النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام سورة آل عمران
حجة على القدرية والمعتزلة:
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ
مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا
تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ
تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ
مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو
الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ
هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ
أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)
حجة على القدرية والمعتزلة واضحة لو تدبروه، ولاكتفوا به من
سائر
ما عليهم في غيره من كتابه، وذلك أنه وصف الزائغة قلوبهم
باتباع متشابهه ابتغاء تأويله، ثم آيسهم من بلوغه بما أخبر من
انفراده بعلمه دون جميع الخلق، ووصف بالفتنة من ابتغى علمه
فصار الطمع في بلوغ علم التشابه به بعد انفراد الجليل به،
والخوض في تصرفه تقدما إلى الباطل على بصيرة، وجهلا لا يعذر
أحد به.
ووصف الراسخين في العلم بصفة ومدحهم بقول ظن القدرية والمعتزلة
أنهم أسعد بهما من خصومهم، وأن خصومهم هم المتبعون متشابهه،
ولو تأملوا بعض ما مدح به الراسخون لانعكست ظنونهم وفضلوا
بالتزام ما نحلوا خصومهم من حيث لا التباس فيه وهو قوله:
(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)
فمدحهم
(1/199)
بالدعاء المحال لديه، ونسبتهم زيغ القلوب
إليه، وهذا عندهم كالافتراء عليه، ولا يعتبرون أن الله جل
جلاله ما مدحهم إلا بالحق ولا دعوه إلا بالصدق، فإنه مزيغ
القلوب وهاديها فسألوه التثبيت على الإيمان بما أخبر عنهم في
صدر المدح حيث يقول: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ
آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) خشية أن يلحق قلوبهم
زيغ يسلك بهم سبيل الزائغين من المتبعة متشابه القرآن
الموصوفين بالفتنة في ابتغائه. فأي حجة تلتمس أوضح من هذه لو
أضربوا عن اللجاج، ولم يصروا على البهت والعناد، وهل دون ما
شرحناه في هذا الفصل إشكال، أو تناقض أو محال، أوليس ما مدح به
الراسخون - في هذه الآية - الراهبون من الزيغ بعد الهداية
يوافق ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يدعو به،
فيقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك " فقالت له امرأة
من نسائه: أو تخاف علينا وقد آمنا بك وبما جئت به، فقال: " إن
قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمها
أقامها وإن شاء أن يزيغها أزاغها.
(1/200)
وهذا حديث يؤمنون به ولا يردونه إلا أنهم
يتأولون في الأصابع أنها النعم حذرا من نقض قولهم في إنكار
الصفات ويحتجون بأن العرب تسمي المنظر الحسن من العشب الخضر
الريان الزهر بالأصبع، فيزعمون أن كل نعمة يقع عليها اسم أصبع،
وأن معنى قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن: بين نعمتين
من نعمه، وليس قصاراهم إلا وضع الشيء في غير موضعه، أولا
يفكرون أن العرب وإن سمت النعمة بالأصبع فهذا الموضع منه بعيد؛
إذ القلوب لو كانت محروسة بين نعمتين ما خشي الزيغ عليها، فكيف
يدعو رسول الله، صلى الله عليه وسلم بثباتها، وهي مثبتة بغاية
التثبيت محروسة بنعمتين عندهم ولئن كان زيغها ممكنا عندهم مع
النعمتين، فكان
(1/201)
رسول الله - عز وجل - يدعو بتثبيتها إذ لا
يجوز عندنا وعندهم عليه أن يدعو بالمحال - إنه لأبلغ - في
تثبيت ما أنكروه وتصديق ما جحدوه، ونحن نسامحهم في تثبيت
الصفات عليهم من هذا الحديث، إذ لنا في غيره من الأخبار وفيما
هو مسطر في القرآن سعة ومندوحة بحمد الله ونعمته.
رد على الجهمي:
* * *
وقوله: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)
حجة على الجهمية، إذ قد بين الله نصاً أنه يحب من تبع رسوله -
صلى الله عليه وسلم - بأن جعله جزاء لما أحبوه، ومقابلة لهم
على ما
(1/202)
أضمروه، ثم قال: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ
وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْكَافِرِينَ (32)
فأخبر عن نفسه - جل جلاله - أنه يحب قوماً ولا يحب آخرين.
