النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام سورة النساء
في الإماء:
* * *
وقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) .
دليل على أن الإماء لا قسم لهن. إذ كان الله جعلهن والحرة
الواحدة عوضا من الأربع مع خيفة الجور في ترك الخروج إليهن
بحقوقهن والقسم منها.
* * *
وقوله: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي
جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا
وَاكْسُوهُمْ) .
يثبت نفقة الزوجات، وصغار الأولاد، لأن السفهاء في هذا الموضع
النساء والصبيان، فلما أمر، جل وتعالى، برزقهم وكسوتهم علمنا:
أنهم نساؤه وصبيانه، إذ ليس ذلك بفرض عليه في الأجنبيين.
(1/239)
وفي نهيه عن إيتائهم المال توكيد لحظر
الشرى والبيع مع الصبيان، من أجل أن من لم يجز إيتاؤه مالا بلا
عوض فهو بعوض أشد حظرا لعجزه عن معرفة ما يدخل عليه من الغبن
والتضييع.
والنساء وإن كن قد دخلن معهم في ذلك، فإجازة الشرى والبيع جائز
معهن من موضع آخر، وهو جري القلم عليهن بالبلوغ، وإحاطة
معرفتهن بالغبن، واحترازهن من الخلابة، وقد أمر الله بدفع
أموال اليتامى إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد، واسم اليتم واقع
على الذكور والإناث، قال الله، جل وتعالى، على أثر هذه الآية:
(وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ
فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ)
في أكل مال اليتيم:
* * *
وقوله: (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ
فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) .
(1/240)
يبيح عندي للفقير إذا ولي مالي يتيم أن
يأكل منه بلا قرض، ولكن لا يجوز له أن يتجاوز ما لا غني عنه،
وذلك ما يتماسك به بدنه عندما يخاف تلفه ويواري عورته، ويقيه
من حر أو برد غير متبجح في الشهوات، وفضول الكسوة، ولا يفعل
ذلك إلا عند انقطاع جميع حيله، ونزول الضرورة به التي يسمى
معها فقيرا، ولا أعرف وجه من قال: " المعروف " هو القرض، إذ
القرض يباح للغنى أيضا أن يأخذه لنوائبه ثم يرده من مكانه، بل
يكون ذلك من صلاح مال اليتيم إذ
(1/241)
ما أخذه وليه قرضا مضمونا عليه حتى يرده،
وما لم يأخذه قرضا فهلاكه من مال اليتيم، إذا هلك بغير عدوان،
وإذا كان ذلك كذلك، فأين يبين موضع الرخصة للفقير،.
وكان الحكم بن عتيبة يقول في قوله: (وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) .
قال يأكل من مال نفسه بالمعروف حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم.
فهذا لا أدرى ما وجهه، إذ لو كان له مال يأكل منه بمعروف أو
سرف ما سمى فقيرا، ولا خرج من خطاب المتعففين إلى خطاب
المتوسعين.
(1/242)
وصايا:
* * *
وقوله: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
كان سعيد بن المسيب يعده منسوخا بآي المواريث، وكان ابن عباس
يذهب به إلى أنه حث للميت على الوصية لهم.
(1/243)
وكان الحسن ومجاهد يجعلونها محكمة.
فأما: قول ابن عباس، فلا أدرى ما وجهه،! وقد ذكر الله القسمة،
والقسمة تكون بعد الموت. اللهم إلا أن يكون فيهم من كان يقسم
ماله عند الموت على فرائض الله، فأمر أن لا يستفرغ ماله في
القسمة ويوصى لهم، وكيف تمكن القسمة عند الموت وفي الناس من
تكون زوجته حبلى، وهو لا يدري ما في بطنها.
فأما قول سعيد فإن كانت آي المواريث أينما نسخته، فلم تنسخ إلا
رزق من يرث من ذوى القربى، فما بال من ليس منهم وارثا،
واليتامى والمساكين يحرمون من أجلهم،
ولا أحسب القول إلا ما قال مجاهد والحسن، لأن ظاهر الآية يوجب
إعطاءهم إذا حضروا، فيعطى اليتامى والمساكين، ومن ليس بوارث من
الأقربين ما طابت به أنفسهم قل أم كثر، لأنه جل وتعالى يحد فيه
حدا، والمخاطب بإعطاء هذا الوارثون وأولياؤهم، فمحال أن
(1/244)
يعطوا أنفسهم شيئا جعله الله في أموالهم
لغيرهم.
