الحجة للقراء السبعة ذكر اختلافهم في
سورة البروج
[البروج: 15]
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم: ذو العرش
المجيد [15] رفع.
وقرأ حمزة والكسائي والمفضّل عن عاصم المجيد* خفض «1».
قال أبو علي: من رفع فقال: ذو العرش المجيد كان متبعا قوله: ذو
العرش، ومن جرّ فقال: ذو العرش المجيد، فمن النحويين من جعله
وصفا لقوله: ربك في: إن بطش ربك لشديد [البروج/ 12]، قال: ولا
أجعله وصفا للعرش، ومنهم من قال: هو صفة للعرش.
قال أبو زيد: إذا رعيتها- يعني الإبل- في أرض مكلئة فرعت
وشبعت، قيل: قد مجدت الإبل تمجد مجودا، ولا فعل لك في هذا،
قال: وأمجدت الإبل إمجادا: إذا أشبعتها من العلف، وملأت
بطونها، ولا فعل لها في هذا، وروي عن أبي عثمان عن أبي عبيدة:
أمجدتها:
__________
(1) السبعة 678.
(6/393)
أشبعتها. وقالوا في المثل «1»: «في كل شجر
نار واستمجد المرخ والعفار» وقيل في استمجد العفار، أي: كثر
ناره وصفت، قالوا: وليس في الشجر أكثر نارا منه. قال الأصمعي:
في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار، يقال ذلك عند ذكر القوم
في كلّهم خير، وقد غلب على الفضل بعضهم. قال: ويراد بقولهم:
واستمجد المرخ والعفار:
أنهما أخذا ما هو حسبهما، قال: ويقال: أمجدت الدابّة علفا، أي:
أكثرت لها من العلف. انتهى كلام الأصمعي.
وحكى بعض البغداديين عن أبي عبيدة: مجدت الدابّة: إذا علفتها
ملء بطنها، قال: وأهل نجد يقولون: مجدتها، مشدّدة، إذا علفتها
نصف بطنها، والذي حكاه عنه أبو عثمان أمجدتها: إذا أشبعتها،
واستمجد العفار: صار ماجدا في إيرائه النار، وإذا جاز وصف
العرش المجيد في قول من جرّ، وجاز وصف القرآن في قوله:
بل هو قرآن مجيد [البروج/ 21]، لم يمتنع في القياس، أن يوصف به
الأناسيّ.
وزعموا أن بعض القرّاء قرأ: بل هو قرآن مجيد على تقدير:
قرآن ربّ مجيد، وكأن هذا القارئ لم يجر مجيدا على القرآن لعزّة
ذلك في السمع.
قال أبو علي: فكأنّ استمجد في معنى أمجد، لأن استفعل قد استعمل
في موضع أفعل كثيرا، فهو من باب أقطف وأجرب ونحو ذلك
__________
(1) المرخ والعفار: شجرتان يتخذ منهما الزناد- وفي مجمع
الأمثال 2/ 74، المرخ والعفار: نوع من الشجر سريع الاشتعال.
انظر أسماء اللَّه الحسنى/ 53 للزجاج.
(6/394)
مما يكون معناه صار ذا شيء ولم أعلم في صفة
الأناسي مجيد، كما جاء في وصفهم عالم وعليم، نحو: اجعلني على
خزائن الأرض إني حفيظ عليم [يوسف/ 55]، وقد جاء في وصفهم ماجد.
