النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام سورة الأعراف
في التقليد:
* * *
قوله: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا
تَذَكَّرُونَ (3)
حجة بينة في نفي التقليد؛ لأن الهاء في (دونه) لا تخلو: إما أن
تكون راجعة على الرب أو على التنزيل، وقد نهى عن اتباع غيره
كما ترى.
(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا
لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ)
نظير ما مضى في سورة البقرة من قوله: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ
الْبَحْرَ)
أي خلقنا من أنتم ذريته، وصورنا من صورناكم على صورته، وهو
آدم، والله أعلم.
قوله إخبارا عن إبليس: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي
لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) .
حجة على المعتزلة والقدرية، لأن الله - تبارك وتعالى - لم يرد
عليه ذلك وإنما أخبره بعقوبته وعقوبة من اتبعه وليس يخلو من أن
يكون خلقه وهو يعلم ما يحدث ويقول أو لا يعلم.
(1/407)
فإن كان علم - وقد علم لا محالة - فقد خلقه
لذلك، ولابد من القول بهذا، لأن النافي عنه علمه به كافر لا شك
فيه.
ستر العورة ومعنى الوصية:
* * *
وقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ
لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ)
حجة في ستر العورات، وفيه من الفقه أن من أوصى بثلثه لبني فلان
اشترك فيه الذكر والأنثى من ولده لدخولهن مع البنين في
الاستتار.
ولم يقل: يا بني آدم وبناته، لأن الذكور يغلبون الإناث في
الاسم فاقتصر عليهم - وهو أعلم - في الذكر دونهن.
وإن كانت الوصية لذكور بني فلان لم يدخل الإناث معهم. ومثله:
(يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا
أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ)
قد دخل فيهم بناته
* * *
وقوله: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) مثله، وفي قوله:
(وَقَبِيلُهُ) وهو دليل على أن الاسم الواحد واقع على معاني
شتي، إذ القبيل في هذا الموضع - والله أعلم - أشياعه وأعوانه.
(1/408)
وقال في موضع آخر: (أَوْ تُسْقِطَ
السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ
بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)
أي عيانا إن شاء الله.
القدرية:
* * *
وقوله: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا
عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ
اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ)
آية يغالط بها القدرية والمعتزلة - العامة منا، وأين القضاء من
الأمر، ومن الذي قال: إن الله أمر بالزنا والسرقة، وشرب الخمر،
كما أمر بالصلاة والصوم حتى يحتجوا علينا
بقوله: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) .
ونحن مقرون أن الله لا يأمر بالمعاصي، بل ينهى عنها ويوعد
عليها العقوبة.
ولئن كان هؤلاء القوم لا يفرقون بين الأمر والقضاء على الحقيقة
ولا يريدون بهذه الآية المغالطة والتلبيس على العامة، إن
المصيبة في جنونهم لأعظم من أن يشتغل بمناقضتهم فيما يدق من
بدعتهم.
(1/409)
القضاء حكم مغيب عن العباد مقرون بسابق
علمه فيهم لا يستطيعون الخروج منه إلى خلاف ما علمه منهم.
والأمر إفصاح ونطق وتسمية الشيء الذي يؤمرون به، إذ محال أن
يقدر العبد على معرفة فعل يأمره مولاه به، فيهتدي إليه قبل
يأمره، وللسيد فيه علوم وإرادات لا يقدر العبد على معرفتها قبل
الإفصاح له بها فهل قال أحد منا: إن الله قال لعبيده: ازنوا أو
أقيموا الزنا، أو حافظوا على الزنا، كما قال: (وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) ، وكما قال، (حَافِظُوا عَلَى
الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) بل قال: (وَلَا
تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا
(32) .
إن هذا منهم لإفراط في الجهل والجنون إن كان حقيقة، وصفاقة وجه
إن كان مغالطة.
* * *
وقوله: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى
وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) حجة عليهم إذ
المهتدي بدأ مهتديا والضال حق عليه ما
(1/410)
خلق له من الضلالة.
ألا تراه يقول في موضع آخر: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ
نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ (13) ،
فالحق لا محالة منه يحق أليس بينا في سياق الكلام أن القول منه
جل وعلا حق قبل فعل الجن والإنس أفعالا استوجبوا بها دخول
النار، فلذلك لم تؤت كل نفس هداها.
وهل يقدر من حق عليه الضلالة أن يبطلها عن نفسه، أو من هدي أن
يضل،.
فإن احتجوا بقوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ
فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) .