مواريث:
* * *
قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ
مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) .
مثبت للاثنتين ثلثي التركة، ومغني عن التطرق إلى التأويلات في
فوق، ثم يكون فوق، واقفا على ثلاث فصاعدا، لأن تسمية حظ الذكر
يمثل حظ الأنثيين نص لا تأويل فيه.
ألا ترى أن نصيب الابن الواحد مع الابنة الواحدة ثلثي المال،
(1/245)
وقد سماه الله جل وتعالى حظ الأنثيين، فهو
واضح لا إشكال فيه.
ووجه آخر واضح أيضا، وهو أنه لما قال: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً
فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ)
وجب أن يكون للثلاث فصاعدا الثلثان، فلما فصل ميراث الواحدة
بالنصف كان لما زاد عليها الثلثان بالنص للأولي وهو بين.
* * *
قوله: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ
فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ)
حجة لمن جعل لها مع الزوج والمرأة ثلث ما يبقى بعد نصيبهما، إذ
لا وارث بعدهما غير الأبوين، وقد أخبر الله نصا أن ما لا يرثه
أبَوَا هالكٍ
(1/246)
لم يكن للأم إلا ثلثه، فإذا أعطيناها
ثلثيه، لم نكن في الظاهر سالكين بها مسلك ما سمي لها.
ولا أعرف فيما انتحلناه من هذا بين أهل الفرائض خلافا، إلا ما
روي عن ابن عباس: أنه جعل لها ثلث جميع أصل التركة، وهو - رحمه
الله - وإن كان تأسى بنمط ساير القسم في التركات، فقد فضل الأم
على الأب، ولا نعلم أن الله جل وعلا فعله في شيء من الأمكنة.
مواريث خصوص:
* * *
قوله: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)
خصوص وهو - والله أعلم - من بعد وصية تبلغ الثلث فأدنى، وأرى
الناس قد ألقوا رواية الحارث عن على - رضي الله عنه - أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -
(1/247)
قضى: بالدين قبل الوصية، وأنتم تقرءون:
(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) ، وهذا -
والله أعلم - مما يوهن رواية الحارث، ويحقق عليه ما نحل من
الكذب، إذ على - رضى الله عنه - في جلالته ومنزلته من الإسلام
لا يخفي عليه أن الله تبارك وتعالى لم يقدم الوصية على الدين
ليبقى الدين على الميت إذا هلك، ويسعد أهل الوصايا بما أوصي
لهم.
إنما أفادنا أن الدين والوصايا مقدمان على الميراث، فليس في
ذكر
(1/248)
الوصية في اللفظ قبل الدين ما يوقع لبسه،
والله أعلم.
نكاح:
* * *
وقوله: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا
قَدْ سَلَفَ) .
نص على تحريم الجمع بينهما بنكاح كان أو بملك اليمين. ولا أعرف
للالتباس الواقع في أمرهما إذا كانتا مملوكين - من أجل أن الله
قال في موضع: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) وجها، إذ لو
جاز أن يقع فيها التباس جاز أن يقع، في الأخت من النسب والرضاع
والعمة والخالة، ونساء الآباء، وحلائل الأبناء إذا ملكن، إذ لا
خلاف بين الناس أن نساء الآباء وحلائل الأبناء قد يملكن
بعد وقوع هذا الاسم عليهن ونحن وكثير من العلماء نجيز ملك
(1/249)
الأخت - من نسب ورضاع - والعمة والخالة،
وقد شملتهن الآية بالتحريم، فما بال الالتباس يقع في الأختين
المملوكتين من بينهن، والآية المحرمة للجمع بينهن، والمحرمة من
ذكر معهما واحدة، وهل قوله: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)
في أول سورة النساء إلا مبيحة لجمع أكثر من أربع إماء للوطء،
وفي سورة "سأل سائل " إلا مبينة وجه الوطء المحلل الذي لا يخرج
من حفظ الفروج، وليس في هذا من الإشكال ما يحتاج إلى هذا الشرح
كله، ولا أحسب الرواية عمن قال: " أحلتهما آية، وحرمتهما آية "
إلا وهما من الراوي، إذ المحكي عنه هذا أجل من أن يشتبه عليه
ما ليس بمشتبه.