قال ذو الرمة «1»:
أحمّ علافيّ وأبيض صارم واعيس مهريّ وأشعث ماجد وقال بعض ولد
المهلّب للمهلّب فيما أظن:
ومن هاب أطراف القنا خشية الردى فليس لمجد صالح بكسوب وصالح
وصف مدح، يدلّ على ذلك قوله: وعملوا الصالحات [البقرة/ 25]
وقوله: صالح المؤمنين [التحريم/ 4]، وقوله: ثم تابوا من بعد
ذلك وأصلحوا [النحل/ 119]، فكأنّ المجد في الإنسان استيفاؤه
الخلال الرفيعة واستكماله لها، وأن لم يوجد مجيد في وصف
الأناسي يقوّي قراءة من قرأ: ذو العرش المجيد بالرفع، وقول من
قال من النحويين: أني لا أجعله صفة للعرش، كأن من جرّ جعله
وصفا لربّك في قوله: إن بطش ربك لشديد [البروج/ 12]، فإن قلت:
إنه قد فصل بين الصفة والموصوف، فإن الفصل والاعتراض في هذا
النحو لا يمتنع لأن ذلك يجري مجرى الصفة في التشديد، وممّا
يدلّ
__________
(1) أحم علافي: الرحل، وعلافي: نسبة إلى علاف وهم من قضاعة،
وهم أول من نحت الرحال وأول من ركبها، وأعيس: بعير يضرب بياضه
إلى الحمرة، ومهري: منسوب إلى مهرة- يقول: الناظر إلينا من بعد
إنما يرى شخصا واحدا ونحن أربعة. ديوانه 2/ 1110.
(6/395)
على كثرة النار في العفار، وزيادته على
غيره مما يقدح به قول الأعشى «1».
زنادك خير زناد الملو ك خالط منهنّ مرخ عفارا ولو رمت في ليلة
قادحا حصاة بنبع لأوريت نارا وروى أبو عبيدة: «ولو رمت في ظلمة
قادحا» قال أبو عبيدة:
الصفا والنبع لا يوريان، تقول: لو قدحت بنبع وهو لا نار فيه
حصاة لأوريت.
[البروج: 22، 21]
قال: قرأ نافع وحده: في لوح محفوظ [البروج/ 22]، وقرأ الباقون:
محفوظ خفض «2».
حجّة نافع في قوله: محفوظ أنّ القرآن وصف بالحفظ في قوله: إنا
نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [الحجر/ 9]، وكما وصف بالحفظ
في هذه، كذلك وصف في الأخرى في قوله: بل هو قرآن مجيد في لوح
محفوظ [البروج/ 22]، فمعنى حفظ القرآن:
أنه يؤمن من تحريفه وتبديله وتغييره، فلا يلحقه من ذلك شيء.
ومن جرّ محفوظا، جعله صفة للوح، فلأنهم يقولون: اللوح المحفوظ.
قال أبو الحسن: وهو الذي نعرف.
__________
(1) المرخ والعفار: سبق شرحهما، وهما شجرتان خشبهما هش رخو،
والنبع شجر صلب تتخذ منه القسي ومن أغصانه السهام، والحصى صغار
الحجارة، والحصى لا يوري والنبع لا يتّقد إلا بصعوبة لصلابته
انظر ديوان الأعشى/ 53.
(2) السبعة 678.
(6/396)
ذكر اختلافهم في
سورة الطارق
[الطارق: 4]
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي: لما* [4] خفيف.
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة: لما مشدّدة «1».
قال أبو علي: من خفّف فقال: لما عليها حافظ كانت إن عنده
المخفّفة من الثقيلة، واللام معها هي التي تدخل مع هذه
المخفّفة لتخلّصها من إن النافية، وما صلة كالتي في قوله: فبما
رحمة من الله [آل عمران/ 159]، وعما قليل [المؤمنون/ 40]،
وتكون إن متلقية للقسم كما تتلقاه مثقلة.
ومن ثقّل فقال: لما عليها كانت إن عنده النافية كالتي في قوله:
في ما إن مكناهم فيه [الأحقاف/ 26] ولما في معنى: إلّا.
قال سيبويه عن الخليل في قولهم: نشدتك اللَّه لمّا فعلت،
المعنى: إلا فعلت، قال: والوجه إلا، وهي متلقّية للقسم كما
تتلقّاه ما، قال أبو الحسن: الثقيلة في معنى إلا، والعرب لا
تكاد تعرف ذا.
وقال الكسائي: لا أعرف وجه التثقيل، وروي عن أبي عون أنه قال:
قرأت عند محمّد، يعني ابن سيرين: لما فكرهها وأنكرها.
__________
(1) السبعة 678.
(6/397)
ذكر اختلافهم في
سورة الأعلى
[الاعلى: 3]
قرأ الكسائي وحده، والذي قدر [3] خفيف، وقرأ الباقون:
قدر مشدّد «1».
