الحجة للقراء السبعة ذكر اختلافهم في
سورة الأحقاف
[الاحقاف: 15]
اختلفوا في قوله: بوالديه إحسانا وحسنا* [15] فقرأ عاصم وحمزة
والكسائي: إحسانا بألف.
وقرأ الباقون: حسنا* بغير ألف «1».
قال أبو علي: الباء في قوله: بوالديه يجوز أن يتعلق بوصينا،
بدلالة قوله: ذلكم وصاكم به [الأنعام/ 151] ويجوز أن تتعلق
بالإحسان، يدلّ على ذلك قوله: وقد أحسن بي إذا أخرجني من السجن
[يوسف/ 100] ولا يجوز أن تتعلق الباء في الآية بالإحسان
لتقدّمها على الموصول، ولكن يجوز أن تعلقها بمضمر يفسره
الإحسان، كما جاز ذلك في الفعل في نحو: وكانوا فيه من الزاهدين
[يوسف/ 20] ومثل ذلك:
كان جزائي بالعصا أن أجلدا «2»
__________
(1) السبعة ص 596.
(2) هذا رجز للعجّاج، سبق في 4/ 343 وهو في شرح الأبيات
المشكلة الإعراب (المسمى بإيضاح الشعر) للمؤلف ص 119 و 396 و
438.
(6/182)
في قول من لم يعلّقه بالجزاء، ألا ترى أن
الجزاء يتعلق بالباء في نحو قوله: إني جزيتهم اليوم بما صبروا
[المؤمنون/ 111] ولكن في قول من علّقه بمضمر يبيّنه: أن أجلدا:
والإحسان خلاف الإساءة، والحسن خلاف القبح، فمن قال: إحسانا
كان انتصابه على المصدر، وذلك أنّ معنى قوله: ووصينا الإنسان
بوالديه: أمرناه بالإحسان، أي: ليأتي الإحسان إليهما دون
الإساءة، ولا يجوز أن يكون انتصابه بوصّينا، لأنّ وصّينا قد
استوفى مفعوليه اللّذين أحدهما منصوب، والآخر المتعلق بالياء
وحجّته قوله في الأنعام: وبالوالدين إحسانا [151].
ومن قال: بوالديه حسنا فمعناه: ليأت في أمرهما أمرا ذا حسن،
أي: ليأت الحسن في أمرهما دون القبح، وحجّته ما في العنكبوت:
ووصينا الإنسان بوالدين حسنا [8].
[الاحقاف: 12]
اختلفوا في الياء والتاء من قوله: لينذر الذين ظلموا [الأحقاف/
12].
فقرأ ابن كثير فيما قرأت على قنبل، وعاصم وأبو عمرو وحمزة
والكسائي: لينذر بالياء.
وقرأ نافع وابن عامر: لتنذر* بالتاء. وأخبرني إسحاق بن أحمد
الخزاعي عن ابن فليح عن أصحابه عن ابن كثير: لتنذر* بالتاء
«1».
حجّة التاء: إنما أنت منذر من يخشاها [النازعات/ 45] وإنما أنت
منذر ولكل قوم هاد [الرعد/ 7] وإنما أنذركم بالوحي [الأنبياء/
45] ولتنذر به وذكرى [الأعراف/ 2].
__________
(1) السبعة ص 596.
(6/183)
وحجّة الياء قوله: لينذر بأسا شديدا من
لدنه [الكهف/ 2] وقد تقدّم ذكر الكتاب، فأسند الإنذار إلى
الكتاب، كما أسنده إلى الرّسول عليه السلام.
[الاحقاف: 15]
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: كرها* وكرها* [الأحقاف/ 15]
نصبا.
وقرأ الباقون: كرها بضمّ الكاف في الحرفين «1».
الكره: كأنه المصدر، والكره: الاسم، كأنّه الشيء المكروه،
وقال: كتب عليكم القتال وهو كره لكم [البقرة/ 216] فهذا
بالضّمّ، وقال: أن ترثوا النساء كرها [النساء/ 19] فهذا في
موضع حال، ولم يقرأ- زعموا- بغير الفتح، فعلى هذا ما كان مصدرا
أو في موضع حال الفتح فيه أحسن، وما كان اسما نحو: ذهب به على
كره، كان الضّمّ فيه أحسن، وقد قيل: إنّهما لغتان، فمن ذهب إلى
ذلك جعلهما مثل الشّرب والشّرب، والضّعف والضّعف، والفقر
والفقر، ومن غير المصادر: الدفّ والدفّ، والشّهد والشّهد.