(1/250)
وقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ
إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)
واقع - والله أعلم - على المحصنات بالأزواج خصوصا دون المحصنات
بالإسلام عموما، إذ لو كان واقعا على المسلمات عموما ذوات
الأزواج، وغير ذواتهم ما حلت امرأة أبدا باسم التزويج، ولكان
التحليل في الوطء بملك اليمين دون غيره، ولكان قوله جل جلاله:
(وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) فارغا من الفائدة أو
ناسخا لقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)
في أشباه له، لأنهن كن يحرمن باسم الإحصان الشامل للإسلام
والتزويج.
والمسميات قبلهن من الأمهات ومن معهن بالتسمية فكان يكون
(1/251)
عاما، وفي ذلك هدم الإسلام ومنع أهله من
التزويج.
* * *
وقوله تعالى: (إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)
مقصود به السبيات من المشركات اللواتي يسترققن بالاستيلاء دون
الإماء ذوات الأزواج من المؤمنات.
وذلك لأن سبيهن يفرق بينهن وبين أزواجهن بلا إحداث طلاق منهم،
ويحلهن لمن صرن له إماء بعد حيض الحائل ووضع الحامل.
ولا أحسب الرواية عن ابن مسعود - رضي الله عنه - في نزول الآية
في المسلمين والمشركين تصح
(1/252)
إذ حكم الإسلام، وإجماع أهل الملة كافة على
أن لا يحل فرج واحد لرجلين في حال، فإن كانت الآية نازلة في
المسلمة أيضا فهي إذا تبيح للمالك الأول وطي أمة شغلها بزوج
قبل أن يكون بيعها طلاقها للمالك الثاني - إذ كلاهما مالك رق،
والمرقوق ملك يمينه - فالاقتصار بتحليل الوطء على أحدهما: تحكم
في معنى الآية إن كانت نازلة فيه.
ولئن كان بيع الأمة طلاقها من أجل أنها محصنة مستثناة بالملك
في تحليل الوطء لتزويج سيدها إياها من غيره ما دام ملكه عليها
قائما خطأ، لأن الملك الحادث عليها بالبيع إن كان يحرمها على
الزوج لفضل قوته على عقدة النكاح - فالملك الأصلي أحرى أن يمنع
من ثبوت عقد النكاح أو يبيح وطئها بعد النكاح.
(1/253)
وقد روي عن ابن عباس أيضا أنه جعل بيعها
طلاقها، وما أحسبه ثابتا عنه، إذ هو وابن مسعود - رضي الله
عنهما - أعظم قدرا، وأفقه نفرا من أن يذهب عليهما هذا مع وضوحه
وقلة تشابهه.
فأما احتجاج من احتج لإبطال طلاق الأمة إذا بيعت بتخيير النبي،
صلى الله عليه وسلم، بريرة بعد ما اشترتها عائشة وأعتقها، فهو
عندي بعيد منه، لأن عائشة - رضى الله عنها - امرأة لا يحل لها
ملكها الإماء وطيا، كما يحل للرجال، حتى يلحقها حظ من استثناء
قوله: (إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) .
فليس لاعتباره بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان رأى
بيعها طلاقا لم يخيرها، وقد أبانها الطلاق الحادث عليها بالشرى
- وجه، بل هو وهم منه أغفل فيه مقصده، والله يغفر لنا وله.
(1/254)
فالتحريم في الآية واقع على المحصنات ذوات
الأزواج من المسلمين والمشركين، وإباحة ما وراءهن على سائر
النساء، إلا تزويج المرأة على عمتها، أو خالتها بسنة رسوله
الله - صلى الله عليه وسلم - والاستثناء على السبايا دون
سائرهن والمسميات من الأمهات وغيرهن مستغنيات بالتسمية.
الشريعة:
* * *
قوله: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ
سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)
(1/255)
دليل على أن لنا أسوة بمن مضى في جميع
الشرائع والأحكام، إلا ما دلنا عليه كتاب، أو سنة، أو إجماع من
نسخه عنا وتبديله بغيره لنا.
في تفسير حلائل أبنائكم:
* * *
قوله: (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ
أَصْلَابِكُمْ)
يحتج قوم من أهل الكلام به، فيزعمون أن حليلة السبط حلال للجد،
لاشتراط الله - جل وتعالى - ولد الصلب، وذلك غلط، إنما نزلت
هذه الآية - فيما بلغنا - حيث أنكر المشركون تزويج رسول الله،
صلى الله عليه وسلم، امرأة زيد بن حارثة، وكان قد تبناه، فكان
يدعى زيد بن محمد،
(1/256)
فقالوا: كيف يتزوج بحليلة ابنه، ويزعم أن
الله حرم على المسلمين حلائل الأبناء، فنزلت الآية:
(وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ) .