قال أبو علي: قد ذكرنا فيما تقدّم أن قدر* في معنى قدر فكلا
الوجهين حسن.
[الاعلى: 16]
قال: قرأ أبو عمرو وحده: بل يؤثرون [16] بالياء، وقرأ الباقون
بالتاء.
حجة التاء: أن في حرف أبيّ فيما روي: «بل أنتم تؤثرون الحياة
الدنيا» وحجّة الياء: أن ابن مسعود والحسن قرآ بالياء، وحكي عن
أبي عمرو أنه قال: يعنى: الأشقين.
__________
(1) السبعة 680.
(6/398)
ذكر اختلافهم في
سورة الغاشية
[الغاشية: 4]
عليّ بن نصر عن أبي عمرو: تصلى [4] مفتوحة التاء. قرأ ابن كثير
ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي تصلى بفتح التاء، وكذلك حفص عن
عاصم.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو: تصلى مضمومة التاء «1».
حجّة من قال: تصلى قوله: سيصلى نارا ذات لهب [المسد/ 3]،
وقوله: إلا من هو صال الجحيم [الصافّات/ 163].
وحجّة: تصلى قوله: ثم الجحيم صلوه [الحاقة/ 31] مثل أصلوه، كما
أن: غرّمه مثل: أغرمه.
[الغاشية: 11]
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: لا يسمع فيها [الغاشية/ 11] بالياء
مضمومة، لاغية رفع، وروى عبيد وعباس واليزيدي وأبو زيد وعبد
الوارث، وعليّ بن نصر عن أبي عمرو لا يسمع* بضمّ الياء، وروى
هارون فيما حدّثني به الخزاز عن محمد بن يحيى عن عبيد عن
__________
(1) السبعة 681.
(6/399)
هارون والنضر بن شميل عن هارون وعبد الوهاب
عن أبي عمرو بالياء والتاء جميعا.
وقرأ نافع وحده: لا تسمع فيها بالتاء مضمومة، لاغية رفع.
خارجة عن نافع: لا تسمع بالتاء مفتوحة فيها لاغية نصب.
حدّثنا محمد بن الجهم عن خلف عن عبيد عن شبل عن ابن كثير: لا
تسمع* بالتاء رفع. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: لا
تسمع بالتاء مفتوحة، فيها لاغية نصبا «1».
أبو عبيدة: لا تسمع فيها لاغية: لغوا «2»، نصبا. قال أبو علي:
كأن اللاغية مصدر بمنزلة: العاقبة، والعافية، ويجوز أن يكون
صفة كأنه: لا تسمع كلمة لاغية والأول الوجه لقوله: لا يسمعون
فيها لغوا ولا تأثيما [الواقعة/ 25]، ولا يسمع على بناء الفعل
للمفعول به حسن، لأن الخطاب ليس بمصروف إلى واحد بعينه، وبناء
الفعل للفاعل حسن أيضا على الشياع في الخطاب وإن كان لواحد،
وعلى هذا: وإذا رأيت ثم رأيت نعيما [الإنسان/ 20]، وقوله: وإذا
رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا [الإنسان/ 19] ويجوز أن يصرف
الخطاب إلى النبي صلّى اللَّه عليه، وكلّ واحد من الياء والتاء
في قوله: تسمع، ويسمع حسن على اللفظ وعلى المعنى، وهذا الضرب
من المؤنث إذا تقدّم فعله عليه حسن التذكير فيه.
[الغاشية: 23]
قال عباس: سألت أبا عمرو يقرأ: بمصيطر [الغاشية/ 23] بالصّاد،
ابن كثير وأبو عمرو في رواية الحلواني ونافع وعاصم،
__________
(1) السبعة 681.
(2) مجاز القرآن 2/ 296.
(6/400)
بالصاد، الحلوانيّ عن ابن عامر بالسين
وحمزة يميل الصاد إلى الزاي، الكسائي بالسين فيما خبّرني به
محمد بن الجهم عن الفرّاء عنه.
وقرأت على ابن عبدوس عن ابن أبي عمر عن الكسائي:
بالصاد، وكذلك قال أصحاب أبي الحارث عن الكسائي «1».
