النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام سورة الأنعام
سعة لسان العرب:
قوله عز وجل: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ)
دليل على سعة لسان العرب، إذ - لا محالة - أن المخلوق من طين
هو آدم، صلى الله عليه وسلم، أبو البشر، وسائر الناس - سوى
عيسى - صلى الله عليه وسلم - مخلوقون من نطفة. وهذا نظير ما مر
في سور البقرة من قوله: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ)
بآبائكم، (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أي خلق أباكم الذي أنتم من
نسله.
ويحتمل أن يكون الله - جل جلاله بقدرته - أذاب الطين وحوله
نطفة فأودعه الأصلاب، فيكون كل من خلق من نطفة مخلوفا من طين
(1/331)
ألا تراه يقول: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ
أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ
يُمْنَى (37) ، ثم سمى النطفة ماء، فقال: (فَلْيَنْظُرِ
الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)
يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)
والله أعلم أي ذلك هو.
وفي كل هذه الآيات - لا محالة - خصوص؛ لأن عيسى، صلى الله عليه
وسلم، ما كان منيا يمنى، ولا خلق من ماء دافق بل خلقه الله
بقدرته في بطن أمه آية للعالمين من غير نطفة.
إضمار:
* * *
قوله: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ
أَسْلَمَ)
أي أول من أسلم من أهل زمانه إذ قد كان قبله مسلمون.
ومثله قول موسى، صلى الله عليه وسلم - والله أعلم -: (وَأَنَا
أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
أي أول قومي إيمانا.
* * *
قوله: (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
يحتمل معنية: أحدهما
(1/332)
رجوع من الخبر إلى المخاطبة.
والثاني: أن يكون فيه إضمار واختصار كأنه: " قل إني أمرت أن
أكون أول من أسلم وقيل لي: لا تكونن من المشركين.
وأيهما هو فهو دال على سعة اللسان والله أعلم بما أراده.
دليل أن القرآن يخاطب بأحكامه من أدرك رسول الله، صلى الله
عليه وسلم، ومن لم يدركه:
* * *
قوله: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ
بِهِ)
موجبه أن القرآن منذر به ومخاطب بأحكامه من أدرك رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ومن لم يدركه إلى يوم القيامة، وهو من المواضع
التي يحسن فيه حذف هاء المفعول كأنه - والله أعلم -: ومن بلغه
القرآن والهاء محذوفة، إذ لا يجوز لأحد أن يحمله على ومن بلغ
من الأطفال فيجعل الخطاب والنذارة به خاصة لمن كان في زمان
رسول الله، صلى الله عليه وسلم، موجودا دون من ولد بعده فيهدم
الإسلام.
(1/333)
حجة على المعتزلة والقدرية:
* * *
قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ
وَقْرًا)
حجة على القدرية والمعتزلة شديدة، لأن الجعل إن كان عندهم خلقا
كما يزعمونه في القرآن، فقد أقروا بألسنتهم أنه - جل وعلا -
خالق الشر إذ الأكنة المانعة من التفقه، والوقر الحائل أبينهم
وبين الاستماع شر لا خير.
وإن كان بمعنى صير فقد أقروا بأنه مصير موانع تحول بين الإجابة
إلى القرآن، وكيف ما تأولوا الجعل في هذا الموضع كان عليهم لا
لهم.
قال محمد بن علي: زعم قوم من مردة المعتزلة والقدرية المفرطين
في التمرد والكفر وإن كانوا كلهم مردة - أن الله - جل جلاله -
لا يعلم الشيء حتى يكون خشية أن يلزمهم في علمه بمعصية العاصي
قبل فعلها ما يكسر قولهم، إذ لا يجوز عليه أن يعلم كون للشيء
(1/334)
مقدر أحد، أحد على إزالته، فكفروا في الجلي
الواضح خشية ما يلزمهم في الدقيق الخفي -
وهذا وإن كان لا يشكل على مسلم، ولا يبعد عنه فهمه ويحيط علمه
بأن الخالق لا يجوز أن يخلو من علم ما يكون قبل كونه إذ في
خلائه من ذلك - تعالى عنه - خلاء من الغيب الذي هو محيط به
وغير مشارك فيه - فإذا تلي فيه قرآن كان أشد لطمأنينة قلبه
وأقمع لنزعات عدوه قال - جل جلاله - في هذه السورة: (وَلَوْ
تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا
نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ
مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ
وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
وقال: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) إلى
آخرالسورة، والقرآن مملوء بذكر هذا النوع قبل هذه السورة
وبعدها، ولو لم يكن فيه إلا ما في آخر سورة المائدة من قوله:
(وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ
قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ)
إلى آخر السورة لكفى فقد علمنا جل ثناؤه وتقدست أسماؤه بما
يكون في المعاد من قول الناس قبل يكون، وبما
(1/335)
يكون من أفعال العباد في الدنيا وأقوالهم
قبل تكون فقال: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ
الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا
فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ
فِي قُلُوبِهِمْ) .
وقال: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى
مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ) وقال:
(سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ
إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ)
وأشباه ذلك. فمن نسب إلى ربه ما نسبوا فقد كفر من ثلاثة وجوه:
أحدها: أنه ينسب ربه - جل وعلا - إلى الجهل، إذ الشيء بعد
حدوثه يستوي فيه الخلق والخالق والعالم والجاهل وتعالى الله أن
يكون موصوفا بالجهل.
والثاني: أنه يزعم: أن الأشياء تكون قبل مكونها ومن زعم أن
الأشياء تكون بذاتها من غير مكون فقد قال بقول الدهرية.
(1/336)
والثالث: رده لهذه الآيات مع ما يضاهيها
مفرقا في القرآن؛ فإن زعم: أن الله قد أنزلها وأخبر عن نفسه
بغير الصدق - تعالى عنه - كفر من جهة تكذيبه له، وإن قال: إن
الله لم ينزلها فقد نسب رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الافتراء
عليه، وأهل القبلة كافة إلى قبول باطل عنده، فيكفر من هذه
الجهة، نعوذ بالله من مثل هذه الحماقات الهائلة من بين
الضلالات، ونسأله التمسك بما هدانا إليه من الحق وزينه في
قلوبنا بجوده وكرمه.
حجة على المعتزلة والقدرية:
* * *
قوله: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ
اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ
سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ
الْجَاهِلِينَ (35) .
حجة على المعتزلة والقدرية، فيقال لهم: أخبرونا عن من كان رسول
الله، صلى الله عليه وسلم، يحب إيمانه ويكبر عليه إعراضه والله
يعظه فيه هذه الموعظة ويخبر أن خروجه عن مشيئته في الهداية
أخرجه إلى
(1/337)
الإعراض ولو شاء هدايته كان مبتدئا فلا
تخلوا هذه المشيئة التي لم تصحبه من الله - جل الله - من أن
تكون متقدمة لخلقه فيخلقه على ما سبق له منها، أو مقرونة بخلقة
فلا يعرف غيرها، أو معونة منتظرة لا سبيل له إلى الهداية إلا
بها. أو ليس على الأحوال الثلاثة مضطرا إليها في الهداية، فكيف
يهتدي من لم يشأ الله هدايته، أم كيف يقدر أن يضل من سبقت له
مشيئة ربه في هدايته، أليس الله جل جلاله غالبا غير مغلوب
قاهرا غير مقهور، ومريدا نافذ الإرادة، والخلق مريدون ممنوعون،
ومجتهدون محجوبون، وممتنعون محمولون على ما لا يريدون، أليس
يقول جل جلاله: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا)
ولو أنصفنا القوم لما كان لهم علينا أكثر من أن نريهم أن الله
جل جلاله قد دعا إلي الهدى من حجبه عنه، وأوجب العقوبة على من
قضى عليه الخطيئة، فإذا أريناهم هذا من حيث لا يشكل على فهم،
وتلونا في صحته القرآن مرة بعد أخرى، وأخبرنا عنه بما أخبر عن
نفسه وهو صادق. لم يكن علينا أن نريهم زوال الظلم عنه في هذا
الفعل بخلقه لاتفاقهم معنا على أنه جل جلاله منزه عن الظلم،
وقد تطوعنا عليهم في غير موضع من كتابنا بما يزيل وساوس
الشيطان في تصور الظلم لهم فأريناهم أن معرفة
(1/338)
كنه عدله بعقول ناقصة غير ممكن وأن القدر
حين صار سره لم يجز أن يطلع عليه غيره، وأن العبيد المأمورين
ليس لهم أن يقولوا لا نؤمن من فعل ربنا إلا بما تقبله عقولنا،
إذا الامتناع من ذلك خروج من العبودية ومزاحمة في الربوبية،
فما الفائدة إذا في قوله: (فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ
الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ (74) ،.
أوليس اعتبار أفعال الله بخلقه بأفعال بعضهم ببعض، وأخذ معرفة
عدله من عدلهم من ضرب الأمثال له، ومزاحمته في العلم الذي لا
يعلمه خلقه، وهل يجوز لهذا الخلق الحقير الذليل المتناهي في
الجهل العادي طوره فيما نهي عن تفتيشه أن يقول: ليس من العدل
عندي أن يجعل الغائط والبول والتعب والنصب عقوبة لآدم صلى الله
عليه وسلم على خطيئته، فإذا تاب منها لم ترفع العقوبة عنه، بل
يصل بها
(1/339)
حياته وولده بعده قبل مواقعة الذنوب
وبعدها، وفيهم أنبياء وصالحون وأطفال ماتوا قبل بلوغهم
وعصيانهم. أم نقول: إن آدام لم تقبل توبته، فنخالف القرآن كما
هو في سجيته،.
حيث يقول جل وعلا: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ
اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
فلذلك بقيت العقوبة - فيه على أنه لا يستطيع أن يقول في ولده
شيئا، وإن كان كل ما يقول من هذا النمط كفرا وطغيانا.
