الحجة للقراء السبعة

ذكر اختلافهم في سورة القيامة
[القيامة: 2، 1]
قرأ ابن كثير فيما قرأت على قنبل: لأقسم بيوم القيامة بغير ألف، ولا أقسم [2] بألف.
وكلّهم قرأ: لا أقسم ولا أقسم بألف «1».
قال أبو علي: من قرأ: لا أقسم بيوم القيامة كانت لا* على قوله صلة، كالتي في قوله: لئلا يعلم أهل الكتاب [الحديد/ 29] فإن قلت: فإن لا* وما* والحروف التي تكون زوائد إنما تكون بين كلامين كقوله: مما خطيئاتهم [نوح/ 25] وفبما رحمة [آل عمران/ 159] وفبما نقضهم [النساء/ 155] ولا تكاد تزاد أولا.
فقد قالوا: إن مجاز القرآن مجاز الكلام الواحد والسورة الواحد «2»، قالوا: والذي يدلّ على ذلك أنه قد يذكر الشيء في سورة فيجيء جوابه في سورة أخرى كقوله:
وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون
[الحجر/ 6]، جاء جوابه في سورة أخرى. فقال:
ما أنت بنعمة ربك بمجنون [القلم/ 2]، فلا فصل على هذا بين
__________
(1) السبعة 661.
(2) كذا الأصل، والوجه: الواحدة.

(6/343)


قوله: لئلا يعلم أهل الكتاب [الحديد/ 29] وبين قوله: لا أقسم بيوم القيامة [القيامة/ 1]، وقد حمل ما* على الزيادة فيما أنشده أبو زيد «1»:
ما مع أنّك يوم الورد ذو جرز ضخم الدسيعة بالسّلمين وكّار ما كنت أوّل ضبّ صاب تلعته غيث وأخطأه جدب وإضرار فهذا ما جاء فيه زائدا في أول البيت، فأما قول ابن كثير:
لاقسم بيوم القيامة، فإن اللام يجوز أن تكون التي يصحبها إحدى النونين في أكثر الأمر، وقد حكى ذلك سيبويه وأجازه، وكما لم تلحق النون مع الفعل في الآي، كذلك لم تلحق اللام مع النون في نحو قول الشاعر «2»:
وقتيل مرّة أثأرن فإنه فرغ وإنّ أخاهم لم يثأر
__________
(1) البيتان لعبدة بن الطبيب، وهما في النوادر 237 (ط. الفاتح) برواية:
«الجرازة» بدل «الدسيعة» و:
غيث فأمرع واستخلت له الدار والبيتان من مقطعة في خمسة أبيات أوردها الجاحظ في الحيوان 5/ 263، 264 (ت. هارون) والسلمان: الدلوان- والوكّار: العدّاء.
والتلعة: ما ارتفع من الأرض.
(2) لعامر بن الطفيل. وهو في شرح أبيات المغني 8/ 3. وقتيل مرة: هو أخو الشاعر قتله بنو مرّة- فرغ: رأس في قومه شريف، وفرغ أي هدر لم يثأر له- ولم يقصد: لم يقتل، وانظر ابن الشجري 1/ 369 - 2/ 221.

(6/344)


ويجوز أن تكون اللام لحقت فعل الحال، فإذا كان المثال للحال لم تسبقه النون، لأن هذه النون لم تلحق الفعل في أكثر الأمر إنما هي للفصل بين فعل الحال والفعل الآتي، وقد يمكن أن تكون لا* ردّا لكلام.
وزعموا أن الحسن قرأ: لأقسم وقرأ: لا أقسم وقال:
أقسم بالأولى ولم يقسم بالثانية. وحكي نحو ذلك عن ابن أبي إسحاق أيضا.

[القيامة: 7]
وقرأ نافع وعاصم في رواية أبان: برق البصر [القيامة/ 7] بفتح الراء.
وقرأ الباقون وعاصم: برق بكسر الراء «1».
حكي عن هارون قال: سألت أبا عمرو فقال: برق بالكسر يعني: جاء، وسألت ابن أبي إسحاق فقال: برق*، وقال أبو عبيدة:
برق البصر: إذا شقّ وأنشد «2»:
لمّا أتاني ابن عمير راغبا أعطيته عيساء منها فبرق وقال أبو الحسن: المكسورة في كلام العرب أكثر، والمفتوحة لغة. قال قتادة: برق البصر: شخص البصر.

[القيامة: 21، 20]
قال: قرأ ابن كثير وأبو عمرو: بل تحبون [القيامة/ 20]،
__________
(1) السبعة 661.
(2) أنشده للكلابي برواية: «عيسا صهابا فبرق». مجاز القرآن 2/ 277، وانظر القرطبي في تفسيره 19/ 94.

(6/345)


وتذرون [القيامة/ 21] بالتاء جميعا، وقرأ الباقون: بالياء جميعا «1».
يحبون: أي: هم يحبّون ويذرون، والتاء على: قل لهم: بل تحبّون وتذرون. قال أبو علي: الياء على ما تقدّم من ذكر الإنسان، والمراد به الكثرة، والياء حسن لتقدّم الذكر، وليس المراد به واحدا، وإنما المراد الكثرة والعموم لقوله: إن الإنسان خلق هلوعا [المعارج/ 19]، ثم قال: إلا المصلين [المعارج/ 22].