أبو عبيدة: لست عليهم بمصيطر بمسلّط، قال: ويقال:
تسيطرت علينا «2»، والقول في إبدال السين صادا وإشرابها، صوت
الزاي قد تقدم ذكره في فاتحة الكتاب.
__________
(1) السبعة 682.
(2) مجاز القرآن 2/ 296.
(6/401)
ذكر اختلافهم في
سورة الفجر
[الفجر: 3]
قرأ حمزة والكسائي: والشفع والوتر [3] كسرا، وقرأ الباقون:
والوتر بفتح الواو «1».
الفتح لغة أهل الحجاز، والكسر لغة تميم. حدّثنا محمد بن السري
أن الأصمعي قال: كل فرد وتر وأهل الحجاز يفتحون ويقولون: وتر
في الفرد، ويكسرون الوتر في الذّحل «2»، ومن تحتهم من قيس
وتميم يسوّونهما في الكسر، فيقال في الوتر الذي هو الإفراد:
أوترت فأنا أوتر إيتارا، أي: جعلت أمري وترا. قال: ويقال في
الذّحل: وترته فأنا أتره وترا وترة. قال أبو بكر: قولهم:
وترته، في الذّحل إنما هو أفردته من ماله وأهله، قال: وقال
الفرّاء: التّرة:
الظلم، قال: وقال قتادة: والشفع والوتر إن من الصلاة شفعا، وإن
منها وترا، وكان الحسن- رحمه اللَّه- يقول: هو العدد، منه شفع
ومنه وتر، وكان يقول: الشفع يوم الأضحى، والوتر يوم عرفة.
__________
(1) السبعة 683.
(2) الذّحل: الوتر وطلب المكافأة بجناية جنيت عليه من قتل أو
جرح ونحو ذلك وكذلك هو الثأر. انظر اللسان (ذحل).
(6/402)
[الفجر: 9، 4]
قرأ ابن كثير: يسري* [الفجر/ 4] بالياء وصل أو وقف، وجابوا
الصخر بالوادي [الفجر/ 9] مثله، وقرأ نافع بالياء في الوصل،
وبغير ياء في الوقف.
وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي: يسر بغير ياء في وصل ولا
وقف، وقال أبو عبيدة «1»: كان الكسائي يقرأ: يسري* بالياء دهرا
ثم رجع إلى غير ياء.
وقرأ أبو عمرو فيما روى عباس قال: سألت أبا عمرو فقرأ:
يسر* جزم إذا وصل أو وقف، قال: وهي قراءته، وقال أبو زيد فيما
أخبرني به أبو حاتم عن أبي زيد عن أبي عمرو يسر، في الوقف بغير
ياء. قال: وهو لا يصل يسري*،
وقال عبيد عن أبي عمرو يسر: يقف عند كل آية، فإذا وصل قال:
يسري*، وقال علي بن نصر: سمعت أبا عمرو يقرأ: إذا يسر يقف
عندها لأنها رأس آية، فإذا كان وسط آية، أشبعها الجرّ مثل: ما
كنا نبغي [الكهف/ 64] أثبت الياء، دعوة الداعي إذا دعاني
[البقرة/ 186]، فإذا وقف قال:
الداع*، وقال اليزيدي: الوصل بالياء والسكت بغير ياء على
الكتاب.
[الفجر: 16، 15]
وقال اليزيدي عن ابن كثير: أكرمني [الفجر/ 15] وأهانني [الفجر/
16] بياء في الوصل والوقف، وقرأ ابن كثير في رواية قنبل، وعاصم
وابن عامر وحمزة والكسائي: أكرمن وأهانن بغير ياء في وصل ولا
وقف.
وقرأ نافع في رواية قالون، والمسيّبي وأبي بكر بن أبي أويس
__________
(1) في السبعة: أبو عبيد.
(6/403)
وأخيه، وإسماعيل بن جعفر، وأبي قرّة وأبي
خليد ويعقوب بن جعفر، وخارجة وورش عن نافع: أكرمني وأهانني
بياء في الوصل.
