبّه به عمل الفعل، ومن قال: مررت برجل خير منه أبوه، وبسرج خزّ صفته «1»، وبرجل مائة إبله، استجاز أن يجري سواء أيضا على ما قبله، كما أجرى الضرب الأوّل، فأمّا من قال: أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء [الجاثية/ 21] فنصب، فإنّ انتصابه يحتمل ثلاثة أضرب:
أحدهما: أن تجعل المحيا والممات بدلا من الضمير المنصوب في نجعلهم، فيصير التّقدير: أن نجعل محياهم ومماتهم سواء، فينتصب سواء على أنّه مفعول ثان لنجعل، ويكون انتصاب سواء على هذا القول حسنا، لأنّه لم يرفع مظهرا، ويجوز أيضا أن تجعل محياهم ومماتهم ظرفين من الزمان، فيكون كذلك أيضا. ويجوز أن يعمل في الظرف أحد شيئين أحدهما: ما في سواء من معنى الفعل، كأنّه يستوي في المحيا والممات، والآخر: أن يكون العامل الفعل، ولم نعلم الكوفيّين الذين نصبوا سواء نصبوا الممات، فإذا لم ينصبوه كان النصب في سواء على غير هذا الوجه، وغير هذا الوجه لا يخلو من أن ينتصب على أنّه حال، أو على أنّه المفعول الثاني لنجعل، وعلى أيّ الوجهين
حملته، فقد أعملته عمل الفعل، فرفعت به المظهر، فإن جعلته حالا أمكن أن تكون الحال من الضمير في تجعلهم ويكون المفعول الثاني قوله كالذين آمنوا فإذا جعلت قوله: الذين آمنوا المفعول الثاني أمكن أن يكون سواء منتصبا على الحال ممّا في قوله: كالذين آمنوا من معنى الفعل، ويكون ذو الحال الضمير
__________
(1) صفّة الرحل والسرج: التي تضم العرقوتين والبدادين من أعلاهما وأسفلهما (اللسان صفف).

(6/176)


المرفوع في قوله: كالذين آمنوا، وهذا الضمير يعود إلى الضمير المنصوب في نجعلهم، فانتصابه على الحال من هذين الوجهين، ويجوز أن لا تجعل قوله: كالذين آمنوا المفعول الثاني، ولكن تجعل المفعول الثاني قوله: سواء محياهم ومماتهم، فيكون جملة في موضع نصب بكونها في موضع المفعول الثاني لنجعل، ويجوز فيمن قال: مررت برجل مائة إبله، فأعمل المائة عمل الفعل أن ينصب سواء على هذا الوجه أيضا ويرتفع به المحيا، كما جاز أن يرتفع إذا قدّرت الجملة في موضع الحال، والحال في الجملة التي هي «1» سواء محياهم ومماتهم تكون من تجعل* وتكون ممّا في قوله:
كالذين آمنوا من معنى الفعل، وقد قيل في الضمير في قوله:
محياهم ومماتهم قولان:
أحدهما: أنّه ضمير الكفّار دون الذين آمنوا، وقيل: إنّه ضمير للقبيلين المؤمن والكافر، فمن جعل الضمير للكفّار دون المؤمنين كان سواء* على هذا القول مرتفعا بأنّه خبر ابتداء مقدّم تقديره: محياهم ومماتهم سواء، أي: محياهم محيا سوء، ومماتهم كذلك، ولا يكون النصب على هذا في سواء، لأنّه إثبات في الإخبار بأنّ محياهم ومماتهم يستويان في الذّم والبعد من رحمة الله.
والقول الآخر: أنّ الضمير في محياهم ومماتهم للقبيلين، فإذا كان كذلك جاز أن ينتصب سواء على المفعول الثاني من تجعل* فيمن استجاز أن يعمله في الظاهر، لأنّه ملتبس بالقبيلين جميعا، وليس في الوجه الأوّل كذلك، لأنّه للكفّار دون المؤمنين، فلا يلتبس بالمؤمنين من حيث كان للكفّار دونهم، ولا يجوز أن ينتصب سواء وإن
__________
(1) في الأصل بياض والأرجح أن تكون الكلمة كما أثبتناها.

(6/177)


كان الضمير في نجعلهم للكفّار خاصة، وفي محياهم ومماتهم كذلك، لأنّه يلزم أن يكون داخلا في الحسبان وليس المعنى كذلك إنما المعنى على القطع والثبات باستواء محيا الكفّار ومماتهم، فإن قلت: كيف يدخل في الحسبان وهو في صلة أن نجعلهم؟ قيل: إنّه يدخل في الحسبان، وإن كان في صلة أن نجعل كما دخل في النفي قوله: ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم [البقرة/ 105] فكما دخل أن ينزل في النفي بدلالة دخول من في قوله: من خير من ربكم وإن كان النفي لا حقا ليودّ، كذلك يدخل سواء إذا نصبت في الحسبان، لأنّه في صلة أنّ الذي وقع عليه الحسبان، كما دخل قوله: من خير من ربكم في النفي، لأنّه مفعول النفي، فكذلك سواء مفعول نجعل الذي وقع عليه الحسبان، وليس المراد إدخاله في الحسبان إنّما المراد الإثبات والإعلام باستواء محياهم ومماتهم في السوء، والذّم، وإذا كان كذلك لم يكن فيه إلا الرفع، ويكون على هذا الوجه قوله: كالذين آمنوا وعملوا الصالحات في موضع المفعول الثاني، وسواء محياهم استئناف ولا يكون في موضع حال من قوله: كالذين آمنوا، لأنّه لا يلتبس بهم، ألا ترى أن الضمير على هذا القول للكفّار خاصة دون المؤمنين؟ قال سيبويه: وما كان من النكرة رفعا غير صفة فهو في المعرفة كذلك، وتلا الآية، يريد أنه إذا لم يعمل عمل الفعل إذا جرى على النكرة نحو مررت برجل سواء أبوه وأمه، فهو في المعرفة كذلك في أنّه لا يعمل عمل الفعل في الظاهر، وهذا يدلّ على أنّه جعل قوله: سواء محياهم ومماتهم، ملتبسا لما قبله إلّا أنّه لم يجره عليه من حيث لم يشبه اسم الفاعل ولا ما شبّه به

