النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام

سورة البقرة
* * *
قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
إثبات القدر، ونفي الاستطاعة، وختم على نفي الإيمان عنهم. ودليل على أنهم بعد وضوح الطريق لهم بنذارة النبي - صلى الله عليه وسلم - محتاجون إلى توفيق به يؤمنون، إذ لو كان ضلالهم عن الإيمان بجهلهم بسبيله لساروا فيه بعد النذارة.
وقد أزال الريب تعالى عن ذلك، وأغنى عن الإغراق وحققه بقوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) .

(1/91)


ردٌّ على المرجئة:
* * *
وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
رد على المرجئة من جهتين:
إحداهما نفي الإيمان بالقول الذي لا يكون عندهم إلا به.
والأخرى: أنهم يفرقون بين الإيمان واليقين، فيزعمون أن اليقين خلاف للإيمان، حتى إنهم يتأولون قوله في سورة المدثر: (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) .

(1/92)


أي: يزدادون يقينا، فرارا من لزوم الحجة لهم في زيادة الإيمان.
وأرى الله تبارك وتعالى قد سمى الإيمان بالآخرة يقينا بقوله قبل هذه الآية: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
وعليهم فيها حجة ثالثة: من أن الإيمان ذو أجزاء، وهم لا يجعلونه
إلي جزءا واحدا، ولم يقع النكير عليهم في تسميتهم الإيمان بالآخرة إيمانا إذ هو لا محالة كذلك، إنما نفاه عنهم حيث كانوا غير صادقين في قولهم.

(1/93)


رد علي الجهمية:
وفي قوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا)
رد على الجهمية. إذ قد جمع بين الخداع منهم له وللمؤمنن.
وهذا هو الذي ينكرونه أشد الإنكار من أنه لا يضاف إليه ما يجوز إضافته إلى الخلق.
وهو المخبر عنهم - جل وتعالى - بهذا الفعل، ومعلوم أنهم لا

(1/94)


يصلون إلى إرادتهم، لا أن نفس القول به منكر - والمنكر إرادة الفعل - وكيف يكون منكرا وقد قاله عز وجل، ولم يجعله إخبارا عمن نسب الفعل إليه،!
رد على القدرية:

(1/95)


وفي قوله (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا)
رد على القدرية والمعتزلة: إذ هم غير منكرين أن المرض المنسوب إليهم ليس مرض

(1/96)


الأوجاع، وأنه كناية عن كفر أو نفاق، وقد قال: (فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) كما ترى.
وسمعت من يحتج عنهم، ويزعم أن المرض الأول كفر، والثاني عقوبة (1) ، كأنه قال: فزادهم عقوبة.
وهذا خروج من كلام العرب، ومحيل جهة الكلام عن جهة الاستقامة، إذ الزيادة في الشيء لا تكون إلا من جنسه.
ومحال أن يقال: زيدت الظلمة بالنور سوادا، وزيد النور بالظلمة ضياء. والعجب ممن يدقق الكلام، ويزعم أنه نسيج العويص، ثم يأتي بمثل هذا الذي لا يشكل على عالم ولا جاهل، مع أنه لو كان غير محال أيضا، ما جاز ترك ما يقتضيه ظاهر اللفظ من كلام الله - عز وجل - بقول البشر إذا لم يتفقوا عليه.

(1/97)


وفيه أيضا دليل على أن الشيء يوضع موضع غيره إذا احتمل معناه، ويسمى به ولا يكون كذبا.
خصوص في عموم:
* * *
قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ)
إثبات لإجازة الخصوص في ذكر العموم، لإحاطة العلم بأن جميع الناس لم يؤمنوا إذ أكثر من في عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمخاطبون بهذه الآية ناس في اللغة غير داخلين تحت الإيمان في الآية.
وفي قوله: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ) : دليل أيضا على أن الشيء الواحد يجوز أن يسمى به أشياء محتلفة إذ تسميته - جل وتعالى - إياهم بالسفه، وهم كفار، وتسمية غيرهم في قوله: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) وهم مسلمون، دليل على إجازة ذلك، وزوال النكير عنه.

(1/98)


وهذا هو الموضع الذي يغلط فيه الجهمية من أن الاسم إذا وقع على
شيء لم يجز أن يوقع على مالا يشاكله في الصفات، فيزعمون أن الله لا يوصف بوجه ولا يدين ولا حب ولا كراهة لمشاركته المخلوق في ذلك، ولدخوله تحت التأليف والحد والإدراك، ولا يعلمون أن معنى المصنوع من وجه الخلق ويديه، والمخلوق من حبه وكراهته، وأشباه ذلك، قد باين بينه وبين خالقه الذي ذلك فيه كائن في الأول بلا أول ولا صنعة، وفي المخلوق مكون بأول وصنعة، وزائل متغير هنالك، ومنه - جل وتعالى - دائم باق، واتفاقهما بالاسم إذ اختلفا في المعنى كاتفاق الكافر والمسلم في اسم السفه، واختلافهما في المعنى.

(1/99)


في قوله: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)
رد عليهم واضح لو عقلوه، لأن الاستهزاء عندهم من صفة المخلوقين، وقد أخبر الله - تعالى - عن نفسه كما ترى.
في البيع والشراء:
* * *
قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ)
من جهة الفقه: أن البيع والشراء يصحان، وإن لم يوقعا بلفظهما لأنه - جل وتعالى - أفادنا في هذه الآية أن البيع والشراء اسمان موصوفان للدفع والأخذ والمبادلة، واعتياض الشيء من الشيء وأن معنى التجارة طلب الأرباح، ونماء الأموال، وغيرها من الزيادة في الخير، كقوله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)

(1/100)


فسمى الإيمان والجهاد تجارة.
وقال: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) ، وأشباه ذلك. فإذا دفع الدرهم، وأخذ السلعة، فقد تاجر كل واحد منهم صاحبه، وبايعه وشاراه، وإن لم يقل البائع: قد بعت، ولا المشتري: قد اشتريت.
في الأمثال والمبالغة والرد على القدرية والمعتزلة:
قولي تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا)
إلى قوله (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) .
حجة أولا في ضرب الأمثال، ورد على القدرية والمعتزلة، وحجة
في أن من أراد المبالغة في ذم شيء أو مدحه فجائز له الإفراط فيه، ولا

(1/101)


يكون كاذبا ولا آثما لإحاطة العلم بأن من وصفه - جل وعلا - في هذه الآية بالصمم والبكم والعمى كان له سمع يسمع به، ولسان ينطق به، وعين يبصر بها، لكنه لما لم يصغ إلى مواعظ الله، واستكبر عن النطق بشهادة الحق من التوحيد، وتنكب طرق الهداية، وصفه بكل ذلك إذ زالت عنه حقيقة الانتفاع بما أريد منه.
* * *
وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ)
دليل على أن الذي في قوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
من نعت الرب لا نعت الاسم، كما يزعم من يقول بخلق القرآن إذ لو كان كما يزعم لدلت

(1/102)


هذه الآية على أن للناس أربابا مع الله - جل الله - فأمرهم بعبادته دون سائر الأرباب، وإن كانت العبادة لا تصلح إلا له فإعداد غيره ردا معه من أنكر المنكر وأبين الكفر، كزعمه أنه أمره في سورة " اقرأ "، بقراءة اسمه المخلوق عنده دون غيره، وهذا هو نهاية الجهل، ومجاوزة الحد فيه لو تدبره.
رد على القدرية:
* * *
وقوله: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
إذ قد أخبر عن نفسه بأنه يضلهم.

(1/103)


فإن قيل: فقد قال على إثره: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) فنسب النقض إليهم.
قيل: نحن لم نزعم أن الله لما قضى عليهم نقض العهود صار فعل النقض منسوبا إليه، بل هو منسوب إلى الناقض، وزعمنا أن الإيمان بتصديقه في كل ما أنزل في كتابه لازم لنا وفرض علينا، فلما وجدناه مخبرا بإضلالهم عن نفسه، وبالنقض عنهم صدقناه في جميعها، فقلنا كما قال، وآمنا بما أنزل، ولم ننقض إحدى الآيتين بالأخرى. وكذا قولنا في كل ما كان من هذا النمط في القرآن من أن القضاء عليهم بالمعاصي والكفر منه، والفعل بهما من فاعله، والعقوبة عليه والظلم زائل عنه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) ، وأشباهها من الآيات، ولم يكن لنا في علم كيفية ذلك فائدة إذ ليس

(1/104)