قيل لهم: ويحكم ما تفرون أبدا من شيء إلا وقعتم فيما هو أعظم
منه. هل تخلو هدايته ثمود من أن تكون هداية بيان، أو هداية حكم
وإيجاب إرادة، فإن كانت هداية بيان، فلا حجة فيها علينا. وإن
كانت هداية حكم وإيجاب إرادة، فكيف غلبوا إرادته في إيجاب
الهداية، وقهروا حكمه النافذ في كل شيء، فعقروا ناقته وعتوا عن
أمره وكفروا بنبيه صالح - صلى الله عليه وسلم -،.
(1/411)
أما تعلموا أن البيان والدعوة عامان
والهداية خاصة، قال الله تبارك وتعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُو
إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (25) ، فجعل الدعوة عامة والهداية خاصة.
في تذكير فعل المؤنث:
* * *
قوله: (حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ)
من جهة اللغة حجة في تذكير فعل المؤنث وإن كان واحدا للاستغناء
بالهاء الدالة على الفرق بينه وبين المذكر ومثله: (لَوْلَا
أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) و (فَمَنْ جَاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ، ومثله كثير في القرآن وهذا إذا كان
الفعل مقدما، فأما إذا تأخر لم يجز إلا تأنيثه، ولو أنث وهو
مقدم على التأكيد لكان حسنا قال الله تعالى: (وَتَمَّتْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا
صَبَرُوا)
و (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) ومثله كثير.
التستر فى الصلاة:
* * *
وقوله: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ
مَسْجِدٍ)
حجة في
(1/412)
الاستتار في الصلاة وقد تقدمت الحجة في
الاستتار في غير صلاة بقوله: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ
أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ) .
تحريم الخمر:
* * *
قوله: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ)
حجة في تحريم الخمر الذي يطالب العامة فيه بلفظ التحريم، ولا
يعلمون، أن الحظر والمنع والتحريم بمعنى واحد؛ إذ فعل شيء قد
نهى الله عنه وأمر باجتنابه وأخبر أنه من عمل الشيطان وأكده
بقوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) ، لا محالة إثم،
وصاحبه آثم، وهو في عداد ما يلحق الإثم بشاربه، وقد نسقه جل
وعلا بالواو على الفواحش بلفظ التحريم.
في تحريم التقليد:
قوله في تمام هذه الآية: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا
لَا تَعْلَمُونَ (169)
حجة في تحريم التقليد؛ إذ لا يجوز لبشر يحرم شيئا أو يحلله
مبتدئا به، ولا يجوز أن يكون إلا تبعاً لله فيهما ناسبا إليه
ما يفعله منهما.
(1/413)
فمن دان الله من المميزين بشيء لا يستطيع
أن يتلو فيه قرآنا ولا يروي
فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبرا صحيحا ولا اجتمع
له عليه أهل ملته، إذ كلاهما مع القرآن مقبول بالقرآن لم يسلم
من هنا الآية. قال الله وجل من قائل: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا
تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا
حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)
وليس في هذا عند من أنصف واتقى الله برؤية وتمييز وقيعة في
متقدم سلف ولا عالم خلف فنحن نعلم بل نشهد أن واحدا منهما لا
يفتر على الله كذبا، ولكنه سالك في كل ما أحل وحرم إما سبيل نص
أو تأويل.
فما سلك فيه نصا لا يتعذر على المميز الوصول إليه، وما سلك به
تأويله فهو مصيب عند نفسه، محمود على صوابه، معذور بخطائه عند
ربه غير قادر على أكثر مما فعله واجتهد في طلبه، فعلى المميز
أن يشهد بفضله ويعرف قدمته وسابقته ولا يعول على نظره في
اجتهاده كما عول في اتباع النص الذي يستوي كل في إصابته، وكل
آمن من خطأ يلحقه فيه.
والمجتهد نفسه السابق إنما ما حكم فيه باجتهاده لا يقدر أن
يشهد على
الله بما أداه إليه اجتهاده فكيف يقلد "
ولو كان الحاكم باجتهاده يصيب حقيقة الحق لما أمر رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -
(1/414)
من حكم له بلحن حجته أن يدع أخذ ما حكم له
به على خصمه، ولكان لا يتواعده عليه النار لأن حكمه - صلى الله
عليه وسلم -، وإن كان حقا في نفسه، فهو على ما أوجب ظاهر ألفاظ
الخصوم لا على ما استسروه من خداع بعضهم لبعض. فإذا كان الحكم،
من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، على هذه الحال لا يحلل
شيئا ولا يحرمه إلا على ظاهر الحكم حتى يطلعه الله على
السرائر، فمن بعده من الحكام والمفتين أولى أن لا يحل ويحرم
بقولهم شيئا، وإن ما كانوا فاضلين حتى يتبين للناظر موضع
الحجة، فيقول عليها، لا على القول، فإذا اجتهد بنفسه وهو مميز،
فأصاب أو أخطأ، لم يكن عليه عتب ولا كان قائلا على الله ما لا
يعلم،
(1/415)
والمقلد غير مجتهد فيكون معذورا بتحمل خطأ
غيره إلا أن يكون غير مميز فلا بد للأعمى من اتباع البصير.