خصوص في ذكر العموم:
* * *
قوله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ
إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)
دليل على الخصوص في ذكر العموم لإحاطة العلم بأنه لم يصطفهم
على محمد - صلى الله عليه وسلم - كذلك قوله في البقرة: (يَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
إذ لم يفضلهم على من كان قبلهم من الأنبياء، من غير ولد
إسرائيل، ولا فضلهم على، محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى جميع
الأنبياء، فكأنه أراد عالم زمانهم. ومثله قول موسى عليه السلام
-
(1/203)
(وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
يعني - والله أعلم - أول مؤمني قومه، إذ تقدمه بالإيمان آدم
ومن بينهما من الأنبياء والرسل، ومن آمن بهم من الدهم الكثير.
وكان بعضهم يقول في: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
أي أول من آمن أنك لا ترى في الدنيا، وهذا ليس بشيء، لأن كل من
قبله من الأنبياء كان يؤمن أن الله لا يرى في الدنيا والقول هو
الأول، والله أعلم.
حجة للمتنسكين:
قوله إخبارا عن امرأة عمران: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا
فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) حجة للمتنسكين، فيما يقولون: فلان في
رق الدنيا،
(1/204)
وفلان عبد شهوته، وترك الشهوات فصار حرا،
ولا يكون شيء من ذلك كذبا، فيقال: كيف يصير حراً من لم يزل
حراً، وكيف يكون للدنيا رقٌ على الأحرار، ألا ترى أن جنينها
كان حرا فنذرت أن تحرره أي لا تشغله عن العبادة بشيء فأخبر
الله عنها بما قالت وتقبل منها نذرها.
حجة في تسمية المخلوقين بالسيد:
وفي قوله: (وَسَيِّدًا وَحَصُورً)
دليل على أن تسمية المخلوقة بالسيد من أجل أن الله جل وعلا،
يسمى به ليس بمنكر لأن يحيى، صلى الله عليه وسلم، وإن كان نبيا
فهو مخلوق مع أن السيد من أسامي الله، عز وجل، غير نازل في
القرآن. وقد يسمى بما نزل في القرآن المخلوق فلا يكون منكرا،،
فالمؤمن والعالم والبصير والحكيم من أساميه، وهي تسمى بها
الناس، فلا يكون منكرا. والسيد وإن لم يكن من أساميه في
القرآن، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(1/205)
وإجماع الناس أنه في أساميه جل وعز، فإن
كان نكيره عند من ينكره من أجل أنه مزاحمة حقه في اسمه، فقد
دللنا على جوازه بما يغني عن إعادته، وإن كان من أجل أنه يسمى
به فاسق، فالله، جل وعلا، سمى به نبيا، والمؤمن والعالم
والحكيم يسمى به الصالحون والفاسق.
والفاسق وإن كان فاسقا بذنوبه فقد سمي مؤمنا بإيمانه والبصير
ضد الأعمى، وقد يكون فاسدا وصالحا. والحاذق بالصنائع يسمى
حكيما، وبصيرا، وعالما، وربما كان في دينه فاسقا.
فما بال السيد من بينها يخص بالنكير، ويباح سائره، ونرى الفاسق
المتسلط يسمى جبارا ويسمى متكبرا، وكلاهما من أسامي الله، وهما
في الله - جل جلاله - مدح، وفي الفاسق ذم، فلا يكون شيء من ذلك
منكرا، إذ الأسامي أمارات يعرف بها الأشخاص لا غير.
ولو كان كل اسم سمي به مسمى لا يجوز أن يسمى به غيره إلا أن
يشبهه بجميع صفاته، ما جاز أن يسمى أحد بأسامي الأنبياء،
والملائكة من أجل أنهم يخالفونهم في بعض صفاتهم وإن وافقوهم في
بعضها، وذلك مخالفة القرآن وهدم اللغة والخروج من العرف
والعادة، ولا أحسب إعداد تسمية الناس بالسيد نكيرا إلا من
(1/206)
نسك العجم والجهال بلغة العرب. أليس مالكها
المماليك يسمون سادة، وقد تكلم به رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - والصحابة، وهم عرب نساك أفضل من أظلته الخضراء بعد
النبيين وتكلم به التابعون بعدهم والفقهاء، والأئمة ودونوه في
المصنفات ورددوه في المناظرات، لا ينكره منكر ولا يعيبه عائب،
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لوفد قدم عليه: " من
سيدكم والمطاع فيكم،.