[الاحقاف: 16]
اختلفوا في الياء والنون من قوله: أولئك الذين يتقبل عنهم أحسن
ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم [الأحقاف/ 16] فقرأ ابن كثير
ونافع وعاصم في رواية أبي بكر، وأبو عمرو وابن عامر: يتقبل
عنهم، ويتجاوز بالياء جميعا.
وقرأ حمزة والكسائي: نتقبل ونتجاوز بالنون جميعا، حفص عن عاصم
بالنون مثل حمزة فيهما «2».
__________
(1) السبعة ص 596.
(2) السبعة ص 597.
(6/184)
حجة من قال: يتقبل عنهم: أنّ الفعل وإن كان
مبنيا للمفعول، فمعلوم أنّه لله عزّ وجلّ، كما جاء في الأخرى:
إنما يتقبل الله من المتقين [المائدة/ 27] وتقبل دعائي
[إبراهيم/ 40]، ونحو هذا الفعل الذي هو لله سبحانه، ولم يكن
لغيره، كان بناؤه للمفعول في العلم بالفاعل كبنائه للفاعل،
كقوله: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [الأنفال/ 38] والفعل
معلوم أنّه لله سبحانه وإن بني للمفعول، ألا ترى أنّه قد جاء
في الأخرى: ومن يغفر الذنوب إلا الله [آل عمران/ 135] فيغفر
ويغفر في هذا يفهم من كلّ واحد منهما ما يفهم من الآخر، وعلى
هذا جاء: فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر [المائدة/ 27] ثم
جاء إنما يتقبل الله من المتقين [المائدة/ 27] وكذلك: يتقبل
عنهم [الأحقاف/ 16].
وحجّة من قال: نتقبل ونتجاوز بالنون أنّه قد تقدّم الكلام:
ووصينا الإنسان [الأحقاف/ 15] وكلاهما حسن، ألا ترى أنّه قد
قال: فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال إنما يتقبل الله
من المتقين.
[الاحقاف: 17]
وقرأ نافع وحفص عن عاصم: أف لكما [الأحقاف/ 17] خفض منوّن.
ابن كثير وابن عامر أف لكما نصب [غير منون].
أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي: أف لكما خفض
غير منوّن «1».
قال أبو علي: من نوّن فقال: أف جعله نكرة مثل: غاق
__________
(1) السبعة ص 597.
(6/185)
وصه، ونحو ذلك من الأصوات، وهذا التنوين في
الصوت دليل التنكير، ومن لم ينون جعله معرفة، كأنّه في المعنى:
الصوت الذي يعرف، وكلّ واحد من الكسر والفتح، إنّما هو لالتقاء
الساكنين، فأمّا التنوين فدليل التنكير، وحذفه دليل التعريف،
وقد تقدّم ذكر ذلك.
[الاحقاف: 19]
اختلفوا في النّون والياء من قوله عزّ وجلّ: ولنوفيهم أعمالهم
[الأحقاف/ 19] فقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو: وليوفيهم
بالياء.
وقرأ الباقون: ولنوفيهم بالنون «1».
حجّة الياء أنّه قد تقدّم: وهما يستغيثان الله [الأحقاف/ 17]
والنون في معنى في الياء، ومثله قوله: سبحان الذي أسرى بعبده
[الإسراء/ 1] ثمّ جاء: لنريه من آياتنا [الإسراء/ 1].
[الاحقاف: 25]
اختلفوا في الياء والتاء من قوله: فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم
[الأحقاف/ 25] ورفع النون من قوله: مساكنهم ونصبها.
فقرأ حمزة وعاصم: لا يرى إلا مساكنهم برفع النون والياء.
وقرأ الباقون: لا ترى بالتاء إلا مساكنهم بنصب النون «2».