فإن كان ممن يضبط السماع ويعرف مراتب الرجال ولا يميز نفس
المحكوم فيه قلد الأقرب فالأقرب من العلماء من رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ولم يقلد أهل زمانه إذ هم على مقدار ما يشهد
له نظره أجدر بالإصابة وآمن ممن بعدهم.
وإن كان لا يعرف مراتب الرجال، ولم يضبط السماع قلد آمن أهل
زمانه وأشهدهم وأشهرهم وأرفعهم ذكرا بالعلم والإشارة إليه في
بلده وغير بلده مشافهة، أو قابلاً من آمن أمثاله عنده إذا عجز
عن الوصول إلى مشافهته، ولم يسعه قبول الفتوى من كل من أسرع
إليها ولا ممن عرفه بالصلاح إذا لم يكن له شهرة في العلم
مقصودا إليه فيه، ولن يعدم مثل هذا في كل عصر إن شاء الله.
* * *
قوله: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ
كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ
نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ)
حجة على القدرية والمعتزلة، لأنه جل وتعالى نسب الافتراء
والكذب إليهم وسماهم بذلك ظالمين، ثم أخبر عما ينالهم من
نصيبهم من الكتاب وليس يخلو هذا النصيب المضاف إليهم من أن
يكون نفس ما أتوه أو عقوبته وأيهما كان فهو قبل العمل والعمل
جار عليه لا محيص لفاعله.
(1/416)
قوله: (يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ
الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا
يَتَوَفَّوْنَهُمْ)
حجة عليهم فيما يزعمون أن كل فعل مضاف إلى فاعله فهو منفرد به
غير محمول عليه ولا معان فيه.
أفيجوز أن نقول: إن رسل الله - جل وعلا - منفردون وتوفي الناس
غير فاعله بقوة الله وإرادته، كما يزعمون أن الله لما أضاف
الافتراء والتكذيب والضلال وأفعال الشر إلى من أضاف كان منفردا
بفعله من غير أن يكون مكتوبا عليه ولا مرادا به. أولا يعتبرون
أن الفعل وإن أضيف إلى فاعل فغير محيل أن يكون مرادا به محمولا
عليه، وأن اللغة المجيزة أن يضاف إلى من ليس بفاعل أصلا فعل
كإضافة التوفي إلى الرسل، وخلق الطير من الطين إلى عيسى - صلى
الله عليه وسلم - وليس لواحد منهما صنع فيما أضيف إليه مجيزة
أن يضاف إلى فاعل المعصية فعله، ولا يحيل أن يكون مكتوبة عليه،
لأن عجز عاجز عن معرفة عقوبة من هذا سبيله في معصيته من حيث لا
يثلم في عدل - من لزومهم ظاهر لفظ إضافة الأفعال إلى العباد
وتركهم لفظ إضافة المشيئة إلى الله، أو من رجوعهم إليه في باب
الوعيد وتركهم إياه في باب الصفات وفزعهم إلى المعقول في باب
العدل في القدر وحده
(1/417)
غير جاهلين مخالفة القرآن مع قيادة العقول
ومساهلتهم أنفسهم في إخوانه من خول العبيد ومرض الصغار
وأشباههما، وترك قيادة العقول فيها.
إن هذا إلى التفكه بالبطالة أقرب منه إلى إقامة التوحيد كفعل
العبيد.
ومثل قوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا
يَتَوَفَّوْنَهُمْ) في غير موضع من القرآن قال الله وجله من
قائل: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا
الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) .
وقال: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ
رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ، وقال: (قُلْ
يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ
إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
وهو المتوفي لهم لا محالة قال الله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ
الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ
اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) .
* * *
قوله: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا)
حجة في أن العرب تسمي
(1/418)
بالاسم الواحد المعاني الكثيرة كما تسمي
الشيء الواحد بأسماء شتى.
