النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام سورة المائدة
" أوفوا بالعقود "
قوله عز وجل (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ
فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا) .
دليل على أن من اكتسب في حجه، والتمس فضل تجارته لم يخل
بطلبته، وأن نيته في كلا القصدين موصلة إلى جميع الطلبين، وكذا
قال في سورة البقرة: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ)
والفضل - والله أعلم - في كلا الموضعين:
طلب نيل الدنيا، من التجارة والكسب. ألا تراه يقول (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا
الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ
وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ
كَثِيرًا) ،
(1/287)
فأطلق ما كان منع منه عند نداء الجمعة، وهي
التجارة، وحديث أبى أمامة التيمي في الكرى بين في الآية من
سورة البقرة، فليس لأحد من المتعمقين أن يحظر سعة رحمة الله
بالتضييق على عباده في الجمع بين طلب الآخرة والدنيا، إذ
المباح من طلبها
(1/288)
غير مؤثر في الإرادات ولا بمفسد مقاصد
الطلبات، والله - جل وعلا - عارف بضمائر قاصديه وغير مخيب آمال
مؤملينه وشاكر لكل نيته على ما أودع طويته.
فإن قيل: أوليس نهيه عن البيع عند النداء لصلاة الجمعة معارضا
للآيتين، قيل: معاذ الله أن يكون معارضا لهما، إذ الاشتغال
بالبيع مانع من حضور الجمعة وليس الاكتساب في الحج بمانع من
فعل المناسك وشهود المشاهد، مع أنه لو قدر على حضور الجمعة مع
البيع بعد النداء لها ما كان منعه من فعل بعينه يعارض فعلا
سواه، إذ المعارضة لا تكون إلا في اجتماع منع وإطلاق على فعل
واحد، فيلتمس حينئذ لهما مخرج لا على فعلين مختلفين.
نكتة شنآن قوم:
وقوله عز وجل: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ
صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) دليل على أن: العدوان
غير المقابلة، وهو ما زاد عليها ألا تراه - جل جلاله - يقول:
(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ
بِهِ) ،
وقال: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) فالمقتصر
(1/289)
على مثل ما فعل به مقابل، والزائد عليه
متعدي، ويؤيده من السنة حديثه، صلى الله عليه وسلم: " المستعان
ما قالا فعلى البادي ما لم يعتدي المظلوم " (1) .
وفيه من جهة الفقه مايؤيد قول الشافعي - رضي الله عنه - في
إباحته للمظلوم أن يأخذ من مال ظالمه مثل ظلامته علم به أم لم
يعلم، وأن ما خرجه من الحديث المروي:
" أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك " كما خرجه.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه (4/ 0 0 0 2) ح (587 2) كتاب: البر
والصلة والآداب، باب: النهي عن السباب.
ومعنى الحديث كما قال النووي في شرح صحيح مسلم (16/ 140) : ما
معناه: أن إثم السباب الواقع من اثنين مختص بالبادي منهما كله
إلا أن يتجاوز الثاني قدر الانتصار فيقول للبادي أكثر مما قال
له ... ".
(1/290)
لا يكون خاطئا ما دام يأخذ حقه فإذا
استوفاه، وأراد شيئا سواه استوجب كما كان ظالمه بأول درهم أخذه
خائنا.
قال محمد بن علي: وأرى جماعة يحملهم شنئان داود الأصفهاني على
العدوان عليه بإلزامه ما لم يلزمه والتقول عليه ما لم يقله،
وداود وإن كان عندنا غير مرضي لتخاليط بلغتنا عنه، وصحت برواية
الثقات عليه فليس بأعظم جرما ممن صد عن المسجد الحرام رسول
الله، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه - رضي الله عنهم - من كفار
قريش، وله بهم أسوة في ترك العدوان عليه، فمما يلزمونه ظلما
ولا يلزمه: تحليل شحم الخنزير لتسمية اللحم بالتحريم في قوله:
(1/291)
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ)
وهذا هو التعدي بعينه، وإضاعة المراقبة من ملزمه إن كان عالما،
وإغفال متفاوت منه إن كان مجتهدا لإعواز الوصول إلى زكاة
الخنزير بوجه من الوجوه الذي يصير به الحيوان ذكيا، فلما كان
إفاتة روح الخنزير بوقذه وفري أوداجه وقطع حلقومه ومريه سيان
كان شحمه إن لم يحرم باسمه حرم بأنه جزء من أجزاء الميتة
المحرمة بنص القرآن، إذ اسم الميتة غير
(1/292)
مزائل خنزيرا فارقته الحياة، فصار لحمه
وشحمه وعروقه وعصبه وكل ما فارقته الروح من بدنه ميتاً كله.
