الحجة للقراء السبعة ذكر اختلافهم في
سورة الواقعة
[الواقعة: 22]
قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر: وحور عين [22]
بالرفع، المفضل عن عاصم وحمزة والكسائي: وحور عين خفض «1».
قال أبو علي: وجه الرفع، على أنه لمّا قال: يطوف عليهم ولدان
مخلدون بأكواب وأباريق [الواقعة/ 17، 18] دلّ هذا الكلام على
ما ذكر بعد على: لهم فيها كذا، ولهم حور عين، وكذلك من نصب من
غير السبعة، حمل على المعنى، لأن الكلام دلّ على يمنحون وعلى
يملّكون. وهذا مذهب سيبويه، ومثل ذلك «2»:
__________
(1) السبعة 622.
(2) البيتان لكعب بن زهير. تجافى: عن الأرض- وذاك أكرم لها-
أي: لم ترم بنفسها- والزور والكلكل: بعضه قريب من بعض-
والنبيل: ضخم الجسم، وسمر: يعنى: البعر- وظماء: يابسة لأنها لم
تشرب الماء أياما- واترتهنّ:
تابعتهنّ- وذبّل: يبّس.
يصف في هذين البيتين منزلا رحل عنه فطرقه ذئبان أو ذئب وغراب
فلم يجدا به إلا موضع إناخة مطيته وبعر السمر الظماء.
وهما من شواهد سيبويه 1/ 88. ديوانه/ 53 - 54.
(6/255)
فلم يجدا إلّا مناخ مطيّة تجافى بها زور
نبيل وكلكل وسمر ظماء واترتهنّ بعد ما مضت هجعة من آخر الليل
ذبّل لأن معنى لم يجدا إلا مناخ مطيّة: ثمّ مناخ مطيّة، فحمل
سمر على ذلك، كما أن معنى: يطوف عليهم ولدان ... بأكواب: لهم
أكواب، فحمل الرفع على المعنى، وكذلك قوله «1»:
بادت وغيّر آيهنّ مع البلى إلّا رواكد ... لما كان معنى
الحديث: بها رواكد، حمل قوله:
ومشجّج أمّا سواء قذاله فبدا ... «1»
__________
(1) البيتان ينسبان إلى ذي الرمة وهما في ملحقات ديوانه 3/
1840، كما ينسبان إلى المشاخ وهما في ملحقات ديوانه 427/ 428
وتمامهما:
بادت وغيّر ايهنّ مع البلى إلا رواكد جمرهن هباء ومشجّح أمّا
سواء قذاله فبدا وغيّر ساره المعزاء وأراد بالرواكد: الأثافي،
ووصف الجمر بالهباء لقدمه، والهباء:
الغبار وما يبدو من شعاع الشمس إذا دخلت من كوّة، وأراد
بالمشجّج وتدا من أوتاد الخباء، وتشجيجه: ضرب رأسه ليثبت،
وسواء قذاله: وسطه، واراد بالقذال أعلاه. وقوله: غيّر ساره:
أراد سائره والمعزاء: أرض صلبة ذات حصى.
والبيتان من شواهد سيبويه ولم ينسبهما. الكتاب 1/ 88.
(6/256)
على: بها رواكد، ومشجّج.
ويجوز أن يحمل الرفع على قوله: على سرر موضونة [الواقعة/ 15]
يريد: وعلى سرر موضونة حور عين، أو: وحور عين على سرر موضونة،
لأن الوصف قد جرى عليهنّ فاختصصن، فجاز أن يرفع بالابتداء، ولم
يكن كالنكرة إذا لم توصف نحو فيها عين [الغاشية/ 12] وقوله:
على سرر موضونة [الواقعة/ 15] خبر لقوله:
ثلة من الأولين وقليل من الآخرين [الواقعة/ 13، 14]، فكذلك
يجوز أن يكون خبرا عنهنّ، ويجوز في ارتفاع، وحور عين أن يكون
عطفا على الضمير في: متكئين، ولم يؤكّد لكون طول الكلام بدلا
من التأكيد. ويجوز أيضا أن تعطفه على الضمير في متقابلين، ولم
يؤكد لطول الكلام أيضا. وقد جاء: ما أشركنا ولا آباؤنا
[الأنعام/ 148] فهذا أجدر.
ووجه الجرّ: أن تحمله على قوله: أولئك المقربون في جنات النعيم
[الواقعة/ 12]، التقدير: أولئك المقرّبون في جنّات النعيم، وفي
حور عين، أي: في مقارنة حور عين ومعاشرة حور عين، فحذفت
المضاف، فإن قلت: فلم لا تحمله على الجار في قوله: يطوف عليهم
ولدان بكذا، وبحور عين، فإن هذا يمكن أن يقال: إلا أن أبا
الحسن قال: في هذا بعض الوحشة.