قال أبو علي: تذكير الفعل في قراءة عاصم وحمزة: لا يرى إلا
مساكنهم حسن، وهو أحسن من إلحاق علامة التأنيث الفعل، من أجل
جمع المساكن، وذلك أنّهم جعلوا الكلام في هذا الباب على المعنى
فقالوا، ما قام إلّا هند، ولم يقولوا: ما قامت، لمّا كان
المعنى
__________
(1) السبعة ص 597 - 598.
(2) السبعة ص 598.
(6/186)
ما قام أحد حملوا على هذا المعنى، فإن كان
المؤنث يرتفع بهذا الفعل، فالتأنيث فيه لم يجيء إلّا في شذوذ
وضرورة فيما حكاه الأخفش، فمن ذلك قوله:
برى النّحز والأجرال ما في غروضها فما بقيت إلّا الضلوع
الجراشع «1» وقال:
كأنّه جمل وهم فما بقيت إلّا النّحيزة والألواح والعصب «2»
فيما حكاه أبو الحسن، والحمل على المعنى كثير، من ذلك قوله:
أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن
بقادر [الأحقاف/ 33] فأدخل الباء لمّا كان في معنى: أو ليس
الذي خلق السّماوات والأرض بقادر، ومثل ذلك في الحمل على
المعنى:
بادت وغيّر آيهنّ مع البلى إلّا رواكد جمرهنّ هباء «3» ثمّ
قال:
ومشجج أمّا سواء قذاله «3»
__________
(1) البيت لذي الرّمّة، سبق في 4/ 370.
(2) البيت لذي الرّمة، سبق في 4/ 370.
(3) سبق البيتان في 5/ 313 و 314 منسوبين لذي الرمة أو للشماخ
في ملحقات ديوانهما.
(6/187)
لمّا كان: «غيّر آيهنّ مع البلى/ إلّا
رواكد» معناه: بها رواكد، حمل مشجج على ذلك، وكذلك قوله عزّ
وجلّ: يطاف عليهم بكأس من معين [الصافات/ 45] «1» ثم قال: وحور
عين [الواقعة/ 22] لمّا كان يطاف عليهم بكذا معناه لهم فيها
كذا، وقالوا: إنّ أحدا لا يقول ذاك إلّا زيد، فأدخل أحدا في
الواجب لمّا كان معنى الكلام النفي، ومثله قبل دخول إن قوله:
إذن أحد لم تنطق الشفتان «2» فإنما دخل إنّ على أحد ودخولها
يدلّ على أنّه رفعه بالابتداء دون الفعل الذي يفسّره «لم تنطق»
وهذا الضرب كثير، وإنّما ينكره من لا بصر له بهذا اللّسان.
ومن قرأ: لا ترى إلا مساكنهم كان الفعل لك أيها المخاطب،
والمساكن مفعول بها، وترى في القراءتين جميعا من رؤية العين،
المعنى: لا تشاهد شيئا إلّا مساكنهم كأنها قد زالت عمّا كانت
عليه من كثرة الناس بها، وما يتبعهم ممّا يقتنونه.
[الاحقاف: 20]
قال: وقرأ ابن كثير: أاذهبتم [الأحقاف/ 20] بهمزة مطوّلة.
وقرأ ابن عامر: أأذهبتم بهمزتين.
__________
(1) الظاهر أنه التبس على المصنف هنا آية الصافات هذه بآية
الواقعة وهي: (يطوف عليهم ولدان مخلدون .. ) الآية 17، وهي
التي يأتي بعدها (وحور عين) كما أورد.
(2) البيت من قصيدة للفرزدق أبياتها سبعة وأربعون بيتا، يصف
فيها الشاعر صنيعه ليلا بالذئب، وقراه له، ورواية البيت في
الديوان:
ولو سألت عني النوار وقومها إذا لم توار الناجذ الشّفتان انظر
ديوانه 2/ 330 والمسائل البصريات ص 561
(6/188)
وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي:
أذهبتم على الخبر «1».
قول أحمد: بهمزة مطوّلة، المعنى بهمزتين: الأولى محقّقة،
والثانية مخففة بين بين.