فكيف يلزم المسكين إباحة الميتة وهو من أشد الناس لزوما للنص،
وهل يصل إلى شحم الخنزير معرى من شمول اسم الميتة له، حتى
يلزمه إباحته، وإنما أفرد الله تحريم لحمه بالذكر، وهو أعلم
واسم الميتة شاملة تأكيدا على ما كان آكلوه يفردونه ويفردون
المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، واسم الميتة - لا
محالة - شامل لجميع هذه الأشياء، فحرمها - جل وتعالى - عليهم
مذكورة بأساميها المعروفة عندهم فيها، فلا وصول إلى لحم
الخنزير ولا شحمه إلا بشمول اسم الميتة لهما.
(1/293)
ومن جليل الفائدة في قوله: (حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ
وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا
أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى
النُّصُبِ)
بعد معرفة تحريمها - تعليمه إيانا أن ما حرم أكله علينا لم
تحلله الشفرة لنا وأن ذبحه بمنزلة عقره، والعقير لا يكون ذكيا
بل يكون ميتة، فالخنزير - كيف قتل - عقير لا ذكي، وشحمه ميتة.
ويلزمونه أيضا: إباحة أكل الغائط، وشرب البول والقيح.
وكيف يلزمه وقد قال الله - تبارك وتعالى - في هذه السورة:
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّبَاتُ)
أفيرتاب بشر بأنها ليست من الطيبات وهي معدودة في أعداد
النجاسات والمرفوضات، والنفوس بأسرها نابية عنها وغير طيبة
بأكلها، حتى المجوس تأكل الميتة وتأباها وتجذرها، فهل يقع اسم
الطيبات على ما هذه حاله عند جميع
(1/294)
العالم مسلمهم وكافرهم ومنتظفهم وأوساخهم،.
وهل هي إلا لاحقة بالخبائث التي قال الله - تبارك وتعالي - في
سورة الأعراف في رسوله صلى الله عليه وسلم: (وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) .
فهذه الأشياء وما يضاهيها من الإلزامات لا تليق بأهل العلم ومن
أنه مسئول محاسب، وأخاف أن يكون تفكها بالسخافة وتنادوا
بالبطالة، ولو جعلوا بعض هذا التشنيع عليه في شيء بلغني عنه -
إن كان قاله فإني لا أيقنه ولا نظرت في كتبه - كان أشبه.
بلغني أنه قاله: لا يجوز الصيد بشيء من الجوارح إلا الكلاب
وحدها، لأن الله - تبارك وتعالى - قال: (وَمَا عَلَّمْتُمْ
مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ) ، فدلت على أنه قصد بها
الكلاب دون سائرها. وهذا قوله يستغني سامعه بقبحه عن استماع
نقضه، ودال علي تزييف قوله
(1/295)
هذا الرجل دون سائر ما حكي عنه، فإن من خفي
عليه أن قوله: (مكلبين) هو من نعت المعلمين لا من نعت الجوارح
جدير أن لا يعد في عدد العلماء والمميزين من الفهماء.
والقرآن فيه اختصار شديد فكأنه - والله أعلم -: وما علمتم من
الجوارح مكلبين لها، ولو لم يدل عليه إلي كسر اللام، لوجب أن
يعلم أنهم متخذوها ضارية بالتعليم لها لتكلب على الصيد لا أنهم
جاعلوها كلابا، وقد خلقها الله كذلك، وسميت كلابا قبل تعليمهم
مع أن مكلبين لو كانت مفتوحة اللام أيهما ما جاز أن نخص بها
الكلاب دون سائر الجوارح، إذ جميعها يستجلب على الصيد استكلابا
واحدا، وإن كان بعضها أقوى عليه من بعض.
والاستكلاب في لغة العرب: التوثب على الشيء والتسرع إليه، فهو
واقع على كل من كان هذا منه.
(1/296)
ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- أباح للمحرم قتل الكلب العقور، فهل يجوز لأحد أن يقول: إن
المحرم محظور عليه قتل الأسد، والدب، والذئب، والنمر وأشباه
ذلك؛ لأن قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يقع إلا على
الكلاب المنفردة بهذا الاسم دون من يستحقه من السباع بما فيه
من معنى الاستكلاب، ويقولون: استجلب فلان على كذا إذا أكثر
فعله ولم ينكر عليه ولم يزل الناس من لدن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - إلى اليوم في الشرق والغرب يعلمون الفهودة،
والصبورة
(1/297)
والبزاة والعقبان والشواهين والبواشق،
وغيرها ويصيدون بها، علما منهم بأنها مستكلبة على ما ترسل عليه
من أنواع الصيد لا ينكره منكر ولا يعيبه عالمهما ولا ينهى عنه
عالم إلا شيء ذكر عن طاووس، ما أحسبه ثبت عنه، والإجماع عند
هذا الرجل من أكبر الحجج.