قال أبو عبيد: الحوراء: الشديدة بياض العين الشديدة سوادها.
[الواقعة: 37]
قال: قرأ ابن عامر وابن كثير والكسائي: عربا [الواقعة/ 37]
__________
وقد نسب البيتان إلى الشماخ في شواهد الإنصاف/ 6، وذكر البيت
الثاني اللسان في مادة/ شجج/ ولم ينسبه.
سبق البيتان في 5/ 313.
(6/257)
مثل. وقرأ حمزة: عربا خفيف. واختلف عن نافع
وأبي عمرو وعاصم، فروى يحيى عن أبي بكر عن عاصم عربا خفيف،
وروى حفص عن عاصم: عربا مثقّل، وروى ابن جماز والقاضي عن
قالون، وورش وإسحاق عن نافع عربا مثقل. وروى إسماعيل بن جعفر:
عربا خفيف، وروى عبد الوارث واليزيدي عن أبي عمرو عربا مثقّل.
وروى أبو زيد وشجاع ابن أبي نصر عن أبي عمرو عربا خفيف، وقال
عباس: سألت أبا عمرو فقرأ: عربا مثقّل، قال:
وسألته عن عربا فقال: تميم تقولها ساكنة الراء «1».
قال أبو عبيدة: العروب: الحسنة التبعّل، قال لبيد «2»:
وفي الحدوج عروب غير فاحشة ريّا الرّوادف يعشى دونها البصر «3»
قال أبو علي: الفعول: تجمع على فعل وفعل، فمن التثقيل قوله
«4»:
فاصبري إنّك من قوم صبر وقال «5»:
__________
(1) السبعة 622.
(2) ديوانه/ 56، الحدوج: مراكب النساء- العروب: المتحببة
لزوجها- ريا الروادف: ضخمة العجيزة- يعشى: يكلّ ويضعف.
(3) مجاز القرآن 2/ 251.
(4) لم نعثر على قائله.
(5) لم نعثر على قائله.
(6/258)
أنّهم غفر ذنبهم ....
والتخفيف في ذلك سائغ مطّرد، وليس في هذا ما في قول الآخر «1»:
وما بدّلت من أمّ عمران سلفع من السّواد ورهاء العنان عروب
ومما جاء مسكّنا في جميع عروب قول رؤبة «2»:
العرب في عرابة وإعراب وذكر عن ابن عباس: العرابة والإعرابة:
التعريض بالنكاح.
[الواقعة: 47]
قال: وقال ابن عامر: أإذا متنا وكنا ترابا بهمزتين، أإنا
لمبعوثون [الواقعة/ 47] بهمزتين أيضا، خلاف ما في سائر القرآن،
ولم يقرأ ابن عامر بالجمع «3» بين الاستفهامين في سائر القرآن،
إلا في هذا الموضع «4».
__________
(1) ذكره صاحب التهذيب 2/ 364، واللسان (عرب) ولم ينسباه
وعندهما: «وما خلف» بدل «وما بدلت». والعروب: المرأة الحسناء
المتحبّبة لزوجها، والعروب أيضا: العاصية لزوجها الخائنة
بفرجها الفاسدة في نفسها. وأنشدا البيت عن ثعلب. قال ابن
منظور: وعندي أن عروب في هذا البيت الضحاكة، وهم يعيبون النساء
بالضحك الكثير. السلفع: السليطة الجريئة.
(اللسان).
(2) في ديوانه:
والعرب في عفافة وإعراب وقبله: وقد أرى زير الغواني الأتراب
انظر ديوانه/ 5.
(3) في الأصل: بالجميع، وما أثبتناه من السبعة.
(4) السبعة 623.
(6/259)
قال أبو علي: إن ألحق حرف الاستفهام في
قوله: أئنا أولم يلحق، كان إذا متعلّقا بشيء دل عليه: أئنا
لمبعوثون وكذلك لو لم يلحق فقال: إنا لمبعوثون*. ألا ترى أن
إذا: ظرف من الزمان فلا بدّ له من فعل، أو معنى فعل يتعلّق به،
ولا يجوز أن يتعلّق بقوله: متنا، لأن إذا* مضاف إليه، والمضاف
إليه لا يعمل في المضاف، وليس الفعل في موضع جزم، كما يكون في
موضع جزم في الشعر، فإذا لم يجز حمله على هذا الفعل، ولا على
ما بعد إنّ، من حيث لم يعمل ما بعد إنّ فيما قبلها، كما لم
يعمل ما بعد لا، فكذلك لا يجوز أن يعمل ما بعد الاستفهام فيما
قبله، علمت أنه متعلق بشيء دلّ عليه قوله: إنا لمبعوثون* أو:
أإنا لمبعوثون، وذلك: نحشر، أو نبعث، ونحو هذا مما يدلّ عليه
الكلام.