وقال: " إن ابني هذا سيد، وعسى الله أن يصلح به بين فئتين من
المسلمين "
(1/207)
وقال في سعد بن معاذ: " قوموا إلى سيدكم،
وأشباه ذلك مما يطول الكتاب بذكره.
وإن كان ينكر أن يسمى به غير رئيس، لأنه واقع على الرؤساء،
فإذا سمي به غيرهم كان كذبا عنده - فقد دللنا في سورة البقرة
على أن: من أراد المبالغة في مدح الشيء، أو ذمه فتكلم بما يكون
ظاهره إفراطا لم يكن كذبا، واحتججنا فيه بقوله عز وجل: (صُمٌّ
بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) .
(1/208)
فليس فيه معنى النكير بوجه من الوجوه إلا
في حالة واحدة أكرهها.
بل أنهى عنها، وهو أن يعرف إنسان بعينه بنفاق فلا يسمى به،
لحديث بريدة الأسلمي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه
قال: " لا تقولوا للمنافق سيد فإن يكن سيدكم فقد أغضبتم ربكم "
وهذا الحديث أيضا: حجة في جوازه، إذ في نهيه أن يسمى المنافق
به دليل على أن تسمية غير المنافق به جائز.
قال محمد بن علي: وكذلك المولى إذا سمي به إنسان يجري في
الجواز مجرى السيد لا يخالفه، والحجة فيه واحده، لأنه يقال:
مولى العبد ومولى الأمة، ومولى النعمة، وأشباه ذلك، قال الله -
تبارك وتعالى - إخبارا عن زكريا: (وَإِنِّي خِفْتُ
الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا
فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)
(1/209)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من كنت
مولاه فعلي مولاه، والمولى في اللغة. هو الناصر قال الله تعالى
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ
الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)
فالعلم يحيط أنهم خالقهم ورازقهم ومدبر أمورهم كهو للمؤمنين
منفرد بنصر المؤمنين دونهم.
حجة لمن يقول بالقرعة:
* * *
قوله: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
يَخْتَصِمُونَ (44) .
رد على من يقول القرعة قمار،
(1/210)
وقال الله - تبارك وتعالى - في سورة
الصافات إخبارا عن يونس، صلى الله عليه وسلم،: (وَإِنَّ
يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ
الْمُدْحَضِينَ (141) .
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر أقرع بين
نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه وأقرع في ستة مملوكين
لرجل أعتقهم عند موته لا مال له غيرهم، فأعتق بالقرعة اثنين،
وأرق أربعة. وعمل بها الصحابة من بعده، والأئمة الصالحون، فكيف
يكون قمارا مع هذه الحجج الواضحة، والأعلام النيرة، ولكن من
شاء جنَّن نفسه.
وضع الكلمة موضع غيرها:
قوله في عيسى، صلى الله عليه وسلم: (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ)
(1/211)
دليل على أن من وضع الكلمة موضع غيرها، لا
يكون كاذبا إذ لا يشك أحد من المسلمين أن عيسى ليس بخالق،
وإنما أراد - والله أعلم - أنى أصور لكم صورة طير، فأنفخ فيه
فيكون طيرا بإذن الله - أي بإطلاق الله - لا محالة لا بعلمه
كما تزعم القدرية: أن الإذن بمعنى العلم، إذ لو كان
(فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ)
بمعنى علمه، لا بإطلاقه لكان خالق الطير عيسى لا ربه، إذ كان،
جل وتعالى، لا يخلق بعلمه إنما يخلق بقدرته، ويدبر بعلمه، وهذا
من قولهم: هي النصرانية بعينها، بل زيادة عليها.