(1/298)
وذكر غير واحد في حديث عدي بن حاتم أنه
قال: قلت: يا رسول الله: إنا نصيد بهذه الكلاب والطير،.
وسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن قتل البازي فقال: "كل
" وفي حديث أبي رافع سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -
(1/299)
عن الصايد جملة من غير تفسير. فمثل هذا إذا
خالفه مخالف يجوز أن يستعظم، فأما إذا ألزم مالا يلزمه لم
يلحقه عاره وحسن إنكاره.
طهارة:
* * *
وقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ
جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ
النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا
طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) ،
دليل على غير شيء: فأولها: أن المريض مخصوص بإباحة التيمم له،
وجد الماء أو لم يجده.
إذ محال أن يبيح للصحيح التيمم بعد عدم الماء، والمريض في مثل
حالة عدمه، إلا وفيه معنى يكون به مخصوصا دون الصحيح لئلا يكون
ذكره فارغا بلا فائدة.
(1/300)
والفائدة فيه ما قلنا من إباحة التيمم له
واجدا للماء أو عادما له.
والثاني: أن في ذكر المرض خصوص - والله أعلم - هو
أنه المرض، الذي لا يصدر معه على إمساس الماء جوارحه، مثل
الجرح المخوف من الجدري والحصبة إذا غطيا بدنه وفتحاه، وأشباه
ذلك دون الحمى وأوجاع الجسد التي لا تكلم.
والثالث: اختصار في قوله: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الْغَائِطِ) وكناية
عن الأحداث، إذ هو - لا محالة - أو جاء أحد منكم من الغائط وقد
كان منه حدث من بول أو غيره.
والرابع: أن في قوله: (منه) دليل على أن التيمم ضربتان، إذ
المقتصر على ضربة مفرغ ما عبق
(1/301)
من الصعيد وغباره في الوجه، فيكون ماسحا
يديه بغير شىء منه.
حجة على المعتزلة والقدرية:
* * *
قوله: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
حجة على القدرية والمعتزلة.
حجة على المرجئة:
* * *
قوله: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ
يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا
بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ)
حجة على المرجئة، إذ ليس يخلو قولهم في تجريد الإيمان بالقول
من أن يكون محسوبا لهم بلا مشاركة القلوب له، أولا يسمى القول
بالشهادة إيمانا حتى يشاركه الضمير وتصدقه القلوب، فإن كان
القول خاليا من الضمير هو: الإيمان عندهم فقد كذبكم الله - جل
وتعالى - نصا بقوله: (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ)
(1/302)
وسماهم مسارعين في الكفر إذا اقتصروا على
القول دون القلوب.
وإن كان لا يكون الإيمان بالإقرار وحده حتى تساعده القلوب، فقد
أقروا بأن العمل من الإيمان، إذ تصديق الضمير فعل من القلب
بإجماع الأمة لا ينكره منكر، والقلب أحد أركان الجسد، بل ملكها
ورئيسها، والقول شيء، لا يضاف في الجسد إلا إلى اللسان وحده،
إذ لا سبيل إلى الإيجاد إلا به، فما بالهم ينكرون تسمية العمل
إيمانا، وقد سموه هذه التسمية التي لا تشكل على أحد ينظر فيها،
وما بال عمل بعض الجسد يستحق اسم الإيمان ولا يستحقه سائرها من
سائره، وهل إطلاق القول في الشهادة وضمير القلب على صدقه إلا
من المفترض الذي أمر الله عباده بالخروج إليه منه، فإذا
ائتمروا له سمي ذلك الائتمار منهم إيمانا، وتكون الصلاة
والزكاة أمرا مثلهما.
فإذا ائتمر مؤتمر بأدائهما لم يسم ايتماره إيمانا، هل هذا
الأمر إلا من التحكم الصراح الذي لا التباس فيه،.
فإن استحسن مستحسن منهم أن يكابر عقله، ويجحد خصمه ما يشهد
العيان له بصحته، ويتصور بصورة المجانين عند جميع العالم،
فيزعم أن ضمير القلب على الشيء وقوله له ليس بعمل يضاف إليه،
ويضاف بطش اليد إليها، ويكون من عملها، أو يزعم أن ضمير القلب
جزء من أجزاء القول الذي لا سلطان لغير اللسان
(1/303)
عليه، حرم كلامه وانقطع نظامه وإلا فليوقن
بأن ما جحده في التفصيل قد أثبته في الجملة، وأن العمل إذا سمي
إيمانا كان نسبته إلى اختلاف أسماء الجوارح وحركاتها لا يغير
حكمه أقر به الجاهل، أم جحده.