(6/178)


[الجاثية: 23]
وقرأ حمزة والكسائي غشوة [الجاثية/ 23] بغير ألف وقرأ الباقون: غشاوة بألف «1».
وغشوة قراءة الأعمش فيما زعموا، وحكي فيها: غشوة، وغشوة، وغشوة، وحكى أبو الحسن: غشاوة* بضمّ الغين.
وقراءة الجمهور: غشاوة بكسر الغين.

[الجاثية: 35]
وقرأ حمزة والكسائي: فاليوم لا يخرجون [الجاثية/ 35] بفتح الياء وضمّ الراء.
وقرأ الباقون: لا يخرجون بضمّ الياء وفتح الراء «2».
حجّة من فتح قوله: يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها [المائدة/ 37] وفي أخرى: وما هم بخارجين من النار [البقرة/ 167]. وحجّة من ضمّ الياء: ربنا أخرجنا منها [المؤمنون/ 197] ويقويه قوله: ولا هم يستعتبون [الجاثية/ 35] فكما أنّ الفعل فيه مبني للمفعول، فكذلك المعطوف عليه ليكون وجها واحدا.

[الجاثية: 32]
قرأ حمزة وحده: والساعة لا ريب فيها [الجاثية/ 32] نصبا.
وقرأ الباقون: والساعة لا ريب فيها «3».
قال أبو علي: الرفع الذي هو قراءة الجمهور في الساعة من وجهين:
__________
(1) السبعة ص 595.
(2) السبعة ص 595.
(3) السبعة ص 595.

(6/179)


أحدهما: أن تقطعه من الأوّل، فتعطف جملة.
والآخر: أن يكون المعطوف محمولا على موضع إنّ وما عملت فيه، وموضعهما رفع.
ويحتمل وجها ثالثا وهو أن تعطفه على الضمير في المصدر إلّا أنّ هذا يحسن إذا أكّد نحو: إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم [الأعراف/ 27] فإذا لم يؤكّد لم تحمل عليه القراءة.
وأمّا قوله: ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى [النجم/ 6، 7]، فإنّ قوله: وهو بالافق الأعلى يرتفع هو فيه بالابتداء وليس هو من باب: استوى زيد وعمرو، إذا أردت استويا، ولو كان منه لكان استوى هو وهو، وكان قوله: بالأفق ظرفا للاستواء، وليس كذلك، ولكنّه استوى الذي يقتصر فيه على فاعل واحد كقوله: ولما بلغ أشده واستوى [القصص/ 14]، والرحمن على العرش استوى [طه/ 5] فقوله: بالأفق تأويلنا في موضع رفع بأنّه خبر المبتدأ، وفيه ضمير للمبتدإ، فقد تبيّنت أنّه لا دلالة لمن احتجّ بهذه الآية على جواز عطف الظّاهر المرفوع على المضمر المرفوع من غير أن يؤكّد، ولكن يجيء في الشعر كقوله:
قلت إذ أقبلت وزهر تهادى كنعاج الملا تعسّفن رملا «1»
__________
(1) البيت لعمر بن أبي ربيعة قاله في جارية له تسمى حمدة.
الزهر: جمع زهراء وهي البيضاء المشرقة، والتهادي: المشي الرويد الساكن، والنعاج: بقر الوحش، شبّه النساء بها في سكون المشي فيه، ومعنى تعسفن: ركبن، وإذا مشت في الرمل كان أسكن لمشيها لصعوبة

(6/180)


ومن نصب فقال: والساعة* حمله على لفظ إن* مثل: إنّ زيدا منطلق وعمرا قائم، وموضع قوله: لا ريب فيها رفع بأنّه في موضع خبر إنّ، وقد عاد الذكر إلى الاسم فكأنّه قال: والساعة حق لأنّ قوله:
لا ريب فيها في معنى حقّ.
قال أبو الحسن: الرفع أجود في المعنى، وفي كلام العرب، وأكثر إذا جاء بعد خبر إنّ اسم معطوف، أو صفة أن يرفع، قال: وقد قرئت نصبا وهي عربية، ويقوّي ما ذهب إليه أبو الحسن قوله: إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين [الأعراف/ 128] والعاقبة لم تقرأ فيما علمت إلّا مرفوعة.
__________
المشي فيه، والملا: الفلاة الواسعة، ديوانه ص 498، وانظر الكتاب 1/ 390، والخصائص 2/ 386.

(6/181)