حدّثني الخزّاز قال: حدّثنا محمّد بن يحيى القطعيّ قال: حدّثنا
محبوب عن إسماعيل بن مسلم عن أهل المدينة: أكرمني وأهانني بياء
في الوصل. وقال إسماعيل عن نافع بالواو بغير ياء. وقال ورش عن
نافع: بالوادي [الفجر/ 9] بالياء، وقال عليّ بن نصر: سمعت أبا
عمرو يقرأ: أكرمن، وأهانن يقف عند النون. وقال اليزيدي:
كان أبو عمرو يقول: ما أبالي كيف قرأت أبالياء أم بغير الياء
في الوصل، فأما الوقف فعلى الكتاب.
وقال عبد الوارث مثل ما قال اليزيدي سواء، وقال عباس:
سألت أبا عمرو فقال: أكرمن، وأهانن وقف، وقال أبو زيد:
أكرمن وأهانن مجزومتا النون، محذوفتا الياء، وقال أبو الربيع
عن أبي زيد عن أبي عمرو: أكرمن وأهانن يقف عند النون «1».
قال أبو علي: وجه قول ابن كثير: يسري* بالياء، وصل أو وقف، أن
الفعل لا يحذف منه في الوقف، كما يحذف من الأسماء، نحو: قاض
وغاز، تقول: هو يقضي، وأنا أقضي، فتثبت الياء، ولا تحذف الياء
من الفعل كما تحذفه من الاسم، نحو: هذا قاض، لأنها لا تسقط في
الوصل، كما تسقط الياء من نحو: قاض، في الوصل، وليس إثباتها
بالأحسن من الحذف، وذلك أنها في فاصلة.
وجميع ما لا يحذف في الكلام، وما يختار فيه أن لا يحذف
__________
(1) السبعة 684، 685.
(6/404)
نحو: القاضي من الألف واللام، يحذف إذا كان
في قافية أو فاصلة «1».
قال سيبويه: والفاصلة نحو: والليل إذا يسر [الفجر/ 4] ويوم
التناد [غافر/ 32] والكبير المتعال [الرعد/ 9]، فإذا كان شيء
من ذلك في كلام تام، شبه بالفاصلة، فحسن حذفها نحو. ذلك ما كنا
نبغ [الكهف/ 64]، فإن قال: كيف كان الاختيار فيه، أن يحذف إذا
كان في فاصلة أو قافية، وهذه الحروف من أنفس الكلم، وهلّا لم
يستحسن حذفها، كما أثبت سائر الحروف ولم تحذف؟ فالقول في ذلك
أن الفواصل والقوافي مواضع وقف، والوقف موضع تقرير، فلما كان
الوقف تغيّر فيه هذه الحروف الصحيحة بالتضعيف والإسكان، وروم
الحركة فيها غيّرت فيه هذه الحروف المشابهة للزيادة بالحذف.
ألا ترى أن النداء لمّا كان موضع حذف بالترخيم، والحذف للحروف
الصحيحة، ألزموا الحذف في أكثر الأمر للحرف المتغيّر، وهو تاء
التأنيث، فكذلك ألزم الحذف في الوقف لهذه الحروف المتغيّرة،
فجعل تغييرها الحذف، ولم يراع فيها ما روعي في نفس الحروف
الصحيحة. ألا ترى أنه سوّى بالزيادة في قولهم في النسب إلى
مدامى: مداميّ، كقولهم في النسب إلى حبارى: حباريّ، فحذف كما
حذفت للزيادة، وقالوا في تحية: تحويّ، فشبهوها بحنيفة.
ونحوه، وحذفوا اللام وسوّوا بينها وبين الزائد في الحذف للجزم،
نحو: لم يغز، ولم يرم، ولم يخش، أجري مجرى الزائد في الإطلاق
نحو:
__________
(1) من بداية الفقرة في قوله: وجميع ما لا يحذف ... إلى حيث
وضعنا رقم الحاشية هو من كلام سيبويه، وكذلك ما بعده. انظر
الكتاب 2/ 289.
(6/405)
وبعض القوم يخلق ثم لا يفري «1» و: ما يمرّ
ولا يحلو «2» فجعلوا هذه الحروف بمنزلة الزيادة للكلمة، وسوّوا
بينهما في الحذف فقالوا: يفر، ويحل، كما قال «3»:
أقوين من حجج ومن دهر وقال «4»:
وشجر الهدّاب عنه فجفا فجعل المنقلب عن اللام بمنزلة الألف في
قوله «5»:
__________
(1) من بيت لزهير سبق في 1/ 405 و 2/ 83.