حجة على المعتزلة:
* * *
وقوله: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ
لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)
حجة على المعتزلة والقدرية لذكر الفتنة بلفظها ونفي النفع
والضر عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - في دفعها.
فإن قيل: الفتنة هاهنا الاختبار. قيل: لو كان كذلك كان - والله
أعلم - ومن يرد الله فتواه لا فتنته، كما قال لموسى - صلى الله
عليه وسلم -: (وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا) .
وكيف يريد اختبار قوم لم يرد تطهير قلوبهم، وهو لو كان كذلك
لكان أبلغ في الحجة عليهم حيث يزعمون بألسنتهم أنه جل وتعالى
يختبر من لا يطهر قلبه من دنس الكفر، ولا يخلو بالإيمان أبدا،
وكيف يطهر وقد منعه التطهير بارتفاع إرادته عنه،.
(1/304)
وهل هذا إلا الذي أنكروه ولم يجيزوا عليه
أن يدعو إلى الهداية من قد أضله، ويعذب على فعل هو قضاؤه، فأرى
تأويلهم في الفتنة قد أوقعهم فيما هو أشد عليهم مما فروا منه.
وهذا وإن كان من أكبر الحجة عليهم، فليست الفتنة هاهنا بمعنى
الاختبار، إذ الاختبار عام على جميع الناس، قال الله تبارك
وتعالى. (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ
يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ
فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)
وقال: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ
وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ)
وقال: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ
مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)
والفتنة هم المرادون بها خاصة لقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ
لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ) .
في شأن اليهود الذين تحاكموا إلى النبي، صلى الله عليه وسلم:
* * *
قوله: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
نازل من الله في اليهود الذين تحاكموا إلى النبي - صلى الله
عليه وسلم - في حد الزانية، إذ القصة مبتدئة بذكرهم ومختومة
بهم فابتداؤها:
(1/305)
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ
الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ)
وفي سياقها ما يحققه وهو: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ)
.
(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ) أي: في حد الزانيين
(وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ) أي: حكمه
في رجمهما.
وكان تغييرهم حكم الرجم - إلى تحميم الوجوه، والضرب والطواف
وادعاؤهم على الله - كفرا، إذ ألغوا له حكما لم ينسخه، وادعوا
عليه تبديل مالم ينزله، ثم ساق جل جلاله تمام القصة وقال:
(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ
بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ
فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (45)
فباء بالكافرين والظالمين والفاسقين أهل التوراة من اليهود،
والإنجيل من النصارى، وأهل الفرقان من ثلاثتها بنعمة الله
سالمون. د محمد
(1/306)
ابن الحسين بن محمد الهمداني، د. بكر بن
سهل بن إسماعيل الدمياطي، د. عبد الله بن يوسف التنيسي د.
أبومعاوية محمد بن خازم د. الأعمش، عن عبد الله بن مرة عن
البراء بن
(1/307)
عازب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في
قوله تعالي:وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) ،
(ووَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْظالمونَ (45) ،
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ (47)
قال: " هي في الكفار وحدها.
فيقال لمن يحتج بها من الشراة وغيرهم في تكفير أهل القبلة
بالذنوب: ما حجتكم في التسوية بين الجميع، وأهل الفرقان عالمون
بأن أحكام الله المنزلة في كتابه حق والحكم بها عليهم فرض،
وأنهم
(1/308)
بتركها عاصون، وعلى إضاعتها معاقبون، وهم
مع ذلك مسلمون، ومن أنزلت فيهم الآيات يهود ونصارى لا يرتاب
بكفرهم جميع أهل النحل. أيجوز لمتوهم يتوهم أنهم قبل أن يحكموا
رسوله الله - صلى الله عليه وسلم -،ويدعوا حكم التوراة يكونوا
كافرين، ولا ضرهم رد نبوته وجحود رسالته، فاستوجبوا الكفر بترك
حكم التوراة في الزمنين، كما تزعمون أن الموحد من المسلمين
يكفر بترك حكم الله إلى ضده.
فإن قالوا: إن هذا يجوز توهمه وتحققه بان كفرهم وكفيت مؤنتهم.
فإن قالوا: بل كانوا قبل الحكم برد النبوة كفارا فصار تغييرهم
الحكم زيادة في كفرهم، قيل لهم: فما وجه تكفيركم من قبل نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - وصار بها مسلما - بتركه استعمال
حكم الله. أيكون زيادة في كفر ليس فيه، أم يكون مضموما إلى
إسلام ليس من جنسه، أم يحبط إحسان عمر طويل بإساءة لحظة، ويهدم
به ما أصلتموه في باب العدل. أم تكون نفس واحدة كافرة بإساءتها
مؤمنة بإحسانها، تستوجب بنصيب إيمانها الخلود في الجنة، وبنصيب
كفرها الخلود في النار، هذا - والله - أفحش مقال وأقبح انتحال.