[الواقعة: 55]
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو والكسائي: شرب* [الواقعة/
55] بفتح الشين.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة: شرب بضمّ الشين «1».
شرب شربا وشربا جميعا، فالشّرب: كالأكل والضّرب، والشّرب:
كالشّغل والذكر، فأما الشّرب: فالمشروب، كما أن الطّحن:
المطحون، وقال: لها شرب ولكم شرب يوم معلوم [الشعراء/ 155]،
إنما هو ما كانت شربة من الماء، وقد يكون الشّرب جمع شارب،
مثل: راكب وركب، وراجل ورجل، وتاجر وتجر، فأما قول الشاعر «2»:
__________
(1) البيت لأبي دؤاد- والشّرب: جماعة الشاربين. انظر شعره/ 290
ضمن دراسات في الأدب العربي لغرانباوم، وفيه «الموكب» بدل
«المركب».
(2) السبعة 623.
(6/260)
وعنس قد براها لذة المركب والشّرب فيمكن أن
يعني بالشّرب المصدر، ويمكن أن يعني به جمع شارب، والمصدر أشبه
ليكون معطوفا على مثله، ويقوّي المصدر أيضا قول الآخر «1»:
كشراب قيل عن مطيّته ولكلّ أمر واقع قدر فإن جعلت في البيت
الشّرب مصدرا فالمعنى إدمان الشّرب، وإن جعلته جمعا فالمعنى
استعمال الشرب.
[الواقعة: 60]
قال: وكلّهم قرأ: نحن قدرنا [الواقعة/ 60] بالتشديد، غير ابن
كثير فإنه قرأ: قدرنا* خفيفة «2».
قال أبو علي: قد قالوا: قدرنا* في معنى قدرنا، وقد تقدّم ذكر
ذلك، ويدلّ عليه قوله «3»:
ومفرهة عنس قدرت لساقها فخرّت كما تتايع الريح بالقفل
__________
(1) البيت لعمرو بن أحمر يذكر شبابه ونعمته. وهو من قصيدة في
شعره ص 91، وانظر المعاني الكبير 1/ 463.
وقيل: هو قيل بن عتر من عاد، وهو أحد أفراد وفد عاد الذين
وفدوا على معاوية بن بكر أحد العماليق وسيد مكّة. القدر: القدر
والقضاء. يريد أنه لها في شبابه كما لها قيل عن مطيته حين
سحرته الجرادتان بغنائهما.
(2) السبعة 623.
(3) لأبي ذؤيب، وقد سبق في 5/ 49
(6/261)
المعنى: قدرت ضربتي لساقها فضربتها، ومثله
في المعنى «1»:
فإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها على الضيف يجرح في عراقيبها
نصلي ومثله قول لبيد «2»:
مدمنا يمسح في شحم الذّرى دنس الأسؤق من عضب أفلّ
[الواقعة: 66]
قال عاصم في رواية أبي بكر: أإنا لمغرمون [الواقعة/ 66]
استفهام بهمزتين.
حفص عن عاصم، والباقون: إنا على لفظ الخبر «3».
قال أبو علي: قد تقدم القول في ذلك.
قال: قرأ حمزة والكسائي: بموقع النجوم [الواقعة/ 75] واحدا،
وقرأ الباقون: بمواقع النجوم جماعة «4».
[الواقعة: 75]
أبو عبيدة: فلا أقسم بمواقع النجوم أي: فأقسم، قال:
__________
(1) لذي الرّمة سبق ذكره في 5/ 49
(2) رواية الديوان للبيت:
مدمن يجلو بأطراف الذرى دنس الأسؤق بالعضب الأفلّ والعضب:
القاطع. الأفل. الكثير الفلول لكثرة ما ضرب به. والمعنى: يعرقب
الإبل لينحرها ثم يمسح ذرى أسنمتها بسيفه ليجلو ما عليه من
دماء سيقانها ديوانه/ 149.
(3) السبعة 624.
(4) السبعة 624.
(6/262)
ومواقعها: مساقطها حيث تغيب، هذا قول أبي
عبيدة «1» وقيل: إنه مواقع القرآن حين نزل على النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم نجوما، ويحتمل قوله: والنجم إذا هوى
[النجم/ 1] هذين الوجهين، فأمّا الجمع في ذلك، وإن كان مصدرا
فلاختلافه، وذلك أن المصادر وسائر أسماء الأجناس إذا اختلفت،
جاز جمعها، وعلى هذا قالوا: نمور ونمران، وقال: إن أنكر
الأصوات لصوت الحمير [لقمان/ 19] فجمع للاختلاف وقال:
لصوت الحمير، فأفرد لما كان الجميع ضربا واحدا.