في القضاء والقدر:
قوله تعالى، إخبارا عنه - صلى الله عليه وسلم - (وَأُبْرِئُ
الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ
اللَّهِ)
حجة عليهم في إنكارهم إضافتنا الأفعال إلينا وقضاءها وخلقها
إلى الله، جل جلاله
(1/212)
إذ لا محالة أن الله هو: مبرئ الأكمه
والأبرص، ومحيي الموتى، وقد نسبه إلى عيسى في الإخبار عنه، بما
جعله له آية، وكذا نقول: إن الله جل جلاله خالق أفعالنا،
والقاضي علينا بذنوبنا ونحن فاعلين لها، وهو واضح لمن تميزه
واستعان بالله على معرفته ولحوق لطيفة نكتته.
ناسخ ومنسوخ:
* * *
قوله تعالى: (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ
عَلَيْكُمْ)
دليل: على أن في الكتب المنزلة قبل الفرقان ناسخا ومنسوخا كهو
فيه. وأن الله ينسخ على ألسنة أنبيائه ما أنزله من وحيه كما
ينسخه بوحيه.
قوله قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) دليل: على أن
الإيمان والإسلام وإن فرق بينهما اسم فقد يجمعهما اسم، وهو رد
على المرجئة.
قوله (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ (54) .
رد على الجهمية ولا أراهم إلا متحكمين مع جهلهم فيما يجعلون
المكر وأشباهه منه على المجاز
(1/213)
أفتجيزون لمن يقوله إن قوله: (خَلَقَ
اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ)
على المجاز لا على الحقيقة، كما المكر وأشباهه على المجاز لا
على الحقيقة - فيوافق الدهري في قوله، وينسب السموات والأرض
إلى الأزل. وما الذي جوز لهم دعواهم فيما يشتهون من المجاز،
ولم يجوز لغيرهم فيما يشتهيه، هل هذا إلي التحكم بعينه بعد
الجهل في نفسه،!
دليل على أن العرب تسمي باسم واحد المعاني الكثيرة:
* * *
وقوله: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ
وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)
دليل على أن العرب تسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة
إذ وفاة عيسى، صلى الله عليه وسلم، ليست بوفاة موت وتسمى وفاة
الميت وفاة. ومثل هذا
(1/214)
قوله: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ
حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا)
فسوى في الاسم بين الوفاتين مع اختلاف المعنين وفيه حجة على
الجهمية في امتناعهم من تسمية الشيء باسم غيره إذا خالفه في
بعض صفاته
* * *
وقوله: (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)
مثله قولنا بكون الطهارة واقعة على الأقذار وغيرها على ما بينت
في قوله: (أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) .
* * *
وقوله: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ،
دليل على أن الجعل لا يكون بمعنى الخلق في كل موضع كما تزعم
الجهمية أن قوله: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) هو
بمعنى خلقناه. وقد غلطوا، إنما هو بمعنى صيرناه، وكذا
(1/215)
قوله: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ)
أي: ومصير الذين اتبعوك فوق الذين كفروا. وكان بعض ملطفي
نحلتنا يزعم: أن الجعل إذا تعدى إلى مفعولين، كان بمعنى
الصيرورة، وإذا تعدى إلى مفعول واحد كان بمعنى المخلوق، ولا
أحسب هذا منه إلا هفوة، لأن قوله تبارك وتعالى: (هُوَ الَّذِي
جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورً)
متعدي إلى مفعولين، والشمس مخلوقة، وقد يجوز أن يقال: " جعل "
في الشمس والقمر ها هنا بمعنى صير، على تأويل أن الشمس خلقت
غير مضيئة، والقمر غير منور، ثم صير لهما ضياء ونورا، وأصل
المجعولين من متبعي عيسى فوق الذين كفروا مخلوق، ثم صيروا
فوقهم. فهذا توجيه قول اللطف فيما قال في الجعل المتعدي إلي
(1/216)
مفعولين - ولكنه يكسره من جهتين:
إحداهما: أن ضوء الشمس ونور القمر خلقة فيهما ونعوت من نعوت
ذاتهما، وليست رفعة متبعي عيسى على الذين كفروا خلقة فيهم ولا
نعتا من نعوت ذاتهم، فالصيرورة تحسن فيما ليس من نعوت الذات،
ولا تحسن في النعوت الذاتية.