وكيف يستطيع ذلك والله جل وعلا يقول: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرَى) ،
أوليس هذا وما تقدم قولنا فيه من مرض الصغار والعبيد والأحرار
والأصحاء والزمني وتشويه الصور وتحسينها وخلق الذكر والأنثى
والبهائم والحشرات وأشباه ذلك - إذا جمل على فطرة العقول
الناقصة العاثرة المزاحمة فيما ليس لها تصور عندها بصورة
الجور، وهو لا شك عدل وإن كنا نجهله ولا نبلغ غوره.
(1/340)
فما بال القدر وحده يستعظم من بين هذه
الأشياء، أما له أسوة بها، وعلينا الإيمان بجميعها من غير أن
ننسب إلى الله ظلما فيها.
تأكيد:.
* * *
قوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ
يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) .
رد على من قال: ليس في القرآن تأكيد، وكيف يخلو من التأكيد إذا
قال: (يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) وقد علم أن الطائر لا يطير إلا
بجناحيه.
* * *
قوله: (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
دليل على أن كل روحاني يحيا ويحشر وإن صغر خلقه
(1/341)
حتى البق والبعوض والقمل والبرغوث، ويؤيد
ذلك قوله: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ)
فالخلق عام لكل شيء.
* * *
قوله: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي
الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ
يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
حجة على المعتزلة والقدرية في خلق الأفعال، إذ الجعل عندهم
بمعنى الخلق، فإما أن يرجعوا عن القول بخلق القرآن، وأما أن
يقروا بخلق الأفعال، إذ قد تلونا
(1/342)
عليهم في الخير والشر جعلاً ففي الخير هذا
وفي الشر ما تقدمه من قوله جل وعلا: (وَجَعَلْنَا عَلَى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ
وَقْرًا)
مع أنهم إذا جعلوه بمعنى الصيرورة أيضا لم يسلموا من كسر قولهم
فيها، إذ المصَّيرون خلاف الصائرين، ولا سلموا من المشيئة في
الضلالة والهدى.
وعليهم في الظلمات حجة أخرى، إذ ليست تخلو من أن تكون ظلمات
بعينها أو كناية عن الأغطية الحاجزة عن النظر إلى ضياء
المصدقين بآيات الله، وأيهما كان من هذين فالحجة عليهم واضحة
به.
حجة عليهم:
* * *
قوله: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا
وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
حجة عليهم: وهم يظنون أنها لهم فيقال للمتحذلقين في الدقة
منهم: أخبرونا عن عملهم المعمول بتزين الشيطان وكانوا قادرين
على فعله بأنفسهم دون تزيينه، فإن قالوا: بلى.
قيل: فقولكم والشر من الشيطان إذاً لغو لا فائدة فيه. مع ما
يلزمهم
(1/343)
من نسبة الله إلى أن ينزل في كتابه حشوا جل
الله وتعالى عن ذلك وإن قالوا: لم يقدروا على الانفراد به دون
تزيينه.
قيل لهم: أفتكون معاقبة الله من عصى بقوة غيره عدل وتكون
عقوبته من عصاه بقضائه جورا،
فإن قالوا: كان عليه أن لا يقبل تزيينه، قيل: وهو يقدر على أن
لا يقبله،
فإن قالوا: بلى، رجعوا عن قولهم وعادوا في إغراء الشيطان من
الشر، وإن قالوا: لم يقدروا على ترك القبول منه. رجعوا فيما
يلزمهم من باب العقوبة.
ويقال لهم: أخبرونا عن هذا الشيطان الذي تنسبون إليه الشر
أيخلو من أن يكون الله - جل وتعالى - خلقه وجعل الشر سجيته،
وسلطه على من قضى عليه الشقاوة، أو خلقه نقيا من الشر فتشرر.
فإن قالوا: خلقه شريرا مسلطا، أقروا بكل ما أنكروه، وإن قالوا:
خلقه نقيا من الشر فأحدث الشر وتشعر به قيل لهم: أفإحداثه للشر
بآلة جعلت فيه أم بغير آلة، فإن قالوا: بغير آلة، جعلوه شريكا
مع الله - تعالى الله - يخلق كخلقه مبتدئا بما يريد.
وإن قالوا: بل إحداثه بآلة مجهولة فيه له. قيل لهم: ولولا
الآلة ما قدر على إحداثه، فإن قالوا: نعم، ولابد من نعم، قيل
لهم: وكيف
(1/344)
تنسبون إليه شيئا فعله بآلة مجهولة فيه لا
بقدرة وسلطان،
ولو قالوا: إن الله - تبارك وتعالى - قضى الخير والشر معا،
وجعل
أوفر الحظ من الشر للشيطان يغوي به من حقت عليه كلمته بإذن
الله: خرج كلامهم صحيحا، وتخلصوا من الدواخيل والتأويلات
المستكرهة، لأن السلطان والإرادة والخلق كان يكون مسلما لله
والشيطان في البين واسطته يسلطه على من أراد تضليله بعدله،
معصوما منه من أراد هدايته بفضله.
وبعد فلو كان الشيطان متسلطا بغير آلة غير مسلط بقضاء - ومعاذ
الله
أن يكون كذلك - لكان علمه به قبل خلقه أنه سيتسلط ويغوي، فخلقه
على ذلك لا ينجيهم من كسر قولهم، فكيف وهو يقوله في كتابه:
(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ
وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ
فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ
الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
وقال (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ
الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
وما أخذ أخذهما من الآيات.
آقيستراب بعد هذه البراهين بأن الله مالك الخليقة وخالق آلاتهم
وأفعالهم وأنهم ممنوعون من خير لم ييسره، متسارعون إلى ما قدره
(1/345)
وقضاه والشيطان نقمة مخلوقة لأعداء الله،
معصوم منه أولياؤه، لا يصل إليهم من شره إلا وساوسه من بعيد
حتى يأتي محتوم قضائه فيزلهم بإذنه نعوذ بالله من غضبه.
* * *
قوله: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا
هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ)
إلى قوله: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ
مِنْ عِبَادِهِ)
حجة عليهم أيضا.
* * *
قوله: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (88)
وقوله في سورة الزمر: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) يحتج بهما،
من يزعم
(1/346)
أن المرتد إذا رجع عن ردته إلى الإسلام وجب
عليه إعادة كل عمل عمله من فرائضه مثل الصلاة والصوم والحج
وأشباهها، من أجل أن الشرك أحبطها، وليس هو عندي كذلك، لأن
هاتين الآيتن مجملتان، والتي في سورة البقرة مفسرة، قال الله
تبارك وتعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ
فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
فأخبر أن الردة تحبط عمل من مات عليها، فأما من تاب وراجع
الإسلام، فعمله باق على حاله، إنما يلزمه إعادة ما تركه في
أيام كفره، وقد ذكرناه بحججه في كتاب الصلاة.
في الاقتداء:
* * *
قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ
اقْتَدِهْ)
يوجب الاقتداء بأهل الخير ممن يحيط العلم أنهم مقيمون على
الحق، ولا يكون ذلك إلا للأنبياء، فأما من دونهم وإن كانوا لا
يعرون من الحق ولا يظن بهم سواه، فالاقتداء بهم غير واجب.
وفيه أيضا: دليل عند قوم على أنا ومن تقدمنا في الأمم في
الشرائع سيان، وروي عن ابن عباس: أنه قال: دخلت على، النبي،
صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ سورة (ص) فسجد فيها.
(1/347)
وقد قص الله عليه الأنبياء وفيهم داوود -
صلى الله عليه وسلم - قال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) ، فهو يحتمل ما ذهب إليه، ويحتمل
أن تكون هذه القدوة في شرائع التوحيد لا في شرائع الإسلام، إذ
الشرائع - لا محالة مختلفة - ألا تراه يقول: (لِكُلٍّ
جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)
وجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بإطلاق السبت وإحلال
الغنائم.
(1/348)
وتفرقة الذبائح والأكل منها، والصلاة في كل
موضع ترهق وأشباه ذلك فمن تأول القول الأول جعل هذه الأشياء
وما ضاهاها
(1/349)
مخصوصة بالتغيير، وسعى بيننا وبينهم في
سائرها، وهذا مكتوب بشرحه في كتاب شرح النصوص.
حجة على المعتزلة والقدرية:
* * *
قوله: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا)
حجة على المعتزلة والقدرية، إذ ليس يخلو خلقهم من أحد ثلاثة
أشياء:
إما أن يكونوا خلقوا ليؤمنوا أو يكفروا أو لا يؤمنوا ولا
يكفروا.
فلما وجدنا نفسا واحدة مؤمنة أو كافرة علمنا أن لا قسم لها في
الثالثة، بلا ارتياب، فإن كانت المخلوقة للإيمان كافرة، أو
المخلوقة للكفر مؤمنة - فهي لا محالة لربها قاهرة، بأن تكون
أنفذ أمراً في نفسها من أمر خالقها وهذا كفر غير ملتبس.
فإن قيل: لم يخلقها لواحدة من الثلاثة، ولكنه خلقها لأن تكون
إن شاءت مؤمنة، وإن شاءت كافرة لقوله: (فَمَنْ شَاءَ
فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) .
قيل: أفليست بهذه المشيئة التي تؤمن بها أو تكفر أداة تستعمله
في الكفر فتكفر بقوتها، كما تستعمله في الإيمان سواء، ولولاها
ما قدرت على واحد منهما،
(1/350)
فإن قال هذا القائل: نعم - ولابد من نعم -
قيل له: أراك قد برأت الكافر من كفره، وأزلت عنه الحول والقوة
في الوصول إلى الكفر إلا بتلك الإرادة التي لا يقدر على الكفر
إلا بها، وتلك الأداة - لا محالة - من صنع الخالق فيه.