وفيه حجة على المعتزلة والجهمية فيما يزعمون: أن الله لما وصف
باليدين استحال أن يكونا صفتين، لأن ذلك لا يكون إلا مخلوقا
عندهم أفيزعمون أن الأخت من النسب لا تسمى بالأخت من أجل أن
هذا الاسم يسمى به غيرها، وقد سماها الله جل وعلا به فقال:
(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ
إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا
نِصْفُ مَا تَرَكَ) .
والعرب تقول للرجل تظهر منه الخصلة من الخير أو الشر: إن لهذه
أخوات، وتقول: فلان أخو صبر وأخو ورع، ثم تسمى به الأخ من
النسب فيجتمع كل ذلك في الاسم ويختلف في المعنى، فيما ينكر أن
يكون لله - جل وعلا - يدان مبسوطتان وسمع وبصر فينفق بهما ولا
يكون ذلك تشبيها بالبشر، إذ كل ذلك من البشر مخلوق فان، ومنه
جل وعلا باق غير مخلوق، إن هذا منهم لأضيق رواية، أو أظهر
مكابرة، وليت شعري حيث ذهبوا باليد إلى القوة والنعمة فرارا من
التشبيه بالمخلوقين هل يسلموا مما فروا منه، أو للمخلوقين قوة
ونعمة، فإذا هم لم يخلصوا على أكثر من أن أجازوا تطبيقا وردوا
(1/419)
غيره، وكلاهما الجائز عندهم والمردود - من
صفات الخلق، وهذه غفلة متجاوزة أو عناد قبيح.
وكما قالوا في ضحك الله تبارك وتعالى: لمعانُ نوره لا الضحك
الذي يشاركه فيه المخلوقين.
وقالوا: هو كقول العرب: ضحك المزن، إذا بدأ فيه لمعان البرق،
وضحكت الكرسفة وهل ضحك الكرسفة، والمزن غير مخلوقين حيث حملوا
ضحكه على ضحكهما، أو لا يرون أن للشمس والقمر والكواكب نوراً
ولمعاناً وهي مخلوقة كلها، أفيجوز نفي النور عنه تبارك وتعالى،
وهو يقول: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
لأن شاركه فيه ما ذكرناه.
وهلا أنكروا الضحك بواحده؛ إذ الضحك غير ذلك كله أيضا.
قال الله تبارك وتعالى: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ)
.
(1/420)
وما الذي جعل الوفاق الواقع من ولد آدم له
من صفاته هو المنكر، والوفاق في كل هذه الأشياء محتملا جائزا
عندهم، هل في ذلك إلا مضاهاة القرآن بالحدث إذ قد نطق بالسمع
والبصر واليد والحب والغضب والمكر والسخط وأشباه ذلك.
وهلا نفوا الكيد والقوة وأشباهها عنه؛ إذ لولد آدم أيضا كيد
وقوة،
وقد نطق القرآن بهما، قال الله تبارك وتعالى: (فَأَمَّا عَادٌ
فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا
مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ
الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً)
وقال: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)
وقال: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا
(16) ،
وقال في النساء: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
(1/421)
وفي الشيطان: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ
كَانَ ضَعِيفًا (76)
مع ما يطول الكتاب من مثل هذا.
فما بال بعض هذه الأشياء يكون تشبيها وبعضها غير تشبيه، وفاق
بالاسم وليس المفرق بينهما أكثر من أن ما فيه جل وعز غير
مخلوق، وما في الآدميين وسائر الخلق مخلوق.
جملة وخصوص واختصار ومعاني الإضلال:
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ
السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ
الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)
جملة وخصوص واختصار؛ إذ هو لا محالة من مات منهم على ذلك، إذ
من تركه وتاب خارج منه بما ذكر من آيات التوبة والمغفرة.
(1/422)
وفيه دليل: على أن المشيئة المضافة إلى
العباد مفسرة بمشيئته المضافة
إليه بإضلاله إياهم؛ إذ لا يجوز كما وصفنا في غير موضع أن تكون
مشيئته تبعاً لمشيئتهم، ولا ضلالهم سابقا لإضلاله إياهم.
وكذا ذكر المكذبين بآيات الله المستكبرين عنها في هذه الآية
جملة لا ينسخ آيات التوبة والمغفرة ولا تكون آيات التوبة مجملة
وهذه مفسرة.
وفي قوله: (لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ)
دليل على أنها تفتح للمؤمنين، ويدخل الجنة من صدق بآياته وخضع
لها. هذا واضح غير مشكل لمن ميزه وانقاد للحق.