(2) قطعة من بيت لزهير تمامه:
وقد كنت من سلمى سنينا ثمانيا على صير أمر ما يمر وما يحلو سبق
انظر 4/ 140.
(3) عجز بيت لزهير يمدح هرم بن سنان صدره:
لمن الديار بقنّة الحجر قنة الحجر: اسم مكان- والقنّة: الجبل
الصغير، وقيل: الجبل السهل المستوى المنبسط على الأرض- وقيل:
هو الجبل المنفرد المستطيل في السماء.
(4) من أرجوزة للعجّاج وبعده:
إذا انتحى معتقما أو لجّفا شجر الهداب: دفع غصون الشجر عنه.
(5) السلهب: الطويل. والأذلف: القصير والمنتحي: المعتمد.
والمعتقم: الذي يحفر البئر. والتلجيف: أن يحفر البئر في
نواحيها، في أصل البئر على وجه الأرض، ديوانه 2/ 236، والمخصص
10/ 212، والمعاني الكبير 2/ 749، واللسان (ذلف).
(6/406)
بسلهبين فوق أنف أذلفا فلما خالفا ما ذكرنا
اختير فيهما الحذف في الفواصل والقوافي.
فإن قلت: فقد قال سيبويه: إثبات هذه الياءات والواوات أقيس
الكلامين، وهذا بمعنى الحذف جائز عربي كثير، فإنه يجوز أن يعنى
بقوله: أقيس الكلامين، القياس على الأصل الذي هو متروك
والاستعمال على غيره، وإذا كانوا قد حذفوا في مواقع ليست بموضع
وقوف، نحو قراءة من قرأ: يوم يأت لا تكلم نفس [هود/ 105] فأن
يلزم الحذف ما كان موضع وقف أجدر، وكذلك قوله: جابوا الصخر
بالوادي [الفجر/ 9]. الأوجه فيه الحذف إذا كانت فاصلة، وإن كان
الأحسن إذا لم يكن فاصلة الإثبات.
وأما قول نافع في الوصل: يسري* وبغير ياء في الوقف، فيشبه أن
يكون ذهب إلى أنه إنما حذف من الفاصلة لمكان الوقف عليها، فإذا
لم يقف عليها صار بمنزلة غيرها من المواضع التي لا يوقف عليها،
فلم يحذف من الفاصلة إذا لم يوقف عليها كما لم يحذف من غيرها،
وحذفها إذا وقف عليها من أجل الوقف.
ويروى عن أبي عمرو مثل قول نافع، وروى عنه أيوب مثل ما روي عن
ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي.
وقراءة عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: يسر بغير ياء في وصل
ولا وقف، يدلّ أن هذا موضع وقف، فغيّر بالحذف كما غيّر من غيّر
بإبدال النون في الحرف في آخره نحو:
من طلل كالأتحميّ أنهجا «1»
__________
(1) من رجز للعجّاج وقبله:
(6/407)
ونحو إلحاق الياء في قوله «1»:
فاغن وازددي ألا ترى أنه لمّا كان قافية بناها على إلحاق
الياء، وإن كان السكون يجوز عنده في غير القافية، وفي القافية
في بعض الإنشادات، وجعل الوزن يقتضي ذلك، فكذلك الفاصل يقتضي
الحذف، وإن وقف عليها، كما تقتضي القافية الزيادة في نحو:
«وازددي» فهذا يدلّك على مخالفتهم بين القوافي والفواصل، وبين
سائر كلامهم، ورجوع الكسائي عن الإثبات إلى الحذف في يسر حسن،
وهو الذي عليه الاستعمال وكثرته، فأما: دعوة الداعي [البقرة/
186]، فإذا وقف قال: الداع فيجوز حذف الياء من الداع وإن لم
تكن فاصلة، لأن سيبويه حكي: أن منهم من يحذف الياء مع الألف
واللام. كما يحذفها مع غير الألف واللام نحو: قاض، إذا وقف
قال: هذا قاض. وهو أجود من الإثبات، ورواية البزيّ عن ابن
كثير: أكرمني وأهانني بياء في الوصل والوقف، فهو على قياس
قراءته: يسري* بياء في الوصل والوقف، ورواية قنبل وعاصم وابن
عامر وحمزة والكسائي: أكرمن،
__________
ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا الأتحمي: موضع في اليمن تعمل فيه
البرود. أنهج: أخلق. فشبه آثار الديار ببرد قد أخلق. انظر
ديوانه 2/ 14، والكتاب لسيبويه 2/ 299 وفيه: «أنهجن» بدل
«أنهجا». وكذلك في الخصائص 1/ 171 وهو في شرح أبيات المعني 3/
374.