فمن قال: بموقع فأفرد، فلأنه اسم جنس، ومن جمع، فلاختلاف ذلك.
فأما قوله «2»:
كأنّ متنيّ من النقيّ مواقع الطّير على الصّفيّ فليس اسم
المصدر إنما هو موضع، فجمع، لأن المعنى على الجمع، وإنما شبّه
مواضع بمواضع.
[الواقعة: 56]
قال عباس سألت أبا عمرو فقرأ: هذا نزلهم [الواقعة/ 56] ساكنة
الزاي.
وقرأ الباقون واليزيدي عن أبي عمرو: نزلهم مثقّل «3».
والنّزل والنزل بمعنى، مثل: الشّغل والشّغل، والعنق والعنق،
والطنب والطنب، فأما قوله: ولكم فيها ما تدعون، نزلا من غفور
رحيم [فصّلت/ 31، 32] فنزل: يحتمل ضربين يجوز أن يكون
__________
(1) مجاز القرآن 2/ 252.
(2) للأخيل الطائي سبق ذكره في الحجّة 4/ 308.
(3) السبعة 623.
(6/263)
جمع نازل كقوله:
أو تنزلون فإنّا معشر نزل «1» والحال من الضمير في يدعون أي:
ما يدّعون من غفور رحيم نازلين، ويجوز أن يكون، نزلا يراد به
القوت الذي يقام للنازل أو الضيف.
ويكون حالا من قوله: ما يدعون والعامل في الحال معنى الفعل في
لهم وذو الحال ما يدعون أي: لهم ما يدّعون نزلا، ومن غفور رحيم
صفة نزل، وفيه ضمير يعود إليه، وقوله: كانت لهم جنات الفردوس
نزلا [الكهف/ 107]، ويجوز أن يكون المعنى:
لهم ثمر جنّات الفردوس نزلا، فيكون النزل: القوت، ويجوز أن
يكون النزل: جمع نازل، ويدلّ على الوجه الأول: كلما رزقوا منها
من ثمرة رزقا [البقرة/ 25].
[الواقعة: 82]
قال: روى المفضل عن عاصم: وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون خفيفة
منصوبة التاء [الواقعة/ 82].
وروى غيره عن عاصم: تكذبون مشدّدة، وكذلك الباقون.
وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون: أي تجعلون رزقكم الذي رزقكموه
اللَّه فيما قاله: وأنزلنا من السماء ماء مباركا إلى قوله:
رزقا للعباد [ق/ 11]، وقوله: وأنزل من السماء ماء فأخرج به من
الثمرات
__________
(1) عجز بيت للأعشى وصدره في ديوانه ص 63:
قالوا الركوب! فقلنا تلك عادتنا أي: تنزلون عن خيولكم فنجالدكم
بالسيوف بدل المطاعنة بالرماح، والبيت من شواهد سيبويه 1/ 429،
وشرح أبيات المغني 8/ 103.
(6/264)
رزقا لكم [البقرة/ 22]، أي: تكذبون في أن
تنسبوا هذا الرزق إلى غير اللَّه، فتقولون: مطرنا بنوء كذا،
فهذا وجه التخفيف.
ومن قال: تكذبون فالمعنى: إنكم تكذبون بالقرآن، لأن اللَّه عزّ
وجلّ هو الذي رزقكم ذلك، على ما جاء في قوله: رزقا للعباد [ق/
11] فتنسبونه أنتم إلى غيره، فهذا تكذيبهم لما جاء التنزيل به،
وروي عن ابن عباس أنه قرأ: وتجعلون شكركم أنكم تكذبون «1»
[الواقعة/ 82]، أي تجعلون مكان الشكر الذي يجب عليكم التكذيب.
وقد يكون المعنى: تجعلون شكر رزقكم التكذيب، فحذف المضاف.
__________
(1) هذه قراءة علي وابن عباس ورويت عن النبي صلى اللَّه عليه
وآله سلم. انظر المحتسب 2/ 310.
(6/265)
ذكر اختلافهم في
سورة الحديد
[الحديد: 8]
قرأ أبو عمرو وحده: وقد أخذ ميثاقكم [الحديد/ 8]، رفع «1»،
وقرأ الباقون: أخذ ميثاقكم «1».
حجة من قال: أخذ أنه قد تقدّم: وما لكم لا تؤمنون بالله
[الحديد/ 8]، الضمير يعود إلى اسم اللَّه عزّ وجلّ. وأمّا أخذ*
فإنه يدلّ على هذا المعنى، وقد عرف آخذ الميثاق وأن آخذه
اللَّه عزّ وجل.