ونزلت: (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ)
ونزلت: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ
وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)
فإن قيل: فكيف يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى
عن حلائل الأبناء قبل أن ينزل الله هذه الآية في تحريمهن مع من
حرم معهن، قيل: قد يجوز أن تكون نزلت: ((وَحَلَائِلُ
أَبْنَائِكُمُ) ، (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ)
فلما قال مشركو مكة ما قالوا في تزويجه امرأة زيد، نزل هذا
الحرف، فضم إليه
(1/257)
كما كان نزل: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ
وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فلما جاء ابن أم مكتوم
وشكي عجزه عن الجهاد نزل: (غَيْرُ أُولِي) فألحق به، والله "
أعلم.
وقد دللنا على أن اسم الولد لا يسقط عن الأسباط وإن سفلوا
في سورة البقرة واحتججنا فيه بقوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
اذْكُرُوا) ، وقوله في غيرها: ((يَا بَنِي آدَمَ) فإذا كان
الابن مولودا فأسباطه أبناء الجد لا شك فيه.
(1/258)
رد على القدرية:
* * *
وقوله تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا
هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ
هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ
مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)
حجة على القدرية واضحة لو أنصفوا ولم يكابروا لحجتين:
إحداهما، قوله: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ) ، (وَإِنْ
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) وعوده له بعد بدء ما أصابك من حسنة، وما
أصابك من سيئة " فكيف يقدر المرء أن يحترز مما يصيبه، وقد كرره
جل وتعالى مرة بعد أخرى، ولم يقل: ما أصبت، فهذه إحدى الحجتين.
والأخرى: أنه قد قال جل وعز: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)
تكذيبا لقولهم فيما فرقوا بين الإصابتين، فمحال أن ينقضه على
إثر النكير والتكذيب، فيقول: الحسنة من عندي، والسيئة من نفسك.
هذا ما لا يذهب على ذي حجي إذا تدبره، وكثير من أهل نحلتنا
يزعمون: أن في قوله: (مَا أَصَابَكَ) ضمير " يقولون " وهو كما
قالوا، إن شاء الله، كأنه قال: (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ
لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ)
(1/259)
، كما قال عز وجل: (وَلَوْ تَرَى إِذِ
الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ
رَبَّنَا أَبْصَرْنَا)
فيه: والله أعلم ضمير يقولون.
وهذا وإن كان كذلك، فالاحتجاج به عليهم لا وجه له، لإنكارهم
واعتلالهم بأنه ليس بمسطور، وما احتججنا به غير مستطيعين رده.
* * *
قوله: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ
أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ
أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ
سَبِيلًا (88)
حجة عليهم: لإخباره في ابتداء الآية عنهم بالكسب، وفي سياقها
عن نفسه بالإضلال لهم، وتوكيده ذلك بقوله: (أَتُرِيدُونَ أَنْ
تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ
تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) .
وهذا أيضا من المواضع التي يحسن فيها حذف هاء المفعول ألا تراه
يقول في موضع آخر: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ
هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) ،
فأثبت الهاء لجواز الحذف والإثبات. ثم قال: (وَمَنْ يُضْلِلِ
اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
(1/260)
ولقد بلغني عن بعضهم أنه قال في هذا وفي
قوله: (يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ) وأشباهه في القرآن إنه ينسبهم
إلى الضلال كأنه يومي إلى أنه يضلل من يشاء بالتثقيل بمعنى
أنهم ضلال.
وهذا قول يستغني سامعه بقبحه عن إيراد الحجة في نقضه، ومن كان
هذا مبلغ علمه باللغة لم يحسن به التروس بالبدعة.
شأن الصلاة:
* * *
قوله تعالى (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ
خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)
حجة لمن يقول: إن المسافر بالخيار في إتمام الصلاة وقصرها،
(1/261)
ورد على من يقول: فرضه ركعتان. إذ لو كان
كذلك
ما رد الأمر إليهم وأزال عنهم الجناح في القصر، ولكان فاقصروا
على لفظ الأمر، والله أعلم.
* * *
وقوله: (إِنْ خِفْتُمْ) - شرطه، فثبتت رخصة القصر في الخوف
بالقرآن وفي الأمن بالسنة.
وعلى جوازه دهماء الأمة، واختلافهم في أنواع الأسفار لا في
الأمن.