[القيامة: 27]
حفص وقنبل: من راق [القيامة/ 27] يقف على من ويبتدئ: راق ولم يقطعها غيره، وكأنه في ذلك يصل «2».
قال غير أحمد: لم يتعمّد الوقف على من راق وبل ران [المطفّفين/ 14] مظهري النون واللام غير عاصم.
قال أبو علي: لا أعرف وجه ذلك، وقيل: التمسوا الأطبّاء فلم يغنوا عنهم من قضاء الله شيئا.

[القيامة: 37]
قال: قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي: من مني تمنى [القيامة/ 37] وروى حفص عن عاصم:
يمنى بالياء، وكذلك المفضّل عن عاصم، وقرأ ابن عامر: يمنى بالياء.
وروى علي بن نصر واليزيدي وعبد الوارث والنصر بن شميل عن هارون عن أبي عمرو وعبيد عن هارون عن أبي عمرو تمنى* بالتاء.
وروى أبو زيد بالتاء والياء، وقال عباس: سألت أبا عمرو فقرأ
__________
(1) السبعة 661.
(2) السبعة 661.

(6/346)


من مني تمنى بالتاء، وقال: من نطفة إذا تمنى [النجم/ 46] «1».
من قال: من مني تمنى حمله على النطفة: ألم يك نطفة تمنى من منيّ، ومن قال: يمنى حمله على المنيّ كأنه: من منيّ يمنى، أي: يقدّر خلق الإنسان وغيره منها. قال «2»:
منت لك أن تلقى ابن هند منية وفارس ميّاس إذا ما تلبّبا وقال أخر «3»:
لعمر أبي عمرو لقد ساقه المنا إلى جدث يوزى له بالأهاضب أي: ساقه القدر، وزعموا أنه لم يختلف في قوله: وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى [النجم/ 46] وفي هذا دلالة على أن قوله: ألم يك نطفة من مني تمنى [القيامة/ 37] أي تمنى النطفة، فيجب إلحاق علامة التأنيث والفعل لوضوح ذلك بالآية الأخرى التي في سورة النجم.
__________
(1) السبعة 662.
(2) نسبه الفارسي في إيضاح الشعر ص 553 إلى ابن أحمر، وهو في شعره ص 40 وأسماء خيل العرب وأنسابها ص 228 وروايته فيهما:
فوارس سلّى يوم سلّى وهاجر وانظر التاج (ميس). فارس مياس: هو شقيق بن حرّي من باهلة، ومياس: فرسه. وتلبب الفارس: لبس السلاح وتشمر للقتال.
(3) وهو صخر الغي، والبيت من قصيدة له ويقال إنها لأخيه يرثي بها أخاه صخرا. انظر شرح أشعار الهذليين 1/ 245. واللسان (منا) (وزي). والمنا: القدر، ويوزى:
يشرّف له وينصب.

(6/347)


ذكر اختلافهم في سورة الإنسان
[الانسان: 4]
قرأ ابن كثير سلاسل* [الإنسان/ 4] بغير ألف، وصل أو وقف، هذه رواية قنبل.
وقرأ أبو عمرو غير منوّنة في الوصل، والوقف بألف.
وقرأ ابن عامر وحمزة: سلاسل* بغير نون، ووقف حمزة بغير ألف.
حدثني ابن الجهم عن خلف، والهيثم عن عبيد عن شبل عن ابن كثير: سلاسلا منوّن.
وقال الحلواني عن أبي معمر عن عبد الوارث، كان أبو عمرو يستحب أن يسكت عندها، ولا يجعلها مثل التي في الأحزاب، لأنها ليست آخر آية.

[الانسان: 16، 15]
وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر والكسائي: سلاسلا منوّنة، قواريرا، قواريرا من فضة [الإنسان/ 15، 16] كلاهما بألف ولا ينوّن فيهما.
وقرأ ابن عامر وحمزة: قوارير، قوارير بغير ألف، ووقف حمزة بغير ألف فيهما.

(6/348)


وقرأ ابن كثير: قواريرا منوّنة، قوارير من فضة غير منوّنة.
وقرأ أبو عمرو: قواريرا غير منونة، ووقف بألف. قوارير من فضة غير منوّنة أيضا، ووقف بغير ألف. وقال عباس: سألت أبا عمرو فقرأ: كانت قواريرا يثبت الألف، ولا ينوّن، قوارير من فضة [بغير ألف ولا تنوين، وقال أبو زيد فيما كتب به إلي أبو حاتم عن أبي زيد عن أبي عمرو: كانت قوارير من فضة [ولا يصل قوارير «1».
قال أبو علي: حجّة من صرف: سلاسلا، وقواريرا في الوصل والوقف أمران: أحدهما: أن أبا الحسن قال: سمعنا من العرب من يصرف هذا، ويصرف جميع ما لا ينصرف،
وقال: هذا لغة الشعراء لأنهم اضطروا إليه في الشعر، فصرفوه، فجرت ألسنتهم على ذلك، واحتملوا ذلك في الشعر لأنه يحتمل الزيادة كما يحتمل النقص، فاحتملوا زيادة التنوين، فلما دخل التنوين، دخل الصرف.
والأمر الآخر: أن هذه الجموع أشبهت الآحاد، لأنهم قد قالوا:
صواحبات يوسف، فيما حكاه أبو الحسن وأبو عثمان، فلما جمعه جمع الآحاد المنصرفة جعلوه في حكمها، فصرفوها.
قال أبو الحسن: وكثير من العرب يقولون: مواليات ويريدون الموالي، وأنشد للفرزدق «2»:
__________
(1) السبعة 664 وما بين معقوفين منه. وفيه زيادة بيان أيضا.
(2) ديوانه 1/ 376 وهو من شواهد سيبويه 2/ 207، ويزيد: هو يزيد بن المهلب. وخضع: ج خضوع وهو تكثير خاضع- ونواكس الأبصار أي:
يطأطئون رءوسهم وينكسون أبصارهم إذا رأوه إجلالا له وهيبة منه. وانظر الخزانة 1/ 99، المقتضب 1/ 121 - 2/ 219، المفصل 5/ 56.