[الحديد: 10]
قال: كلهم قرأ: وكلا وعد الله الحسنى [الحديد/ 10] بالنصب، غير
ابن عامر فإنه قرأ: وكل وعد الله الحسنى بالرفع «3».
حجّة النصب بيّن لأنه بمنزلة زيدا وعدت خيرا، فهو مفعول وعدت،
وحجّة ابن عامر أن الفعل إذا تقدّم عليه مفعوله لم يقو عمله
فيه قوّته إذا تأخّر، ألا ترى أنهم قد قالوا في الشعر: زيد
ضربت، ولو تأخر المفعول فوقع بعد الفاعل لم يجز ذلك فيه. ومما
جاء من ذلك
__________
(1) في السبعة: بضمّ الألف وكسر الخاء وضم القاف.
(3) السبعة 625.
(6/266)
قول الشاعر «1».
قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي عليّ ذنبا كلّه لم أصنع فرووه
بالرفع لتقدّمه على الفعل، وإن لم يكن شيء يمنع من تسلّط الفعل
عليه، فكذلك قوله: وكل وعد الله الحسنى يكون على إرادة الهاء
وحذفها، كما تحذف في الصّلات والصّفات، فالصّلات نحو: أهذا
الذي بعث الله رسولا [الفرقان/ 41] والصفات: واتقوا يوما لا
تجزي نفس عن نفس شيئا [البقرة/ 48] أي: لا تجزيه، ومثل ذلك قول
جرير «2»:
وما شيء حميت بمستباح أي: حميته.
[الحديد: 11]
قرأ ابن كثير وابن عامر: فيضعفه [الحديد/ 11] مشدّدة بغير ألف.
ابن كثير يضمّ الفاء وابن عامر يفتح الفاء.
قال: وعاصم يقرأ: فيضاعفه بألف وفتح الفاء. وقرأ نافع وأبو
عمرو وحمزة والكسائي: فيضاعفه* بالألف وضمّ الفاء.
قال أبو علي: يضاعفه، ويضعفه بمعنى، فأما الرفع في:
__________
(1) البيت لأبي النجم، وهو من شواهد سيبويه 1/ 44 - 69 - 73،
وشرح أبيات المغني 4/ 240، والخزانة 1/ 173 - 445، والخصائص 1/
292 و 3/ 61. وأم الخيار: زوجة أبي النجم.
(2) صدر البيت:
أبحت حمى تهامة بعد نجد وقد سبق ذكره في 2/ 44.
(6/267)
فيضاعف فهو الوجه، لأنه محمول على: يقرض،
أو على الانقطاع من الأول، كأنه: فهو يضاعف، ولا يكون النصب في
هذا كما كان في قولك: أتقوم فأحدّثك؟ لأن القيام غير متيقّن
فالمعنى: أيكون منك قيام فحديث منّي؟، وليس ما في الآية كذلك،
ألا ترى أنه من قال:
من ذا الذي يقرض الله [الحديد/ 11] فالقرض ليس مسئولا عنه،
وإنما المسئول عنه الفاعل، وعلى هذا أجازوا: أيّهم سار حتى
يدخلها، ولم يجز سيبويه النصب في يدخل، لأن السير متيقن غير
مسئول عنه، وإنما السؤال عن الفاعل، فكذلك في قوله: من ذا الذي
يقرض فيضاعف له. لا يكون في يضاعف إلا الرفع، كما لم يكن في
يدخل بعد حتى إلا الرفع. ومن نصب فقال: فيضاعفه لم يكن الوجه،
وإنما هو مما يجوز في الشعر في نحو قوله «1»:
وألحق بالحجاز فأستريحا ألا ترى أن المعطوف عليه موجب في موضع
تيقّن، ولكن يحمل قول الذي نصب، فقال: يضاعفه على المعنى، لأنه
إذا قال أحد: من ذا الذي يقرض، فكأنه قد قال: أيقرض اللَّه أحد
قرضا فيضاعفه له؟ وإن لم يحمله على ما ذكرنا من المعنى لم
يستقم، فالوجه في قراءة: فيضاعفه ما عليه الأكثر من الرفع في:
فيضاعفه*.
__________
(1) عجز بيت للمغيرة بن حبناء وصدره:
سأترك منزلي لبني تميم واستشهد به سيبويه 1/ 423 - 448، وهو
الشاهد رقم 319 من شواهد المغني، وفي الخزانة 3/ 600، والمحتسب
1/ 197، والمفصل 1/ 279.
(6/268)
[الحديد: 13]
قال: قرأ حمزة وحده: للذين آمنوا أنظرونا [الحديد/ 13] مكسورة
الظاء.