(1/262)
صلاة الجماعة:
* * *
وقوله: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ
فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ
وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا
فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ)
حجة لمن يزعم أن صلاة الجماعة فرض، إذ لا تجوز أفعال الضرورة -
من التقدم والتأخر والانتظار - في صلاة يستطيع المنفرد أن لا
يفعلها ولو فعلها فسدت عليه، إلا وإقامتها في الجماعة فرض،
ويؤيد هذا من قوله: " تواعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
بإحراق بيوت من تخلف عنها".
(1/263)
وهذه النكتة من الكتاب والسنة، وإن كان
فيها متعلق، فليس الأمر عندي كذلك، إذ ابتداء الآية ليس فيه
أمر بإقامتها كذلك. إنما هو تعليم له، صلى الله عليه وسلم، كيف
يصليها بأصحابه، واستدلاله بأفعال الضرورة فيها على إيجابها
ليس كذلك، إذ العمل على الجملة في الصلاة مفسد لها، وقد عمل
النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة أعمالا وأمر بأخرى
منها: حمله أسامة، وفتحه الباب،
(1/264)
وأمره بقتل الحية، والعقرب. فلم يجز أن
يباح سائر الأعمال فيها اعتبارا بأن النبي - صلى الله عليه
وسلم - عمل بعضها والموجب بصلاة الجماعة المعتبر بصلاة الخوف
وما ذكرنا من السنة لا يقول بالقياس. فكيف يجوز له الاعتبار
بأعمال الضرورة فيها على إيجابها، بل يلزمه أن يسلم لكل هذه
الأشياء في مواضعها ولا يحمل غيرها عليها. والذي يسلط عليه
النظر - والله أعلم - أن صلاة الخوف صليت في جماعة ليبادر
بالفراغ منها خروج الوقت إذ لا يمكن لجيش أن يصلي واحد بعد آخر
قبل ذهاب الوقت، ولعلها صليت مع ذلك في آخر الوقت فكان أضيق
عليهم. وما احتج به من وعيد النبي، صلى الله عليه وسلم، بتحريق
البيوت، فهو - والله أعلم - للمنافقين لا للمسلمين، ألا تراه،
صلى الله عليه وسلم، يقوله في الحديث: "
(1/265)
لقد هممت أن يحطب حطب ويؤمر بالصلاة فينادى
بها ثم آمر، رجلا يؤم الناس ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عن
الصلاة فأحرق عليهم ".
وقال في آخر الحديث: " والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد
عرقا من شاة سمينة أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء.
فكيف يدع صلى الله عليه وسلم فرضا يتواعد غيره على تركه بحرق
البيوت ويشتغل بحرقها، هلا كان يحرقها بعد الفراغ من فرض
الجماعة لو أعدها فرضا،!
وقوله صلى الله عليه وسلم: " لشهد العشاء " محقق أنه للمنافقين
لأنه قد قال: في غير هذا الحديث أثقل الصلاة على المنافقين
صلاة العشاء والصبح، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا.
(1/266)
وأما احتجاجه بحديث ابن أم مكتوم فإن عاصما
رواه عن أبي رزين عن ابن أم مكتوم وفيهم من يرسله، فيقول: إن
ابن أم مكتوم سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك
فقد
(1/267)
عارضه حديث عتبان بن مالك وهو أصبح إسناداً
منه لا محالة،
(1/268)
والذي يزيل الريب كله حديث مالك عن نافع عن
ابن عمر أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: " صلاة
الجماعة تزيد على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة ".
وكل حديث روي في ذلك لا يكافي حديث مالك. هذا، ونحن نؤكد صلاة
الجماعة ولا نبيح تركها لمن قدر عليها بأي وجه كان، ولا نرخص
في تركها إلا من عذر بين من غير أن نعدها فرضا، فمن رأى
إتيانها من وكيد السنة ولم ير في تركها رأي الرافضة ثم تخلف
عنها من غير عذر وصلى في منزله ضيع حظ نفسه وأجزأته صلاته في
(1/269)
بيته، وفاتته درجات الحاضرين من غير أن
يكون لفرضه من التاركين وقد رأى النبي، صلى الله عليه وسلم،
الرجل الذي أمره بإعادة الصلاة ثلاث مرات وحده وما يحسنها "
فلم يعب عليه انفراده، إنما عاب عليه ما عمله، ولم يقل: لا
تصلها إلا في جماعة، فإنها لا تجزيك إلا فيها، وقال لمن صلى في
رحله: " إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الصلاة مع الإمام
فليصلها معه فإنها له نافلة".