فإن قال الشراة: ليس من النصفة أن تحتج علينا بأن الآية نزلت
في الرجم الذي أدته إليك الأخبار، ونحن لا نؤمن بها.
(1/309)
قيل لهم: اجعلوه في أي حكم شئتم، أليس يكون
منزلا في غير
أهل الفرقان، فإن قالوا: أفلا يجوز أن يكون نزوله فيهم، فيدخل
من عمل بعملهم معهم،.
قيل: بلى إذا ساووهم في الكمال كانوا مثلهم في الأفعال، وسموا
به كفارا وإن عملوا ببعض أفعالهم، ولم يساووهم في جميع صفاتهم
كانوا عصاة بذلك الفعل.
فنقول من حكم بضد حكم الله مدعيا به على الله أو جاحدا بما
أنزله
من أحكامه فهو كافر، لأن من جحد القرآن، وقد شهد الله بإنزاله،
أو نسب إليه ما لم ينزله، فقد كذب عليه، ومن كذب عليه لم يرتب
بكفره، لقوله تبارك وتعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ
عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ
فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)
فسماهم كفارا، فمن كان تاركا لما أنزل الله في أحكامه على هذه
الصفة، فقد ساوى من أنزلت فيهم الآيات من اليهود والنصارى
واستحق اسم الكفر والظلم والفسق.
ومن حمله حرص الدرهم والدينار، أو بلوغ ثأر، أو شهوة نفس على
(1/310)
ترك حكم الله، وهو عالم بعدوانه عارف
بإساءته، حذرٌ من سوء صنيعه، مصدق لربه فيما أنزل من الأحكام،
شاهد عليها بالحق المفترض عليه العمل به، ولم يساوهم فيها، وهو
باق على إسلامه عاص لربه، فأفعاله تستوجب عقوبته إن لم يجد
بالصفح عنه.
فإن تاب لحق بالتائبين، ومن يستوجب المغفرة من المذنبين، ومن
لحقه الموت قبل التوبة كان له طريقان:
أحدهما: الرجحان في الوزن قال تبارك وتعالي: (وَالْوَزْنُ
يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ
فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا
بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
وقال: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ
الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ
مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى
بِنَا حَاسِبِينَ (47) .
أفيأتي بالخردلة من الشر ولا يأتي بها من الخير، وهو عدل لا
يجور
ولا يظلم أو يلحق إساءة يوم بالكفر فيثقل به كفة السيئات لترجح
على اكتساب طول عمره جبال الحسنات. إن هذا إلى الافتراء عليه
جل جلاله وتكذيبه سبحانه أقرب منه، إلى تعظيمه، وتكفير من خالف
أمره، بل هو الكفر بعينه، وسنلخصه بشرح حججه في كتابنا "
المجرد " في الرد على المخالفة إن شاء الله.
(1/311)
والآخر: التفضل بالعفو وترك الماقشة في
الوزن، قال الله تبارك وتعالى: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ
الْعِقَابِ) .
وقالت: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا
مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ
اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ
عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا)
فهذا لا محالة في المسلمين كله في الظالم والقاصد والسابق،
لقوله تبارك وتعالى بعد انقطاع سياق الكلام: (جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ
وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ
رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ
الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ
وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا
لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا
وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي
كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا
أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ
وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
نَصِيرٍ (37)
(1/312)
فسماهم في آية واحدة كفارا وظالمين، كما
سمى اليهود والنصارى في تلك الآيات، وسمى بالظلم والاقتصاد،
فعلمنا أن الظلم وإن جمعه اسم فهو يفارق به غيره، وكذلك الكفر
قد يكون بالله، ويكون بنعمه. والكفر في اللغة: ستر الحق فيجوز
أن يكون الحاكم بغير ما أنزل الله ساترا لأحكامه وهو مسلم،
ويكون ساترا لها وهو كافر وتختلف درجات الكفر في صفاقة، الستر
ورقته، فيكون الجاحد بالغا أقصى عرضة والعاصي مجامعه في الفعل
الظاهر مخالفه في الضمير الباطن فلا يستويان في العقوبة ولا
يلتقيان في الدرجة، هذا مالا يذهب على من
(1/313)
قصد الحق بنصح واستقامة، وأضرب عن اللجاج
والغلبة بباطل الاحتجاج.
فيه تثبيت قول الشافعي - رضي الله عنه - الدم أنجس من الذكر:
* * *
قوله: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً
عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ)
حجة للشافعي، رضي الله عنه، فيما عيب عليه من قوله: الدم أنجس
من الذكر.