وقرأ الباقون: للذين آمنوا انظرونا موصولة «1».
ليس النظر الرؤية التي هي إدراك البصر، إنما هو تقليب العين
نحو الجهة التي فيها المرئيّ المراد رؤيته، ممّا يدلّ على ذلك
قوله «2»:
فيا ميّ هل يجزى بكائي بمثله مرارا وأنفاسي إليك الزوافر وأنّي
متى أشرف من الجانب الذي به أنت من بين الجوانب ناظر فلو كان
النظر الرؤية لم يطلب عليه الجزاء، لأن المحبّ لا يستثيب من
النظر إلى محبوبه شيئا بل يريد ذلك ويتمنّاه، ويدلّ على ذلك
قول الآخر «3»:
ونظرة ذي شجن وامق إذا ما الركائب جاوزن ميلا فهذا على التوجّه
إلى الناحية التي المحبوب فيها، وتقليب البصر نحوها لما يعالج
من التلفّت والتقلّب. كقول الآخر «4»:
__________
(1) السبعة 626 وفيه: (انظرونا) موصولة الألف مضمومة الظاء.
(2) البيتان لذي الرّمّة- ومعناهما: يامي هل تبكين مثلما أبكي
مرارا، وإنني صابر على ذلك فهل تجزينني على هذه المحبة؟
والبيت الثاني من شواهد سيبويه 1/ 437، والمقتضب 4/ 71،
والخزانة 3/ 645، انظر ديوانه 2/ 1014.
(3) لم نعثر على قائله.
(4) لم نعثر على قائله.
(6/269)
ما سرت ميلا ولا جاوزت مرحلة إلا وذكرك
يلوي كابيا عنقي وما يبيّن أن النّظرة ليست الرؤية أن الركاب
إذا حاذت هذه المسافة أو جاوزتها لم تقع الرؤية على من صار من
الرائي بهذه المسافة. فأما قوله: ولا ينظر إليهم يوم القيامة
[آل عمران/ 77]، فالمعنى: أنه سبحانه لا ينيلهم رحمته، وقد
تقول: أنا أنظر إلى فلان، إذا كنت تنيله شيئا، ويقول القائل:
انظر إليّ نظر اللَّه إليك، يريد:
أنلني خيرا أنالك اللَّه.
ونظرت بعد يستعمل وما تصرف منه على ضروب، أحدها: أن تريد به:
نظرت إلى الشيء فيحذف الجار، ويوصل الفعل، من ذلك ما أنشد أبو
الحسن «1»:
ظاهرات الجمال والحسن ينظر ن كما ينظر الأراك الظباء المعنى:
ينظرن إلى الأراك، فحذف الجار الذي في نحو قوله «2»:
نظرن إلى أظعان ميّ كأنها
__________
(1) البيت في الأساس (نظر) برواية:
ظاهرات الجمال ينظرن هونا ولم ينسبه.
(2) صدر بيت لذي الرّمة وعجزة:
مولية ميس يميل ذوائبه والميس: شجر تعمل منه الرحال- تميل
ذوائبه: أغصانه وأعاليه ورواية الديوان: «نظرت»، ديوانه 2/
825.
(6/270)
والآخر: أن يريد به تأمّلت وتدبرت، فهو فعل
غير متعدّ، فمن ذلك قولهم: اذهب فانظر زيدا أبو من هو؟ فهذا
يراد به التأمّل، من ذلك قوله عزّ وجلّ: انظر كيف ضربوا لك
الأمثال [الإسراء/ 48]، انظر كيف يفترون على الله الكذب
[النساء/ 50]، انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض [الإسراء/ 21].
وقد يتعدّى هذا بالجار كقوله: أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت
[الغاشية/ 17]، فهذا أحضّ على التأمّل، وتبين وجه الحكمة فيه،
وقد يتعدّى بفي، وذلك نحو قوله: أولم ينظروا في ملكوت السموات
والأرض [الأعراف/ 185]، فهذا كقوله: أولم يتفكروا في أنفسهم
[الروم/ 8].
فأما قوله «1»:
ولما بدا حوران والآل دونه نظرت فلم تنظر بعينيك منظرا ويجوز
أن يكون نظرت فلم تنظر، أي: نظرت فلم تر بعينيك منظرا لغرقه في
الآل كقوله «2»:
ترى قورها يغرقن في الآل مرّة وآونة يخرجن من غامر ضحل وقد
يجوز أن يعنى بالنظر الرؤية على الاتّساع، لأن تقليب
__________
(1) البيت لامرئ القيس من قصيدة قالها يوم توجه إلى بلاد
الروم، وفي الديوان:
فلما بدت حوران والآل دونها وحوران: جنوب دمشق- والآل: السراب.