(6/349)


وإذا الرّجال رأوا يزيد رأيتهم خضع الرّقاب نواكسي الأبصار فهذا كأنه جمع نواكس، ويؤكّد هذا الذي قاله أبو الحسن قول العجّاج «1»:
جذب الصّراريّين بالكرور فجمع صرّاء «2» الذي هو فعّال مثل: حسّان «3»، على فعاعيل وشبهه بكلّاب «4» وكلاليب، وجمع بالواو والنون، ويدلّ على أن صرّاء واحد مثل حسّان قول الفرزدق «5»:
أشارب خمرة وخدين زير وصرّاء لفسوته بخار وأما قراءة حمزة: قوارير قوارير بغير نون ولا ألف، وكذلك:
سلاسل* بغير نون ولا ألف، فإنه جعله كقوله: لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد [الحج/ 40] وكذلك قول ابن عامر إلا أنه يشبه أن
__________
(1) سبق في 5/ 353، وانظر إيضاح الشعر 167.
(2) صرّاء جمع صار، وجمع صرّاء صراري. والصاري الملاح. انظر اللسان (صرر).
(3) حسّان: أحسن من الحسن.
(4) الكلاب: حديدة معطوفة كالخطاف.
(5) رواية الديوان له كما يلي:
أشارب قهوة وخدين زير وصرّاء لفسوته عصار والعصار: الريح الشديدة. ديوانه 1/ 388.

(6/350)


يلحق الألف في الوقف في فحوى ما حكاه أحمد عنه، وإلحاق الألف في سلاسل، وقوارير كإلحاقها في قوله: الظنونا والسبيلا والرسولا ويشبه ذلك بالإطلاق في القوافي من حيث كانت مثلها في أنها كلام تام، وقياس من نوّن القوافي فقال «1»:
أقلّي اللوم عاذل والعتابا أن ينوّن سلاسلا، وقواريرا على هذا المذهب، قال أبو الحسن: ولا يعجبني ذلك، لأنها ليست لغة أهل الحجاز، قال أبو الحسن: سلاسلا، وأغلالا منوّنة في الوصل والسكت على لغة من يصرف نحو ذا من العرب والكتاب بألف، وهي قراءة أهل مكّة وأهل المدينة والحسن، وبها نقرأ، قال: وقوارير ينوّنهما أهل المدينة كلتيهما ويثبتون الألف في السكت.
قال: ونحن نثبت ذلك الألف فيهما ونوّنهما إذا وصلنا، نحمل ذلك على لغة من يصرف أشباه ذا. وإن شئت لم تنوّن إذا وصلت لأنها رأس آية، وأهل الكوفة يقولون: الظنونا والسبيلا، والرسولا وأهل مكة وأبو عمرو يثبتون الألف في هذا في الوصل والسكوت، وكذلك نقرؤه لأنه رأس آية، ولا يجوز فيه تنوين إلا على لغة من ينوّن القوافي، ولا تعجبني تلك اللغة لأنها ليست لغة أهل الحجاز. انتهت الحكاية عن أبي الحسن.
فأما قوله: قوارير قوارير من فضة فإن قلت: كيف تكون القوارير من فضة، وإنما القوارير من الرمل دونها، فالقول في ذلك أن الشيء إذا قاربه شيء ولزمه ذلك واشتدّ ملابسته له، قيل فيه: هو من
__________
(1) صدر بيت سبق في 1/ 73، 2/ 361، 376، 3/ 220.