هو مما كلفناه، وهو شيء من فعله وصنعه، ولا ضرنا لحوق الحيرة بنا، إذ حجبنا عن معرفة كيفية علمه، كما هو عنده، إذ نحن عبيد لا يؤثر نقصان العلم في عبوديتنا، ولا يجوز لنا مزاحمة مالكنا في علمه بنا وصنعه فينا.
وهذا هو موضع إرهاقهم، وأخذ الضيق عليهم، إذ لا يجدون محيصا من الوقوع في الكفر الصريح بتكذيبه في أحدهما، أو الرجوع إلى قولنا إن رغبوا في المحاماة على الإيمان.
وهي ثلاثة أشياء: نفي الظلم عن نفسه، ونسبته إضلال القوم إليه، وإخباره بالفعل عنهم.
فإن زعموا أنه صادق في إخبار الفعل عنهم، ونفي الظلم عن نفسه، كاذب في نسبة الإضلال إليه، صرحوا بالكفر، وكفونا مؤنة إثبات القضاء في الشر.
وإن صدقوه في الثلاثة معا، ولم يستطيعوا غيره، قيل لهم: فماذا نقمتم من قولنا حين عرفنا بالصدق ربنا، وآمنا بالثلاثة كلها، وأقررناها أماكنها، ونسبنا إلى كل ما نسبه ولم نجاوز حده، ورغبنا إليه في المعونة على القيام بالأمر والنهي، كما تستغل العبيد المأمورون، ولم

(1/105)


نزاحم ربنا في معرفة أفعاله كيف يصرفها، إذا كانت عقولنا الناقصة لا تدرك علمه التام، وقضاءه العام.
أليس هذا تعقب حكمه الذي قالت: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) ،.
أوليس الفكر في ذلك، والإلحاح في معرفته، كالفكر في بدو الخالق ومنتهاه الذي مكايد الشيطان به المؤمنين ليستفزهم به، ويردهم عن دينهم بوساوسه المتلونة عليهم منه،
رد على المتكلمين:
في قوله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ)

(1/106)


رد لقول من زعم أن اسم الميت لا يقع إلا على من فارق الحياة، وأن من لم يكن فيه حياة - قط - فهو موات لا ميت، وقد قال - تبارك وتعالى -: (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ) ، ولم يقل: مواتا، وواحد الأموات ميت.
وفيه أيضا رد على التكلمين فيما يزعمون: أن كل شيء ينمي ويزيد - كالشجر، والنبات، وما لا تعرف له روح ظاهرة - حي، إذ النطفة تنمي وتزيد وتحرك، والمضغة والعلقة يربوان ويكبران، وقد سمى الله - تعالى - كل ذلك ميتا كما ترى.
في تثبيت خبر الواحد:
وفي قوله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا)
إلى قوله (وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
تثبيت خبر الواحد، إذ عجزهم عن إخبار

(1/107)


خالقهم بأسامي الأشياء المثبتة له غيب السموات والأرض، وعلم كتمانهم وإبدائهم عندهم كان بإنباء آدم إياهم بها عن ربهم، وهو واحد
وقوله - تعالى -: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) مخبر عن أن الجنة مخلوقة، وأن قول من قال: تخلق بعد زور وبهتان وتكذيب للقرآن.
اختصار الكلام:
* * *
وقوله: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ)
حجة في اختصار الكلام، وإشارة إلى المعنى، لإحاطة العلم بأنهما لم ينهيا عن الدنو، إنما نهيا عن أكلها، فلما لم يوصل إلى الأكل إلا بالاقتراب منها استغنى

(1/108)


والله أعلم - به من ذكر الأول.
في قوله تعالى: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
دليل على أن معنى الظلم: الخلاف ووضع الشيء في غير موضعه، إذا لم يكن هناك من الظلم بأكل الشجرة، فسمي الحيف عليه ظلما غير أنفسهما، حيثما أوقعا عليه الحيف باستيجاب العقوبة التي تألم به، ووضعها إياها موضع الثواب التي تنعم به لو أطاعه في ترك أكلها.
ولو قال قائل: إن الظلم وقع بالشجرة منهما، إذ قد أمر بتركها في الجنة، فصارا سببا لإخراجها واستحالتها عن حالة الطيب إلى حالة النتن - كانت اللغة محتملة له.

(1/109)


في معنى الحين
في قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
دليل على أن الحين: يقع، على القليل والكثير من الأوقات لأنه لا محالة هاهنا العمر كله.
خصوص ورد على القدرية:
* * *
قوله تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى)
خصوص لا محالة، لأن الهدى لم يأت إبليس ولا الحية.
وفيه رد على القدرية، لاستواء الجميع في المعصية، واختصاص آدم وحواء بالهداية إلى التوبة في قوله: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ) ، ولم يقل: تاب، وكانت الكلمات والتوبة معا من إنعامه على بعض العصاة دون بعض، وقد استويا في المعصية، واختلفا في

(1/110)


العقوبة، فأين موضع العدل الذي يدعونه بجهلهم من حيث لا يعرفونه، وقد وضع عنهم تفتيشه.
دليل أن " مَنْ " تكون للواحد والجماعة:
* * *
وقوله: (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ)
حجة في أن "من " تكون للواحد والجماعة، وهي هاهنا في موضع الجمع لقوله: (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) ، ولم يقل: عليه، وتبع، موحد - والله أعلم - لتقدمه على الأسماء المضمرة في " عليهم " أو محمول على اللفظ.
ولد الولد:
* * *
وقوله تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ)
دليل على أن ولد الولد وإن أسفل، لا يزول عن اسم البنوة، إذ لا نشك أن من خوطب بهذا من بني إسرائيل أسباط أسباط إسرائيل

(1/111)


بدرجات كثيرة، وقد سماهم الله بنيه.
وضع الشيء موضع غيره:
* * *
قوله تعالى: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
يعني - لا محالة - فرقنا بآبائكم، ومن أنتم نسلهم، وهم ينظرون، إذ كان من خوطب بهذا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يشهد ذلك، ولا نظر إليه بعينه، وهذا من سعة لسان العرب، ووضعهم الشيء موضع غيره إذا فهمه السامع بالإشارة، إلى المعنى وفيه حجة للحسن البصري حيث قال:

(1/112)


" خطبنا عتبة ابن غزوان - وا يكن لحقه ة! انما عنى أنه خطب أهل البصرة، وهو بصري - " وخطبنا ابن عباس "، ولم يحضر خطبته، لأنه كان بسجستان أيام ولي ابن عباس البصرة، فعنى أنه خطب أهل بلده، ولم يكن كاذبا في قوله وكذلك

(1/113)


قوله: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) أي: اتخذه آباؤكم.
* * *
وقوله: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ)
هم - لا محالة - آباؤهم ومن هم من نسله، إذ هم المصابون بالصاعقة، والمبعوثون بعد الموت، وما يحقق ذلك - وإن كان لا شك فيه - أنه قال بعد تمام الكلام وذكر المن.

(1/114)


والسلوى: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
فرجع إلى ذكر آبائهم، ومن كان كل ما ذكره حادثا فيهم.

(1/115)


تكرير في كلام العرب:
* * *
قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) .
رد على من يزعم أن العرب ليس في كلامها تكرير ولا تأكيد، وأن كل لفظة لها تقتضي معنى مفردا، وأراه تبارك وتعالى قد ذكر الركوع على الانفراد، وهو - لا محالة - داخل في الصلاة.

(1/116)


معنى الظن:
في قوله: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) .
دليل على أن الظن من الأضداد: يكون بمعنى اليقين والشك، وهو هاهنا يقين لأنه مدح للخاشعين.
والقراءة في قوله: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) برفع الهاء على الفعل المستقبل أحسن منها بفتحها على الماضي، إذ لو كان كذلك لكان - والله

(1/117)


أعلم - تشابهت بالتاء لتقدم الاسم عليها.
وإن كان فتحها على أن تحمل الفعل على لفظ البقر جائزا، فرفعها أحسن لما ذكرنا، ثم لا يضرك ثقلت الشين أو خففتها والتثقيل أحب إلي.
* * *
قوله: (إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ)
حجة لمن قال: إن ما كان من أوصاف المؤنث على وزن فعول فهو بغير هاء، كقولهم: امرأة صبور وشكور.
* * *
قوله: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا)
رده - والله أعلم - على الميت ولم يرده على النفس.
* * *
قوله: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)
ليس بشك، لأن الله تعالى لا يشك، وكيف يشك بشيء هو خالقه

(1/118)


وناقله من حال إلى حال ولكنه - والله أعلم - على ما تتكلم به العرب من نحو ذلك، إذ القرآن نازل بلسانهم.
وكان بعض المتقدمين يزعم أن هذا وقوله: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)
وأشباههما " أو " فيه بمنزلة الواو، أو بمعنى "بل"، كأنه يقول: " وأشد قسوة " " ويزيدون " وما قلناه أحب إلي وكلاهما حسن، وأحسن منهما معنى أن تكون كالحجارة، تنبيها لهم بما يعرفون من قسوة الحجر، ويكون (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) بما يعرفه الله دونهم والله تعالى أعلم به.
* * *
قوله: (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ)
دليل على أن ألفاظ العباد بالقرآن غير مخلوقة، لأنهم

(1/119)


- لا محالة - كانوا يسمعون من غيره، وقد أضافه إلى نفسه،.
* * *
قوله: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
فالظن بمعنى الشك، وقد صح التضاد فيه لشهادة القرآن بكلا المعنين.
فإن قيل: فما وجه ذمهم بالأمية، والأمية من نعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم،
قيل: لم يذمهم بها، لأنها مذمومة في نفسها، بل فيها ظهور أمارة النبوة له، أن يكون وعى الوحي كله بما أيد من الحفظ وعصم من النسيان بقوله: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) وهو أمي.
وفيه أيضا دليل على ما قلناه: إن الشيئين قد يتفقان في الاسم، ويختلفان في المعنى، ولو كان كل صفة تكون في غير نبي لا يجوز أن تكون في نبي، لما جاز أن يكون في البشرية نبي، إذ هم مساوون لهم في الأكل والشرب والنوم والجماع، وسائر أوصاف البشر، ألا ترى أن الله تبارك وتعالى ذم الكفار حيث أنكروا بعثه رسولا فيه بعض