فإن قال: لا أقول خلقت المشيئة فيه مختارة، بل أقول: إنها خلقت
فيه لأن يؤمن فكفر. واحتج بقول الله تبارك وتعالى: (وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
فقد أخبر نصا أنه خلقهم لعبادته جميعا فعبد بعضهم غيره
قيل: هذه آية فيها - لا محالة - خصوص، ألا ترى الأطفال
والمجانين قد شملهم اسم الخلق، ولم يشملهم اسم العبادة لعجزهم
عنها، وهذا مثل ما ذكرنا في سورة البقرة (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ)
(1/351)
فهو واقع على بعضهم دون بعض، ولو كان واقعا
على الجميع أيضا لما كان راداً لقوله: (وَلَوْ أَنَّنَا
نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ
الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا
كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ولا لقوله:
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ
جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا
مُؤْمِنِينَ (99)
وأشباهها من القرآن. ولكان وجهه وما خلقت الجن والإنس إلا
ليعبدوا بمشيئتي.
أيجوز أن يؤخذ ببعض القرآن دون بعض إذا لم يكن الوجوب عن العمل
به منسوخا، أم أيهما أولى أن يكون حقا في النظر والمعقول -
الذي لا يجوز عندهم خلافه - أن تكون مشيئة العباد تبعا لمشيئة
الله أم مشيئته تبعا لمشيئتهم،
هذا ما لا يشكل على منصف يستشعر الحق ويضرب عن العصبية
واللجاج.
ججة عليهم:
* * *
قوله: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ
زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ
مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
(1/352)
حجة عليهم قاطعة لكل شبهة؛ إذ قد جمع تبارك
وتعالى بين تزيين العمل لهم، وإنبائهم به في الآخرة في آن
واحد. فكيف يرتاب من أنصف من نفسه بعد هذا أنه عدل في الحالتين
معا، ثم أكده بعد ذلك بقوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا)
وفي سياق المعنى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ
كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
ثم قوله على إثر ذلك كله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا
إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا
لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
أو ليس بجعله - جل وعلا - من أقسم به أن يؤمن بآية واحدة - وهو
لا يقدر مع كل هذه الآيات على الإيمان إلا بمشيئته - دليل على
من ارتاب بعد ما تبين من هذا البيان الذي لا يشكل على إنسان
أكثر جهلا وأشد مكابرة.
ولو لم يكن من الحجة عليهم إلا أنفسهم حيث يلجئون في الإصرار
على خطأ يضح هذا الوضوح ولا يتركونه بل يجادلون عليه أشد جدال
وينسبون ما خالفه إلى أمثل محال لكفى.
(1/353)
وهل ذلك إلا من خذلان حائل بينهم وبين
التبصر، حاجز بينهم وبين التذكر، أفتراهم بإيضاحنا لهم أسعد
ممن لا يقدر على الإيمان مع تنزيل الملائكة عليه، وكلام الموتى
إياه، إذ لم تصحبه مشيئة ربه،
لا لعمر الله، ما يقدرون على ذلك، بل هم أسوة المذكورين في
الآية نعوذ بالله من الضلالة.
حجة:
* * *
وقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا
شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى
بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا
فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
حجة عليهم من جهات أحدها:
ما يلزمهم في الجعل، خلقا كان أو صيرورة، وذلك أنهم ينفون عنه
- جل وعلا - كل ما تصور في عقولهم بخلاف العدل.
فيقال لهم: بما استوجب الأنبياء المطيعون لربهم أن يخلق أو
يصير
لهم أعداء يلحقهم أذاهم أوتألم من نزعاته قلوبهم، والعدو
(1/354)
الناشئ خلاف المجهول، إذ الناشئ متسلط
والمجهول مسلط.
والثانية: ما يلزمهم في إنكار وقوع اسم واحد على شيئين مختلفين
إلا
بعد استواء صفاتهم.
وقد سمى الله تعالى الإنس بالشياطين كما سمى الجن به، وصفاتهم
مختلفة لا شك فيها.
والعرب تسمي الحيات شياطين وهي خلاف الجن والإنس.
وزعم المفسرون: أن قول الله تبارك وتعالى: (طَلْعُهَا
كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)
مراد به رءوس الحيات.
وعليهم في الوحي مثلها، إذ الوحي من الله وحي بالحق، ومنهم
(1/355)
وحي في الباطل، وقالت أيضا: (وَإِنَّ
الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ
لِيُجَادِلُوكُمْ)
أفيجوز أن يكون الشيطان بوحيه خالقا، كما يزعمون أن الله جل
جلاله إن كان له سمع وبصر وصورة ذاتية فهو مخلوق، لمشاركة
المخلوق إياه في هذه الأشياء. والعجب لهم حيث يزعمون أنهم نسيج
الفلسفة وعروق الدقة، ثم يذهب عليهم هذا الجلي الواضح أفلا
يعلمون أن الشيطان لما كان له وحي وإن كان في الباطل، فجاز أن
يسمى به موحدا: وإن لم يكن خالقا، جاز أن يكون لله سمع وبصر
فيسمى به سميعا بصيرا ولا يكون مخلوقا، كما كان له وحي يوحيه
إلى أنبيائه في الحق تشاركه في اسم الوحي شياطين هو خلقهم وهو
خالق وإن أوحى.
والشياطين مخلوقون وإن أوحوا، ومباينة سمعه وبصره لأسماع الخلق
وأبصارهم كمباينة وحيه لوحيهم، بأن وحيه حق ووعيهم باطل،
ووحيهم مضمحل ذاهب، ووحيه باق، وكذا سمعه وبصره باقيان غير
مأوفين وتغير معيبين، وأسماع الخلق وأبصارهم معيبة
(1/356)
مأفونه بالصمم والعور والفناء، وهي مع ذلك
مصنوعة، وسمعه وبصره غير مصنوعة، فلم يكن مستنكرا أن يتفقا
بالاسم كما اتفق الوحيان بالاسم، وكما اتفق الجني والإنسي
والحية في الشيطنة بالاسم، وكل غير صاحبه، لا يوجب أن يكون
الجني باسم الشيطنة إنسيا، ولا الإنسي جنيا ولا الحية واحدا
منهما، وغير منكر ولا محال أن يشترك كل فيها، والأشخاص مختلفة
غير متفقة في الصورة والتركيب والأفعال.
والثالثة: عدم فعل الوحي المزخرف لو شاء بقوله: (وَلَوْ شَاءَ
رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) وقد مضى شرحه في قوله: (وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا)
فأغنى عن إعادته هاهنا.
إضمار تقليد:
* * *
قوله: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا)
فيه - والله أعلم - ضمير "قل "
(1/357)
وهو حجة في ترك التقليد واضحة، إذ قد علمنا
أن الحكم لا يكون غيره، ولا يبتغي سواه وكذا قال: (وَتِلْكَ
حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) ،
فأضافها إلى نفسه، فكل من احتج بحجة لم يعدها إليه فهي غير
مقبولة منه، ولا على رادها حرج في الرد.
والحكايات عن أهل العلم وإن اعتبرتها وطابت بها النفوس، فهي
غير موجبة حكما إلا أنه لا يجوز الإزراء بهم ونسبة الخطأ إليهم
ليوضع بذلك منهم، لأنهم - إن شاء الله - مجتهدون فيما قالوه
ومأجورون على ما قصدوه من حجة الله، واتباع حكمه المنزل في
كتابه. ولكنهم لما جاز عليهم الإصابة وضدها لم يجز أن يبتغي
حكما غير الله، وكان المتبع حكم رسوله، وإجماع أهل دينه متبعا
حكمه غير خارج منه لفرضه طاعة رسوله واتباع حكمه وإيعاده على
مشاقة الجماعة والشذوذ عنهم.
وكلاهما مصونان عن الخطأ وجديران بإضافة الحق والتفرد والنفر
ليسوا كذلك.
(1/358)
قال محمد بن علي: ويضطرنا إفراط المبتدعة
في قبح مقالاتهم إلى ذكر أشياء قد أغنى الله المؤمن بما زينه
في قلبه، وحببه إليه من الإيمان وأزال عنه ظلمة الريب بجوده عن
أن يتلى عليه فيه قرآن يؤيده.
وأرجو أن يعذر الله - عز وعلا - فقد عرف مقصدنا بهذا الكتاب
وطمعنا في أن يرد الله به ضالا عما استشعرته نفسه وزينه له
عدوه ومعه عليه به خائن منسوب إلى الأستاذية في فنه، فمنه ما
قدمنا ذكره من التلاوة في تصديق علمه - جل وعلا - بالأشياء قبل
كونها، وإبطال قول من زعم أنه لا يعلم، وإيضاح وجوه كفره في
مقالته، ومنه ما أنا ذاكره في هذا الفصل إن شاء الله.
وهو قوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا
مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) ،
فذكر تمام كلمته بالعدل والصدق فيهما ويدخل تحتها عذاب من قضي
عليه ما استوجبه به ودعاؤه إلى الهداية من حجبه عنها، وإنزاله
في كتابه علينا وهو مجمع كلماته التي تمت بالصدق والعدل، فكيف
يجوز لأحد أن ينفي العدل عن جامع ذلك
(1/359)
على عبد، وقد أنزلهما معا في كتابه وأخبر
أنه صادق في تنزيله، عدل فيما تمت كلماته به أو ليس المحوج إلى
إثبات صدق خالقه وعدله عليه مع الإيمان به - لو سلم أيضا من
الكفر - يكون متناهيا في الجفوة، وهو مع ذلك يوهم أن ذلك من
تنزيهه عن الجور، وإنما كان يجوز أن يطالب بهذا لو لم ينزلهما
معا في كتابه ثم رأى ناسيا ينسب إليه ما لا يليق بصفاته.