(6/351)


كذا، وإن لم يكن منه في الحقيقة، كالحلقة من الفضة، والقفل من الحديد كقول البعيث «1»:
ألا أصبحت خنساء جاذمة الوصل وضنّت علينا والضّنين من البخل وصدّقت فأعدانا بهجر صدودها وهنّ من الإخلاف قبلك والمطل وأنشد أحمد بن يحيى «2»:
ألف الصّفون فما يزال كأنه ممّا يقوم على الثلاث كسيرا وأنشد «3»:
ألا في سبيل اللَّه تغبير لمّتي ووجهك ممّا في القوارير أصفرا فعلى هذا يجوز: قوارير من فضة أي هي في صفاء الفضة ونقائها، كما قال في النساء:
__________
(1) رواية النقائض «جاذبة الوصل»، وفي الخصائص: «ألا أصبحت أسماء جاذمة الحبل ... ». والجاذمة: التي انقطع وصلها- والضنين: البخيل- يريد أنك من أهل البخل. وهنّ من الإخلاف: أي: هنّ من أهل الإخلاف، فحين صدّت أعدانا صدودها. انظر النقائض 1/ 135، الخصائص 2/ 203، و 3/ 260، ابن الشجري 1/ 72، شرح أبيات المغني 5/ 266، اللسان مادة/ ضنن وولع/.
(2) هو الشاهد رقم 524 من شرح أبيات المغني 5/ 301، ولم يعثر على قائله- والصفون: صفة من صفات الفرس- فرس صافن أي ثان في وقوفه إحدى قوائمه. وانظر ابن الشجري 1/ 56 - 71.
(3) لم نعثر له على قائل أو تتمة.

(6/352)


وهنّ من الإخلاف «1» ...
وكما قال «2»:
ووجهك مما في القوارير ولا يمتنع على هذا أن يقدّر حذف المضاف، كأنك أردت:
قوارير من صفاء الفضّة، فتحذف المضاف ويكون قوله: من فضة صفة للقوارير، كما أن قوله: قدروها [الإنسان/ 16] صفة لقوله، والضمير في: قدروها يكون للخزّان والملائكة، أي: قدّروها على ربهم، لا ينقص من ذلك ولا يزيد عليه.
ومن قرأ: قدروها فهو هذا المعنى يريد، وكأن اللفظ قدّروا عليها، فحذف الجار كما حذف من قوله «3»:
كأنّه واضح الأقراب في لقح أسمى بهنّ وعزّته الأناصيل فلما حذف الحرف وصل الفعل، فكذلك قوله: قدروها إلا أن المعنى: قدّرت عليهم، أي: على ربهم، فقلب كما قال «4»:
لا تحسبنّ دراهما سرّقتها تمحو مخازيك التي بعمان
__________
(1) قطعة من بيت للبعيث: الذي سبق ذكره قريبا.
(2) سبق قريبا.
(3) ذكره اللسان في مادة/ نصل/ دون أن ينسبه. وعزّته الأناصيل: أي: عزّت عليه- والنصل: ما أبرزت البهمى وندرت به من أكمتها- والجمع: أنصل- والأنصولة: نور نصل البهمى.
(4) البيت للفرزدق من أبيات يهجو بها جديلة بن سعيد بن قبيصة الأزدي، وفي الديوان: (دراهما أعطيتها)، انظر اللسان مادة/ سرق/ والديوان 2/ 868.

(6/353)


وعلى هذا يتأوّل قوله: ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة [القصص/ 76]، ومثل هذا ما حكاه أبو زيد «1»: إذا طلعت الجوزاء أوفى العود في الجرباء.

[الانسان: 21]
قال: وقرأ نافع وأبان عن عاصم: عاليهم [الإنسان/ 21] ساكنة الياء، وكذلك المفضّل عن عاصم مثله.
وقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر والكسائي:
عاليهم بفتح الياء «2».
قال أبو علي: من قال: عاليهم فنصب، احتمل النصب أمرين: أحدهما: أن يكون حالا، وقد يجوز أن يكون ظرفا، فأما الحال فيحتمل أن يكون العامل فيها أحد شيئين: أحدهما: لقاهم من قوله: لقاهم نضرة [الإنسان/ 11] والآخر: وجزاهم من قوله:
وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا [الإنسان/ 12]، ومثل قوله:
عاليهم في كونه حالا قوله: متكئين فيها على الأرائك [الإنسان/ 13]، فإن قلت: لم لا يكون قوله: متكئين صفة جنة وفيها ذكر لها؟ قيل: لا يجوز هذا، ألا ترى أنه لو كان كذلك للزمك أن تبرز الضمير الذي في اسم الفاعل من حيث كان صفة للجنّة، وليس الفعل لها؟ فإذا لم يجز ذلك كان حالا، وكذلك قوله: ودانية عليهم ظلالها [الإنسان/ 14]. إلّا أنه يجوز في قوله: ودانية عليهم ظلالها أمران: أحدهما: ما ذكرنا من الانتصاب على الحال، والآخر: أن
__________
(1) في النوادر 409 (طه. الفاتح)، وهذا من سجع العرب. والحرباء: دويبة يستقبل الشمس برأسه: ويقصد بهذا القول اشتداد الحرّ.
(2) السبعة 664.