وقالوا: كيف يفضل جنس من النجس على جنس من الطاهر، إنما
كان يجوز أن يقول: أنجس من الذكر لو كان الذكر نجسا، وكان يفضل
الدم في النجاسة عليه لئلا يستحيل كلامه.
فهذه الآية تصوب قوله. ألا تراه قال جل جلاله قبلها: (قُلْ يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ
آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ) ،
ونحن لا نشك أن إيمانهم بالله
(1/314)
وما أنزل من كتبه خير لا شر وقد قال جل
وعلا كما ترى: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ)
فأنبأهم بشر من شر عندهم هو خير في الحقيقة، والشافعي، رضي
الله عنه، عربي اللسان يتكلم على سعة لسان العرب، فكأنه قال:
الدم أنجس من الذكر الذي يظن ظان أن الوضوء من مسه لنجاسته لا
للتعبد، والذكر طاهر في الحقيقة وقد أكده تبارك وتعالى بما قال
في سياق الآية، (أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ
سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) : إذ مكانهم خير ومكان أهل الكتاب شر،
ولم يكونوا بالإيمان به وبكتابه ضلالا عن سبيله، وقال في أهل
الكتاب: (وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
ومثل هذا قوله: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ
(14) ولا خالق غيره فيكون هو أحسن منه وهو خير الوارثين) وهو
الوارث دون غيره.
(1/315)
حجة على المعتزلة والقدرية:
* * *
قوله تعالى: (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ
وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ)
حجة على المعتزلة والقدرية خانقة لهم، إذ الجعل في هذا الوضع
كيف تؤول من خلق أو صيرورة كسر قولهم ولم يجدوا عنه محيصا
بحيلة، فقد أعد - جل وعلا - عبادتهم الطاغوت في عداد العقوبة
وجمع بينه وبين الغضب واللعنة وتحويل صورهم إنما الخنازير
والقردة.
مبطل تأويل الجهمية:
* * *
وقوله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ
غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ
مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ)
مبطل تأويل الجهمية في معنى اليد وإعدادهم إياها مرة نعمة،
ومرة قوة، ونحن لا ننكر أن العرب قد تخبر عن النعمة والقوة معا
باليد غير أن هذا ليس موضعه، بل هو موضع اليدين المسماتين بهما
دون القوة والنعمة، إذ اليد - إذا كانت بمعنى
(1/316)
النعمة جمعت على أيادي، وقد قال كما ترى:
(غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) فجمعها على الأيدى التي لا تكون إلا جمع
اليد لا جمع النعمة، وقد ثنى يديه فقال: (بَلْ يَدَاهُ
مَبْسُوطَتَانِ) فأبطل تأويل القوة، إذ كانت القوة لا تثنى،
وكذا في سورة " ص " قال: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا
خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) فثناها، فالعجب لقوم لا يرضون للخالق بما
رضيه لنفسه فينزهونه بجهلهم عما ليس بتنزيه، ويمدحونه بما هو
ذم بل داع إلا التعطيل، وتكذيب القرآن والله المستعان.
حجة على المعتزلة والقدرية:
* * *
قوله: (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
حجة على المعتزلة والقدرية.
فإن قيل: فما وجه قوله: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ
آمَنُوا وَاتَّقَوْا)
وهو أعلم أنهم لا يقدرون على الإيمان إلا بتيسيره عندك،.
قيل: قد دللنا في غير موضع من هذا الكتاب وغيره على أن فعل
(1/317)
الفاعل مضاف إليه وإن كان التسيير والمنع
من غيره.
وهذا غير مستحيل في معقولهم أيضا لو تدبروه، لأنهم يجدون عبدا
مخلوقا فيه آلة فعل لا يقدر مع منع مالكه عليه، فإذا أطلقه له
ففعله كان الفعل منسوبا إلى الفاعل لا إلى المطلق، والأمر غير
الإطلاق، فإذا أمر المخلوق - الذي يجوز في صفته العدل والجور
ويكونان جميعا منه - عبده بما لا يستطيع فعله، ثم عاقبه على
تركه كان جائزا عليه.
إذ غير محال في صفة المخلوق أن يبتدئ بالجور وبالعدل ويختم
بهما، وجائز أن ينظر في عدله وجوره مخلوق مثله، فيعرف جوره من
عدله ولا يخفى عليه شيء من طريقهما، لأنه وإن خفي على واحد
عرفه الآخر، وإذا كان ذلك من الخالق الذي لا يجوز في صفته
الجور لم يجز أن يكون معدوما منه إلا في العدل وإن تصور بغيره،
إذ المتصور في العقول من ضد العدل يقمعه إحالة نسبة الجور
إليه.