فأما من يريد أن يجعل جهله بكنه معرفة عدله ذريعة إلى جحود
القرآن وضرب بعضه ببعض، وتأول ما لم يجحده على شهوته فهو إلى
الرجوع عن نحلته أحوج منه إلى المطالبة بتثبيت ما هو ثابت بحمد
الله ونعمته.
وقد أريناه من نظير ما أنكره ولا يقدر على جحوده ما لو تبصره
ونظر
فيه لشغله طلب الحجة لنفسه في غيره من نظير ما أنكره - عن
مطالبتنا بواحد القرآن مملو حججنا فيه.
وكان في بعض ما قدر أنه قد انفصل من تلك النظائر أن قال: في
فصل احتجاجنا عليه بالبهائم المخلوقة في الفلوات بلا أقوات
معدة ولا مساكن مبنية تقي من حر أو برد، وإباحة صيدها للكفار
والعصاة من ولد آدم، والتخلية بينهم وبين ركوبها والإعناف
عليها بالسير،
(1/360)
وثقل الحمل وذبحها للمأكلة - الفرق بينهم
وبين ولد آدم أنهم غير مخاطبين وولد آدم مخاطبون.
فقلنا له: فمن لم يكن مخاطبا يجوز أن يفعل به ما يتصور في
العقول بصورة الظلم أم لا يجوز على الخالق إلا التسوية بين
الجميع في العدل، ولئن كان إنكاره علينا إثبات القضاء والقدر
وخلق أفعال البشر من غير جهة وتنزيه الله عن الجور ونسبة ما لا
يليق به من الظلم إذا زعمنا ذلك - فلعمري - أن احتجاجنا عليه
بالبهائم لا يلزمه، لأنهم غير مخاطبين كما قال. فليرنا الوجه
الذي أنكره منه، لنجيبه عنه، وما عسى يقول في ترك عقوبة آدم
بعد التوبة فيه وفي ولده وفي تذليل العبيد للسادة، وخلق الزمن
المطيع، وتسوية خلق الكافر والعاصي وما أشبه ذلك وهم مخاطبون.
وإن كان إنكاره من جهة تصوره عنده بصورة الجور، فليعلم أن ما
أعده انفصالا في باب البهائم غير منفصل فليعد لجميعها جوائز
يتصور في العقول بصورة العدل، ولن يستطيع ذلك. وإلا فليردعه
العجز عما التمس منه عن الإصرار على ما يكذبه القرآن، والرجوع
إلى ما يصدقه
(1/361)
والشهادة على جميع أفعال خالقه وصنعه في
خلقه بالعدل عرفه أم لم يعرفه، والذي يشبه على من لم يكن منهم
مكابرا - يقود رياسته بالجهل، ويأنف أن تخطيء نفسه بعد نشوء
الصغير على نحلته، وهرم الكبير على خدعته - مثل قوله في هذه
السورة: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ
يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)
فيجدون الإضلال منسوبا إليهم فيقدرون أنه إذا نسب إليهم في حال
لم يجز نسبته إلى غيرهم وينسون أن الله تبارك وتعالى قد نسبه
إلى نفسه جل جلاله في حالة، وإلى الشيطان في ثانية، وإليهم في
ثالثة فقال: (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ)
وقال: (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
وما يضاهي هاتين من القرآن.
وقال: (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا
بَعِيدًا (60) ، وقال إخبارا عنه أيضا: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ
وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ)
ونسبه في هذه الآية التي ذكرناها من سورة الأنعام، وفي غيرها
إليهم
(1/362)
فليس يخلو من أن يكون كل قادرا على ما نسب
إليه، وفاعلا لما أخبر عنه أو يكون بعضهم لبعض تبعا فيه فاعلا
بقوة غيره، فليختر أي الوجهة شاء، إذ لا ثالث لهما.
فإن كان كل مضلا، كما أخبر عنه ظاهر القول، فقد أقر بأن الله
مضل بعد ما أنكره.
وإن زعم: أن معه من يفعل مثل فعله في الإضلال، فإن اختار أن
يكون بعضهم لبعض تبعا، وبقوة صاحبه فاعلا فليس يقدر أن يقول:
إن الله - جل وعلا - تبع للشيطان، والآدمي فيه، وفاعل بقوتهما.
فيحصل عليه أنهما لله تبع، وبقوته يضلان. وعجزهما عن الإضلال
بقوة أنفسهما غير مؤثر في عبوديتهما.
ونسبة الله إلى العجز في الإضلال إلا بقوتهما كفر لا محالة.
وهكذا قوله: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) ، وقوله: (فَمَنْ شَاءَ
فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) هو بمشيئة الله لا
محالة لقوله: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)
، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا)
(1/363)
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي
الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) .
ومشيئتهم تبع لمشيئته، إذ هم عبيد، ومحال أن تكون مشيئته تبعا
لمشيئتهم وهو معبود. وكلا المشيئتين في القرآن، فمن رد مشيئته
وثبت مشيئتهم كفر به وبما أنزل، ومن ثبتهما آمن بجميع ما أنزل
وجعل الضعيف من مشيئة المخلوق تبعاً لمشيئة الخالق القوي فمن
أراد الحق وأضرب عن الهوى لم يشكل هذا عليه، ومن تبع هواه وقاد
من الرياسة ما أوتيه وأنف من الرجوع إلى الحق، فقد قال - تبارك
وتعالى: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ
لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)
وقال: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ
يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) .
ذبائح:
* * *
قوله: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ)
دليل على أن الغراب وإن لم يكن داخلا في ذوي المخالب - محرم
بإيقاع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اسم الفسق عليه.
(1/364)
وفي إباحته، صلى الله عليه وسلم، قتله
للمحرم والحلال، وفي الحل والحرم دليل على أنه لا يحل بالشفرة،
إذ لو حل بها ما جاز قتله للمحرم ولا غيره، ولا هو مع ذلك في
عداد الصيد، إذ لو كان في عداده ما جاز لنا قتله، ولا قرن بينه
وبين الفأرة والكلب العقور.
وهل أحد أحق بوقوع اسم الفسق عليه ممن يأكل فاسدا،.
وكذا قال في سورة المائدة في وآخر ذكر تحريم المنخنقة وما حرم
معها:
(ذلكم فسقٌ) .
فإن قيل: فما الدليل على أن الغراب لما أبيح للمحرم قتله لم
يحل بالشفرة ذبحه، والقتل يترجم به عن الذبح في اللغة ويوضع
موضعه، والشاهد على صحته: أن المحرم نهي عن قتل الصيد، فلم يجز
له ذبحه، إذ النهي وقع على إفاتة نفس الصيد في حال الإحرام لا
على قتله بمعنى يصير به عقيراً غير مذبوح.
قيل: أول الدليل عليه نفس ما اعتللت به من لفظ القتل الشامل
للذبح، إذ لو لم يكن كذلك لجاز أن يكون ذبح الغراب محرما على
المحرم ومباحا له إفاتة نفسه بالقتل لا بالذبح.
والثاني: أن تسميته إياه بالفسق مخرجه من جهة المأكولات وملحقه
بالخبائث الممنوعات بقوله: (ويحرم عليهم الخبائث) والخبيث
(1/365)
كيف أفيتت نفسه باسم الذبح أو غيره عقير
ولو قال قائل: إن المحرم لما نهي عن الصيد كان ذبحه في حال
إحرامه وعقره ألمفيت نفسه قتلا كله كان مذهبا قويا بل هو أول
شيء عليه فبه أقول وأجعله ذريعة إلى تحريم ذبيحة السارق
والغاصب من أجل أن الذبحة لا تحلل المذبوح إلا مقرونة
بالإباحة.
ألا ترى أن الموقوذة مفعول بها ما أفات نفسها وهي حرام،
والشفرة قد أتت من حلقوم المذبوح للأصنام ومريها على ما أتت
عليه من نسيكة المسلم.
فحلت إحداهما دون الأخرى والفعل واحد بعرض الإباحة من
المهَلَّة
لغير الله، لا غير، فكان سبيلها سبيل العقيرة، وإن كان بالشفرة
(1/366)
من مذبحها وقد أمر رسول الله، صلى الله
عليه وسلم، بإكفاء القدور من غنم النهب، وقد ذكيت بالشفرة فلم
تبلغ - والله أعلم - منها مبلغ التحليل للنهي عن النهبة ومحال
أن يأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بإكفاء القدور، وما
فيها حلال يصلح للأكل والبيع، فيفسده. وكيف يجوز ذلك وقد نهى
رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن إضاعة المال
ونقول: إن ما أحل أكله من الحيوان لا يحل أبدا حتى تصحب أعمال
(1/367)
الشفرة في أوداجها أو منحرها الإباحة، فإذا
عريت من الإباحة واقترنت بالحظر، فما أذهب حياته بأي وجه ما
كان سوى الإباحة فهو عقير، والعقير مقتول لا مذبوح.
* * *
قوله: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا
لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي
الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)
نظير ما مضى في سورة البقرة من قوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)
ألا تراه سمى الكافر ميتا وفيه روح، ثم قال: فأحييناه - أي
بالإسلام - فأقام الحياة والموت مقام الإسلام والكفر، حيث أراد
المبالغة وهذا سائر في لغة العرب.
قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
وروي في التفسير أن الآية في عمار وأبي جهل فالمحيا بالإسلام
(1/368)
عمار، والمتروك في الظلمات أبو جهل.