(1) من بيت لطرفة تمامه:
متى تأتني أصبحك كأسا روية وإن كنت عنها ذا غنى فاغن وازدد سبق
انظر 1/ 206:
(6/408)
وأهانن بغير ياء في وصل ولا وقف، هو كقراءة
من قرأ: يسر في الوصل والوقف، لأنها ياء قبلها كسرة في فاصلة،
ورواية من روى عن نافع: أكرمني، وأهانني بياء في الوصل هو من
قياس ما روي عنه في يسري* من إثبات الياء في الوصل وحذفها في
الوقف، ورواية إسماعيل عن نافع: بالواد بغير ياء، ورواية ورش
عنه بالوادي بالياء، فهذا على أن في الوادي والداعي ونحوه مما
فيه الألف واللام وآخره ياء لغتين إذا وقف عليه، إحداهما:
إثبات الياء والأخرى: حذفها، فكأنه أخذ باللغتين، فليس الحذف
في الواد من حيث كان الحذف في الفواصل، لأنه ليست بفاصلة،
ورواية علي بن نصر عن أبي عمرو: أكرمن وأهانن يقف عند النون،
مثل رواية سيبويه عنه.
قال سيبويه: قرأ أبو عمرو: ربي أكرمن ربي أهانن على الوقف «1»،
وكذلك رواية أبي زيد عنه، وهذه أثبت من غيرهم عندنا.
[الفجر: 20 - 17]
قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي:
تحبون- وتكرمون- وتأكلون [الفجر/ 17 - 20] بالتاء. وقرأ أبو
عمرو وحده بالياء كلّه «2».
وجه قول أبي عمرو أنه لما تقدّم ذكر الإنسان في قوله: فأما
الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه [الفجر/ 12]، وكان يراد به
الجنس والكثرة، وعلى لفظ الغيبة جعل يحبون، ويكرمون، ويأكلون
عليه، ولا يمتنع في هذه الأسماء الدالّة على الكثرة أن تحمل
مرّة على
__________
(1) سيبويه 2/ 289.
(2) السبعة 685.
(6/409)
اللفظ، وأخرى على المعنى كقوله: وكم من
قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون [الأعراف/ 4]
وذلك أكثر من ذاك.
ومن قرأ بالتاء فعلى: قل لهم ذلك.
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: تحضون [الفجر/ 18] بالتاء بغير
ألف. وقرأ أبو عمرو وحده بالياء بغير ألف. وقرأ عاصم وحمزة
والكسائي: تحاضون بالتاء والألف، [والتاء] في كل ذلك مفتوحة
«1».
قال أبو علي: كأن معنى لا تحضون على طعام المسكين: لا تأمرون
به ولا تبعثون عليه، وحجّته قوله في الأخرى: إنه كان لا يؤمن
بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين [الحاقة/ 33، 34].
ومن قرأ: تحاضون على تتفاعلون، من هذا، فحذف تاء تتفاعلون، ولا
يكون تتفاعلون على هذا كقوله «2»:
إذا تخازرت وما بي من خزر لأنهم لا يبعثون على أن يظهروا
الحضّ، وليس بهم الحض فإذا لم يجز هذا كان معنى: تحاضون تحضون،
ومن ثم جاء «3».
تحاسنت به الوشي قرّات الرياح وخورها
__________
(1) السبعة 685 وما بين معقوفين تتمة منه.