(6/354)


يكون الانتصاب على أنه مفعول بها، ويكون المعنى: وجزاهم جنّة وحريرا، أي: لبس حرير، ودخول جنّة دانية عليهم ظلاله، فيكون على هذا التقدير كقوله: لمن خاف مقام ربه جنتان [الرحمن/ 46].
وإن لم تحمله على هذا وقلت: إنه يعترض فيه إقامة الصفة مقام الموصوف، فإن ذلك ليس بالمطرح في كلامهم، وإن شئت حملته على ما ذكروا من الحال ليكون مثل ما عطفته عليه من قوله: متكئين فيها ودانية، فكذلك يكون: عاليهم ثياب سندس معطوفا على ما انتصب على الحال في السورة، ويكون: ثياب سندس مرتفعة باسم الفاعل والضمير قد عاد إلى ذي الحال من قوله: عاليهم. ومن قرأ من غير هؤلاء القرّاء:
عاليتهم وهي قراءة الأعمش زعموا فإنه بمنزلة قوله: خاشعا أبصارهم وخاشعة أبصارهم [القلم/ 43، المعارج/ 44] وثياب مرتفع باسم الفاعل، وقد أجيز أن يكون ظرفا، كأنه لما كان عال بمعنى فوق أجري مجراه في هذا، والوجه الآخر أبين في كونه صفة جعل ظرفا، وإن كان صفة، كما كان قوله: والركب أسفل منكم [الأنفال/ 42] كذلك، وكما قالوا: هو ناحية من الدار.
ومن قرأ: عاليهم ثياب سندس [الإنسان/ 21] فسكن الياء، كان عاليهم في موضع رفع بالابتداء، وثياب سندس خبره، ويكون عاليهم المبتدأ في موضع الجماعة، كما أن الخبر جماعة وقد جاء اسم الفاعل في موضع جماعة، قال «1»:
__________
(1) البيت غير منسوب وقد ذكر في المحتسب 2/ 154، وفي الهمع 2/ 182، والدرر 2/ 228 وفيه «للهوى» بدل «من هوى». وأصل منادح: مناديح لأنه جمع مندوحة.

(6/355)


ألا إنّ جيراني العشيّة رائح دعتهم دواع من هوى ومنادح وفي التنزيل: مستكبرين به سامرا تهجرون [المؤمنون/ 67] فقطع دابر القوم الذين ظلموا [الأنعام/ 45]، وكأنه أفرد من حيث جعل بمنزلة المصدر في نحو:
ولا خارجا من فيّ زور كلام «1» وكما جمع المصدر جمع فاعل في نحو:
فنوّاره ميل إلى الشمس زاهر «2» وقد قالوا: الجامل والباقر، يراد بهما الكثرة، ويجوز على قياس قول أبي الحسن في: قائم أخواك، وإعمال اسم الفاعل عمل الفعل، وإن لم يعتمد على شيء، أن يكون ثياب سندس مرتفعة بعاليهم، وأفردت عاليها لأنه فعل متقدّم. ومن نصب، فقال: عاليهم لم يعترض فيه هذا، ويقوّي أن عاليا على الإعمال عمل الفعل، تأنيث من أنّث، فقال: عاليتهم، واسم الفاعل، وإن كان مضافا إلى الضمير فهو في تقدير الانفصال والتنوين، لأنه مما لم يمض، فهو بمنزلة: زيد ضارب أخيك غدا، فهو ابتداء بالنكرة، إلا أنه قد اختصّ بالإضافة، وإن كانت الإضافة في تقدير الانفصال.

[الانسان: 21]
قرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر: خضر وإستبرق [الإنسان/ 21] رفع، وقرأ نافع وحفص عن عاصم: خضر وإستبرق
__________
(1) عجز بيت للفرزدق صدره:
على قسم لا أشتم الدهر مسلما سبق في 2/ 17.
(2) عجز بيت للحطيئة سبق ذكره في 5/ 271 و 379

(6/356)


رفع جميعا، وأبو عمرو وابن عامر: خضر رفع وإستبرق* خفض.
خارجة عن نافع مثله.
وقرأ حمزة والكسائي: خضر واستبرق كسرا جميعا، عبيد عن أبي عمرو مثل حمزة والكسائي «1».
الخضر والإستبرق من صفة السندس. قال أبو علي: أوجه هذه الوجوه قول من قال: ثياب سندس خضر واستبرق برفع الخضر، لأنه صفة مجموعة لموصوف بمجموع، فأتبع الخضر الذي هو جمع مرفوع، الجميع المرفوع الذي هو ثياب، وأما إستبرق فجرّ من حيث كان جنسا أضيفت إليه الثياب، كما أضيفت إلى سندس، فكأن المعنى ثيابهما، فأضاف الثياب إلى الجنسين، كما تقول: ثياب خزّ، وكتّان، فتضيفهما إلى الجنسين، ودلّ على ذلك قوله: ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق [الكهف/ 31] وأما من قال: خضر وإستبرق فإنه أجرى الخضر، وهو جمع على السندس لما كان المعنى أن الثياب من هذا الجنس. وأجاز أبو الحسن وصف بعض هذه الأجناس بالجمع، فقال: يقول: أهلك الناس الدينار الصّفر والدرهم البيض، على استقباح له، وممّا يدلّ على قبحه: أن العرب تجيء بالجمع الذي هو في لفظ الواحد، فيجرونه مجرى الواحد، وذلك قولهم:
حصى أبيض، وفي التنزيل: الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا [يس/ 80] وأعجاز نخل منقعر [القمر/ 20]، فإذا كانوا قد أفردوا صفات هذا الضرب من الجموع، فالواحد الذي في معنى الجميع أولى أن تفرد صفته، ويقوّي جمع وصف الواحد الذي يعنى به
__________
(1) السبعة 665.