* * *
قوله: (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (122)
حجة على المعتزلة والقدرية:
والزينة نظير المشيئة، لأنهم يجدونها في موضع منسوبة إلى
الشيطان مثل قوله: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ
أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا
يَهْتَدُونَ (24)
وفي موضع منسوبة إليه وهو قوله: (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ
أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ)
وفي موضع غير مسمى فاعلها مثل الموضع الذي ابتدأنا به الآية،
وقوله: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ
النِّسَاءِ)
وأشباهها، فقطع جل جلاله الريب كله وأخبر أن الشيطان نقيض لذلك
غير سابق له بقوته بقوله: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ
فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)
فكل مشيئة منسوبة في القرآن إلى غيره، وزينة أو إضلال فهو تبع
له، إذ مستحيل أن يكون جل جلاله تبعاً لهم ومزينا أو مضلا
وشائيا بقوتهم، وكيف يكون
(1/369)
كذلك وهو يملكهم ولا يملكونه، خلقهم كيف
أراد بجميع صفاتهم وآلاتهم وهو في جميع صنيعه فيهم وفي غيرهم
عدل، عقل الخليقة عدله أم لم يعقلوه. فهذا واضح لا لبسة فيه
لمن شرح الله صدره ولم يكابر عقله.
* * *
وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ
مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا)
حجة عليهم شديدة إذ الجعل إن كان بمعنى الخلق، فقد أخبر نصا
بلا تأويل أنه خلقهم مجرمين للمكر.
وإن كان بمعنى الصيرورة: فقد أخبر أنه مصيرهم كذلك، ثم نسب
الإجرام الذي خلقه فيهم إليهم وأوعدهم عليه في آية واحدة فقال:
(سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ
وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)) .
تم وصل الآية بأخرى ذكر فيها إرادته في الهداية والإضلال فقال:
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ
ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ
كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ (125)
فأزال كل ريب يرتابون به فإن كانوا يريدون تثبيت مقالتهم
بالقرآن فالقرآن هذا سبيله يكذبهم كما ترى ومنزله يفعل بهم ما
فيه.
(1/370)
وإن نبذوه وراء ظهورهم واقتصروا على عقولهم
فليعملوها في غير
هذا الفن، فإن الله جل جلاله أقوم بحجته منهم وغني عما ينزهونه
به من خلاف كتابه.
ولقد بلغني أن بعض جهلتهم - وإن كانوا بأسرهم جهالا - زعم أن
الإرادة في قوله: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) ،
(وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ)
مردودة إلى العبد لا إليه كأنه يقول: من يرد من الله أن يهديه
هداه ومن يرد أن يضله أضله، فخالفه اللغة ولم يحصل لنفسه حجة.
فأما خلافه اللغة، فإن الله جل وعز مرفوع بفعله بإجماع الآراء،
ولو كان كما زعم كان فمن يرد الله نصباً.
ولو كان القراء أيضا كلهم قرأوا (الله) نصبا ما كان له فيه
حجة، إذ
لا يجوز على الله أن يسأله عبد من عباده محالا فيعطيه.
أليس من مذهبهم أن الله لا يجوز عليه إضلال أحد، فكيف يريدون
منه شيئا هو منزه عن فعله عندهم فيعطيهم، هل بين أن يبتليهم
بالإضلال وبين أن يضلهم بإرادتهم منه ومسألتهم إياه فرق، أم هل
في العالم أحد يسأل الله أن يضله، بل كل يسأله الهداية ولا
يسأله الإضلال ولا يريده منه.
(1/371)
قوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ
مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا)
حجة على الجهمية واضحة فيما يزعمون أن الجعل في القرآن بمعنى
الخلق وحده، وهذا لا محالة غير الخلق، إذ لا يجوز لأحد أن
يقول: إنهم خلقوا لله نصيبا، ولو أنهم تركوا المزاحمة في اللغة
التي لا يعقلونها، وتركوها لأهلها كانوا عن مثل هذه الإلزامات
القبيحة في معزل.
* * *
قوله: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ
وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
فَعَلُوهُ)
حجة على المعتزلة والقدرية: إذ مضى قولنا في التزيين الذي نسبه
الله مرة إليهم ومرة إلى الشيطان، ومرة إلى نفسه بما يغني عن
الإعادة ومضى شرحها أيضا في: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
فَعَلُوهُ)
قياس:
* * *
وقوله: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ
افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا
مُهْتَدِينَ (140) .
حجة على القائس: يقال لهم: أرأيتم تحريمكم على الآكل من عدس
أخذه بعدس متفاضلا من أجل أنه استفاده بفعل محرم عندكم
(1/372)
وهو رزق حسن مفصل من جملة المحرمات، وأنتم
قائلون بالعلل ألا جعلتم بعض قياسكم في ترك الاقتداء من أخر
الإناث من أهل هذه الآية في أكل ما رزق الله الجميع وقدم
الذكور فقال جل وعلا: (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ
الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى
أَزْوَاجِنَا)
فعابهم الله بذلك ونسبهم إلى الافتراء عليه فكنتم تقولون لا
يجوز طرد العلل وإن اتفقت حتى يكون معها تعبد يؤيدها إذ لوجار
طردها في كل موضع لجاز لهؤلاء المفترين على الله أن يقولوا:
إنما أخرنا الإناث بتحريم هذا الرزق عليهم، لأنا رأيناك أخرت
الإناث في أمكنة لم تؤخر فيه الذكور مثل الجهاد، والقضاء،
والإمارة، ورأيناك أسقطت إناث ولد الأخ والعم - البنات دون
ذكورهم في الميراث - فاقتدينا بك في تحريم ما في بطون أنعامنا
على إناثنا.
أما كان يكون هذا القول منهم زيادة في الافتراء عليه لو قالوه؛
إذ هو
(1/373)
جل جلاله محلل الأشياء ومحرمها كيف شاء على
عباده، فليس للعباد أن يفعلوا مثل فعله، بل ينزلوا عند أمره
ونهيه مقتصرين على ما حرم عليهم غير زائدين فيه من تلقاء
أنفسهم بما يتصور عندهم من التشبيهات التي فارقتها العبادات
المحرمات، وقد رأيناه جل ثناؤه يقسم في كتابه بكثير مما خلق.
ألنا أن نقتدي به في ذلك، فنقسم بالليل والنهار وأشباهها، أم
نلزم
ما نهينا عنه من الحلف بغيره، وتدلنا هذه الآية النازلة في
المفترين على الله، إذ حرموا ما رزقهم الله، افتراء على الله
على أن نقتصر على تحريم الستة الأصول ولا يضم إليها سابعا وإن
أشبهها في العلة عندنا فنتقدم
(1/374)
بين يدي أمره ونهيه ونحرم ما لم يحرمه وهل
عاب أولئك بأكثر من اختراعهم تحريم ما لم ينزله، فإن قالوا: لم
يعبهم باختراع شيء بل عابهم بتحريم ما حلله بقوله:
(وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ
وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
وقد ظلمتنا في الإلزام؛ إذ هم بتحريم ما حلل ونحن نحرم ما حرم
ونزيد عليه في التحريم أشباهه ولو كنا حللنا التفاضل في الحنطة
أو الشعير كان إلزامك مستقيما.
قيل لهم: لم نحتج عليكم بنفس ما فعل أولئك فقط دون غيره إنما
أريناكم أن العلة التي اطردت لهم هي مثل علتكم سواء، فلم
تنفعهم، وأنتم وإن لم تسلكوا سبيلهم في نفس الحنطة والشعير
المفصلين مع الأربعة بالتحريم فقد فعلتم مثل فعلهم في تحريم
جملة ما أباح من التجارات
(1/375)
بقوله: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ
تَرَاضٍ مِنْكُمْ) .
وإذا كان لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يخص من الجملة
ولكم مثله فما فضله إذاً عليكم، وقد أخبر الله عنه أن ما قاله
فبوحي.
أفيجوز أن يكون من يوحى إليه ومن لا يوحى إليه يفعلان فعلا
واحدا، ويلزم قولهما لزوما واحدا، ومع ذلك ليس يخلو تحريمكم ما
عدا الأصول الستة من أن تنسبوه إلى رسول الله، صلى الله عليه
وسلم، أو إلى أنفسكم، فإن كنتم تنسبونه إلى أنفسكم فقد جعلتم
لأنفسكم مالم يجعله الله لكم وجعلتموها مستعبِدة بعد أن كانت
مستعبَدة وإن كنتم تنسبونه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم،
فليس تخلو نسبتكم ذلك إليه من إفصاح أو ظن فالإفصاح معدوم
والظن لا يغني من الحق شيئا، وهذا مشروح بتلخيصه في كتابنا
المؤلف في شرح النصوص.
فإن قالوا: لم ننسبه إليه نصاً ولا إلى أنفسنا اختراعا ولكنا
لما أمرنا بالمثل في جزاء الصيد بتشبيهنا
(1/376)
دلنا على أن التشبيه في كل موضع جائز. قيل:
أفتسمون المثل المحكوم به بتشبيهكم نصا أو قياسا، فإن قالوا:
نسميه نصا لصحبة الإطلاق من الله له - وهو: الحق - بطل قولهم
في الاحتجاج بهذه الآية في تثبيت القياس وشهدوا على أنفسهم أن
ما حرموه من السابع بغير نص ولا حجة، بل بظن متبع، إذ النص
مقرون بعدمه فيه. والحجة في القياس بالآية زائلة فيترك تسميتهم
المثل قياسا.
وإن قالوا: نسميه قياسا.
قيل: أفتثبتون القياس بالقياس وأنتم مقرون بأن القياس فرع لا
أصل، وإذا اختلف الناس في فرع لم يجز تثبيته إلا بأصل عندنا
وعندك، والأصل لا يكون إلا نصا. أفمن النصفة عندكم لو كان
تثبيت الفروع بالفروع جائزا أيضا أن تثبتوا على خصمكم حقا
عندكم باطلا عنده بنفس ذلك الشيء بغير حجة من غيره، وهو لو قبل
تثبيت ما أنكر عليه ما أنكره.