معاني المهاد:
* * *
قوله: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ
غَوَاشٍ)
دليل على أن الشيء وإن كان موضوعا لمعنى فجائز أن يسمى به ضده؛
لأن المهاد اسم موضوع للراحة والوطء قال الله تبارك وتعالى:
(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)
فجعله في عداد النعم، وقال: (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ
وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) أي
يوطئون، والله أعلم.
(1/423)
ومنه سمي الفراش مهادا؛ لأنه يوطأ ويريح،
قال الله تبارك وتعالى: (وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ
الْمَاهِدُونَ (48) وقد سمى في هذا الموضع النار تحت الكافرين
مهادا، لأنها وإن لم توطأ لهم ولم ترح أجسادهم فهي مبسوطة
تحتهم.
ومثله البشارة اسم موضوع للسرور والفرح قال الله تبارك وتعالى:
(فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ
اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)
ثم نقلها جل وعلا إلى الغم والحزن فقال: (بَشِّرِ
الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) .
* * *
قوله: (وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا
بِسِيمَاهُمْ)
إلى قوله: (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا
يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا
خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
حجة على المعتزلة في باب الوعيد؛ إذ أصحاب الأعراف لا محالة
محبوسون عن الجنة بذنوب لم يتوبوا منها؛ إذ لو
(1/424)
كانوا ماتوا تائبين منها ما حبسوا على
الأعراف، ولأدخلوا الجنة مع الداخلين من فور فراغهم من الحساب،
وقد أخبر الله - جل وعلا - أنه يدخلهم الجنة بعد ما حبسهم عنها
مدة كما ترى.
فإن قالوا: ليس هؤلاء المعتقرين أصحاب الأعراف، كان أوفد للحجة
عليه، إذ هم لا محالة، وإن أخطئوا أصحاب الأعراف - من أصحاب
النار.
* * *
قوله: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى
الْعَرْشِ)
(1/425)
حجة على الجهمية؛ لأن الاستواء في هذا
الموضع هو الاستقرار، فقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)
أي استقر عليه، فهو بما استقل العرش منه جل جلاله له حد عند
نفسه لا بحد يدركه
(1/426)
خلقه والمحيط بالأشياء علمه سبحانه.
وقولهم: الاستواء: الاستيلاء من غير جهة خطأ.
فأولها: المكابرة في اللغة، تقول العرب: استوى فلان على الفرس
أي استقر عليه، قال الله تعالى: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي
مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ
الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا
لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
أي: استقرت السفينة عليه.
أفيجوز أن يقال: استولت السفينة على الجبل، وإذا كان الرجل في
شيء، ثم تركه وعمد لغيره يقال: استوى إلى كذا، قال الله تبارك
(1/427)
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)
ويقال: استوى الميزان والحساب إذا اعتدلا، واستوى الراكع وغيره
إذا اعتدل بعد الانحناء.
فهذه وما شاكلها مواضع الاستواء لا نعرف في شيء من شواذ اللغات
ولا مشهورها أحدا عد الاستواء استيلاء، إذ الاستيلاء: هو
الغلبة والقهر والتملك.
فهل كان العرش ممتنعا عليه خارجا من يديه حتى استولى عليه،
والثانية: أن الاستيلاء إذا كان اسما واقعا على الغلبة والقهر،
فلا يجوز أن يكون في الله حادثاً، لأنه جل وتعالى قاهر غالب في
الأول، والاستواء يجوز أن يحدثه بعد خلق العرش، فقوله:
(1/428)
(ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)
بين أن الاستواء بعد خلق السموات والأرض.
والثالثة: مكابرة العقول ومقابلة الأمة عالمهم وجاهلهم بالخلاف
فيما ليس فيه لبس ولا إشكال.
* * *
قوله: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)
حجة على الجهمية فيما فرق جل وعلا بين الخلق والأمر ولم يجز أن
يقع على القرآن الذي هو أمر خلقا وهو بين.
دعاء:
* * *
وقوله: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)
دليل على أن الجهر الشديد في الدعاء عدوان، ألا تراه يقول:
(إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) ...
* * *
قوله: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ
يَدَيْ رَحْمَتِهِ)
دليل على أن الشيء يوضع موضع غيره ويسمى باسمه، إذ الرحمة في
هذا الموضع لا محالة خلاف الرحمة في قوله: (إِنَّ رَحْمَتَ
اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
(1/429)
قوله: (حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا
ثِقَالًا سُقْنَاهُ)
أي: أقلت الرياح - والله أعلم - سحابا والسحاب جمع لقوله
(ثِقَالًا) ، و (سُقْنَاهُ) مردود - والله أعلم - على لفظ
السحاب أو على إضمار المطر.
* * *
قوله: (لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أي إلى بلد ميت، وهو أعلم.