فجعل فرضها للأولى التي انفرد بها ولم يجعلها التي صلاها في
(1/270)
جماعة، وقوله: (إِنَّ الْكَافِرِينَ
كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
دليل على أن الجماعة قد يجوز أن يخبر عنهم بلفظ الواحد، لأنه -
جل وتعالى - لم يقل: أعداء مبينين، ومثله في القرآن كثير.
رد على الشبراة:
* * *
قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) .
رد على المعتزلة في باب الوعيد وعلى الشركة في باب الذنوب:
فأما الرد على المعتزلة: فإنهم يزعمون أن من مات على ذنوبه غير
تائب
(1/271)
منها فهو مخلد في النار، وقد أخبر الله في
هذه الآية: أن في المحتقبين ذنوبا ماتوا عليها من غير توبة -
من يغفر له، ولم يوئيس من الغفران إلا الكفار الذين يموتون
بكفرهم فأما من تاب من الكفر واستغفر من الذنوب من الموحدين
فليس بداخل في هذه الآية، إذ يقول تبارك وتعالى في الكفار:
(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ
مَا قَدْ سَلَفَ)
وقال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ
ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ
لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ
إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(74)
فعلمنا أن قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ) واقع على من مات كافرا.
وقال في المؤمنين المذنبين: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ
يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ
غَفُورًا رَحِيمًا (110)
وقال: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ
وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا
عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ
جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ
أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
(1/272)
وقال: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ
اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ
الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا
(69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا
فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
فعلمنا أن قوله: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)
لمن مات على غير توبة، إذ التائب من الكفر والذنب قد محصت
التوبة عنهما ما احتقباه فحصلت الآية لغيرهما.
وأما الرد على الشراة في باب الذنوب، فإنهم يعدون صغيرها
وكبيرها كفرا فإذا كان الكفر كفرا والذنب كفرا، فما الشيء الذي
يغفره الله بعد الشرك لمن يشاء،
هذا ما لا يذهب على المميزين إذا أبصروه وأعملوا الفكر فيه مع
أنه بحمد الله جلي واضح،
(1/273)
رد على من يقول بخلق القرآن:
* * *
قوله: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
حجة على من يقول بخلق القرآن، إذ لو كان القيل على المجاز ما
كان يقال فيه هذا، وكيف يجوز أن يقال: من أصدق قيلا من حائط
فلان إذا مال، فسقط، هذا يستحيل في اللغة والعقول لو تدبروه.
رد على الجهمية:
* * *
قوله: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
حجة على الجهمية
وبلغني أنهم يجعلون الخليل في هذا الموضع: الفقير، كأنه: اتخذه
فقيرا إليه، يذهبون به إلى الخلة بفتح الخاء فرارا مما يلزمهم
في الخلة بضمها، ويحتجون ببيت لزهير بن أبي سلمى:
(1/274)
وإن أتاه خليل يوم مسألة
يقول لا غائب مالي ولا حرم
والخليل وإن كانت العرب تسمي به الفقير فهي لا تأبى من تسمية
الصديق به بل تسميتها الصديق به أكثر، وعلى ألسنتها أسير، ولو
كان تسمية الفقير به أشهر عندها من تسمية الصديق به، لكان
إعدادهم إياه هاهنا فقيرا من الإفراط في الجهل، والنقيصة في
العقل، إذ هو موضوع موضع الفضيلة لإبراهيم، صلى الله عليه
وسلم، فكيف يمدح إبراهيم بشيء يشاركه فيه جميع الناس قبله
وبعده، كافرهم ومسلمهم، بل يشاركه فيه جميع الروحانيين من
البهائم والحشرات وسائر الخلق من الجن والشياطن، إذ لا نعلم
أحدا من هؤلاء إلي فقيرا إلى الله، وهل أتى على إبراهيم وقت لم
يكن فيه فقيرا إلى الله قبل النبوة وبعدها،! ثم اتخذه فقيرا
إليه، وهل خص الله إبراهيم، وحده
(1/275)
بالفقر إليه من بين سائر العالم، حتى يذهب
بتأويل الخليل إليه وهل كان قبل اتخاذه إياه - فقيرا إليه -
غنيا عنه، أو يجوز أن يكون أحد من الملائكة وحملة العرش
والأنبياء والمرسلين غنيا عن الله في شيء من الأحوال، ولا أعلم
المساكين يفزعون إلى اللغة في وقت، إلا غلطوا طريقها، وجاءوا
بأفظع مما يفرون منه. وبيت زهير يمدح به هرم بن سنان.