وجه الاستفهام أنّه قد جاء هذا النحو بالاستفهام نحو: أليس هذا
بالحق [الأحقاف/ 34] وقال: فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم [آل
عمران/ 106] وحجّة الخبر أنّ الاستفهام تقرير فهو مثل الخبر،
ألا ترى أنّ التقرير لا يجاب بالفاء، كما يجاب بها إذا لم يكن
تقريرا؟ فكأنّهم يوبّخون بهذا الذي يخيّرون به، ويبكّتون.
والمعنى في القراءتين: يقال لهم هذا فحذف القول كما حذف في نحو
قوله: فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم [آل عمران/
106]
__________
(1) السبعة ص 598.
(6/189)
ذكر اختلافهم في سورة محمّد صلى الله عليه
وآله وسلم
[محمد: 4]
قال: قرأ أبو عمرو وحده «1»: والذين قتلوا في سبيل الله [4]
بضمّ القاف وكسر التاء وكذلك روى حفص عن عاصم.
وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم: والذين قاتلوا بالألف «2».
قال أبو علي: الذين قاتلوا أعمّ من قتلوا ألا ترى أنّ الذي
قاتل ولم يقتل لم يضلّ عمله، كما أنّ الذي قتل كذلك؟ فإذا كان
قاتلوا* يشتمل القبيلين، وقد حصل للمقاتل الثواب في قتاله، كما
حصل للمقتول كان لعمومه أولى، ومن قال: قتلوا حصر ذلك على
المقتولين، فله أن يقول إنّ المقتول لا يقتل حتى يكون منه
مقاتلة في أكثر الأمر، وإن كان كذلك فقد جعل في قتلوا ما في
قاتلوا*.
[محمد: 15]
قال: قرأ ابن كثير وحده: من ماء غير أسن [محمد/ 15] مقصور على
وزن فعل، وفي كتابهم مفتوحة الألف لم يذكروا مدّا ولا غيره
«3».
__________
(1) في السبعة: قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم.
(2) السبعة ص 600.
(3) السبعة ص 600.
(6/190)
قال أبو زيد: يقال: أسن الماء يأسن أسنا
إذا تغير، وأسن الرجل يأسن أسنا، إذا غشي عليه من ريح خبيثة،
وربّما مات منها. وأنشد:
التارك القرن مصفرّا أنامله يميل في الرمح ميل المائح الأسن
«1» وقال أبو عبيدة: الأسن: المتغيّر الريح «2».
حجّة ابن كثير في قراءته: أسن على فعل أنّ اسم الفاعل من فعل
يفعل على فعل وقد ثبت ذلك مع كثرته وفشوّه ممّا حكاه أبو زيد.
ومن حجّته: أنّهم زعموا أنّه كما كان في المصحف أو بعض المصاحف
من ماء غير يسن بالياء. وهذا إنّما هو على تخفيف الهمزة، وهو
في المنفصل نظير: مير، وذيب في المتصل.
وقال أبو الحسن: أسن لغة، وفعل إنّما هي للحال التي يكون
عليها.
فأمّا من قال: غير أاسن على فاعل، فإنّما يريد أن ذلك لا يصير
إليه فيما يستقبل، فهو من باب: بعيرك صائد غدا.
__________
(1) البيت لزهير بن أبي سلمى. انظر ديوانه/ 121، وفيه: «يغادر»
بدل «التارك» مصفرا أنامله: دنا موته فاصفرّت أنامله. الأسن:
الذي يغشى عليه من ريح البئر المنتنة. المائح: الذي ينزل إلى
أسفل البئر يملأ الدلو إذا قلّ الماء.
يميل في الرمح: أي يميل والرمح فيه. والبيت أنشده أبو زيد في
كتاب الهمز ص 30 برواية الفارسي كما هنا وهو من شواهد البغدادي
في شرح أبيات المغني 4/ 109 وصدر البيت من شواهد النحو، وقد
تعاوره عدد من الشعراء. تناولها البغدادي عند شرحه للشاهد: قد
أترك القرن مصفرا أنامله ... 4/ 103 إلى 110 وهو ممتع، وقد
استوفي تخريجه هناك.
(2) مجاز القرآن 20/ 215.
(6/191)
[محمد: 16]
قال: قرأ ابن كثير وحده: ماذا قال أنفا [محمد/ 16] قصرا فيما
أخبرني به مضر بن محمد عن البزّي. وقرأت على قنبل أيضا ممدود.