ديوانه/ 87.
(2) البيت لذي الرمّة سبق ذكره في 4/ 223.
(6/271)
البصر نحو المبصر تتبعه الرؤية، وقد يجري
على الشيء لفظ ما يتبعه، ويقترن به كقولهم للمرأة: راوية،
وكقولهم للفناء: عذرة، وكقولهم لذي بطن الإنسان: غائط وإنما
الغائط: المطمئن من الأرض المستقل، وقد يكون: نظرت فلم تنظر،
مثل: تكلّمت فلم تكلّم، أي: لم تأت بكلام على حسب ما يراد، أي:
لم يقع الموقع الذي أريد، فكذلك: نظرت فلم تنظر منظرا كما
تريد، أو: لم تر منظرا يروق.
وضرب آخر من نظرت: أن يريد به انتظرته، من ذلك قوله:
إلى طعام غير ناظرين إناه [الأحزاب/ 53]، أي: غير منتظرين
إدراكه وبلوغه، ومن ذلك قول الشاعر «1»:
ما زلت مذ أشهر السّفّار أنظرهم مثل انتظار المضحي راعي الإبل
يدلّك على ذلك قوله: مثل انتظار المضحّي، المعنى: انتظرتهم
انتظارا مثل انتظار المضحي، فقد تبينت أنه أراد بنظرت: انتظرت،
وقد يجيء فعلت وافتعلت بمعنى كثيرا، كقولهم: شويت واشتويت،
وحضرت واحتضرت، ومن ذلك قول الفرزدق «2»:
نظرت كما انتظرت اللَّه حتى كفاك الماحلين لك المحالا
__________
(1) ذكره اللسان (شهر) ولم ينسبه وروايته فيه «راعي الغنم» بدل
«الإبل» أشهر السفّار: مضى عليهم شهر.
(2) انظر ديوانه 2/ 655، وفيه:
نظرتك ما انتظرت اللَّه حتى كفاك الماحلين بك المحالا
(6/272)
يريد: انتظرت كما انتظرت، وقد يكون: انظرت
في معنى انتظرت، تطلب بقولك أنظرني التنفيس الذي يطلب
بالانتظار، من ذلك قوله «1»:
أبا هند فلا تعجل علينا وأنظرنا نخبّرك اليقينا ومن ذلك قوله:
قال أنظرني إلى يوم يبعثون [الأعراف/ 14] إنما هو طلب الإمهال
والتسويف، فالمطلوب بقوله: وأنظرنا نخبّرك اليقينا: تنفيس، وفي
قوله: أنظرني إلى يوم يبعثون تسويف وتأخير، وكذلك قوله:
انظرونا نقتبس من نوركم [الحديد/ 13] نفّسونا نقتبس، وانتظروا
علينا، وكذلك ما جاء في الحديث من إنظار المعسر «2»، فهذا وإن
كان التأخير يشملها فهو على تأخير دون تأخير، وليس تسرّع من
تسرع إلى تخطئة من قال: انظرونا بشيء، وليس ينبغي أن يقال فيما
لطف إنه خطأ، وهو زعموا قراءة يحيى بن وثّاب والأعمش.
[الحديد: 16]
قال: قرأ نافع وحفص والمفضل عن عاصم: وما نزل من الحق [الحديد/
16] خفيفة نصب.
وقرأ الباقون، وأبو بكر عن عاصم: وما نزل مشدّدة، وروى
__________
(1) لعمرو بن كلثوم من معلقته المشهورة «شرح المعلقات السبع
للزوزني/ 122.
(2)
أخرج أحمد وعبد بن حميد في مسنده ومسلم وابن ماجة عن أبي اليسر
أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: «من أنظر معسرا
أو وضع عنه أظله اللَّه في ظله يوم لا ظل إلا ظلّه» انظر الدر
المنثور للسيوطي 1/ 368 وانظر مسند أحمد 1/ 327.
(6/273)
عباس عن أبي عمرو: وما نزل من الحق مرتفعة
النون مكسورة الزاي «1». قال أبو علي: من خفّف وما نزل من الحق
فعلى نزل ذكر مرفوع بأنه الفاعل، ويعود إلى الموصول، ويقوّي
التخفيف قوله:
وبالحق نزل [الإسراء/ 105].
ومن قال: وما نزل فشدّدها على الفعل الضمير العائد إلى اسم
اللَّه عزّ وجلّ، والعائد إلى الموصول الضمير المحذوف من الصلة
كالذي في قوله: وسلام على عباده الذين اصطفى [النمل/ 59] أي:
اصطفاهم. وحجة ذلك كثرة ما في القرآن من ذكر التنزيل.