والأخرى: أن هذا الملطف أراد أن يجعل الفرق بين الجعلين بذكر
المتعدي إنما المفعولين ذريعة إنما نفي الخلق عن القرآن، إذ
الجعل فيه متعدي إلى مفعولين، وقوله: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ
وَالنُّورَ)
متعدي إلى مفعول واحد وأصل القرآن ليس بمخلوق، ثم صير عربيا،
كما يحتمل أن تكون الشمس خلقت غير مضيئة، ثم صير لها ضوء،
ولكنه كلام الله غير مخلوق، أنزله بلسان العرب، ليفهم عنه كما
أنزل التوراة بالعبرانية والإنجيل بالسريانية، ليفهم كل عنه،
وبأي لسان أنزل كتبه فهي غير مخلوقة.
والنكتة التي هي أم الاحتجاج في نفي الخلق عن القرآن وسائر
الكتب المنزلة هي تثبيت الكلام على الخالق، والدالة على أنه
متكلم، فإذا أخذ اعتراف المنكر بهذا استغني به عن سائر الحجج،
إذ الكلام يكون نعتا من نعته ولا يقدر الخصم على أن يقول
بخلقه، فنفي الخلق عن القرآن بما خرج من معنى الجعل دعامة تضعف
عند الاحتجاج، وللجعل
(1/217)
مواضع يدل عليه سياق الكلام، فإذا اقتضى
الخلق فهو خلق، وإذا اقتضى صيرورة فهو صيرورة.
ضرب الأمثال والنهى عن المراء:
* * *
قوله: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ
خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
حجة: في ضرب الأمثال، ونهي عن المراء، وكان بعض مثبتي القياس
يجعله حجة في تثبيت القياس، وهو عندي غلط فاحش، من أجل أن
القياس: هو تشبيه الشيء بالشيء، وعيسى لا يشبه خلقه خلق آدم في
شيء من الأشياء من أجل أنه مولود، وآدم مصنوع، وهو حادث من
أنثى، وآدم غير حادث من أنثى ولا ذكر، وهو ولد، وآدم والد، ففي
أي شيء يشبهه، إلا في أنه لحم ودم وصورة مؤلفة يستويان في
الأكل والشرب والنوم وأشباهه، وهذا شيء يشاركه فيه جميع الناس،
فأي فائدة تكون حينئذ في ضرب الكل به مع آدم عليهما السلام،
(1/218)
إنما الفائدة فيه: أن الناس لم يكن في
عرفهم أن تلد أنثى من غير ذكر، فلما أحدث الله خلق عيسى،
وأخرجه من بطن مريم من غير مسيس ذكر لها تعاظم عندهم مالم يكن
في عرفهم وعادتهم، حتى هلك فيه من هلك، فأعلمهم الله، أنه خلقه
بقدرته من غير ذكر في بطن أمه كما خلق آدم، وكانت قدرته محيطة
بخلقهما من غير نطفة. فإن كان القائس يزعم: أن الله لما حرم
شيئا واحدا كان قادرا على تحريم شيئين، فلعمري إنه قد أصاب
الشبه من المثل المضروب في خلق آدم وعيسى صلى الله عليهما
وسلم.
وان كان يزعم أنه يحرم شبه ما حرمه الله، وفرض عليه فعله
اعتمادا على أن الله لما خلق آدم جعل نظيره في الخلق عيسى،
وكان حتما عليه أن يفعله - افترى على الله وأخطأ الشبه من باب
المقايسة في المثل.
(1/219)
رد على الجهمية:
وقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ
لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا
يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
حجة: على الجهمية في الكلام والنظر؛ إذ لو كان الكلام على
المجاز ما ضرهم حجبه عنهم ولا كان للمسلمين فيه تمتع، ولا نشك
أنه جعل حجب كلامه عنهم عقوبة، فإن جاز أن يكون ذلك على المجاز
جاز أن يكون - (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) - على المجاز،
وإن كان العذاب حقيقة، فالكلام والنظر مثلهما
قوله (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ
إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ
الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
(86)
حجة على القدرية والمعتزلة بينة؛ إذ قد أخبر نصًا عن نفسه أنه
يحجب الهداية عن ظالم
(1/220)
بكفره بعد ماتبين له طريق الهداية فسلكها
بإيمانه، فهو لا يستطيع الرجوع إليه للحائل من منعه دونه.