وكذلك قرأ الباقون: آنفا ممدودة أيضا «1».
قال أبو زيد: ائتنفت الكلام ائتنافا وابتدأته ابتداء وهما
واحد.
وأنشد أبو زيد:
وجدنا آل مرّة حين خفنا جريرتنا هم الأنف الكراما «2» ويسرح
جارهم من حيث أمسى كأن عليه مؤتنفا حراما قال السكري: الأنف
الذين يأنفون من احتمال الضّيم، فقال أبو علي: فإذا كان كذا
فقد جمع فعلا على فعل، لأنّ واحد أنف أنف، بدلالة قول الشاعر:
وحمّال المئين إذا ألمّت بنا الحدثان والأنف النّصور «3»
__________
(1) السبعة ص 600.
(2) البيتان لرجل من بكر بن وائل جاهلي ومتوجه بثالث في شرح
أبيات المغني 5/ 15 عن أبي زيد في أول نوادره ص 153 وهي ثلاثة
في النوادر والبيت الأول:
فلا تشلل يد فتكت بعمرو فإنّك لن تذلّ ولن تضاما وهذا البيت من
شواهد المغني، وقد استوفى شرحها البغدادي. رحمه الله.
(3) والبيت قبله آخر وهو:
(6/192)
فشبّه الصّفة بالاسم، فكسّرها تكسيره، وقد
قالوا في جمع نمر:
نمر، أنشد سيبويه:
فيه عياييل أسود ونمر «1» وليس الأنف والأنف في البيتين ممّا
في الآية في شيء لأنّ ما في الشعر: من الأنفة. وما في الآية:
من الابتداء ولم يسمع أنف في معنى ابتداء، وإن كان القياس
يوجبه، وقد يجيء اسم الفاعل على ما لم يستعمل من الفعل نحو:
فقير جاء على فقر، والمستعمل: افتقر، وكذلك شديد المستعمل:
اشتد، فكذلك قوله: آنفا، المستعمل ائتنف، فأمّا قوله:
كأنّ عليه مؤتنفا حراما «2» فالمعنى: كأنّ عليه حرمة شهر مؤتنف
حرام، فحذف وأقام الصّفة مقام الموصوف، فالتّقدير: إنّ جارهم
لعزّهم ومنعتهم لا يهاج ولا يضام، فهو كأنّه في حرمة شهر حرام،
وكانوا لا يهيجون أحدا في الشهر الحرام، ومن ثم سمّي رجب: منصل
الأسنّة، والشهر الأصمّ،
__________
ألا هلك الشهاب المستنير ومدرهنا الهمام إذا نغير والبيتان
أنشدهما الفارسي في كتابه شرح الأبيات المشكلة الإعراب ص 570،
وهما في معاني القرآن للفرّاء 1/ 129، ومجالس ثعلب ص 421،
والإنصاف ص 766 والبيت في اللسان (حدث) عن الفارسي، والأمالي
الشجرية 1/ 106، وقد تحرّفت في شرح الأبيات المشكلة: الأنف إلى
الألف.
(1) رجز لم يعرف قائله انظر الكتاب 2/ 179 وعياييل: جمع عيال،
وهو الذي يتمايل في مشيته لعبا.
(2) سبق قريبا.
(6/193)
أي: لا يسمع فيه قعقعة السّلاح، فأمّا
قوله:
ويأكل جارهم أنف القصاع «1» فإنّه يريد: أنّهم يؤثرون ضيفهم
بأفضل الطعام وجيّده، فيطعمونه أوله لا البقايا، وما أتي على
نقاوته «2»، فهذا جمع على أنف، مثل بازل وبزل وقاتل وقتل، فإذا
كان كذلك قوّى قراءة من قرأ:
ماذا قال آنفا.
وأمّا ما روي عن ابن كثير من قوله آنفا، فيجوز أن يكون توهّمه
مثل حاذر وحذر، وفاكه وفكه والوجه الرواية الأخرى آنفا بالمدّ
كما قرأه عامّتهم.
[محمد: 25]
قال: وقرأ أبو عمرو: وأملي لهم* [محمد/ 25] بضمّ الألف، وكسر
اللّام وفتح الياء.
والباقون: وأملى بفتح الألف واللّام «3».