(1/120)


صفاتهم، من أكل الطعام والمشي في الأسواق فقال: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ)
ثم قالت في تمام الكلام: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) ، فأعد هذا القول منهم ضلالاً
وقال في موضع آخر: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)
قدم كل هذا من أقاويلهم، وأنكره من أمثالهم، وأخبر بأن الرسل لا يضرهم مشاركة من شاركهم في بعض صفاتهم، إذ انفردوا بالنبوة التي لا مشاركة فيها.
شرى المصاحف وبيعها:
* * *
قوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) .
يؤيد قول من أجاز شرى المصاحف وبيعها: إذ

(1/121)


الوعيد منه جل وعلا واقع على الناسبين إليه ما اختلقوا فيه، والمدعين عليه مالم ينزله، ليسلكوا فيه بالاكتساب مسلكا للإطاحة فيه بكتب الحق التي أنزل الله، لا أن الوعيد وقع على الاكتساب دون الاختلاق،

(1/122)


إذ لو كان الاكتساب ببيع التوراة محرما، ما نفق اختلاقهم في وجوه مكاسبهم به.
وفيه دليل: على أن الكتب المودعة أباطيل الكفر والسحر، وكل ما يخالفه الحق، لا يجوز الشرى والبيع فيها.
* * *
وقوله: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
رد على المؤقتين من تلقاء أنفسهم باستحسانهم، إذ كل توقيت لا
حجة فيه يعمل عليها من كتاب أو سنة أو إجماع، ادعاء مالا علم
لمؤقته، ومردود عليه كرد الله على هؤلاء، وإبطال قولهم فيما

(1/123)


ادعوه من مس النار لهم أياما معدودة، وأرادوا بالأيام المعدودة: الأيام التي اتخذوا فيها العجل وهي أربعون يوما.
* * *
قوله: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
ينبئ أن الخطيئة هاهنا: الشرك، لقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فدل على أن الكاسب السيئة والمحاط به لم يؤمن، وإذا كان كذلك لم يكن للمعتزلة متعلق بقوله: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) .
لأن السيئات هاهنا

(1/124)


- والله أعلم - أنواع الكفر.
وليس في قوله: (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) ما يدل على
أن أصحاب السيئات لم يكونوا كفارا، لأن معناه - والله أعلم - أن من قال هذا القول منهم عند الموت، فيوشك، ولم يقل: " له عذاب أليم ".
* * *
قوله: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ)

(1/125)


دليل واضح على أن القرآن غير مخلوق، وأن التوراة غير مخلوقة، وأنه ليس بحكاية، قد جمع كل هذا الإضافة إياه إلى الله، وهم لم يسمعوه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فلو لم يكن القرآن بجميع جهاته غير مخلوق لقال - والله أعلم -: حتى يسمع مثل كلام الله أو حكاية كلام الله، أو قراءة كلام الله، فلما قال: كلام الله، أبطل كل ذلك، فمن ادعى شيئا منه خالف الله تعالى، وكان قوله مردودا.
ومثله: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) .
وقال إخبارا عن الوليد بن المغيرة: (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)

(1/126)


فرد عليه ما قال: إنه قول البشر، فلا يكون قول بشر على شيء من
الأحوال.
والوليد لم يسمعه إلا من رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - أو من أصحابه، وكلهم بشر وألسنتهم ألسنة البشر، وهو بين.
فإن احتج محتج بقوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) ، قيل: لا يجوز
أن ينفى على البشر، ويثبت للملك، لأن الملك تلفظ فيه كما تلفظ البشر به.
فإذا نفاه عن البشر كان عن الملك أيضا منفيا، وإذا كان ذلك كذلك لم يكن وجهه - والله أعلم - إلا أنه قول جاء به الرسول الكريم من عند الله، وهو قوله الله لا قوله، فأضيف إليه على معنى أنه الآتي به،

(1/127)


وهذا مثل قوله (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) .
وأضيف الإهلاك والإنجاء إليهم، وإنما هو المهلك والمنجي، ولكنه لما كانوا هم الجايئين به من عنده بهذا الإهلاك والإنجاء - أضيف إليهم.
وقال الله لمريم: (أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ) .
والله هو الواهب لا محالة.

(1/128)


وكقوله في عيسى عليه السلام: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ)
والله الخالق على الحقيقة، كذلك (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)
وهو قول الله على الحقيقة، وأضيف إلى الرسول المجيء به.
تسمية الشيء باسم الغير إذا كان منه بسبيل
* * *
قوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ) .
حجة: لمن يسمي الشيء باسم غيره إذا كان منه بسبيل، إذ الأنفس
في هذا الموضع أهل دينهم لا ذات أنفسهم، لأنهم جنس واحدة يتولد بعضهم من بعض، يبين ذلك قوله (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ)

(1/129)


فلو كان المراد بهذا الخطاب ذات أنفسهم لم يكن في إخراج غيرهم ما ينقض ميثاقهم المأخوذ عليهم في ترك إخراج أنفسهم.
الرد على المرجئة:
* * *
قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ)
رد على المرجئة، إذ المتمسكون بدين موسى - صلى الله عليه وسلم - قبل إنزال الفرقان كانوا مستكملي الإيمان عندهم. وقد سماهم الله تبارك وتعالى بترك الإيمان بالقرآن، والاقتصار على الإيمان بالتوراة - كفارا.
وليس يخلو ما دعوا إليه من الإيمان بالقرآن، من أن يكون عند المرجئة مضافا إلى أصل الإيمان، أو معدوما في عداد الشرائع، فإن كان مضافا إلى أصل الإيمان فهو نقض لقولهم فيما أنكروه من تخزية ونفي الزيادة فيه.
وإن كان سلوكا به سبل الشرائع فهم لا يسمون شيئا من الشرائع

(1/130)


إيمانا وقد سماه الله تعالى في هذه الآية، إيمانا، ولا يسمون تارك شريعة كافرا، وقد سمى الله من لا يؤمن بالقرآن في هذه الآية كافرا.
حجة على الجهمية:
* * *
قوله تعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ)
إلى قوله (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
حجة على الجهمية والمعتزلة: لوصفه نفسه بعداوة من يعاديه، وملائكته ورسله، من الكفار، وهذا هو الذي ينكرونه أشد الإنكار.
الرد علي القدرية:
* * *
قوله: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)
مثبت مقالتنا في الرد على القدرية، لإضافة فعل التفرقة بالسحر إليهم ونفي ضرهم به إلا بإذنه، كقولنا: إن فعل المعصية منسوب إلى العبد وقضاءها إلى الرب،

(1/131)


فمن آمن بالتفرقة وكفر بالإذن كفانا مؤنة الاشتغال به ومن آمن بهما رجع إلى قولنا فيه.
في التوفيق
* * *
وقوله: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) .
دليل واضح لمن تدبره أن حرمان التوفيق أقعدهم عن الإيمان لما حسدوا عليه غيرهم وتبين لهم حقيقته، إذ محال أن يحسدوا غيرهم على ما هو باطل عندهم وفي أيديهم بزعمهم ما هو خير منه. هذا ما لا يذهب على مميز، إذ لو كانوا قادرين على أنفسهم أن يخرجوا إلى ما عرفوه من الحق في أيدي غيرهم لاستغنوا بالتعجيل إليه عن مقاساة الحسد الذي لا يحصل إلا على التحسر ومضض الغيظ.
والذي يجوز لنا أن نتكلم فيه، ولا نرهب أن يكون مزاحمة في علمه، ولا نقضا لكتابه وجحودا بوحيه - أن التوفيق ليس بحق لهم عند الله فيكون ظالما لهم بمنعه عنهم، بل هو تفضل ينعم به على من يشاء ويحجبه عمن يشاء، والقرآن يشهد لنا بذلك في غير موضع في

(1/132)


هذه السورة، وفي سورة آل عمران في قوله: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ)
فلا يجوز لنا أن نقول في إضلال من أضل أكثر من التسليم له، والإيمان بما أنزل في كتابه وتصديقه بما لا نعرف حقيقة علمه كما عرفنا حقيقة علم التوفيق كيف حجب عن غير أهله، وهذا الذي يتصور في عقول القدرية من أن إضلالهم والقضاء عليهم بما أمروا خلافه ثم يعاقبون عليه - ظلم توسوس به اللعين إليهم وإلينا.
لكن نقول: إن علمنا بعداوته إلينا يحول بيننا وبين أن نعمل عليه وتكذيبنا بالقرآن إن قلنا بمقالتهم يورطنا فيما هو أعظم من تصور ما لا يضرنا جهله في عقولنا، إذ ليس هو بأمر ولا نهي نحتاج إلى معرفتهما لندين الله بهما، والذي نحتاج إليه في أصل إيماننا بالخالق هو: علمنا بأنه عادل في جميع جهاته، غير جائز على أحد من خلقه، والمتصور في عقولنا من ذلك ليس بمحيل إمكانه في عدله بل عقولنا لنقصانها إذ هي مخلوقة، ونحن مخلوقون - تعجز عن إدراك علم الخالق المنزه عن النقصان، ولو جاز لنا أن نرد مالا تحمله عقولنا، ولا تتسع له صدورنا، ولا نسلم فيه للقرآن ولما جاء رسول الله،