النهى عن مزاحمة الرب:
* * *
قوله تعالى: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
حجة على من يعجب من قولنا فيما نزعم أن الله مضل من يعذبه على
ضلاله وقاض على من يعصيه بعصيانه ويدخلهم النار بعدله، فيردونه
من أجل أنه متصور في عقولهم بصورة الجور. فيقال لهم: أفيتصور
في عقولكم إمكان مكان يمتد فيه طول الجنة إذ كانت السموات
والأرض مستفرغة في عرضها، ويكون للنار مكان مع كبرها وكثرة
أهلها،.
فإن قال: هو متصور في العقول من حيث تعرفه الخليقة. قال
(1/221)
محالة، إذ العقول نائية عن ذلك من حيث
أطباع بشريتها.
وإن قال: ذلك غير ممكن في العقول ولكنه ممكن في قدرة الخالق من
حيث لا ارتياب فيه ولا رد لقوله، ولا مزالا عن ظاهرة
بالتأويلات المنكرة.
قيل: وكذلك التصور في عقولكم من عذاب من أضل، وقضيت
عليه المعصية والكفر بصورة الجور في علم الخالق - عدل لا ريب
فيه، ومسلم فيه له من أن يزال لفظ عن ظاهره، أو يتأول عليه
تأويل تدفعه اللغة والنظر معا، وقد حوى فصل غير هذا صنيعه، جل
وعلا، بالبهائم في الفلوات ومرض الصغار وتخويل بعضه بعضا
والمخول عاص، والخول مطيع، وأشباه ذلك مما لا يتصور في عقول
الخليقة بصورة عدل، وهو عدل لا شك فيه وعلم كل هذا عنا موضوع،
والفكر في كيفيته مرفوع.
رد على القدرية والمعتزلة:
قوله (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ
أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ
قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ
الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ
الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ
يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ
لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا
هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ
الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ)
(1/222)
حجة على القدرية والمعتزلة، لأنهم يزعمون
أن القتل غير مكتوب على أحد، وأن من قتل آخر فقد قتله بغير
أجله، فماذا يقال لقوم يعمدون إلى نص القرآن، فيخالفونه،!
وكان القدماء منهم ينسبون الحسن البصري إلى أنه منهم. فحدثني
محمد بن عبد الغفار قال الحسن بن علي الحلواني قال: عبد الصمد
بن عبد الوارث عن الأسود بن سنان عن عسل بن
(1/223)
سفيان قال: أتيت الحسن فقلت: إني خارج، وإن
الناس يسألوني عن قولك في القدر، فما تقول في رجل عدا على رجل
فقتله، قال: قتله بأجله وعصى ربه. فامتحنه عسل بما عرفه من
مذهب القوم، فلما أجابه بهذا الجواب برئ من التهمة.
وحدثني محمد قال: الحسن بن علي بن محمد، قال: سليمان بن حرب
ويحيى بن آدم قالا:
(1/224)
حماد بن زيد عن خالد الحذاء قال، قدمت من
الشام فبلغني أن الحسن تكلم في شيء من القدر، فأتيته فقلت: يا
أبا سعيد، حدثني عن آدم أللأرض خلق أم للسماء،
قال: للأرض. قلت: فهل كان يستطيع أن يعتصم من الشجرة، قال: لا
والله.
(1/225)
قلت: قوله (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) ،
قال: خلق هؤلاء لجنته، وهؤلاء لناره.
وحدثنا محمد قال: عبد الله بن خالد بن يزيد اللؤلؤي
قال: داود بن محبر قال: مبارك بن فضالة عن الحسن في قوله تبارك
وتعالى: (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ
(12))
قال: الشرك.
(1/226)
وقال في قوله: (وَلَا يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ (118)
قال: خلقهم للاختلاف، وفي قوله: (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ
دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)
قال: أعماله كتبت لابد أن يواقعوها، وفي قوله: (وَلَقَدْ
ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ)
قال: خلقنا.