قال أبو علي: انتظرته مليا من الدّهر، أي: متّسعا منه، فهو صفة
استعمل استعمال الأسماء، وقالوا: تمليت حبيبا، أي: عشت معه
ملاوة وملاوة من الدّهر، قال التّوّزيّ: ملاوة وملاوة وملاوة،
والملا:
المتّسع من الأرض قال:
__________
(1) عجز بيت للحطيئة صدره:
ويحرم سرّ جارتهم عليهم انظر ديوانه/ 62، واللسان (أنف).
(2) النقاوة من الشيء: خياره وخلاصته. وعكسه النقاية- بالياء-
(الوسيط).
(3) السبعة ص 600.
(6/194)
ألا غنّياني وارفعا الصّوت بالملا «1» وقال
آخر:
وأنضو الملا بالشّاحب المتشلشل «2» وقالوا: الملوان: يريدون
بها تكرّر اللّيل والنّهار، وكثرة تردّدهما، وطول مدتهما، قال:
نهار وليل دائم ملواهما على كلّ حال المرء يختلفان «3» فلو كان
اللّيل والنّهار لم يضافا إلى ضميرهما من حيث لا يضاف الشيء
إلى نفسه، ولكن كأنّه يراد تكرّر الدّهر والساعة بهما.
والملاءة، الهمزة فيها منقلبة عن حرف لين بدلالة سقوطها في
التّحقير، روينا في تحقيرها مليّتين، ولو كانت الهمزة لاما لم
تسقط، ويشبه أن تكون لزيادة عرضها على عرض الشّفة، والضمير في
أملي لاسم الله عزّ وجلّ، كما قال في أخرى: وأملي لهم إن كيدي
متين [الأعراف/ 183] وأنما نملي لهم خير لأنفسهم [آل عمران/
178] وإنما نملي لهم ليزدادوا إثما [آل عمران/ 178].
__________
(1) صدر بيت وعجزه:
فإنّ الملا عندي يزيد المدى بعدا اللسان (ملا) ولم يعزه.
(2) عجز بيت لتأبط شرّا صدره:
ولكنني أروي من الخمر هامتي انظر اللسان (ملا) و (شلل)
والمتشلشل: الرجل الخفيف المتخدّد القليل اللحم.
(3) البيت في اللسان (ملا) ولم يعزه.
(6/195)
فأمّا قراءة أبي عمرو: وأملي لهم*، فبناء
الفعل للمفعول به حسن في هذا الموضع للعلم بأنّه لا يؤخر أحد
مدة أحد، ولا يوسع له فيها إلّا الله سبحانه.
قال أبو الحسن: هي حسنة في المعنى، وليس ما أنشده أبو زيد من
قول الشاعر:
فآليت لا أشريه حتّى يملّني بشيء ولا أملاه حتّى يفارقا «1» من
هذا الباب، ولكن لا أملاه: لا أمله، فأبدل من التضعيف حرف
العلّة كما أبدل في قوله: وقد خاب من دساها [الشمس/ 10] ونحو
ذلك، ممّا يكثر، وكذلك قوله: فهي تملى عليه بكرة وأصيلا
[الفرقان/ 5] هو بدل من التضعيف، وفي موضع آخر: أو لا يستطيع
أن يمل هو فليملل وليه بالعدل [البقرة/ 282].
وليس من هذا الباب قولهم: رجل ملي، إنّما هو على تخفيف الهمزة،
والهمزة الأصل، قالوا: ملؤ الرجل ملاءة إذا أيسر، ومن هذا
اللّفظ: ملأت الإناء مل ءا، ومنه أيضا: رجل مملوء: للمزكوم،
وبه ملاءة.
[محمد: 26]
اختلفوا في كسر الألف وفتحها من قوله: والله يعلم أسرارهم
[محمد/ 26] فقرأ حمزة والكسائي وحفص: إسرارهم بكسر الألف.
وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم: أسرارهم، بفتح الألف «2»
__________
(1) سبق في 208.
(2) السبعة ص 601.