ونفي هذا الفعل عنه يدفعه إنزاله في كتابه وإخباره متفرجا به
عن نفسه ولم يكن تنزيهنا له عن نسبة ما لا نعقل من عدله إليه
بأحق من تنزيهه
(1/318)
عن نسبة الكذب إليه
والصدق والعدل معا من صفاته فسواء نفي عنه الصدق أو نسب إليه
الجور تعالى عنهما علوا كبيرا.
وليس يسلم من أنكر القضاء والقدر من تكذيبه وإن سلم عند نفسه
من
تجويره.
ومن قال:: إن المتصور في العقول من الجور عجز عن معرفته،
والإيمان بالقضاء تصديق لربه، سلم من كلا الأمرين ورضي
بالعبودية، ولم يزاحم في الربوبية.
* * *
قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا) دليل على أن من حلف أن
لا يطعم شيئا لوقت، فشرب شرابا أنه يحنث، لأن الآية نزلت في
الذين ماتوا وهم يشربون الخمر قبل تحريمها، ويؤيده قوله في
سورة البقرة إخبارا عن طالوت: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ
بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ
فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ
فَإِنَّهُ مِنِّي)
(1/319)
فأوقع اسم الطعم على الشراب.
ولو حلف أن لا يشرب شيئا فطعم طعاما لم يحنث، لأن اسم الشراب
لا يقع على الطعم كما يقع اسم الطعم على الشرب.
* * *
قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا
الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)
دليل على أن لا فدية على المحرم في بيض النعامة وسائر الطير،
لأن اسم القتل لا يقع عليه إلا أن يكسره وفيه فرخ حي، فيموت في
يده فيكون حينئذ عليه فداؤه.
فإن قيل: أوليس قد قال في الآية قبلها: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ
الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) ،
والبيض مما تناله الأيدي كما تنال الفرخ.
قيل: النيل مجمل، والقتل مفسر، والمفسر يقضي على المجمل مع
أن البيضة لا يقع عليها اسم صيد في اللغة لخلوها من الحركة
والروح،
(1/320)
ولا أعرف حجة من جعل فيه قيمة ولو صح حديث
أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي، صلى الله عليه
وسلم، جعل فيه إطعام مسكين أو صيام يوم - قلت به، ولكنه رواه
عنه ابن جريج، وهو مدلس ولم يذكر سماعه منه.
* * *
وقوله: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا)
دليل على أن الخاطيء لا جزاء عليه وسواء قتلته رمية الخطأ أو
أخذه ومات في يده، إلا أن يذبحه بعد
(1/321)
ما يأخذه حيا فيكون عليه جزاؤه، لأنه قد
عمد ذبحه، وإن لم يعمد
* * *
وقوله: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا)
دليل أيضا على أن من أخذ من المحرمين صيدا ثم أرسله لم يكن
عليه جزاءه لأنه وإن كان عاصيا بأخذه فالشرط في الجزاء واقع
على المقتول، والجزاء كاسمه - لا مجازى إلا من أفتت نفسه.
المحرم:
* * *
وقوله: (لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ)
دليل على أن المحرم عليه جزاء ما أصاب من الصيد كلما أصابه كما
عليه في أول إصابته، إذ لا يكون ذواق الوبال إلا في الجزاء
الذي تكرهه النفوس وتشح على أموالها فيه. ولا أعرف للمسقطين
عنه الجزاء في ثاني إصابته وجها واعتلالهم بقوله
(1/322)
: (وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ
مِنْهُ) في إسقاط الجزاء عنه غير متوجه لمن تدبره، فما الفائدة
إذا في قوله: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) ، مع إيجاب
الكفارة عليه وذواق وباله بها، والعفو في اللغة لا يقع إلا ما
عري من العقوبات، وهذا قد عوقب بالكفارة سترا لخطيئته وتمحيصا
لذنبه، ولا يجوز - والله أعلم - في العفو والعود إلا ما قال
عطاء من أن العفو هو عما كان في الجاهلية، والعود في الإسلام،
وجائز أن يكون الانتقام منه بالكفارة غير مصروف به إلى عذاب
الآخرة.
ولا يشك أحد أن كل عائد في ذنب مستحق للانتقام منه في الآخرة
إن
لم يلحقه عفو ربه أو تحطه عنه كفارة مجهولة فيه.
فهل يجوز لأحد أن يقول: أجعل على قاتل الخطأ مع الدية عتق رقبة
كفارة لذنبه؛ إذ الدية من حقوق الآدميين، والرقبة من حقوق
الله، فإن عاد ثانية إلى القتل اقتصرت به على الدية دون الرقبة
ليلقى الله بذنبه، فيعاقبه عليه، وينتقم منه.
(1/323)
أو يقول: إن الكفارة على الحالف بالله مرة
واحدة، فإن عاد لم تكن عليه كفارة، وأشباه ذلك.