(1/133)


صلى الله عليه وسلم، به من البيان - لسلكنا بأنفسنا طريق السدى ومن لا يؤمر ولا ينهى، ولكان الرسول غير مبعوث إلينا والتنزيل غير نازل فينا، وهذا خروج من الإسلام، بل خروج من العبودية وجحود بالربوبية.
وهل يجوز لعاقل أن يعد تعظيم ربه في خلاف كتابه والمزاحمة في علمه، وقد دللنا في غير موضع من كتابنا على أن الله - جل وتعالى - قد أنزل في كتابه ما أخبر به عن إضلال من نسب ضلاله إليه، ووصف نفسه بضد الجور وأنه لا يظلم أحدا مثقال ذرة، فإن كان القوم يعدون تعظيمه في تكذيبه فنحن نعده في تصديقه.
بل نعد تكذيبه - جل جلاله - من الكفر الصريح الذي لا التباس فيه. وإن قالوا: لا نكذبه ولكن هذا مزيد في كتابه ولم ينزله الله على نبيه - هدموا الإسلام، وخرجوا من قول الجماعة، متبعهم ومبتدعهم، إذ إطلاقهم موجود على أن جميع ما حواه الدفتان نازل من عند الرحمن.
ويقال للقدري: إن كنت نفيت هذا عنه - جل وتعالى - وأعددته تنزيها من أجل أنه متصور عندك بضد العدل، وأنك غير واصل إلى

(1/134)


العلة التي تسلك به سبيل الحق الدال على العدل من حيث يقبله عقلك، ولا تشمئز منه نفسك، فما العلة التي أوجبت عندك غسل جميع الجسد من خروج النطفة، ولم توجبه من خروج النجو، والنجو أنجس وأنتن منها. وما الذي أوجب أن يكون الفجر ركعتين، والظهر أربعا، والمغرب ثلاثا، وما الذي أوجب أن تترك المغرب والفجر في السفر على حالهما، وأبيحت الحطيطة في غيرهما وما الذي سوى بين دية الطفل الرضيع والشيخ الكبير، وأشباه هذا مما يطول الكتاب بذكره.
وما العلة في خلق كافر سوي بصير ومؤمن زمن أعمى، وعبد مخول، وملك مقتدر، وبهائم خلقت لأكل العتاة وركوب العصاة، ومتصور هذا كله عندك بصورة العدل وانتظام الحكم، وقضاء المعاصي وحده بصورة الجور،
أم جميعه متصور في عقلك بصورة واحدة فتدخله تحت جحودك وإنكارك، وتقول: إن كل ما ظهرت فيه أمارات الجور بتمييز عقلك الناقص وبخبرتك الضعيفة، نزهت عنه ربك وكابرت عليه خصمك،

(1/135)


ولم تضع نفسك موضع العبيد الذين لا يشاقون الله في الأحكام بما يتصور لهم في الأوهام، ويعلمون أن كل ما أمر ونهى وختم وقضى حق وعدل منتظم فصل، عرفوه أم لم يعرفوه، والإيمان به واجب، واستعماله لازم من غير فكر في كيفيته ولا اشمئزاز في تلونه، معولين فيه على قوله (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) .
دعوى:
وفي قوله: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)
دليل على أن كل مدعي دعوى، محتاج إلى تثبيتها وإقامة البرهان عليها، ثم لا يقبل ذلك البرهان، إلا أن يكون مأخوذا عن الله - جل وتعالى - لقوله في الآية التي قبل هذه حيث ادعى القوم أن لا تمسهم النار إلا أياما معدوة: (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) .
فلم يصحح لهم دعواهم إلا بعهد لهم يكون عنده، أو ضمان يسبق
منه لهم، ليكون الارتياب زايله عن صحتها ومحققا لها.

(1/136)


وفي قوله: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
دليل على أن " كل " يخبر بها عن الجميع وعن الواحد، فأما الجميع هاهنا فعلى المعنى، وأما التوحيد فعلى اللفظ والجنس.
قال الله - جل وعلا - في سورة بني إسرائيل: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) فوحد"يعمل ".
تطهير:
وفي قوله: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
من جهة الفقه أن ذكر التطهير ليس بدال على النجاسة في كل موضع، إذ نحن على يقين من أن البيت لم يكن نجسا بنجاسة القذر فأمر بتطهيره منه، وكذلك أمره الجنب بالتطهر في قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا)
ليس بدال على إزالة قذر، إذ الجنب بخروج النطفة منه لا ينجس نجاسة الأقذار، ولا المحدث بخروج البول والغائط منه ينجس، وإنما يطهر أعضاء وضوئه، والجنب جميع بدنه استعبادا لا تطهير قذر، فليس لاعتلال من اعتل، واستدل على نجاسة الكلاب بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(1/137)


" طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات "
معنى يعول عليه ويوجب أن يكون ذكر الطهور دالا على إزالة قذر حادث في الإناء بولوغ الكلب فيه، ونحن لا ننكر أن حكم التطهير واقع على إزالة الأقذار أيضا، ولكنا نزعم أنا إذا أمرنا بتطهير شيء أصله طاهر قبل الحدث عليه فهو تطهير تعبد، لا تطهير إزالة نجس الأقذار، وإذا أمرنا بتطهير شيء أصله نجس فهو تطهير ذلك النجس.
فلم نعرف البيت ولا بدن المؤمن ولا الإناء قبل ولوغ الكلب فيه ولا الكلب نجسا، فحكمنا على الأمر بتطهيرها أنه تطهير تعبد لا تطهير إزالة شيء، وحكمنا على تطهير الأرض من البول أنه تطهيرها من إزالة نجاسة البول، لإحاطة علمنا بأن البول لا محالة نجس بنجاسة الأقذار، ونزعم مع ذلك أن النجاسة نجاستان: فإحداهما نجاسة ذات، والأخرى نجاسة

(1/138)


فعل فما كان من نجاسة الذات لم يطهر إلا بالماء لإزالة عينه به.
وما كان من نجاسة فعل فطهارته تركه. وهذا مشروح في كتابنا المؤلف
في الطهارة.
وما أمر به إبراهيم وإسماعيل - صلى الله عليهما وسلم - من تطهير فهو من نجاسة فعل المشركين وإحضار أصنامهم فيه وحوله، فأمر - والله أعلم - بإبعادها عنه وتطهيره بالصلاة والذكر.
ردٌّ على المرجئة:
قوله إخبارا عن إبراهيم وإسماعيل - صلى الله عليهما وسلم -: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)
رد على المرجئة فيما يزعمون أن الاستثناء في الإيمان شك فيه.
أفتري إبراهيم وإسماعيل عندهم كانا شاكين في إسلامهما حيث دعوا ربهما أن يجعلهما مسلمين وهما مسلمان،
أم لم يكونا أسلما عندهم قبل الدعاء فدعوا أن يرزقاه،
أو لا يعتبرون - ويحهم - أنهما كانا لا محالة مسلمين، ومع الإسلام نبيين، فرغبا أن يزاد في إسلامهما الذي لا نهاية لفضايله وزيادة الخشية في إقامة فرائضه.

(1/139)


وقد دللنا على أن العمل يسمى إيمانا كتسمية القول والتصديق.
وأن الإيمان والإسلام يجمعهما اسم وإن فرق بهما غيره في كتابنا المجرد في وصفه وشرح زيادته ونقصه.
ولو لم يكن من الدليل على أن دعاءهما للازدياد إلا إشراك من لم يكن مخلوقا من ذريتهما فيه عند دعوتهما - لكان قد أزال كل ريب فيه ولبسة تحول بين الوصول إليه.
فأي المعنيين اعترفوا به من هذين لزمتهم به الحجة:
إن أثبتوا كمال الإسلام لهما قبل الدعاء انتقل عليهم قولهم في إنكار الاستثناء. وإن زعموا أنهما لم يكونا كاملي نهايته انتقض عليهم في إنكار الزيادة فيه، ولا سبيل إلى ثالث إلا ما ألزمناهم من نفي جميعه عنهما قبل المسألة. وهذا كفر بعينه لم يلتزموه لفظاعة توهمه فكيف تقلده،
ومسألتهما التوبة في مكانهما من الله واستغفار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في جلالته إذ يقول: " إنه ليغان على قلبي، وإني لأتوب إلى الله في اليوم مائة مرة) .