(6/357)


الجمع، ما جاء في هذه الأوصاف من الجمع كقوله وينشىء السحاب الثقال [الرعد/ 12] وجاء فيه التأنيث أيضا كقوله: أعجاز نخل خاوية [الحاقة/ 7] وإنما التأنيث من أجل الجمع.
ومن رفع إستبرق فإنما أراد عطف الاستبراق على الثياب كأنه:
ثياب سندس، وثياب استبرق، فحذف المضاف الذي هو الثياب، وأقام الإستبرق مقامه، ومما جاء في هذا على الحذف قوله «1»:
وداويتها حتى شتت حبشيّة كأنّ عليها سندسا وسدوسا المعنى: ثياب سندس، يدلّك على ذلك أنه عطف عليه بالسّدوس، وهو ضرب من الثياب، وكذلك السندس، يريد أنه كأنه عليها ثيابه، وليس يريد نفس الجنس الذي تكون الثياب وغير الثياب، ألا ترى أنك إذا قلت: عليه خزّ، فالمعنى عليه ثوب خزّ، وليس المعنى أن عليه الدابّة الذي هو الخزّ، وعلى هذا قال:
كأنّ خزّا تحته وقزّا «2» أو فرشا محشوة إوزّا وقول أبي عبيد «3» الراوي عن أبي عمرو: الخضر والإستبرق من
__________
(1) ليزيد بن خذّاق العبدي (جاهلي) في وصف فرسه، وهو البيت الثاني من مفضلية له (المفضلية 79) السّدوس: هو الطيلسان الأخضر، وداويتها بمعنى ضمدتها- وحبشية يريد: حبشية اللون في سوادها- ولهذا جعلها كأنها جلّلت سدوسا. انظر اللسان مادة/ سدس/.
(2) سبق في 4/ 169
(3) في المتن «عبيد» بإسقاط «أبي». وعلى الهامش ما نصّه: «عندي أبي عبيد».

(6/358)


صفة السندس، ترجمة فيها تجوّز وذاك أن الخضر وإن جاز أن يكون من صفة السندس على المعنى وعلى ما غيره أوجه منه، فالإستبرق لا يجوز أن يكون صفة للسندس، لأنه جنس، فلا يجوز أن يكون وصفا لما ليس منه، كما لا يكون ثوب كتّان خزّا، ولا يكون الخزّ كتّانا. فأما الإستبرق فلا تخلو حروفه من أن تكون أصولا كلها، أو يكون بعضها أصولا وبعضها زائدا، فلا يجوز أن تكون كلّها أصولا، لأنه ليس في كلامهم في الأسماء والأفعال ما هو على ستّة أحرف أصول، فإذا لم يجز ذلك، ثبت أن منها أصولا، ومنها زائدا، فإن حكمت أن الهمزة وحدها هي الزائدة، لم يجز، لأن الهمزة إذا لم تلحق زائدة أوائل بنات الأربعة، فأن لا تلحق بنات الخمسة أجدر، فإذا لم يجز أن تكون أصلا، ولم يجز أن تكون وحدها زائدة، فلا بدّ من أن ينضمّ معها في الزيادة غيرها، فلا يجوز أن يكون في المنضمّ معها في الزيادة السين، لأن السين لم تزد مع الهمزة أولا، ولا يجوز أن تكون التاء والهمزة، كما لم يجز أن تكون الزيادة مع السين، فإذا لم يجز أن تكون التاء ولا السين زائدين على انفرادهما، لأنهما لم يجيئا على هذا الوصف، علمت أن الزيادة هي التاء والسين مع الهمزة، وأن الكلمة من الثلاثة، ولما نقلت فأعربت وافق التعريب وزن استفعل الذي هو مثال من أمثلة الماضي، إلا أن الهمزة منه قطعت للنقل من مثال الفعل إلى الاسم، وكان قطع الهمزة أحد ما نقل به الفعل إلى أحكام الاسم، ألا ترى أنه ليس من حكم الأسماء أن تلحق همزة الوصل أوائلها، لأن أواخرها قد أعربت، ودخلها للإعراب ضروب حركات، فإذا دخلت أواخرها هذه الحركات، وجب أن تتحرك أوائلها التي قد تحركت من غير المعربات التي لا تدخل أواخرها الحركات ولا تتعاقب

(6/359)