في ضرب الأمثال:
* * *
قوله: (كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
(57)
حجة في ضرب الأمثال وتقريب المعاني بها إلى الأفهام.
(1/430)
قياس:
ولقد بلغني أن قوما يجعلون هذا وأشباهه في القرآن حجة في تثبيت
القياس وهذا جهل غير مشكل، إذ القياس عندهم تحريم شيء وتحليله
من أجل غيره، وليس إخراج الله جل جلاله الموتى من إخراج
الثمرات بالماء، ولكنه تعريف الخليقة بأن القادر على إخراج
الثمرات قادر على إخراج الموتي.
فإن كان القياس يزعم أن محرم شيء بعينه قادر على تحريم شبهه أو
للمبتدي بتحريم شيء أن يحرم شيئين فقياسه صحيح.
وإن أراد أن للمأمور أن يتقدم بالآمر في تحريم شيء فيحرم ما
يشبهه عنده، فالاحتجاج بهذه الآية وأشباهها لا وجه له، بل أخاف
أن يكون الحكم على الله بأنه حرم ما حرمه من أجل علة فيه
افتراء عليه، وقولا بما لا علم لقائله به، مع أنا لو علمناه
أيضا أنه حرم ما حرمه من أجل علة فيه لكان علمه بالعلة علم
يقين، وعلمنا بعلة الشبه عندنا علم شك وكان والمجوز لنا أن
نحمل غيره عليه، ولو كانت العلة بنفسها محرمة حرم الأصل
المحمول عليه الفرع قبل أن يحرمه الله، وهذا لايقوله بشر وقد
مضى
(1/431)
قولنا في: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
في سورة الأنعام بما يغني عن إعادته في هذا الموضع.
الإذن:
* * *
قوله: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ
رَبِّهِ)
حجة على القدرية والمعتزلة فيما يجعلون الإذن من الله بمعنى
العلم.
أفيجوز أن يقول خرج نبات البلد الطيب بعلمه لا بإطلاقه،
وكيف يجوز ذلك وقد قال جل وعلا: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ
كُلِّ الثَّمَرَاتِ) ،
ألا ترى أنه جل ثناؤه أخبر عن إخراجه في أول الكلام، وعن خروجه
في آخره، فلم يكن ذلك مؤثرا في الأول، فبما ينكرون أن تكون
الأفعال منسوبة إلى فاعلها، وإن كان القضاء قد سبقها عليه بها.
قوله تعالى إخبارا عن هود عليه السلام: (قَالَ قَدْ وَقَعَ
عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي
فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا
نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ)
(1/432)
حجة على القايسين والمقلدين.
وفي قوله إخبارا عن صالح عليه السلام: (وَاذْكُرُوا إِذْ
جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي
الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا) .
دليل عاما أن بناء القصور ليس بمنكر وأن البناء الطايل غير
مؤثر في نسك الناسكين، إذ محال أن يذكرهم آلاء الله في شيء
بنيانه معصية وقد قال: (فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا
تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
ولو كان بناء القصور منكرا لكان داخلا في الفساد لا في الآلاء.
وفي قوله إخبارا عن قوله شعيب عليه السلام: (قَالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا
شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ
لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ
(88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا
فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا
يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا)
حجة على المعتزلة والقدرية: ألا تراه - صلى الله عليه وسلم -
(1/433)
كيف أعد الرجوع في ملتهم افتراء على الله،
وأخبر قومه أن لا يفعل إلا أن يشاء الله فاستثنى بمشيئة الله
التي لا محيد له ولا لقومه عنها.
ومن كان منجَّا من ملتهم ممنونا عليه به جدير بأن يتبرأ من
الحول والقوة في القيام على شيء لا تصحبه مشيئة الله فيه.
في الطاعة:
* * *
قوله: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا
لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
(96)
دليل على استنزال الرزق بالطاعة وحرمانه بالمعصية وهو يصدق
الحديث المروي في " إن العبد ليحرم الرزق بذنب يصيبه) .
* * *
قوله: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ
اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
حجة على الجهمية في ذكر المكر، وكذا قال في سورة
(1/434)
النمل: (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا
مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) .
* * *
قوله: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ
بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ
بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا
يَسْمَعُونَ (100)
وقوله بعده: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ
الْكَافِرِينَ (101)
حجة على المعتزلة والقدرية أيضا.