(1/140)


تحذير لنا شديد كيف يكونوا مع الله - جل جلاله - بهذه المنزلة مع
طهارتهم وتلوثنا.
معاني الملة والإسلام والدين والشريعة والصراط:
وفي قوله: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)
أبين البيان أن الملة والإيمان والإسلام، والدين والشريعة والصراط والمنهاج أسامي تجمع المرتضى من دين الله الذي اختاره لنفسه ودعا إليه عباده، وينوب بعضها عن بعض، ويقع على أجزائه التي لا يستغني بعضها عن بعض. ألا تراه - جل ثناؤه - كيف بدأ الآية بذكر الملة ثم أخبر أنها الإسلام والإسلام منها بقوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)
ثم قال: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ)
- أي بالملة والله أعلم لرجوع الهاء عليها - (إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ)
فسماها نبياه مخبرين عنه شيئا بعدما سماها إسلاما،

(1/141)


ثم سمياه إسلاما بعدما سمياه شيئا بقوله: (فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) وقال عز وجل في سورة الحج: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ)
فجمع بين الدين والله والإسلام في آية واحدة.
وقال في سورة المائدة: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)
وقال في سورة الأنعام: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) .
وفي سورة عسق: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ) .
وقال في غير موضع: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا)
ثم أخبر عن هذا كله باسمين وجمعه فيهما، فقال في سورة آل عمران: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) . وقال في سورة المائدة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)

(1/142)


ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سأله جبريل - عليه السلام - قال له: الإيمان كذا، والإسلام كذا وكذا سمى له جزءا جزءا باسمه على التفصيل الذي ينوب عن جميعه واحد بعينه.
وأكبر غلط القوم في ذلك، وما لبس عليهم جهلهم بأجزاء الإيمان وتصوره عندهم في صورة جزء واحد.
ولولا أن هذا الكتاب مقتصر به على النكت غير مقصود به الإتيان على نهاية التلخيص، لشرحناه بأكثر من هذا الشرح وذكرنا جميع الآيات الدالة على تسمية العمل إيمانا وسنلوح منها على تأليف السور في أماكنها جملا يستغني بها الغائص على النكت عن إطالة شرحنا - في كتابنا المجرد فيه إن شاء الله.
* * *
قوله: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) .
حجة في تسمية العم والجد أبا كتسمية الأب، لأن إسماعيل عم

(1/143)


يعقوب وإبراهيم جده وإسحاق أباه، فسموا كلهم آباء.
وفيه حجة لمن يزعم أن العم يزوج صغار بنات أخيه لوقوع اسم الأب عليه. فإن قيل: فلعله إنما سمى إسماعيل في هذه الآية إما لاقترانه مع الأب والجد اللذين اسم الأبوة شامل لهما بكل حال، كما سميت الأم إذا اقترنت مع الأب، فقيل: أبوان، وكما يقال: الأسودان، وعدل العمرين، وأشباه ذلك، ولو انفرد لم يسم بغير العم، كما لا تسمى الأم إذا انفردت أبا، والماء إذا انفرد أسود، وأبو بكر إذا انفرد عمر.
قيل: لا نعلم هذا واردا في السريانية، كما نعرفه في العربية،

(1/144)


والله - جل وتعالى - وإن كان مخبرا عنهما بالعربية، فإنما يخبر عنهم ما قالوا، ولم يبلغنا أن في لسانهم هذا النمط من الاقتران، وهذا وإن كان هكذا، فليس بحجة شافية في تزويج العم صغار ولد الأخ، لأن أكثر ما في ذلك جواز تسمية العم باسم الأب، وإعداده صدقا غير كذب.
والتزويج باب آخر يحتاج معه، إلى شرط آخر مع التسمية، كما يحتاج الأب الأدنى الكافر في المسلمة إلى شرط الإسلام، والأخ الصغير إلى شرط البلوغ، ويحتاج العم المسمى باسم الأب ليجري مجراه إلى شرط الأدنى في التزويج، ولو كان بوقوع اسم الأب عليه يجرى مجراه بكل حال، جاز أن تحجب به الإخوة من قبل الأب والأم، أو الأب في الميراث، كما يحجبان بالأب، ولا خلاف بين المسلمين أنهما يحجبانه ولا يحجبهما.
وحرم على ابن أخيه ما نكح من النساء، لأنها امرأة أبيه.
وحرم عليه ما نكحه بنو أخيه لأنهن حلائل بنيه. وهذا لا يقوله بشر نعلمه، فليس للإباحة له تزويج صغار ولد أخيه - بوقوع اسم الأب عليه وحده من بين هذه الأشياء - وجه.

(1/145)


في الشهادات:
* * *
قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)
دليل على أن: العلم شهادة يجوز إقامتها، وإن لم يكن الشهود قد أدركوا المشهود عليه، ألا ترى الله - جل جلاله - كيف جعل هذه الأمة شهودا على قوم نوح.؟ ولم يدركوهم ليسمعوا قولهم، فتقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة إذا جحدوا رسالة نوح بما استيقنوا علمه من كتاب الله، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ)
مع جميع ما قص عليهم من أخباره معهم. وكذا روى أبو أسامة.

(1/146)


عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت، فيقول: يا رب نعم، فيقال لقومه: هل بلغكم، فيقولون: ما جاءنا من نذير. فيقال له: من يشهد لك، فيقول: محمد - صلي الله عليه وسلم - وأمته، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فيجاء بكم، فتشهدون " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) .

(1/147)


وفيه أيضا: دليل على أن شهادة المسلم على سائر الملل جائزة، كان معروفا بالعدالة في المسلمين أو غير معروف، لأن الله جل وتعالى عدل هذه الأمة عليهم عدالة عامة، فإذا أقام الشهادة على أهل دينه لم يقبل إلا أن يكون عدلا فيهم، لاشتراط الله تبارك وتعالى فيه شرطا آخر في قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) فاشترط فيها عدالة ثانية سوى حظه في قوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) أي عدلاً
وفي تسميته تبارك وتعالى: من كان على غير دين الإسلام ناسا في قوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)
وفي غير موضع في كتابه -

(1/148)


دليل: على أن من كان على دين الإسلام تاركا لكثير من أخلاق أهله بذنوب يقترفها على نفسه - أحرى أن لا يزول عنه اسم الناس، وأن الخبر المروي عن أبي هريرة - حيث يقول: " ذهب الناس وبقي النسناس " - تعريضا بالمخلطين، واهي الإسناد، لأن ابن جريج مدلس ولم يذكر سماعه من ابن أبي مليكة، ورواه عن

(1/149)


ابن جريج الثورى وهو مدلس (2) .
فإن قيل: كيف يعدل، من لا يعرف بالعدالة على غير دين الإسلام، والحاكم لا يعرف من صدقه ولا أمارة عدله ما يعرفه الله منه يوم يشهد على قوم نوح.
قيل: قد عدلهم تعديلا عاما في الظاهر، ولم يخبر عن الاقتصار بهم
على ذلك الموضع وحده بشيء يسلم له.
فإن قيل: فلعلها تقبل من أجل - محمد - صلى الله عليه وسلم - معهم وهو عدل لا شك فيه - كسره عليه امتناعه من قبول شهادة غير عدل مع عدل.

(1/150)


رد علي المرجئة:
* * *
قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)
رد على المرجئة: لتسمية الله الصلاة نفسها إيمانا، ألا تراه قال في ابتداء الآية: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) .
فلما صرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القبلة التي كان عليها وهي: قبلة بيت المقدس إلى الكعبة - قالوا: يا رسول الله، أرأيت الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس، فأنزل الله (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) أي إيمان من مات منكم على تلك القبلة والله أعلم. وهذا كما تقدم من قوله: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ)

(1/151)


أي: من أنتم من نسلهم.
(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
حجة لن يرى السعي بينهما غير مفروض، وذلك أن الأنصار كانوا في جاهليتهم يتحرجون الطواف بينهما، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية، وأعلمهم أن التحرج من شعائره خطأ، والعمل به

(1/152)


تطوع خير، والتطوع لا يكون فريضة، فإن زعم زاعم: أن (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا) استئناف شيء غيره لا إخبار عن الطواف بهما جعله مجهولا.
وأولى المعاني به - والله أعلم - أن يكون إخبارا عن الطواف، كما قال - جل وتعالى -: في كفارة العاجز عن صوم شهر رمضان: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ)
، أي زاد على مسكين، فكان تطوع هذه الزيادة لا محالة غير مفترض، إذا كان إطعام مسكين واحد مجزيا، وكان الطواف بالبيت مجزيا عن، السعي بين الصفا والمروة فصار السعي تطوعا.

(1/153)


غير أنا نقول: من التطوع المؤكد الذي لا نبيح تركه؛ لأن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - سنه.
* * *
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) .
دليل: على أن التوبة من الذنوب على وجهين: فما كان من ذنب يمكن تلافي التفريط فيه في المستقبل لم تصح حتى يصلح في المستقبل ما أفسد في الماضي.