قد يجوز أن يكون لهرم خليل يحبه فيسأله في حمالات وديات ولوائح
يتوسلون به إلى هرم - فلا يرده عنها فيكون الخليل في بيت زهير
أيضا صديقا، وإن كان غير ضار كينونته فقيرا.
حجة على مثبتي الاستطاعة.
* * *
وقوله: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ
النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ)
حجة على مثبتي الاستطاعة بكل حال، وقد أخبر الله نصا عن
المأمورين
(1/276)
بالعدل بين النساء أنهم لا يستطيعونه ولو
حرصوا.
وهذه آية يحتج بها في باب الفقه، ولكن هذه النكتة فيها حجة
عليهم بينة مع أن نفي هذه الاستطاعة أبين في العيان والتجارب
من أن يضطر فيها إلى الخبر، إذ كل امريء عارف من نفسه بأنه غير
مالك لقلبه، والاستطاعة - لا محالة - سلطان مفرق على الجوارح،
والقلب ملكها، فسلطانه الإضمار والنبوّ، كما أن سلطان اليد
البسط والقبض، وسلطان العين النظر والغض، فإذا رأينا بعض أجزاء
الاستطاعة بالعيان غير مملوك علمنا أن وقوعه من حيث لا حيلة في
رده مخلوق، وإذا ثبتت خلق بعض شيء بعينه ثبت خلق جميعه، وإن
كان اللطيفة في إدراك علم بعضه أخفى منها، في بعض، وكيف يجوز
مكابرة العيان والمشاهدة، ونحن نرى قلبا نابئا عما يحب بقاءه،
وباقيا فيه ما يحب فناءه، ونرى أشياء يشتهيها العبد ويحرص على
فعلها،
(1/277)
وأشياء يحترز منها جهده وطاقته وهي تقع به
على كراهيته لها حتى إن الرجل ليحرص على مواقعة معصية ويعمل
فيها حيله، ويتمكن منها فيحال بينه وبينها وهو متلهف متعدد على
فواتها متحسر على بعدها منه، وآخر يحرص على عمل الطاعات استفرغ
مجهوده في الوصول إلى فعلها لا يستطيع إتمامها، فأين تثبت
الاستطاعة مع مشاهدة هذه الأشياء عيانا، فهل يمكن الوصول إلى
كلا الفعلين من الطاعات والمعاصي إلا بقضاء سابق.
رد على المرجئة:
* * *
قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ)
رد على المرجئة فيما ينكرون من زيادة الإيمان، إذ قد أمر
المؤمنين بأن يؤمنوا.
رد على الجهمية:
* * *
وقوله: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ
خَادِعُهُمْ)
(1/278)
رد على الجهمية، إذ قوله: (وَهُوَ
خَادِعُهُمْ) لا محالة رد لقولهم، وإبطال لفعلهم وتثبيت لفعله،
ولا يخلو العدل المضاف إليهم من مجاز أو حقيقة في الإخبار، فإن
كان حقيقة فجوابه أحق بالحقيقة منه، وإن كان مجازا فلا ذنب لهم
فيه، ولا يستوجبون عقوبة عليه، وهذا لا يجوز توهمه فكيف تقوله
ولا ثالث له،!
* * *
قوله: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا
إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ
سَبِيلًا (143)
حجة على القدرية والمعتزلة.
قوله (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا
يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
حجة على المعتزلة والمرجئة.
فأما على المعتزلة فقوله: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا) ولم
يقل: تطبعت وأما
على المرجئة: فذكر قلة الإيمان، وما كان له قليل كان له كثير
وصار ذا أجزاء.
حجة علما الجهمية:
* * *
وقوله: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
حجة على الجهمية وهي من
(1/279)
كبار الحجج عليهم.
ويحتجون بأن الكلام منه على المجاز، والمجاز لا يؤكد بالمصدر،
وقد أكده - جل وعلا - كما ترى، فجاء بالتكليم.
ولقد بلغني عن بعض المتحذلقين من أستاذيهم أنه لما نظر إلى ما
يلزمه
في هذه الآية من تأكيد المصدر تطرق إلى تأويل أقبح من المجاز،
فقال: معنى كلمه، أوجد كلاما سمعه، فقبحا لقوم يدعون الفلسفة
في دقيق العويص ثم ينسلخون منه انسلاخ الشعرة من العجين، أليس
من أصولهم - ويحهم - أن لا يقبلوا شيئا يدفعه العقل،
فأي عقل يقبل أن يسمي الكلام كلاما قبل أن يتكلم به، فلو أنهم
حيث خالفوا القرآن ثبتوا على المعقول، كان أقل لفضيحتهم عند
أنفسهم.