(2) لعمرو بن العاص أو لأرطاة بن سهية وهو من شواهد سيبويه ولم
ينسبه وتخازر: نظر بمؤخر عينه.
انظر سيبويه 2/ 239، المقتضب 1/ 79، المحتسب 1/ 127، المخصّص
1/ 119، 14/ 180 اللسان مادة/ خزر/.
(3) لذي الرمة وقد سبق في 5/ 198.
(6/410)
أي: حسّنته، والتعدّي، قد يدلّ على ذلك،
ومثل هذا قولهم:
استقرّ في مكانه بمعنى: قرّ، وليس المعنى على أنه استدعى
القرار، وعلا قرنه واستعلاه، يعني علاه، وعلى هذا قوله: سبحانه
وتعالى عما يقولون «1» [الإسراء/ 43]، أي: علا عنه، فأما القول
في يحضون وتحضون فقد تمّ القول فيه في الفصل الذي يلي هذا قبل.
[الفجر: 26، 25]
وقرأ الكسائي: لا يعذب [الفجر/ 25] ولا يوثق [الفجر/ 26] بفتح
الذال والثاء. المفضل عن عاصم مثله.
وقرأ الباقون: لا يعذب ولا يوثق بكسر الذال والثاء «2».
وجه قول الكسائي: لا يعذب عذابه أحد أن المعنى: لا يعذّب أحد
تعذيبه، فوضع العذاب موضع التعذيب كما وضع العطاء موضع الإعطاء
في قوله «3»:
وبعد عطائك المائة الرتاعا فالمصدر الذي هو عذاب مضاف إلى
المفعول به، مثل: من دعاء الخير [فصّلت/ 49]، والمفعول به
الإنسان المتقدّم ذكره في قوله: يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له
الذكرى [الفجر/ 23] والوثاق أيضا في موضع الإيثاق، مثل العذاب
في موضع التعذيب، قال «4»:
أتيت بعبد اللَّه في القدّ موثقا فألّا سعيدا ذا الخيانة
والغدر
__________
(1) في الأصل: عمّا يقول الظالمون.
(2) السبعة 685.
(3) للقطامي وقد سبق في 1/ 182 و 2/ 33، 130، و 351.
(4) البيت غير منسوب وقد ذكره ابن الشجري في أماليه 1/ 353
برواية (فهلا) وهو من شواهد العيني 4/ 475.
(6/411)
فأما من قرأ: فيومئذ لا يعذب عذابه [الفجر/
25] فقد قيل:
إن المعنى فيه لا يتولى عذاب اللَّه يومئذ أحد، والأمر يومئذ
أمره لا أمر لغيره، وقيل: إن المعنى: فيومئذ لا يعذّب أحد في
الدنيا مثل عذاب اللَّه في الآخرة، وكأن الذي حمل قائل هذا
القول على أن قاله أنه إن حمله على ظاهره، كان المعنى: لا
يعذّب أحد في الآخرة مثل عذاب اللَّه، معلوم أنه لا يعذّب أحد
في الآخرة مثل عذاب اللَّه، إنما المعذّب اللَّه تعالى، فعدل
عن الظاهر لذلك، ولو قيل: إن المعنى: فيومئذ لا يعذّب أحد
تعذيبا مثل تعذيب هذا الكافر المتقدم ذكره، فأضيف المصدر إلى
المفعول به، كما أضيف إليه في القراءة الأخرى، ولم يذكر الفاعل
كما لم يذكر في نحو قوله: من دعاء الخير [فصّلت/ 49] لكان
المعنى في القراءتين سواء، والذي يراد بأحد:
الملائكة الذين يتولّون تعذيب أهل النار، ويكون ذلك كقوله: يوم
يسحبون في النار على وجوههم [القمر/ 48]، وقوله: وقال الذين في
النار لخزنة جهنم [غافر/ 49]، وقوله: ولو ترى إذ يتوفى الذين
كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم [الانفعال/ 50] وقوله:
مقامع من حديد [الحج/ 21] وقوله: ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا
يكاد يسيغه [إبراهيم/ 16] والأشبه أن يكون هذا القول أولى،
والفاعلة بهم الملائكة.
(6/412)
|