* * *
قوله: (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)
دليل على سعة اللسان، إذ المضافون إليهم من الرسل هم المضافون
إلى الله جل جلاله. ألا تراه يقول: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا
رُسُلَنَا تَتْرَا) ، فكانوا رسله بما أرسلهم، ورسلهم بما أرسل
إليهم. ومثله عبيد الناس وإماؤهم مضافون إليهم، وهم عبيد الله
وإماؤه، قال الله تبارك وتعالى، (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى
مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ)
فأضافهم إليهم كما ترى، وكل هذا ينبي عن سعة اللسان الذي يضيقه
أهل البدع من المعتزلة وغيرهم. وكذلك قوله: (فَانْظُرْ كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) ولم يقل: فاسمع، ولا
فاعلم، وقال: (وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا
يَسْمَعُونَ (100)
(1/435)
ولم يقل: لا يفقهون، أو يقول: ونوقر آذانهم
فهم لايسمعوا، فكل هذا دليل على سعة اللسان.
فكيف يستقيم لمبتدع أن يتعلق ببعض هذا اللسان دون سائره،
فيزعمون أن الله تبارك وتعالى لما نسب الفعل إلى فاعل لم يجز
أن يكون مفعولا به، أو محمولا عليه بقضاء سابق أوقدر موافق.
وكذلك قوله إخبارا عن الملأ: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ
(109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا
تَأْمُرُونَ (110)
والعليم اسم من أسماء الله. وقال: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ
عَلِيمٌ (76)
فلم يضر الله شيئا من وفاق أساميهم مع اسمه، إذ كان ذلك من حق
اللغة المحتملة لكل من علم شيئا حقا كان أو باطلا أن يسمى به
عليما، وكذا قلنا: إن الله - جل جلاله - له سمعه وبصره اللذان
هما غير مخلوقين بل أزليين سميع بصير، كما أن المخلوق بسمعه
وبصره المخلوقين المحدثين الزائلين سميع بصير، لا يوجب أن يكون
الخلق بسمعه المخلوق لأن الله يسمى به خالقا ولا الله بسمعه
الأزلي مخلوق، لأن سمى سمع خلقه سمعا ولكنه من ضاق عن سعة
اللسان لم يكن لجهله نهاية ولا بالدين عناية.
(1/436)
قوله إخبارا عمن آمن من سحرة فرعون: (وَمَا
تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا
جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا
مُسْلِمِينَ (126)
حجة على المعتزلة والقدرية، إذ كل ما أخبر الله تعالى عنهم في
هذه الآية لا محالة مدح لهم، أفيجوز عندهم على الله جل جلاله
أن يثني على قوم بدعاء محال، والإسلام بأيديهم يثبتون عليه ما
شاءوا ويتركونه إذا شاءوا لا يخافون أن ينتزع منهم كرها.
أليس سؤالهم تركه لهم حتى يتوفاهم عليه وهم مالكوه - قد أمنهم
الله من الانتزاع منهم بما أظهر لهم من عدله - سؤال محال،
ولكنهم سألوا سؤال حق ورهبوا مكر الله الذي لا يأمنه إلا القوم
الخاسرون، واقتدوا في ذلك بنبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم
في إخبار الله جل وتعالى عنه: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ
الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ
فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ (101)
فإن قالوا: لم يرهبوا الله أن ينتزعه منهم، ولكنهم خشوا أن
يفتنهم الشيطان. قيل لهم: فمن مالك الشيطان، فإن قالوا: الله
جل وعلا. قيل: أفيجوز عليه عندكم وهو عدل أن لا يحول بينه وبين
من يريد تفتينه وانتزاع الإسلام منه، سيما وقد أمره أن يثبت
عليه، وأوعد على تركه ما أوعد.
(1/437)
فإن قالوا: لا يعصمه منه، بل يكله إلى
استطاعة نفسه، قيل: وهو
قادر على غلبته فيما يريد من تفتينه أم لا،
فإن قالوا: قادر رجعوا فيما يلزمهم من أن مسألتهم ومسألة يوسف
صلى الله عليه وسلم مسألة محال.
وإن قالوا لا يقدرون، أقروا بما يراد لهم من أن انتزاع الإسلام
الذي دعوا بتركه في أيديهم غير مأمون، وسواء خيف ذلك من قبل
الله أو من قبل عدو هو مالكه، وقادر على أن يمنعه من ظلم من
يريد تفتينه فلا يمنعه بل كان قادرا على أن لا يخلقه مسلطا ولا
متسلطا، فخلقه كيف شاء لماشاء ووضع عنا تفتيشه.