عليها، فإن قلت: فقد جاءت أحرف وهي: ابن، واسم، وابنة، قيل:
هذه أشبهت الأفعال عند النحويين لمّا لحقها في الأواخر الحذف الذي لحق الأفعال في الجزم والوقف، فلحق أوائلها همزة الوصل أيضا لهذه المشابهة التي بينهما، وجعل النحويون هذا الحرف، ومجيء الهمزة مقطوعة فيه أصلا لجميع ما في أوّله همزة موصولة، إذا نقل فسمّي به، فقطعوا الهمزة في جميع ذلك فقالوا: لو سمّيت رجلا ب: اضرب أو اشرب أو اقتل، لقطعت الهمزة في جميع ذلك.
فأما قراءة ابن محيصن واستبرق* موصولة الألف مفتوحة الآخر، فالقول فيه: أنه لا يخلو من أن يريد به مثال الماضي، أو اسم الجنس، فإن كان أراد مثال الماضي وقال: وصفته بالماضي، كما وصف بمثال الماضي في قوله: وهذا كتاب أنزلناه مبارك [الأنعام/ 92]، والنكرة توصف بالفعل، كما وصفت بالظرف في قوله:
ويلبسون ثيابا خضرا من سندس، وأردت باستبرق معنى برق، كما يقال: عجب واستعجب وسخر واستسخر، قيل: إنّا لا نعلم إستبرق استعمل في معنى برق، وإنما وافق اللفظ اللفظ في التعريب، فوافق لفظه استفعل، كما أن سراويل في التعريب وافق هذا اللفظ، وإن لم يكن في كلامهم، فكذلك إستبرق، وإذا كان كذلك لم ينبغ أن يجعل مثال الماضي، ولكنه اسم جنس، ولا ينبغي أن يحمل الضمير الذي يحتمله نحو: استخرج، ويدلّ على ذلك دخول لام المعرفة عليه، والجار في قوله: بطائنها من إستبرق [الرحمن/ 54]، فإذا كان كذلك ففتحه لا يجوز، إذ ليس بفعل، وإذا لم يكن فعلا كان اسما أعجميا معربا، واقعا على الجنس، كما أن السندس والخزّ والكتّان كذلك، فإذا كان اسما أعجميا، كان بمنزلة الدّيباج والفرند

(6/360)


والإبريسم، ونحو ذلك من الأسماء المنقولة، نكرة، وليس من باب إسماعيل، وإبراهيم، وإذا كان من هذا الضرب لم يكن فيه إلا الصرف، إلا أن يسمّى به شيء فينضمّ إلى مثال الفعل التعريف، وإذا لم يكن كذلك، فترك الصرف منه لا يستقيم.

[الانسان: 9]
عباس عن أبي عمرو: إنما نطعمكم لوجه الله [الإنسان/ 9] جزم «1».
قال أبو علي: هذا لأن ما بعد الطاء من قوله: إنما نطعمكم على لفظ يستثقل، فأسكن للتخفيف، ولا فصل في هذا النحو إذا أريد تخفيفه بين ما كان حذف إعراب وبين غيره مما تكون فيه الحركة لغير إعراب، وقد تقدّم القول فيه.

[الانسان: 30]
ابن كثير وأبو عمرو: وما يشاءون [الإنسان/ 30] بالياء، وقرأ الباقون بالتاء. حدّثني أحمد بن محمد بن بكر عن هشام بن عمّار بإسناده عن ابن عامر: وما يشاءون بالياء، قال هشام: تشاؤون خطأ، ويشاءون أصوب «2»، قال أبو خليد لأيّوب القارئ: أنت في هذه واهم، يعني: تشاؤون، فقال: لا واللَّه إنّي لأثبتها كما أثبت أنك عتبة بن حمّاد «3».
ووجه الياء قوله: فمن شاء اتخذ [الإنسان/ 29] وما يشاءون، ووجه التاء أنه خطاب للكافّة، وما تشاءون الطاعة والاستقامة إلا أن يشاء اللَّه، أو يكون حمل على الخطاب في منكم.
__________
(1) السبعة 663 وزاد بعده: والباقون (نطعمكم) رفعا.
(2) في السبعة: قال هشام: هذا خطأ، (تشاءون) أصوب.
(3) السبعة 665.

(6/361)


ذكر اختلافهم في سورة المرسلات
[المرسلات: 6]
قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر، عذرا خفيفة، أو نذرا [6] مثقّل.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم: عذرا أو نذرا بالتخفيف جميعا «1».
قال أبو علي: النّذر بالتثقيل والنذر مثل: النّكر والنكير، وهما جميعا مصدران. ويجوز في النذير ضربان: أحدهما: أن يكون مصدرا كالنكير والشحيح، وعذير الحيّ، والآخر: أن يكون فعيلا يراد به: المنذر، كما أن الأليم يراد به: المؤلم، ويكون النذير من أنذر، كالأليم من ألم، ويجوز تخفيف النّذر على حدّ التخفيف في العنق والعنق، والأذن والأذن، وقوله: نذيرا للبشر [المدّثر/ 36] يحمل على أول السورة، قم نذيرا للبشر، كقوله: إنما أنت منذر [الرعد/ 8].
والعذر يجوز فيه التخفيف والتثقيل، قال في التخفيف «2»:
__________
(1) السبعة 666.
(2) لم نقف عليه.

(6/362)


لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا جبانا فما عذري لدى كلّ محضر قال أبو الحسن: عذرا أو نذرا أي: إعذار أو إنذارا، وقد خفّفتا جميعا، وهما لغتان.
فأما انتصاب عذرا فعلى ثلاثة أضرب: أحدها: أن يكون بدلا من الذكر في قوله: فالملقيات ذكرا [المرسلات/ 5]، ويجوز أن يكون عذرا مفعول الذكر، فالملقيات أن يذكر عذرا أو نذرا، ويجوز أن ينتصب على أنه مفعول له، فالملقيات ذكرا للعذر، وهذا يبيّنه قوله:
لولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا .. [القصص/ 47] إلى آخر الآية. فتلقي الملائكة إلى الأنبياء وتلقيه الأنبياء إلى أمّتها ليكون عذرا وإنذارا.
ويجوز في قول من ضمّ عذرا أو نذرا أن يكون: عذرا* جمع عاذر، كشارف وشرف، أو عذور جمع على عذر، وكذلك النّذر يجوز أن يكون جمع نذير كقوله: هذا نذير من النذر الأولى [النجم/ 56]، ويكون معنى من النذر الأولى أنه: يواليهم ويصدقهم، وقال حاتم «1»:
أماويّ قد طال التجنّب والهجر وقد عذرتني في طلابكم العذر فالعذر: إنما يكون جماعة لمكان لحاق علامة التأنيث، ويكون: عذرا أو نذرا على هذا حالا من الإلقاء، كأنّهم يلقون الذكر في حال العذر والإنذار.
__________
(1) رواية الديوان: « ... من طلابكم. والعذر: ج عاذر، وعذره: رفع اللوم عنه. انظر ديوانه/ 51.