(6/196)
حجة من قال: إسرارهم أنّه لمّا كان مصدرا
أفرده، ولم يجمع، ويقوّي الإفراد قوله: ألم يعلموا أن الله
يعلم سرهم ونجواهم [التوبة/ 78] فكما أفرد السّر ولم يجمع،
كذلك قال: إسرارهم، والدليل على الإسرار قوله: يعلم ما يسرون
وما يعلنون [النحل/ 23] ويعلم ما يخفون وما يعلنون [النمل/
25].
ومن قال: أسرارهم بفتح الهمزة، جعله جمع سرّ كقولهم:
عدل وأعدال، وكأنّه جمع لاختلاف ضروب السرّ، وجميع الأجناس
يحسن جمعها مع الاختلاف، وجاء سرّهم في قوله: يعلم سرهم
[التوبة/ 78] على ما عليه معظم المصادر، وأنّه يتناول جميع
ضروبه، فأفرد مرة وجمع أخرى، وقد جمع في غير هذا وأفرد كقوله:
الذين يؤمنون بالغيب [البقرة/ 3] والغيب الذي يؤمنون به ضروب:
كالبعث
والنشور، وإتيان الساعة، فأوقع الغيب على هذه الأشياء وغيرها،
وجمع أيضا في قوله: إن الله علام الغيوب [التوبة/ 78]، فكذلك
السرّ أفرد في موضع، وجمع في آخر.
[محمد: 31]
قال: قرأ عاصم في رواية أبي بكر: وليبلونكم حتى يعلم المجاهدين
... ويبلو [محمد/ 31] ثلاثتهنّ بالياء.
وقرأ الباقون وحفص عن عاصم ثلاثتهنّ بالنون «1».
وجه قراءة عاصم أنّ قبله: والله يعلم أعمالكم [محمد/ 30] واسم
الغيبة أقرب إليه من لفظ الجمع، فحمل على الأقرب، ووجه النّون
في ولنبلونكم حتى نعلم [محمد/ 31] أنّ قبله: ولو نشاء
__________
(1) السبعة ص 601.
(6/197)
لأريناكهم [محمد/ 30] فإمّا أن يكون جعل
قوله عزّ وجلّ: والله يعلم أعمالكم كالاعتراض وحمل الكلام على
ولو نشاء أو يكون عاد إلى لفظ الجمع بعد لفظ الإفراد فيكون
كقوله: وآتينا موسى الكتاب [الإسراء/ 2] بعد قوله: سبحان الذي
أسرى بعبده [الإسراء/ 1].
[محمد: 35]
قال: قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي وحفص عن
عاصم: وتدعوا إلى السلم [محمد/ 35] مفتوحة السين.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة بكسر السين السلم «1».
السّلم والاستسلام والسّلم: من أسلم، كالعطاء من أعطى، والثبات
من أثبت. قال: ادخلوا في السلم كافة [البقرة/ 208] ويجوز أن
يكون السّلم في الإسلام يراد به الصلح على أن يكون معنى أسلم:
صار ذا سلم وخرج من أن يكون حربا للمسلمين، وفيه لغتان:
السّلم والسّلم، وقال أبو إسحاق: والسّلم أيضا والسّلم الذي هو
الصلح يذكّر ويؤنث، فمن التأنيث قوله: وإن جنحوا للسلم فاجنح
لها [الأنفال/ 61]. وقال الشاعر «2»:
فإنّ السّلم زائدة نوالا وإنّ نوى المحارب لا تئوب وقالوا:
سالمته مسالمة، ولم نعلم الفعل جاء منه على مثال فعل. قال:
__________
(1) السبعة ص 601.
(2) لم نعثر على قائله.
(6/198)
تبين صلاة الحرب منّا ومنهم إذا ما التقينا
والمسالم بادن «1» المعنى: لا تدعوا إلى السلم، لا توادعوهم
ولا تتركوا قتالهم حتى يسلموا لأنّكم الأعلون، فلا ضعف بكم
فتدعوا إلى الموادعة.
[محمد: 38]
عليّ بن نصر عن أبي عمرو: ها أنتم [محمد/ 38] مقطوعة ممدودة،
وقد ذكر ذلك في آل عمران [66]، وهذا خلاف قراءة أبي عمرو «2».
وقد ذكرنا ذلك في سورة آل عمران «3».
__________
(1) سبق في 2/ 294.
(2) السبعة ص 602.
(3) انظر 3/ 46.
(6/199)
|