(1/154)


ألا تراه - عز وجل - كيف اشترط إصلاح ما أفسد بكتمان البينات والهدى، وبيانه للناس بعدما كتموا، وقالت (فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) ، ولوندموا على الكتمان، ولم يصلحوه في المستقبل بالبيان ما نفعتهم التوبة، إذ ندمهم على فعل يستطيعونه بعد الندم، ويقدرون أن يوصلوا منفعته إلى المكتومين عنهم لا ينفعهم، وهو كالمداجاة (1) والله - جل جلاله - لا مداجاة معه.
وما كان من شيء لا يمكن رده، فالندم كاف منه كمواقعة الزنا، وشرب الخمر وأشباههما إذا فات لا يمكن تلافيه بالرد، فأكثر ما فيه الإضمار على ترك المعاودة، وهذا ليس برد.
حجة خانقة علي المرجئة".
* * *
قوله: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)
إلى قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
حجة خانقة
__________
(1) المداجاة هي: المداراة في الأمر والمساترة فيه، مأخوذ من داجي الرجل مداجاة إذا ساتره بالعداوة. انظر لسان العرب (14/ 249) مادة دجا.

(1/155)


للمرجئة جدا، لأنه - جل وتعالى - لم يثبت لهم الصدق إلا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وغيرهما من الأعمال التي ذكرها معهما، وهم لا يخالفون أن من لم يكن صادقا كان إيمانه غير ثابت له.
* * *
قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)
حجة لمن قال: الوصية لمن كان غير وارث من الأقربين باقية، لأن آي المواريث إن كانت نسخت وصية الوارثين فلم تنسخ وصية غيرهم، ومن اعتل بإبطال الوصية لهم بحديث عمران ابن حصين في العبيد فقد أغفل كل الإغفال، وناقض

(1/156)


نفسه كل النقض، إذ من أصله أن السنة لا تنسخ القرآن، فنسخ بتوهم في حديث عمران لا بنص فيها.
فإن قال قائل: لم يجعله نسخا بل جعله بيانا: قيل: البيان يكون تفسير جملة أو تفصيل مبهم، فأما إزالة الشيء وإبطال حكمه فهو النسخ بعينه.
ومن إغفاله في ذلك أنه أنزل عتق العبيد في المرض منزلة الوصية وهو وغيره يرون الرجوع في الوصية، وتغييرها قبل حلول الموت بالموصي فهل يجيز - ليت شعري - الرجوع في عتق العبيد المعتقل في المرض فيخرج من قول الأمة.
ودعواه في أن عبيد المعتق عجم للقرابة بينهم وبين معتقهم لو صح تأويله في الوصية ما قبلت، إذ هي حكم على شيئين على عجمهم - وقد يجوز أن يكون الأعجمي قرابة للعربي - وعلى نفي القرابة بكل حال، وهذا لا يقبل إلا بخبر لا بتوهم، وهو موضوع بشرحه في كتاب الوصايا

(1/157)


في الجهاد.
وفي قوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)
دليل: على أن المريض يلحقه من رخصة الجمع بين الصلاتين ما يلحق بالمسافر، لأن الله قد جمع بينهما في رخصة الإفطار.
* * *
قوله: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ)
دليل على تحريم قتل الصبي من أولادهم، والمرأة إذا لم تقاتل.
ولو جعله محتج حجة في منع قتل الرهبان وأصحاب الصوامع الكافين
عن قتالنا، وجد إن شاء الله مساغا، وهو موضوع بشرحه في كتاب الجهاد.

(1/158)


وقوله (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ)
يؤكد قول من أجاز الزيادة في البيان بلا لبسة إذ لا يمكنه في كاملة يمكنه في تسمية الثلاثة والسبعة بالعشرة.
ولقد بلغني عن بعض المعنفين أنه قال في (كاملة) : ليست بتأكيد، إنما أراد أن صيام العشرة الأيام للمتمتع كاملة حجة. فهذا

(1/159)


القول لو عري من الخطأ في الدعوى، لم يعر منه في اللغة، إذ لو كان كذلك لكان عشرة مكملة لا كاملة، يقال: أكملت له كذا فأنا مكمل، ولا يقال: كملته فأنا كامل، قال الله جل وتعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ولم يقل: كملت.
حجة على الجهمية:
* * *
قوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ)
حجة على الجهمية واضحة فيما ينكرون من الحركة والنزول إلى

(1/160)


سماء الدنيا وأشباه ذلك.
* * *
قوله: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)
إلى قوله (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) .
حجة على القدرية والمعتزلة في خصلتين:
إحداهما: أنه جعل إنزال كتابه الحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه لا معقولهم
فمن اقتصر منهم على معقوله وجعله حاكما بينه وبين خصمه، علمنا
أن حكمه غير نافذ، إذ جعل الله له وجها وهو كتابه فأتاه من غيره.

(1/161)


والأخرى: قوله (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) والإذن لا يخلو من أن يكون راجعا على الاختلاف، أو على الهدى، وعلى أيهما رجع فهو حجة عليهم لا محالة، لأنهم ينكرون إذنه في الاختلاف بكل حال، وينكرونه في الهدى خوفا من لزومهم في الضلالة حتى إنهم ليجعلون الإذن هاهنا وفي قوله: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) بمعنى العلم، وهذا لو لم يكن مستحيلا في اللغة أيضا، ثم أزيل به لفظ الإذن إلى لفظ العلم لكان غير مقبول إلا من منزله أو رسوله أو جماعة الأمة وكيف وكسر الألف يبطل تأويلهم في جميع اللغات.

(1/162)


في القياس والتقليد
وفي إنزاله - جل وتعالى - الكتاب حاكما بيننا في اختلافنا حجة لنا
في باب الفقه في إبطاله التقليد والقياس.

(1/163)


والاستحسان إذ ليس شىء من ذلك مسمى بالكتاب والمحتج منه

(1/164)


على تثبيتها متأول لا متبع نص، ولو قبلنا تأويله في تثبيت ما ننكره بمثله لقبلنا منه نفس ما تأول له بجنسه.
في إتيان المرأة في دبرها:
* * *
قوله: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)

(1/165)


دليل على أن المرأة لا توطأ إلي حيث تكون حرثا، والحرث ما ينبت.
وفي قوله (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)
كالدليل على أن الآتي في دبرها - والدبر ليس بحرث - عادٍ لا محالة.
والاستدلال بهذا أحسن من الاستدلال بأذى الحيض والجمع بينه وبين الغائط لأن ذلك قياس، وما استدللنا به نص.
أيمان:
* * *
وقوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) .

(1/166)


دليل على أن اليمين بالله تجتنب على كل حال - بر فيها الحالف أم فجر وكان الربيع بن أنس يقول: في قوله: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ)
كان الرجل يحلف ألا يصل رحمه، ولا يصلح بين الناس كأنه يذهب - والله أعلم - إلى أن في (تَبَرُّوا) ضمير لا كأنه قال: لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن لا تبروا، ولا تتقوا، ولا تصلحوا بين الناس.
فنهوا أن يجعلوا أيمانهم بالله سببا لترك ذلك - والله أعلم - أي ذلك هو.
نفقة:
وقوله تعالى (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)
حجة في إيجاب نفقة صغار

(1/167)


الأولاد. وليس هو عندي كذلك، إذ الرزق والكسوة واجب لهن بالزوجية قبل ولادتهن، وقبل حاجة الزوج إلى من ترضع أولاده منهن، فلا وجه لاعتبار نفقة الصغار بهذا، ولو كان متخوفا من هذا الموضع، ما كان على الأزواج نفقة الزوجات قبل أن يلدن، وهذا لا يقوله بشر، ولا أعلم أحدا جعل للزوجة أجرة على الرضاع مضافة إلى نفقة الزوجية ولا ذكرها الله إلا للوالدات المطلقات إذا أرضعن بعد الطلاق، قال الله تبارك وتعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ)
فلم يذكر أجرة، ثم قال في سياق الكلام: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ)

(1/168)


فلم يذكر أجرة الرضاع إلا بعد الفصال وكذا قال في سورة الطلاق في الوالدات المطلقات: (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)
فأخذ نفقة الصغار بإعطاء الوالدة أجرة الرضاع بعد انقطاع نفقة الزوجية بالطلاق - وعلمنا أن الواصل "إليها من الأجرة لا محالة بسبب الرضاع لا بسبب الزوجية أشبه، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون الفصال فصال المولود عن الرضاع قبل سنتين برضا الزوجة فإن كان كذلك، فالاسترضاع في هذا الموضع من الأجنبيات، لأمن الوالدات، والمعول فيما نكتنا على الآية في سورة الطلاق.
* * *
وقوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)
دليل: من جهة الإعراب أن الليالي غلبت على الأيام في العدة لقوله: " وَعَشْرًا) " ولم يقل: " وعشرة " ولا نعلم المؤنث غالبا على المذكر في شيء من الأمكنة إلي الليالي على الأيام.
في الإيلاء
* * *
قوله: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ)

(1/169)


حجة لمن يقف المولي ويجعل عزيمة الطلاق باللسان لا بالإضمار إذ لابد للفظها من أن تفيد شيئا على تخريج كلا المذهبي.
فنقول إن الطلاق لزمه بعد الأربعة الأشهر لعزمه عليه في الأربعة لولا ذلك لفاء وخرج من حكمه قبل انصرامها في قول من يوقعه.
وفي قول من يوقفه يجعل العزم بالنطق بعد الأربعة أمدا مضروبا لا سبيل عليه فيه، وحكم الطلاق حادث بعده، وهو بالعزم، فلا عزم حينئذ إلا النطق بالطلاق الذي به يقع في جميع الأماكن ولا يقع بالإضمار الخلو من الإظهار شيء، ويؤكده ما ذكرناه من قوله: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ)
إذ هو لا محالة بالنطق الذي ينعقد به النكاح لإباحته له الإكنان في نفسه - قبل خلو الأجل من عدتها - ما يريد فعله بعد العدة وإزالته الجناح عنه به (7) ، ويالتعريض معا بما نهى عن النطق به حينئذ