وفي قوله (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا
مُتْرَفِيهَا)
قال: كثرنا مترفيها.
وفي قوله: (مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162)
قال: يقول: إنكم يا بني
(1/227)
إبليس لن تضلوا من عبادي إلا من أوجبت له
النار.
وفي قوله: (يحول بين المرء وقلبه)
قال: يحول بين الكافر وبين الإيمان، وبين المؤمن وبين الكفر.
وحدثنا: محمد قال: عبد الله بن خالد، داود ابن محبر قال: أبو
الأشهب عن الحسن في قول الله: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
مَا يَشْتَهُونَ)
قال: حيل الله بينهم وبين الإيمان.
وحدثنا: محمد قال الحسن بن على الخلال الحلواني، قال:
(1/228)
الحجاج ابن نصير قال: سهل السراج عن الحسن
في قول الله تعالى:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى
الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
قال: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا.
وحدثنا محمد قال: الحسن بن علي، قال: أبو الوليد الطيالسي
وسليمان بن حرب، عن مرحوم العطار،
(1/229)
عن أبيه وعمه قالا: سمعنا الحسن يقول: لا
تجالسوا معبدا الجهني فإنه ضال مضل.
والأخبار عن الحسن فيما يبرئه من القدر كثيرة، لو ذكرناها في
هذا الفصل لطال، وفيما ذكرنا كفاية عما تركنا.
(1/230)
فإن قيل: فقد قال بعد هذه الآية التي
احتججت بها: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ
الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ
بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا)
فنسب الاستزلال إلى الشيطان والكسب إليهم.
وقال في سورة البقرة: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا
فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) .
قيل: قد تقدم قولنا في أن الفعل منسوب إلى فاعله، والقضاء إلى
الله جل الله.
وذكرنا في بعض فصول هذه السورة، ما أخبر عن عيسى ابن مريم
أنه يبرئ الأكمه والأبرص منسوبا إليه.
ولا شك أن الله مبريها مع أنه قد قال - عز وجل - في سورة
الأنفال: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ
وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)
فأزال بذلك كل ريب، والملك إذا عاقب عبدا على يدي بعض عبيده،
فهو معاقبه وإن لم يتول بيده، ألا تراه يقول في سورة التوبة:
(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ)
(1/231)
والشيطان أيضا عبد له يملكه، فإذا استزل
عبدا، فبإطلاقه، وبما سبق في قضائه لا باقتدار نفسه ألا تراه
يقول: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ
إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)
فليس يتبعه إلا من قضي عليه، والمعصوم لا وصول له إليه.
وفي قوله: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)
زوال كل ريب أن أحدا لا يملك مع الله شيئا، وأنه المالك وحده،
فمن زعم أنه يملك أمر نفسه في ضر أو نفع أو إيمان أو كفر، فقد
افترى على الله، وجعل نفسه شريكا لله، تعالى الله.
في القدرية والمعتزلة: وقولهم: إن المقتول ميت بغير أجله.
* * *
قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا
ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا
عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ
ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ)
موجب على القدرية والمعتزلة: الكفر فيما يزعمون
(1/232)
أن المقتول ميت بغير أجله، لإخبار الله ذلك
عنهم، ثم قال ردا عليهم: (وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) .
فإن قيل: فقد فرق بين الموت والقتل بقوله: (وَلَئِنْ مُتُّمْ
أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) .
قيل: خاطبهم على ما يعرفون من ألفاظهم باختلاف الأسباب،
والمرجوع فيه إلى مفارقة الحياة، وهذا بأي اسم تقدمه من معاني
أسبابه يسمى موتا.
ألا تراه - جل وعلا - حين رد عليهم قولهم: (لَوْ كَانُوا
عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا) ، رد بلفظة واحدة فقال:
(وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ)
ولم يقل يميت ويقتل كما قال: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ
اللَّهَ قَتَلَهُمْ) إذ الموت آت عليهم، والعرب تسمي الشيء
الواحد بالأسماء الكثيرة كقولهم قدم، ووافى، وجاء، وهم به
يريدون في كل هذه الألفاظ حلوله بالموضع.