ومع ذلك فإنكم غير سالمين من تحريم السابع بالظن على كل حال
سميتم المثل في جزاء الصيد نصا أو قياسا.
(1/377)
إذ لو كان إطلاقه للحاكمين العدلين النظر
في ذلك المثل مسمى بلفظ القياس لكان استدلالكم به بأنه مطلق
لكم مثله في كل موضع ظنا والظن لا يحلل شيئا ولا يحرمه.
زكاة الثمر:
* * *
قوله: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ
وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا
أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ
مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا
حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)
حجة في إيجاب العشر على الثمر قوتا كان أو غيره لدخول الزيتون
والرمان تحت أداء الحق يوم الحصاد بالتسمية وسائر الثمار في
الجنات في الجملة والهاء في: (أكله) و (ثمره) و (حقه) راجعة -
والله أعلم - على جنس المذكورات كلها والجنس مذكر موحد.
فإن قيل: كيف يشتمل أداء الحق على جميع ما ذكر في الآية، ولا
يكون مقصودا به الزرع وحده لذكر الحصاد والحصاد واقع عليه دون
سائره،
قيل: هو عند العامة كذلك، فأما العرب التي نزل القرآن بلغتها
(1/378)
فإنهم يوقعون اسم الحصاد على الزرع وغيره،
إذ الحصاد عندها قطع الشيء واستئصاله قال الله تبارك وتعالى:
مخبرا عن أهل القرية الظالمة: (فَمَا زَالَتْ تِلْكَ
دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
أي مستأصلين بالعذاب والموت والله أعلم.
قال محمد بن علي: فما كان من الحبوب والنخل والأعناب محدودا
بمبلغ الأوساق فالعشر ساقطة عنه دون بلوغ الحد فصاعدا.
وما كان لأحد فيه - فالقرآن يوجب على جملته ولم يسقط عنه
بترك تسمية الحد، فعلى ما حصد من قليله وكثيره العشر بجملة
الكتاب ولقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فيما سقت
السماء والعيون أو كان عثريا العشر، وما سقي بالنواضح والسواني
(1/379)
والغرب فنصف العشر.
ركوب البقر:
* * *
وقوله: (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا)
دليل على أن جميع أنواع الأنعام يحمل عليها ويركب بقرة كانت أو
غيرها؛ لأن الحمولة
(1/380)
في اللغة غير مقتصر بها على حمل الأمتعة
دون الناس ولا البقر خارج من جملة الأنعام فيها
في الشعر والصوف:
* * *
قوله: (وفَرْشاً)
دليل على إباحة المرعزي والصوف والشعر
ذكيا كان ما أخذ منه أو ميتا أو حيا، إذ محال أن يعدد علينا
شيئا في عداد نعمه، وينشيئه لنا، وفيه محظور من صوف الميتة أو
المرعزي فلا يبينه.
وكيف يجوز ذلك، وهو يقول: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ)
فلا في تفصيل المحرم ذكر صوف الميتة وشعرها والمرعزي، ولا في
المستثنى بالاضطرار.
أفلا يدل ذلك أنه في جملة المعفو عنه، بل محلل ممنون به بقوله:
(وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا)
أي وأنشأ لكم - والله أعلم - حمولة وفرشا، وقال أيضا:
(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ
لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا
يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا
وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى
حِينٍ (80)
(1/381)
أوليس جل جلاله قد ذكر كلا بلفظه وأنعم به
علينا لأثاثنا وأمتعتنا،.
أفيكون فيه مستثنى بالتحريم فلا يوضحه، بل كل داخل تحت جملة
إنعامه.
فإن قيل: إنما قصد بالإنعام علينا فيها قصد لحومها، واللحوم لا
تصل إلي بالذكاة ولا تحل بالموت.
قيل: أفنجعل ما قطع منها وهي حية من صوفها وشعرها محرما كما
تجعل ما قطع من لحومها في حال حياتها،
فإن قيل: ليس الصوف والشعر مثل اللحم، لأن اللحم البائن منها
بالقطع يصير ميتة بمفارقة جزء الروح لها، والصوف والشعر لا
يصيران ميتة.
قيل: ولم لا يصيران ميتة، لأنه لم يكن فيهما علة، فإن قال:
لأنه لم يكن فيهما روح.
(1/382)
قيل: فما الذي حرمهما إذا أخذا من الميتة
ولم يكن فيهما روح فتحرمه كما حرمت الميتة بمفارقة الروح، فإن
قال: أجعل أعلاهما الناتئ من البهيمة طاهرا وباطنهما المنغرز
في جلدها نجساً فلذلك أبيح ما جزء وأحرم ما نتف من حي لخروج
أسفله وأعلاه والأسفل نجس.
قيل: ما العلة في نجاسة أسفله وطهارة أعلاه،
فإن قال: أعلاه حي فلذلك أبحته، وأسفله ميت فلذلك حظرته - أحال
القول من جهتين إحداهما: أنه جعل شيئا واحدا بقطعه واحدة في
جسد حي بعضه حيا وبعضه شيئا، وهذا مستحيل لا شك فيه.
والثاني: أنه شهد لأعلاه بالحياة وكان ينبغي أن يكون إذا قطع
أحق
بأن يسمى ميتا لمفارقة الحياة له بعد قطعه، كما يفارق بضعة من
لحمها إذا قطع منها حية.
وإن قال: أعلاه ميت وأسفله حي زاده في الإحالة حيث أباح
الانتفاع بما يسميه ميتة.
افتراه بعد جزه صارت فيه روح حللته أو دباغة طهرته،
(1/383)
فإن قال: لا أقول: إنه حي ولا ميتة، ولكنه
كالشيء المخلوق بلا
روح مثل: الخثسب وأشباهه، ولكنه مغروز في جلد حي ندي، فإذا جز
لم تصل الندوة إليه فهو طاهر لذلك أصاب القول في الجز،
والبهيمة حية، وبقي الانفصال عليه في نتفه حية وميتة وجزه
ميته، فيقال له: أفلا اقتصرت فيما نتف علا غسل الندوة
المستبطنة وأبحته بعد ذلك، وأبحت ما جز من الميتة بلا غسل لعدم
خلوص الندوة إليه إلا أن تعلم بنجاسة أصابته فتغسله لها لا
للندوة. فهذا بين لمن تدبره واضح لمن ميزه. وليس اعتلال من
اعتل لنجاسة الصوف والشعر بعظم الميتة وقرنها - وجها يلزم
قايسا ولا غيره، إذ العظم والقرن عضوان من أعضائها تألم
البهيمة بكسرها، وفيهما دسم ومخ، وماكان هذا سبيله ففيه روح لا
محالة، فإذا ماتت لم يمت منها شيء دون شيء بل يموت جميعها موتا
واحدا وكل مفارق حياة فاسم الميتة واقع عليه. فإن قام الدليل
على إباحة شيء منها وأخرجه من جملتها، وإلا فهي محرمة بنص
القرآن، والشافعي رضي الله عنه، أحد من يقول بنجاسة الصوف
والشعر إذا جز من ميتة، ويزعم أنهما يموتان بموت ذوات
(1/384)
الروح.
والعجب له - رحمة الله عليه - مع تدقيقه كيف ذهب عليه أن اسم
الميتة لا يقع إلا على ما كان حيا، ففارقته الحياة، وهو يجيز
أن يجز منها ويسميه طاهرا ولا يميز هو ولا غيره ما قطع منها
سواه، لأنه يصير ميتة، ومن تأمل أمر الصوف والشعر لم يجز له أن
يسميه، وهو على حي ميتا ولا حيا، لأنه إن كان حرم بعد موت من
هو عليه باسم الميتة وسمي قبل أن يموت أيضا ميتا فأبيح كان أحد
المعنيين من الإباحة أو الحظر خطأ بغير شك.
وإن سمي حيا فجز لم تبق حياته بمزايلته الجسد، كما لا تبقى
حياة القطعة من لحم الحيوان إذا أخذت منه وهو حي.
والصحيح أن يكون كالحجر والخشب وأشباه ذلك، يكون في حالة حياة
من هو عليه وبعده واحدا. إلا أنه يغسل ما أخرج من مغرز الجلد
للندوة الواصلة إليه منه.
وقد احتج الشافعي - رضي الله عنه - بالقرن والعظم وزاد شيئا
فقال: العظم قبل الدباغ وبعده سواء، فمن الذي واطأه منا على أن
الإهاب حل بالتغيير والاستحالة دون التعبد حتى يقول: إن الصوف
(1/385)
والشعر لعدم استحالتهما وارتفاع دباغتهما
حرما.
ولو لزمنا أن لا نبيح إلا بالتغير أيضا للزمنا ذلك فيما سميناه
ميتة قبل التغيير كما سمينا الإهاب ميتة، فأما الصوف والشعر
اللذان لم نسميهما قط ميتة فمراعاة تغييرهما واستحالتهما من
حال إلى حال لا وجه له، فإن قال قائل: أراك تعيد القول وتبديه
في إحالة إيقاع اسم الميتة على ما لم يكن فيه حياة فارقته،
وتنسب الشافعي إلى الإغفال في تسمية الصوف والشعر ميتة من أجل
أنه لا حياة فيهما عندك، وقد زعمت في سورة البقرة في فصل قوله
جل وعلا: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا
فَأَحْيَاكُمْ)
أنه أوقع اسم الميتة على النطفة ولا حياة فيها ورددت به على
المتكلمين في تسميتهم كل نام وزائد حيا من أجل نمائه وزيادته،
وهذا نقض لذاك أو ذاك كسر لهذا - أغفل إغفالا شيئا، وذلك أني
نفيت أن يقع اسم الميتة ها هنا على الصوف والشعر بمعنى النجاسة
المحرمة الذات وهناك استشهدت بقوله: (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا)
على أن كل ما لم يكن له روح ظاهرة يسمى ميتة، ولكن طاهر الذات
غير نجس، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دل على
طهارة النطفة بفركه من ثوبه بعد
(1/386)
الأيام، وترك غسله منه، وقال تبارك وتعالى:
(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا) .