(1/170)


مصرحا، فلم يوجب الإكنان عليه عقدا، ولا التعريض به حكما إلى أن جاء العزم بعد العدة على النكاح بالنطق، ولو كان العزم بالإضمار كما يكون بالإظهار لحرم الإكنان كما يحرم العقد. والعزم إن كان مقتضبا معنى الإضمار في بعض الأحوال، فهي كلمة منوطة بإمضاء الشيء وقطعها أي. وذلك غير بين إلا بالكلام الذي يكون فصلاً
في الذي بيده عقدة النكاح:
وقوله (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)
دليل على أن الذي بيده عقدة النكاح الزوج، لأن لكل واحد منهم فضلا على صاحبه حثه الله على ترك نسيانه، منهن بالتجافي عن النصف ومنهم بإكماله.
ومن قالت: هو الولي كان الفضل من جانب واحد في العفو من
قبل المرأة كان أو من عند وليها وكان ابن عيينة يحدث عن ابن

(1/171)


شبرمة قال: كلمت أبا الزناد في ذلك، فقال: هو الولي وقلت أنا: هو الزوج ورأيت إذ كان وليها هو الذي تزوج بها فطلقها قبل أن يدخل بها فأبت أن تعفو أله أن يعفو عن نفسه، فسكت.
وهذه لطيفة حسنة من قول ابن شبرمة وكان قوله على تأويل ما قلناه.
* * *
قوله: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)
مخاطبة للأزواج في

(1/172)


الإتمام، فيكون العفو في هذا الموضع بمعنى الزيادة والنماء، لا بمعنى النقصان والمحق. والعفو من الأضداد فإذا أتم لها الصداق كان أقرب إلى التقوى إذ الزائد على ما يجب عليه أقرب إليها من الذاهب بكله.
وقد اتفق القراء على إرسال الواو، وأنه بالتاء وذلك مما يزيل الالتباس
عنه أنه مخاطبة الأزواج، إذ لو كان إخبارا عنهن لكان يكون بالياء وإثبات النون، أو عن الولي كان بالتاء ونصفا الواو، والذي يزيل كل لبسة أنه الزوج قوله: (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) ولو كان الطلب لكان الذي بيده عقدة الإنكار، والله أعلم.

(1/173)


باب: من المواضع الذى يكون الظن فيه بمعنى اليقين:
قال محمد بن علي: ومن المواضع الذي يكون الظن فيه بمعنى اليقين
والعلم قوله:
(قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) .
وفي قوله: (بِإِذْنِ اللَّهِ) وهو رد على من يجعل الإذن من الله بمعنى العلم، إذ لو كان العلم من الله بغير معنى المعونة والإطلاع ما كان لاتكال الفئة القليلة عليه معنى، ولاستوى في العلم القليلة والكثيرة، ولما كان للقليلة مطمع في غلبها الكبيرة، بل نعقد المعونة بطلب الكثيرة في عرف البشر، وما تدل عليه عقولهم، وقد حقق جل وتعالى طمعهم بقوله: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ) .

(1/174)


رد على من يقول بخلق القرآن:
* * *
قوله: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ)
حجة: على من يقول بخلق القرآن، وينفي الكلام عن الله، وقد أخبر الله عن نفسه - جل وتعالى - بأن في الرسل من كلمه، وهذا هو الموضع الذي يحسن فيه حذف (هو) المفعول به، لا الموضع الذي يغلطون فيه فيدعون حذفها من قوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
رد علي القدرية والمعتزلة:
* * *
قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) .
حجة على القدرية والمعتزلة

(1/175)


شديدة: لابتدائه الآية بنفي الاقتتال عنهم بغير مشيئته وتوكيده ذلك في آخر الآية وذكر الإرادة في الامتثال من الفريقين بلفظها.
نفي العلم عن الإذن:
* * *
قوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) .
أخمد بأنفاسهم في نفي العلم عن الإذن، ومثبت عليهم معنى الإطلاق، إذ لو كان الإذن علما ما بان سلطانه في إطلاق الشفاعة، ولكان كل من شاء شفع إذ علمه بشفاعتهم لا يحجز على شافع شفاعة إذا أرادها.
وقد أخبر قبل هذا عن يوم القيامة بأنه لا شفاعة فيه حيث يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ) ثم استثنى منهم - أي من الشافعين في هذه الآية - من يأذن له فيها - أي يطلق له.
ومن جعل الإذن هاهنا بغير معنى الإطلاق، فقد جعل لله

(1/176)


شريكا في سلطانه، إذ جعل إذنه لعباده مرفوعا واستئذانهم له في الشفاعة عنهم موضوعا.
والعجب لقوم يحملهم خوف لزومهم إطلاق الإذن في قوله: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) على إنكاره في كل موضع فيقعون في أعظم مما فروا منه.

(1/177)


ردٌّعليه الجهمية،
قوله (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)
حجة على الجهمية، ولقد بلغني عن قوم متحذلقين منهم يغلطون بحذاقة أنهم قالوا: كرسيه علمه.
واحتجوا بمصراع منتحل لشاعر لا يعرف ولا المصراع وهو:

(1/178)


ولا يكرسىء علم الله مخلوق.
وهذا المصراع لو كان من قول حسان بن ثابت قد أنشده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصوبه له. لكان إعداد الكرسي من أجله علما خطأ من جهتين:
إحداهما: أن الكرسي في القرآن مثقل غير مهموز والمصراع قد خففه وهمزه.

(1/179)


والثانية: ما دللنا عليه في غير موضع من كتابنا من أن الكلمة إذا كان
لها ظاهر معروف وباطن محتمل لم يجز أن تزال عن ظاهرها المعروف إلى باطنها المحتمل إلا بإجماع الأمة أو بنص آية أو سنة.
فإن قيل: فليس قد رواه مطرف عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)
قال: علمه.

(1/180)


قيل: هذا حديث فيه وهن إلا من مطرف، وأما من جعفر بن أبي المغيرة، لأن الصحيح المشهور عن ابن عباس ما حدثناه عبد الرحمن ابن سلم الرازي (2) ، قال سهل بن زنجية الرازي قال: وكيع

(1/181)


عن سفيان عن عمار الدهني، عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: " الكرسي موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره أحد " وكيف يكون العلم موضع قدميه،
وهل يقرون هم بالقدمين، حتى لا تكون الرواية عن ابن عباس

(1/182)


متعارضة.
وهل حكم ما تعارض من الروايات لو استوت الدعاء مناف إلا لأخذ بأظهرها، وكيف ورواية مطرف عن جعفر لا تكافئ رواية مسلم البطين مع أن الثوري رواه عن مطرف فلم يجاوز به سعيدا كما تجاوزه ابن إدريس وكلاهما وهم، والله أعلم، لأن الروسي في القرآن مثقل وهذه الرواية لم ترد على التخفيف والهمز كما ذهب إليه القوم، ولا نعرف في لغة شاذة ولا معروفة عن عربي أنه سمى العلم بالكرسي المثقل إلا ما جاء في هذه الرواية ويزول به فيها تعارض

(1/183)


عن رجل واحد بعينه.
فلا نترك اللغة السائرة الشهيرة عند الخاصة والعامة من لباب العرب والدخلاء فيهم في الكرسي المثقل، والمخفف المهموز لا أصل له في شيء من اللغات - واللغة لسان مسلم له لا يدرك بالنظر والمقاييس ولا يمكن فيه التبديل.
باب:
* * *
وقوله تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا)
إلى قوله: (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ)
دليل على أن: الميت بعد المساءلة وما يصيبه معها لا يشعر بطول مكثه في البرزخ حتى يبعثه الله يوم القيامة إذ

(1/184)


لو كان يشعر بمكث مائة عام كان لا يقول ما قال.
فإن قيل: فإنما لم يشعر بطول مكثه، لأنها لم تكن موتته المتصلة بحشره الناقلة به إلى آخرته، ولو كانت تلك الموتة - لشعر.
قيل له: فقد قال تبارك وتعالى: (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
فأخبر عمن قد أماته تلك الموتة بما ترى، فلو كانوا يشعرون لعلموا أنهم أقاموا طويلا ليس قليلا ومثل هذا كثير في القرآن.
فإن قيل: قد روي في الأخبار أشياء تدل على أن الموتى يعلمون ويشعرون

(1/186)


قيل: عامتها أخبار واهية الأسانيد والقرآن مكذب لها فيما ذكرنا، ومحقق ذلك بقوله: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) .
وما كان منها صحيحة فلها معان واضحة مثل وقوف رسول الله صلى
الله عليه وسلم على قليب بدر، ونداء من فيه من قتلى قريش وقوله: " ما أنتم لأسمع منهم، غير أنهم لا يطيقون الجواب.
فهذه الآية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في وقتها خاصة فيهم ليقر
الله عين رسوله عاجلا بإسماعهم قوله، وتحقيق ما كانوا يكذبون فيه حتى