ويقولون: ذهب، وانطلق، وخرج، وشخص، وهم يريدون
(1/233)
مفارقته المكان الذي كان حالا به، وأكثر
بلية المبتدعة ضيقهم عن سعة لسان العرب التي نزل القرآن
بلسانها، فإذا أرادوا الاقتداء بها في بعض الأمكنة غلطوا
عليها، فيأتون بمثل ما قدمنا ذكره من الكرسي والإذن والأصبع،
وما سنأتي عليه في موضعه إن شاء الله تعالى.
قوله (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ
يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
حجة عليهم: لأنهم ينكرون أن يكون الله جل وعز يخذل أحدا.
وهذا شيء خالفوا فيه الإجماع مع مخالفة الكتاب، إذ الناس
بأجمعهم عالمهم وجاهلهم يقولون عند الشتيمة: مالك خذلك الله،
يريدون الدعاء عليه بالخذلان، كما يقولون: قاتلك الله، ولعنك،
متواصين على جوازه على الله، وإن كرهوه في التشاتم.
رد على الجهمية:
* * *
قوله: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ
بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ)
حجة على
(1/234)
الجهمية في السخط وعلى القدرية: في البوءة،
إذ ما باءوا به من سخطه ضد الخير ما كان
* * *
وقوله: (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ
أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ
الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
لم يغادر لبسة تشبه عليهم قولهم في القتل لو أنصفوا.
* * *
وقوله: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي
الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ
اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ)
حجة عليهم، لأن إرادة الله - جل وتعالى - في حرمان حظهم من
الآخرة حائلة بينهم وبين المسارعة إلى الإيمان - الذي ينمي لهم
حظ الآخرة، وكيف يقدرون أن يكتسبوا بالطاعة حظ الآخرة، والله
يريد ألا يجعله لهم، وهذا من العدل الذي لا يحيطون بمعرفته
فيتصور عندهم بصورة الجور.
رد على القدرية:
* * *
وقوله: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا
نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ
لِيَزْدَادُوا إِثْمًا)
حجة عليهم في الإملاء منه للكفار، ولقد
(1/235)
بلغني أن بعض جهلة القدرية كاشف الأمة
بالخلاف فيما أطبقوا عليه من فتح " أنما " الأولى وكسر
الثانية، فكسر في قراءته الأولى، وفتح الثانية جرأة على الله،
واغترارا بحلمه. يريد بذلك أن يحعل الإملاء من الله لهم لخير
يريده بهم لا للازدياد في إثمهم. ولا يبالي بما يلحق الكلام من
الخلل والقلب، وسوء النظم، وبما لا يليق بالله في حكمته وجليل
علمه. وهذا ما زعمنا: أنهم إذا أرادوا متابعة العرب تبعوها
بأقبح الوجوه وأفحش الغلط، وماذا عسى يحسن أن يكون إملاؤه لهم
في الخير حتى يزيلوا الكلام عن جهته، ويجعلوا بدل الإثم خيرا،
أيعدوا هذا الخير الذي جعلوه بدل الإثم لهم من أن يكون في طول
(1/236)
عمر أو مال أو ولد، وكل ذلك مما يزيد في
إثمهم، ولا ينجيهم من عذاب ربهم، قال الله تبارك وتعالى:
(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ
أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ
يُعَمَّرَ)
وقال: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ
كَافِرُونَ (55)
وقال: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
وأشباه ذلك فكيف يملي لهم فيما هو خير لأنفسهم.
وفي قوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى
الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ
يَشَاءُ)
رد على الإمامية، فيما يزعمون: أن الإمام لابد
(1/237)
من علمه الغيب.
لأن الله نفاه عن جميع خلقه نفيا عاما ومنهم أمير المؤمنين علي
بن أبي طالب، رضى الله عنه، فلم يستثن به ولا بأحد من ولده،
وأكد ذلك بقوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ
مَنْ يَشَاءُ)
أي يجتبيه فينزل عليه الغيب.
إنه لا يعلمه إلا بالوحي لا بغيره، والإمام لا يوحى إليه،
وكذلك
في سورة الجن: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى
غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ
فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
رَصَدًا (27)
(1/238)
|