وقال: (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ
فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)
فسمى الأرض ميتة وهي طاهرة.
فاللغة غير دافعة أن ما لا حياة فيه، ولا روح تتردد في جسمه من
الموات كله يسمى ميتة وميتا، ولكن طاهر، ولا يجوز أن يكون شيء
من الروحانيين إذا فارقته الحياة، وكانت له نفس سائلة فصارت
ميتة يكون طاهرا، وهو وإن جامع ميتة الموات مختلف في المعنى
بأن ذلك نجس وهذا طاهر والخلاف بيننا وبين الشافعي - رضي الله
عنه - في الصوف والشعر في نفي وقوع اسم الميتة النجسة عليهما
لا في نفي إعدادهما في عداد ما يقع عليه اسم ميتة الموات
فافهمه ولا تغلط علينا.
(1/387)
ركوب البقر:
قال محمد بن علي: وفي إباحة ركوب جميع الأنعام والحمل عليها
غير هذه الآية أيضا قال الله تبارك وتعالى: (اللَّهُ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا
تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا
عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى
الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) .
(وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ
وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى
بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ
إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وهذه أيضا تؤيد ما
قلناه في الصوف والشعر والوبر.
فإن قيل: فما لك لم تقتصر في إباحة الركوب والحمل على الإبل
وحدها دون البقر، لحديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "بينما
رجل يسوق بقرة؛ إذ ركبها، فقالت إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا
للحرث " فكنت تخصها بالسنة وإن شملها اسم الأنعام كما
(1/388)
خصصت الشاة بالعجز عن حمل راكب أو متاع.
قيل: البقر يطيق كما تطيق الإبل، ورسول الله، صلى الله عليه
وسلم، حين حدث عن البقرة بالنطق لم ينه عن ركوبها، وقد حدث
معها بنطق ذيب أخذ منه بعض الرعاة شاة أخذها من غنمه فقال: كيف
تصنع بها يوم السبع،
فهل يجوز لراع أن يترك شاة في فم ذيب وهو يقدر على استخلاصها
من أجل نطق ذلك الذيب،
فإن قيل: الذئب وإن تكلم فلم يخبر عن ربه بشيء يمنع انتزاع
الشاة منه، والبقرة قد أخبرت أن الله لم يخلقها للركوب بل
خلقها للحرث، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: " آمنت به
أنا وأبو بكر وعمر وفي هذا تصديقها.
قيل: قد يمكن أن يكون هذا في أمة خلت قبل رسول الله، صلى
الله عليه وسلم، خلق بقرهم للحرث وحده دون سائر الأعمال
(1/389)
ونسخ الله ذلك في هذه الأمة وأباح لهم
استعمالها وركوبها بهذه الآيات كما نسخ كثيرا من شرائعهم مثل
أكل النار قربانهم
ونسخ السبت وأشباهه، والقرآن لا يخص بمثل هذا الخبر، وسيما وهو
محتمل ما قلنا.
وقد قيل في الفرش: إنها صغار الإبل كالفصلان والحمولة
كبارها.
(1/390)
أيمان:
* * *
وقوله: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي
ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ
شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ
الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ)
دليل على أن اسم الشحم جامع لكل سمين من اللحم وإن تفرق به
أسماء، إذ محال أن يستثنى شيء من غير جنسه وقد استثنى جل جلاله
الألية والمبعر والمختلط بالعظم، ولا يكون - والله أعلم - إلا
سمين اللحم ودسمه من الشحم كما ترى، فمعظمه المعروف عند العامة
ما في بطونها ثم يخلص اسمه إلى كل ما ذكرناه، ويقول العرب
للسمين من الرجال: فلان شحيم، يذهبون به إلى الضخم أو السمن.
فالآكل شيئا من ذلك إذا حلف على اجتناب الشحم إذا لم ينو معظمه
حانث، والله أعلم.
* * *
قوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ
كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا
بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ
لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ
إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)
(1/391)
حجة للمعتزلة والقدرية علينا فيما يقدرون
ولو ميزوا ما الذي أنكر عليهم لعلموا أنه لا متعلق لهم فيه،
والذي أنكر جل جلاله من قولهم - وهو أعلم - احتجاجهم به لا
أنهم قالوا غير حق.
وكيف لايكون حقا، وقد قاله الله في هذه السورة نفسها حيث
يقول: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا)
(1/392)
فليس لهم أن يحتجوا على الله - جل وعلا -
بما لم يطلعهم عليه من عدله، ونحن لا نقول أن لأحد من خلق الله
أن يعول على هذا القول، وإن كان حقا، لأنه مأمور بغيره ومطالب
بإقامة ما لا يقيمه سواه مما يؤثر فيه ويؤجر عليه.
* * *
قوله تعالى: (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) - والله أعلم
- في استشعار نفعهم بهذه الحجة وهي غير نافعة لهم، وكيف
ينفعهم، وهو يقول على إثرها: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ
الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) ،
فهذا يبين - بلا إشكال - أن وجه إنكار مقالتهم عند احتجاجهم به
لا نفس القول.
قال محمد بن علي: وبلية القوم إضاعة النصح لدين الله، واتخاذ
كل
ما احتمله ظاهر الكلام دينا، ولا يحفلون بتناقضه عليهم، ولا
يعرفون مع ذلك سعة لسان العرب وتصاريف الكلام وتعارضه، إذ في
الكلام ما يحتمل وجوها مستعملة كلها، وفيه ما يحتمل وجهين لا
يجوز استعمال أحدهما، وفيه ما لا يجوز استعمال ظاهره بتة.
(1/393)
وفي التعارض ما يتوجه اختلافه، وفيه ما لا
يتوجه إلا بنسخ.
فما يحتمل وجوها مستعملة كلها كثير يطول الكتاب بشرحه، وليس
على القوم فيه حجة، وما يحتمل وجهين لا يجوز إلا استعمال
أحدهما: قوله جل وعلا في هذه السورة (وَلَا تَقْتُلُوا
أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ) وفي بني إسرائيل: (خَشْيَةَ
إِمْلَاقٍ) فظاهر الكلام دال على أن الولد المنهي عن قتله هو
المخشي ببقائه الإملاق، ومن لم يخش ببقائه الإملاق مباح قتله.
فلم يجز استعمال هذا المعنى بحيلة، وإن احتمله، وكان اتباع ما
يدل
على منع قتل الأولاد جميعا، من خشي الإملاق منهم ومن لم يخش،
من قوله على إثر الكلام: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)
أولى لدخول الأولاد جميعا مع الأجنبيين تحته، وإنما كانت
الجاهلية تقتل أولادها خشية كثرة العيلة، ودخول الفقر عليهم
إذا كثروا، فأنزل الله تبارك وتعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا
أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ
وَإِيَّاكُمْ)
وما لا يجوز استعماله بتة:
* * *
قوله: (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى
الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى
وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
(1/394)
وفي غير موضع مثله (لَعَلَّهُمْ
يَهْتَدُونَ) أو، (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)
"ولعل " كلمة شك وتمن، فلم يجز أن تحمل على ظاهرها فينسب الشك
والتمني إلى الله، ويوصف بما ليس من نعوته، وكيف يتمنى إيمان
قوم ب " لعل " وهو - جل جلاله - عالم بأنهم لا يؤمنون إلا
بمشيئته، وقد أنزل في كتابه فقال: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا
إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا
لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)
وأخبر عن قوم يتمنون الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا ويصدقوا فقال:
(وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ (28)
فهذه الأشياء وما يضاهيها على سعة اللسان تقول العرب: فعلنا
بفلان كذا لعله يفعل كذا.
وهذا أيضا حجة عليهم فيما ينفون عنه من صفات تكون عندهم
للمخلوقين، وقد أخبر عن نفسه - جل وتعالى - ب " لعل ما كما
ترى، فلم تؤثر في ربوبيته ومباينة خلقه. فكيف يجوز مع هذه
الأشياء أن يتعلق بظاهر قوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا
لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا)
(1/395)
ويتأول النكير عليهم على خلاف ما قلنا،
وأول الكلام وآخره ينقضه،
أم كيف يعد متعارضا وقد دللنا على أن مشيئته فوق مشيئة خلقه،
لا يجوز أن يكون تبعاً لمشيئتهم. أفتراه - ويحهم - نسخ ما
القرآن مملوء به
وبذكره من مشيئته وسلطانها على مشيئة عباده، وإضلال من أضل
منهم
بعدله، وإنعامه على من أنعم بفضله بما نسب إليهم من مشيئتهم
وضلالهم في بعض المواضع، وبما دل عليه ظاهر (سيقول) فأبطل
إلاهيته الأزلية، وسلطانه النافذ قبل خلق الخلق وبعده، وجعل
مشيئتهم التي هو خلقها فيهم مستعلية عليهم ومتقدمة بين يديه
وقاهرة لإرادته.
إن الكفر في هذا لأوضح من أن يتوصل إليه بهذا التدقيق
والإغراق.
نعوذ بالله منه.