(1/280)
فكانوا يقولون: أنطق جبريل بما أراد به
مخاطبة الرسول من غير أن يتكلم تعالى الله به فكان يكون
لإيجاده ما سمعه حينئذ معنى في العقل، وإن كان أيضا خلاف الحق،
ويكون اسم الكلام لم يقع عليه قبل أن يتكلم به، فإن توهم هذا
متوهم قيل له: إنما كنا نثبت عليك نفى الخلق عن القرآن ما دمت
تؤمن به، وهو يكذبك، فإذا صرت تكفر بأصله اشتغلنا بغيرك ممن
يؤمن به.
فنحتج منه عليه، وما عسى يقولون في قوله - جل جلاله -
(فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ
فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا
مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)
أيجوز أن يكون الكلام الذي أوجده بزعمهم من غير أن يتكلم به
يقول: (إِنِّي أَنَا اللَّهُ) ، فهلا قال: - ويحهم - إنه هو
الله رب العالمين،.
وقالت - تبارك وتعالى - (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فهلا كان: أنه جاعل
في الأرض خليفة، ويكون الجواب منهم قالوا: أيجعل فيها - بالياء
- ونحن نسبح بحمده، ونقدسه - بالهاء -، ومثل هذا كثير في
القرآن، وهم مع خلافهم القرآن وخروجهم من العقول، قد غلطوا في
اللغة أفحش غلط، فيما زعموا: أن (كلم الله) أوجده خلافا خلقه
له، لا كلاما تكلم به - إذ لو كان كذلك، لكان: وأكلم الله موسى
إكلاما كما قالت: (ثم أماته فأقبره)
(1/281)
أي: جعل له قبرا، فيكون أكلمه: جعل له
كلاما، ولو لم يذهبوا بإيجاده إلى معنى المخلوق، لكانوا
مصيبين، لأنه - جل جلاله -: إذا أسمعه ما تكلم به، فقد أوجده،
ولكن لا يصير بإيجاده له مخلوقا إذا لم يكن في الأصل مخلوقا
ولقد بلغني عن بعض سفهائهم أنه ذهب بالتكليم إلى الكلم من
الجراحة، ولم يحفل بتحويل المدح ذماً حرضا على تصحيح مقالته في
نفي الكلام عن خالقه وتحقيق الجرح منه على نبيه، صلى الله عليه
وسلم.
ولولا ما أحببت من وقوف أهل السلامة من أهل نحلتنا على فضائحهم
ليتعوذوا بالله منها لصنت هذا الكتاب عن إيراد هذه الحماقات
فيه.
ميراث:
* * *
وقوله: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي
الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ
أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ
يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ)
دليل على أن الإخوة والأخوات لا يرثون مع إناث الأولاد، كما لا
يرثون
(1/282)
مع ذكورهم، لشمول اسم الولد لهن كشموله
لهم، ولا يجوز ترك نص القرآن وتوريثهم معهن بغير طائل من حجة،
ولو جاز أن يوقع اسم الولد على الذكور في هذا الموضع دون
الإناث جاز أن لا تحجب الأم عن الثلث بإناث الأولاد ولا الزوج
عن النصف والزوجة عن الربع بهن، ولا أعرف حجة في حجب هؤلاء
أكثر من أن اسم الولد لازم لهن كما يلزم الذكور، فتخصيص الذكور
به في آية الكلالة وتعميمه في آية الأبوين والزوج والزوجة - لا
أعرف وجهه وسبيل العموم أن لا يخص
(1/283)
فالاختلاف موجود في ميراث الأخوات مع
البنات فإن حصل إجماع في توريث الإخوة معهن وإلا فهم أسوة
أخواتهم في الإسقاط في حكم الآية. وليس في حديث.
(1/284)
أبي قيس عن هزيل من القوة ما يخص به عموم
الكتاب.
فمن ذهب إليه وعدل أبا قيس وكان مع الجمهور الأعظم من الفرضيين
فهو وجه.
ومن كان مع ابن عباس ومن تبعه عليه لم نعنفه كل
(1/285)
كل التعنيف. وبالله التوفيق.
(1/286)
|