(1/187)


يقبروا فإذا قبروا لم يسمعهم.
ومثل ما روي في الشهداء، فإنهم وإن قتلوا فهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله.
* * *
قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ)
أخنق آية للمعتزلة، لأنهم إن ذهبوا به إلى البيان كفروا فيحصل عليهم أنها إلى الله وحده.
* * *
قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ)
دليل على أن الزكاة في أموال التجارة وفيما

(1/188)


أخرجت الأرض من الثمار والحبوب إذ النفقة في هذا الموضع وفي عامة القرآن لا تكون إلا الزكاة والدليل عليه قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ)
إذ لو كانت النفقة على النفس لجاز أن ينفق عليها الرذال

(1/189)


والرفيع، فبان بغير إشكال أنه النفقة على الغير وهو إخراج حقه إليه، والحق عام يدخل فيه المساكين والعيال وصدقة التطوع.
والفرض لا يخرج فيها إلا خيار الأموال لقوله في هذا الموضع وفي قوله (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)
ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الضب " لا تتصدقوا بما لا تأكلون "
في العسر واليسار:
قوله (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)
دليل على أن من عليه حق محكوما عليه بدفعه، حكمه حكم الموسر حتى تثبت

(1/190)


عليه العسرة، إذ لو كان حكمه حاكم الإعسار ما اشترطه الله ولا جعله منظرا بما عليه إلى ميسرته، ومن جعل أصل الناس الإعسار حتى يظهر يسارهم، فقد خالف عندي معنى هذه الآية.
فإن قال: فأصل الإنسان أنه طفل معدم، واليسار حادثة فيه، فلم
لا يحاكم بأصله حتى يعلم حدوث اليسار فيه.
قيل، قد يرث الطفل بالميراث ألوفا ويوصى له بها فيقبلها وصاية له، والشيخ الكبير معدم لا شيء له، فليس لاعتبار حيال العسرة بولادة الإنسان على العدم وجه.
فما كان بالغا صحيح العقل غير محجور عليه، فحكمه فيما لزمه للناس حكم الواجد حتى يثبت عدمه عند الحاكم بالبينة العادلة، تثسهد على ظاهر عدمه، وعليه اليمين فيما غاب عن عيون المشهود من ناض الأموال، ثم يكون منظرا إلى ميسرته.
ورأي مطالبة الحكام البينة بإثبات الشهادة علي يسار

(1/191)


من شهدوا عليه يوم أشهدهم من الحشو الذي لا يحتاج إليه.
وإبطاله شهادتهم إذا عريت من هذا الإثبات وترك القضاء على الشعوب عليه بشهادتهم حتى يشهد من يثبت الشهادة كذلك من الجهل الذي لا يعذر أحد به، واتلاف حقوق المسلمين بلا طائل من حجة ولا التباس من شبهة.
وأرى أكثر حكام زماننا يستعملونه ويبطلون حقوق الناس به، والله المسعان.
الصداق:
ومن طريف ما أحدثوه وقبيح ما استحسنوه، ترك حبس الأزواج المعترفين بصدقات نسائهم المدخول بهن إذا لم يطالبن بها قبل الدخول، واعتلالهم بأن الصداق ثمن بضع، فإذا سلمته قبل أخذ الثمن لم يكن لها أن تطالب بحبسه في الحكم، وعليه أن يعطيها فيما بينه وبين الله.
فيقال لزعيمهم: لم لا تحبس بحق هو معترف بوجوبه ممتنع من أدائه، إلا أنه غير واجب عليه، وهو بالمطالبة مظلوم، أو واجب عليه ظالم بتأخيره،
فإن قال: مظلوم. قيل: لم هو مظلوم، ألأنه لم يجب عليه قط، أم كان منسيا به لم يحن أجله ولن يستطيع أن يقوله.

(1/192)


وإن قال: كان واجبا عليه بالعقد فأبطله الدخول، قيل: فلم يجب عليه أداؤه إليها فيما بينه وبين ربه وقد أبطله الدخول،
وإن قال: هو ظالم لها في الباطن غير ظالم في الظاهر، كابر في الدعوى، وجار في الفتوى.
وإن قال: هو ظالم في الحالين.
قيل: فلم لا تحول بينه وبين الظلم وأنت تقدر عليه،
ويقال له: ألها أن تطالبه به قبل الدخول، فإن قال، بلى.
قيل: فطالبته وامتنع أتحبسه،
فإن قال: بلى، قيل: كيف تحبسه ولم يتلف شيئا، والذي جعل الصداق ثمنه حاصل في يد غيره ومحول دونه.
فإن قال: آخذه من يدي من هو في يديه، بأن أسلم المرأة منه.
قيل: ولم تفعل ذلك، ولأن يزول الظلم عنه بوصوله إلي البضع المشترى بالصداق، وليحق حبسه إذا أخذ شيئا ولم يسلم ثمنه،
فإن قال: نعم. قيل: أفتحبسه بإرادة التحول ولا تحبسه بالتحول نفسه، ما أراك إلا تكابر عقلك ويقال: له أسلمت المرأة البضع

(1/193)


فإن قال: بغير ثمن. كابر عقله. وإن قال: بثمن. قيل: بثمن يجب أو لا يجب، فإن قال: بثمن لا يجب. كفى خصمه محنته. وإن قال: بثمن يجب. قيل: فقد ماطل بدفعه، فكيف الوصول إلى أخذه وأنت لا تحبسه ولا تبيع عليه عقارا، أرأيت إن ماتت في المطالبة قبل أن تأخذه، أيكون الوارث بمثابتها لا يحبس خصمه، فيصير حقا تاليا لا يصل إلى الورود، ولا إلى الوارث إلى القيامة. أم يحبس للوارث بما لم يحبس للموروث، فيكون زيادة في القبح والإحالة.
وقد رأينا الله - جل وعلا - جعل الدخول سببا لوجوب جميع الصداق، فلا يبطل نصفه بالطلاق.
فأرى هذا الزاعم يوهن ما وكده الله، وليت شعرى ما الفائدة إذا
في قوله: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) ، وفي قوله: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
وهذا لا محالة بعد الدخول لكنايته بالإفضاء عنه، ومتى وقته الذي يجب دفعه فيه إذا كان قبل الدخول لا يحبس به مسلم

(1/194)


يعقل من أجل أن لكل واحد منهما أن يقول: لا أدفع حتى أقبض، وبعد الدخول لا يحبس من أجل تسليم المرأة بضعها قبل الأخذ. فأرى الصداق من بين الحقوق قد عاد متلاشيا تالفا وأهملت تلاوة هذه الآيات وغيرها فيه، والله يعظم سماعه فكيف احتباؤه، ولا أعلم حكمين أحدثا في الإسلام أوحش منهما، أحدهما هذا والآخر الذي قابله من طرح بينه لم يشهد - يعني من أشهدهم عليه.
وجوب كتابة الدين:
قال محمد بن علي: أرى الناس تركوا استعمال آيات من القرآن محكمات وأغفلوا الإصابة في تخريج إهمالها: فمنها ترك كتابة ما داينوا، والكتاب موجودون ولم يستثن منها إلي التجارة المدارة بينهم، وقالت تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ)

(1/195)


إلى قوله: (وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ)
ثم إلى قوله (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا) .
ومنها: أنهم إذا كتبوها أيضا لم يتول إملاءه من عليه الحق استطاعه أو
لم يستطعه.
ومنها: أن وليه - إذا عجز عنه بأحد وجوه العجز - لا يتولاه عنه.
أحسنه أو لم يحسنه.
ومنها: ترك إشهادهم في مبايعاتهم، وكل هذا قد نص عليه أمر من
الله جل وتعالى فيه، قال الله تعالى (فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) ، وقال: (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ)
وفي البيوع قال:

(1/196)


(وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) فهذا ما أهملوا استعماله من هذه السورة سوى ما في غيرها مما سنأتي عليه في موضعه إن شاء الله، ورأيت بعض من تطرق إلى التسهيل فيها - بل رمقها بعين المنسوخ بما لا التباس فيه أنه وضعه غير موضعه - زعم أن قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ)
دله على ترك الكتابة وقوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)
دله على ترك الإشهاد.

(1/197)


فلولا أن الغفلة شاملة للخلق والنقص لاحق بهم لكان هذا الإفراط فيها يكشف عن عورة قائله، وينبئ عن عتهه. إذا كان الله بجوده اشترط عدم الكتاب في السفر فما بال الكتابة تسقط في الحضر مع وجود الكتاب، أم كيف تسقط في سفر فيه كاتب في الرفقة وإذا أباح ترك الارتهان الذي جعله عن ما من الكتاب عند عدم الكاتب فكيف يسقط الإشهاد في التباين، لأنه أباح ترك الارتهان إذا أمن بعضنا بعضا، ولكن صاحب هذا القول رجل جليل لا يصرف هذا منه إلا إلى السلامة والسهو والغفلة

(1/198)