حجة عليهم:
قوله: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ
نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ
كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا
مُنْتَظِرُونَ (158)
حجة عليهم في
(1/396)
باب العدل الذي يحملونه على عقولهم، إذ قد
أخبر - جل وتعالى - عن وقت يأتي فيه بعض آياته لا يقبل إيمان
من آمن فيه من الكفار، ولا اكتساب من اكتسب خيرا من الموحدين،
وهذه الآية عندنا طلوع الشمس من مغربها فإن آمنوا به فذاك،
وإلا فليعدوها أي آية شاءوا ليس هذا وقت موقت قبل الموت لا
يقبل ذلك فيه
أفمن العدل عندهم أن يقبل إيمان كافر في وقت لا يقبل اكتساب
مؤمن ولا إيمان كافر في غيره، أم يقروا بأنه عدل وإن لم يعرفوا
وجهه،
فنقول: وكذلك من قضى عليه المعصية، ثم عذبه عليها، عدل عليه،
وإن لم نعرف وجهه. ولا أراهم - بحمد الله ونعمته - يريدون
الاحتجاج بشيء إلا عاد عليهم في باب العدل، وخرج بهم إلى
الكفر.
فإن قالوا: هذه الآية الموت نفسه لا أجل قبله.
قيل لهم: أفهم الموت بعد وقوعه أو اقتراب حينه عند آخر أنفاس
الحال به،
فإن قالوا: بعد وقوعه.
(1/397)
قيل لهم: فكيف يؤمن ميت أو يكسب خيرا حتى
يقبل منه أولا
يقبل،
وإن قالوا: هو اقتراب حينه. أعيد عليهم الكلام في باب العدل،
إذ إلغاء الإيمان واكتساب الخير في أي وقت ألغيا، قبل الموت
قربت مدته منه، أو بعدت - إلغاء، والعادل إذا ألغى خيرا ولم
يقبله من فاعل كان ضد العدل في عقول الخلق ومن ينفي القدر
تنزيها لله عن الجور.
فإن احتجوا بقوله: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ
لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ
مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ
اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ
لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا
الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا
لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
أصابوا في التلاوة ونقضوا أصولهم في المقالة؛ إذ مدارهم كان في
نفي القدر وخلق الأعمال على قياد العدل الذي يعقلونه بعقولهم،
فإذا خرجت مقاليد الحالة من أيديهم، وانفتحت لنا عليهم، لم يبق
لهم علينا إلا إتمام كسر قولهم في الوعيد، وإن كنا قد علمناه
في الفصل من
(1/398)
سورة النساء في قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ
لِمَنْ يَشَاءُ)
ونتمه بعون الله على نسق الآيات في السور إذا انتهينا إليها،
غير أنا نسألهم عند تلاوة هذه الآية - إذ هي دعامة مقالتهم في
باب الوعيد، وإن كانوا قد كسروا بها باب العدل - سؤالاً فنقول
لهم: أخبرونا عمن تاب من ذنوبه عند نزول الموت قبل انقطاع آخر
أنفاسه، ومن مات على تمرده من غير ندم ولا توبة في الوعيد
والخلود في النار سواء،.
فإن قالوا: نعم. لزمهم في باب العدل ما يلزمهم. وإن كانوا قد
علموه جملة واحدة ويقال لهم: أسلمتم لهذه الآية في منع التوبة
وإبطالها عمن حضره الموت تسليما، أم تصححونه بعقولكم ولكم عليه
شواهد من غيرها من حيث لا ينكسر قولكم في العدل وإن كان قد
انكسر باحتجاجكم بهذه الآية.
فإن قالوا: لم ينكسر. كابروا في الجواب، وجاروا في الخطاب.
وإن قالوا: بل نصححه بعقولنا.
قيل، فما وجه تصحيح من عصى الله مائة عام ثم تاب قبل موته بيوم
(1/399)
وهو صحيح نشيط لم ينزل به دليل موت ولا
أتاه رائده، فقبلت توبته، وأطاعه آخر مائة عام إلا يوما قبل
موته، أخطأ فيه خطية واحدة، فتاب منها آخر نهار يومه، وقد نزل
به الموت ولاح رائده، فلم يقبل توبته وخلد في النار بخطيئته،
أكانت تلك الخطيئة الواحدة أثقل في ميزانه من ذنوب مائة عام
إلا يوما واحدا تاب فيه منها وهو صحيح،.
أم رجاء الصحيح في البقاء وخوف العليل من الموت، فرق بين
حاليهما، وكلاهما منقطع الحياة في علم الله إلا يوما واحدا،
تاب فيه واحد في أول نهاره من ذنوب مائة عام إلا يوما واحدا،
وآخر في آخره من ذنب واحد فأرى التوبة إذا يبطلها المرض
وتصححها الصحة. فإن قالوا: ولا من هذا الصحيح التائب في أول
نهاره يقبل، لانقطاع عمره في علم الله - خالفوا الأمة كافة،
وانفردوا بقول لم يسبقهم إليه سابق مبتدع ولا متبع، فيقال لهم:
على ذلك، فكم المدة التي تكون بين التائب وبين الموت تقبل فيها
توبته،
فأي مدة وقتوها طولبوا بإقامة البرهان عليها من كتاب الله ولن
يجدوا إلى ذلك سبيلاً
قال محمد بن علي: فلما رأينا الله تبارك وتعالى يدعو إلى
التوبة دعوة
(1/400)
واحدة، ويعد القبول ممن تابه بقوله:
(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ)
بلا وقت مؤقت ولا أجل مضروب سوى الآية الآتية - التي ابتدأنا
الفصل بها، ثم قال في هذا الموضع: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ
لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ)
علمنا أنها لا محالة خاصة نازلة في قوم بأعيانهم، كما قال في
فرعون: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) ، إذ لا سبيل إلى
تحديد حد في القريب الذي ذكر فيه قبول التوبة حيث يقول (يتوبون
من قريب) لأن أمل الحياة قائم في الإنسان ما بقي فيه نفس واحد،
وإذا كان لنا أن ننظر في هذا القرآن ونتكلم في وجوهه فرسول
الله - صلى الله عليه وسلم - المنزل عليه أحق أن يتكلم فيه بما
أراه الله، مع ما أيده به من الوحي وأخبر أنه لا ينطق عن
الهوى، وقد صح عنه أنه قال: " إن الله ليقبل توبة عبده ما لم
يقع الحجاب ". قيل: وما وقوع الحجاب، قال: " أن تموت النفس وهي
مشركة " و " إن الله يقبل توبة العبد ما لم
(1/401)
يغرغر "
فيقول: كل تائب مقبول توبته في أي وقت أحدثها من عمره، عليلا
كان أو صحيحا، عند الموت أو قبله، إلا من أدركه طلوع الشمس من
مغربها، وهو غير تائب، فإن توبته حينئذ لا تقبل منه إذا تاب،
وتكون الآية مصروفة إلى قوم بأعيانهم لا تدخل معهم غيرهم، وكذا
قال أبو العالية إن الآية لأهل النفاق، وأحسبه أراد منهم من
كان على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويكون حجبها عن
أولئك من العدل الذي لا نعقله كما لا نعقل عدله في القضاء
والقدر وما ذكرنا معه فيما مضى من كلامنا في
(1/402)
فصول الآيات وبسطها لغيرهم من الفضل عليهم،
فهذا وجه الآية التي هي دعامة مقالتهم في باب التوبة.
ثم نرجع إلى فصل الاحتجاج عليهم بإتيان الآية التي لا ينفع
بعدها الإيمان واكتساب الخير.
وإن قالوا: الآية هي حضور القيامة، قالوا محالاً إذ الإيمان في
القيامة لا وصول إليه ولا إلى اكتساب الخير، ألا ترى أنهم لما
تمنوا أن يكونوا مؤمنة تمنوا معه الرد إلى الدنيا، ليؤمنوا بما
كفروا ويصدقوا بما كذبوا فيها: (فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا
نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (27) ،
وقد أخبر الله عن إيمان من يؤمن في الدنيا ويكتسب الخير فلا
ينفعه هذا ولا هذا بعد إتيان الآية، وكذا قال رسول الله، صلى
الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها،
فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين (لَا يَنْفَعُ
نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ
كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) .
(1/403)
ولنا عليهم في قبول التوبة عند الموت حجة
أخرى واضحة وهي إجماع الناس كافة على أن من أسلم من الكفار عند
الموت حرم ميراثه كفار ولده وورثه مسلمون ورثته وصلي عليه ودفن
في مقابر المسلمين، والتوبة من الكفر أجل توبة، والكفر أعظم
خطرا من الذنب، فمحال أن يقبل من أحدهما دون الآخر.
فإن شبه على أحد بأن التوبة لا تقع إلا من الذنوب، وأن تارك
الكفر لا يسمى تائبا كذبه القرآن. قال الله تبارك وتعالى:
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ
ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ
لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ
إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(74)
فسمى تركهم لذلك القول واستغفارهم منه توبة.
وقال أيضا: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا
آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ
إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ
تَابَ) ، فجعل التوبة من الكفر والزنا توبة واحدة وسماها باسم
واحد، فغير جائز أن يترك آيات التوبة كلها في الكفار والموحدين
بلا وقت مؤقت لآية تحتمل الخصوص.
(1/404)
وقد يجوز أن يكون شي المنافقين من نافق في
إظهار القول بالتوبة عند الموت ليحظى بها عند الناس، فيذكر
بالجميل إذا مات، وقلبه معتقد على خلاف ما أظهر، فنزلت الآية
فيه، وفي أشباهه.
وأما مناقضتهم في خلود من مات من الموحدين بلا توبة مع الكفار
في النار فقد حواه كتابنا المجرد فيه، فكرهنا إعادته في هذا
الفصل لطوله، إلا ما ذكرنا، ونذكر مع الآيات في مواضعها إن شاء
الله تعالى.
(1/405)
|