(6/363)


[المرسلات: 17]
قال أحمد: حدّثني الحسن بن العباس عن أحمد بن يحيى، يزيد عن روح، عن أحمد بن موسى، عن أبي عمرو: ثم نتبعهم الآخرين [المرسلات/ 17] خفّفها بعض التخفيف «1».
قال أبو علي: هذا على إخفاء الحركة، فأما الجزم في نتبعهم على الإشراك في لم «2»، فليس بالوجه، ألا ترى أن الإهلاك فيما مضى، والإتباع للآخرين لم يقع مع الأول، فإذا كان كذلك، لم يحسن الإشراك في الجزم، ولكن على الاستئناف أو على أن يجعل خبر مبتدأ محذوف، ويجوز فيه الإسكان على قياس الإسكان في قوله:
إنما نطعمكم لوجه الله [الإنسان/ 9].

[المرسلات: 11]
قال: قرأ أبو عمرو وحده: وقتت [المرسلات/ 11] بواو.
الباقون: أقتت بألف «3».
وقول أبي عمرو: وقتت لأن أصل الكلمة من الوقت، ومن أبدل منها الهمزة فلانضمام الواو، والواو إذا انضمّت أوّلا في نحو:
وجوه ووعد، وثانية في نحو: أدؤر فإنها تبدل على الاطّراد همزة، وقد حكيت الهمزة في نحو: ولا تنسوا الفضل بينكم [البقرة/ 237]، وهذا لا ينبغي ولا يسوغ كما لا يسوغ في: هذا عدوّ، ألا ترى أن الحركتين تستويان في أن كلّ واحدة منهما لا تلزم، وزعموا أن في حرف عبد اللَّه: وقتت بالواو.
ومعنى: وإذا الرسل أقتت جعل يوم الدين والفصل لها
__________
(1) السبعة 666.
(2) في الآية قبلها: (ألم نهلك الأولين).
(3) السبعة 666.

(6/364)


وقتا، كما قال: إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين [الدخان/ 40]، وعلى هذا قوله: إلى يوم الوقت المعلوم [الحجر/ 38، ص/ 81].

[المرسلات: 23]
قال: قرأ نافع والكسائي: فقدرنا [المرسلات/ 23] مشدّدة، وقرأ الباقون: فقدرنا خفيفا «1».
قد قدّمنا أن قدر* وقدر* بمعنى، فمن قال: فقدر فلقوله: فنعم القادرون، فالقادرون أشكل بقدرنا، ويجوز القادرون مع قدّر، فيجيء باللغتين، كما قالوا: جادّ مجدّ، وفمهل الكافرين أمهلهم [الطارق/ 17].

[المرسلات: 33]
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر عن عاصم، وأبو عمرو وابن عامر: جمالات [المرسلات/ 33] بألف، وكسر الجيم. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: جمالة واحدة «2».
قال أبو علي: جمالات جمع جمال، وجمع بالألف والتاء على تصحيح البناء، كما جمع على تكسيره في قولهم: جمائل. قال ذو الرمة «3»:
وقرّبن بالزّرق الجمائل بعد ما تقوّب عن غربان أوراكها الخطر وأما جمالة، فإن التاء لحقت جمالا، لتأنيث الجمع، كما لحقت في فحل وفحالة، وذكر وذكارة، ومثل لحاق الهاء في فعالة
__________
(1) السبعة 666.
(2) السبعة 666.
(3) سبق انظر 4/ 69 و 5/ 387.

(6/365)


إلحاقها في فعولة، نحو: بعولة، وعمومة وخيوطة «1»، وربما كان في فعالة نحو: جمالة، إلحاق الهاء وترك الإلحاق. ونظير: جمال وجمالة قول الشاعر «2»:
كأنّها من حجار الغيل ألبسها مضارب الماء لون الطّحلب اللّزب فلم يلحق الهاء كما لحقت في قوله: فهي كالحجارة أو أشد قسوة [البقرة/ 74].
__________
(1) سبق انظر 4/ 86.
(2) البيت من شواهد سيبويه التي لم يعرف قائلها، وقد شبّه الشاعر حوافر الفرس في صلابتها بحجارة الماء المطحلبة، والغيل:- بفتح الغين-: الماء الجاري على وجه الأرض واللازب: اللاصق الملازم.
انظر سيبويه 2/ 178، والمفصل 5/ 18، والمخصص 10/ 90، واللسان مادة/ حجر/.

(6/366)