وما بال ذنب المحرم في قتل الصيد المنهي عنه في حال إحرامه يخص
بهذا الحكم دون غيره،.
هذا من أعجب ما قيل وأظرف ما انتحل، فإن قيل، خص هذا الذنب
بهذا الحكم لقوله: (وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ)
، وسكوته عن سائر الذنوب.
قيل: أفنجعل سكوته عن العائد إلى ذنب عمله مرة دالا على سقوطه
الانتقام منه،. فإن قال: نعم كفانا مؤنة الاشتغال به، إذ
الانتقام لا يستأهله إلا المعتدون المنتهكون محارم الله، فمن
يسقط عنه الانتقام بفعل يفعله كان ذلك الفعل مباحا له.
وإن قال: هو مستوجب للانتقام إن لم يعفوا عنه كلما أذنب.
قيل: فذكره بالانتقام في باب المحرم وسكوته في غيره من الذنوب
في الاستيعاب واحد، وإن أكده بالذكر في موضع دون
(1/324)
موضع.
في السمك:
* * *
وقوله: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ)
دليل - والله أعلم - على أن الطافي وما حسر عنه البحر شيئا من
السمك - حلال، لأن اسم الصيد لا يقع إلا على ما يكون ممتنعا
بالحياة فيصطاد بالحبل وقد فصل - جل وعلا - بينه وبين الطعام -
بالواو - والطافي والمحسور عنه إن شاء الله من طعامه، ومن
المفسرين من قال: صيده طري السمك، وطعامه مالحه، وقد يحتمل أن
يكون كل ما كان عيشه في الماء ولم يعش في البر داخلا في صيد
البحر، ويكون حلا إذا أخذ. ويحتمل: أن يكون قوله: (أُحِلَّ
لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) على ما كانوا يعرفون من صيده وروي عن
النبي، صلى الله عليه وسلم، حديثان:
(1/325)
أحدهما مجمل والآخر مفسر، لو صح طريقهما
كان فيهما بيان شاف.
أحدهما: حديث أبي هريرة وجاء في البحر: " هو الطهور ماؤه الحل
ميتته ما، فهذا مجمل يحكم للاحتمال الأول.
والثاني: حديث ابن عمر: " أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما
الميتتان فالجراد والنون فهذا مفسر يحكم للثاني.
(1/326)
فلما اعتل الحديثان وضعف دعائمهما لم يحلل
من الميتة شيء، وإن كانت من صيد البحر وطعامه.
والميتة محرمة بجملتها في غير آية من القرآن إلا ما اجتمعت
عليه الأمة من أنه داخل في طعام البحر وصيده، وهو الجراد
والنون دون ما سواهما.
(1/327)
فنبيح جملتها بالاتفاق، والطافي وما انحسر
عنه البحر ميتا بالدليل الذي قدمنا ذكره وشمول اسم الميتة
المتفق على إباحته لهما.
ونقول: إن كل ما أمكن ذبحه من دواب البحر فأخذه صايد حيا وذبحه
بما يقع عليه اسم ذبح من قطع الحلقوم والمريء فهو حل بالقرآن
وما لم تكن ذكاته بقتل الحلقوم والمريء،، وإن أخذ حيا وقتل لم
يؤكل، لأنه عقير، والعقير لاحق بالميتة بريا كان أو بحريا إلا
دابة يتفق الجميع على أنها وإن احتملت الذكية لم تذكي فيسلم
لإجماعهم.
قوله إخبارا عن عيسى، صلى الله عليه وسلم: (إِنْ كُنْتُ
قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا
أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)
حجة على الجهمية فكل ما ذكر في القرآن من النفس والسمع والبصر
واليدين فهو لا محالة ذات لا عرض - يعرف كيفيته من نفسه - جل
جلاله - ولا يبلغ أحد من خلقه كنهه ولا بلوغ حده كما يبلغونه
من المخلوقين، إذا المخلوق محدث والخالق أزلي، والمخلوق متغير،
والخالق باق على حال واحدة
(1/328)
من الكمال الذي يعرفه من نفسه، والمخلوق
ميت والله حي دائم. فهو وإن وافقه بالاسم في هذه الأشياء، فقد
خالفه بما ذكرناه من المفارقة في المعنى ولو عقلوا المساكين
لعلموا أن من ليس بمصنوع ولا محدث - مخلوق أزلي في جميع صفاته.
فكيف ما كانت تلك الصفات ليست بمشاركة، وأن صفات الخلق
الموافقة له في الأسماء بعيدة منه. فكان لا يحملهم بالجهل على
نفي صفات ذاته المذكورة في كتابه واحتيال التأويلات التي هي
إنما التعطيل أقرب منها إلى التثبيت.
(1/329)
|