ومن قرأ: وما نزل فالعائد إلى الموصول: الذكر المرفوع في نزل*
وذلك الذكر مرفوع بالفعل المبني للمفعول، وما* الذي هو الموصول
في كل ذلك في موضع جرّ بالعطف على الجار في قوله:
أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل [الحديد/ 16].
[الحديد: 18]
قال: قرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر: إن المصدقين
والمصدقات [الحديد/ 18] خفيف.
وقرأ الباقون وحفص عن عاصم، مشدّدة الصاد فيهما «2».
قال أبو علي: من خفّف فقال: إن المصدقين فمعناه: إن المؤمنين
والمؤمنات، وأما قوله: وأقرضوا الله قرضا حسنا [الحديد/ 18]
فهو في المعنى كقوله: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات [الكهف/
107] لأن إقراض اللَّه من الأعمال الصالحة.
__________
(1) السبعة 626.
(2) السبعة 626.
(6/274)
ومن حجّة من قال: المصدقين* فخفّف، أنه
أعمّ من المصدقين، ألا ترى أن المصدقين مقصور على الصدقة،
والمصدقين* تعمّ التصديق والصادقة، لأن الصدقة من الإيمان فهو
أذهب في باب المدح.
ومن حجة من ثقّل فقال: المصدقين والمصدقات أنهم زعموا أن في
حرف قراءة أبيّ: إن المتصدقين والمصدقات ومن حجتهم أن قوله:
وأقرضوا الله قرضا حسنا [الحديد/ 18] اعتراض بين الخبر والمخبر
عنه، والاعتراض بمنزلة الصفة، فهو للصدقة أشدّ ملاءمة منه
للتصديق، وليس التخفيف كذلك، لأن الإيمان ليس الإقراض فقط، بل
هو أشياء أخر، والإقراض منه.
ومن حجة من خفّف فقال: المصدقين* أن يقول، لا نحمل قوله:
وأقرضوا على الاعتراض، ولكنّا نعطفه على المعنى، ألا ترى أن
المصدّقين والمصدّقات معناه إن الذين صدّقوا، فكأنّه في
المعنى:
إن المصدّقين وأقرضوا، فحمل وأقرضوا على المعنى لما كان معنى
المصدّقين الذين صدّقوا، فكأنه قال: إن الذين صدّقوا وأقرضوا.
[الحديد: 23]
قال: قرأ أبو عمرو وحده: بما أتاكم [الحديد/ 23] قصرا، وقرأ
الباقون: بما آتاكم ممدودة «1».
من حجّة من قصر فقال: أتاكم* أنه معادل ب فاتكم*. فكما أن
الفعل للغائب في قوله: فاتكم* كذلك يكون الفعل الذي في قوله:
بما أتاكم والعائد إلى الموصول من الكلمتين الذكر المرفوع بأنه
فاعلي، وأنشد أبو زيد «2»:
__________
(1) السبعة 626.
(2) النوادر/ 150 (ط الفاتح) وهو لمرداس بن الحصين. وقد سبق في
طرّة الجزء
(6/275)
ولا فرح بخير إن أتاه ولا جزع من الحدثان
لاع ومن حجّة من مدّ أن الخير الذي يأتيهم هو مما يعطيه اللَّه
فإذا مدّ كان ذلك منسوبا إلى اللَّه سبحانه، وهو تعالى المعطي
لذلك، ويكون فاعلي القول في أتاكم* ضميرا عائدا إلى اسم
اللَّه، والهاء محذوفة من الصلة تقديره: بما أتاكموه.
[الحديد: 24]
قال: قرأ نافع وابن عامر: فإن الله الغني الحميد [الحديد/ 24]
ليس فيها هو، وكذلك في مصاحف أهل المدينة والشام.
وقرأ الباقون: هو الغني الحميد «1».
قال أبو علي: ينبغي أن يكون هو* في قول من قال: هو الغني
الحميد فصلا، ولا يكون مبتدأ لأن الفصل حذفه أسهل، ألا ترى أنه
لا موضع للفصل من الإعراب وقد يحذف، فلا يخلّ بالمعنى كقوله:
إن ترني أنا أقل منك مالا وولدا [الكهف/ 39].
[الحديد: 15]
ابن عامر في رواية هشام: فاليوم لا تؤخذ [الحديد/ 15]، ابن
ذكوان: بالياء، وكذلك الباقون: بالياء «2».
التاء حسن لتأنيث الفاعل، والياء حسن للفصل الواقع بين الفعل
والفاعل، وأن التأنيث ليس بحقيقي.
__________
الأول ص 306 من هذا الكتاب.
(1) السبعة 627.
(2) السبعة 627.
(6/276)
|