في نفي الخلق عن القرآن ورؤية الرب تعالى في الآخرة:
* * *
قوله: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ
رَبُّهُ)
حجة على الجهمية واضحة، إذ لو كان القرآن مخلوقا كما يزعمون
لكان " وكلمه كلام ربه " فإن الله جل وتعالى قادر على أن ينطق
كلاما هو خالقه بكلام غيره، كما ينطق من شاء من الحيوان
والموات وغير ذلك من خلقه. وقد أخبر عن نفسه جل وتعالى كما ترى
أنه قال لموسى، صلى الله
عليه وسلم، وأجابه موسى، وليس في قوله عز وجل: (قَالَ رَبِّ
أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ
انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ
تَرَانِي)
(1/438)
حجة أن الله تبارك وتعالى لا يري في
القيامة، ولا يكون منه ظهور للخلق، وكيف يجوز ذلك وهو يقول:
(فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ)
والتجلي هو: الظهور في اللغة لا محالة، فكان المنكر عندنا
ظهوره للبشر من بين سائر خلقه. إنما قوله: هو قوله (لن تراني)
في الدنيا لأني لم أحكم لك بذلك، فأما في الآخرة فلابد من
رؤيته لقوله: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ
(7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ
يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
فهم الكفار لا محالة.
ثم ساق الكلام فجعل في تمام عقوبتهم (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ
رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) .،
أفيرتاب مميز بأن الحجاب لا يخص به إلا وهناك من لا يحجب، هذا
ما لا يذهب على من تبحره، وليس يرتفع الحجاب بتة عن محجوب وإن
قرب محله وكثرت جائزته، ما لم يعاين ملكه.
(1/439)
فإن احتجوا بقوله: (لَا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ)
قيل لهم: كيف تدركه وهو محتجب عنها،!
فإذا ظهر لهم في الآخرة كما ظهر للجبل في الدنيا نظروا إليه،
فإن كنتم تنكرون الظهور فقد دللنا على بطلان قولكم بآيتين.
وإن كنتم تزعمون: أنه وإن ظهر لهم، فنظروا، لم يبصروه، فهذا
مستحيل في العقول أن تنظر عين إلى شيء غير مستور، والعين مبصرة
فلا تبصره، والعقول عندكم أكبر الحجج، وإن كنتم تنكرون الإحاطة
به فنحن نوافقكم عليه، فنقول: الإحاطة غير النظر، لأنا نرى
السماء ولسنا نحيط بجميعها.
وقد يجوز أن يكون لا تدركه الأبصار بمعنى لا تحيط به، وأولى
المعنيين به - والله أعلم - الأول، أن تحجبه عن الأبصار حقبة
ولا يحجب الأبصار عنه شيء لأن الحجب لا تحجب الخلق عنه كما
تحجبه عنهم، وقد قال تبارك وتعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)
(1/440)
فظاهر الناظرة: الناظرة بالأعين، ومن قال:
الناظرة بمعنى منتظرة فقد ترك الظاهر، وإن كانت اللغة محتملة
لما قال في بعض الأوقات.
ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، أعرف بما أنزل عليه من مجاهد،
مع أن قول مجاهد لا يدفع نظر العين، لأنه قال: هي منتظرة تنتظر
الثواب لتثاب، والنظر إلى الله - جل وعلا - من أجل الثواب، وهي
الزيادة التي قال الله تبارك وتعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) .
(1/441)
كذلك رواه صهيب عن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - بالإسناد الصحيح، والأخبار السنية في الرؤية كثيرة
قد ذكرناها في الكتاب المصنف في الرد على أهل الأهواء
بالأخبار.
الأمر والنهي:
* * *
وقوله: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ)
(1/442)
حجة على الجهمية في الكتابة:
* * *
وقوله: (وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ)
يعني والله أعلم لكل شيء أريد منهم من الأمر والنهي وكذا قوله:
إن شاء الله في القرآن حيث يقول: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ
الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) .
* * *
قوله: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ
حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا
أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا)
حجة على الجهمية، لأنه - جل وتعالى - أخبر أن الإله لا يكون
إلا متكلما هاديا.
ومثله: (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ
فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)
أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا
يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
فقد قرن القول بالضر والنفع، وجعل كل ذلك من نعت الإله، فكيف
لا يكون جل وعلا متكلما، وما أدحض حجة القوم في اتخاذ العجل
إلها إلا بعدم الكلام. أم كيف يكون قوله مخلوقا، وهو - جل
وتعالى - بجميع صفاته غير مخلوق.
(1/443)
وكذا أخبر عن إبراهيم حيث نبه قومه عن
آلهتهم بأنها غير آلهة قال: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا
فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
فأخبر قومه أن الإله لا يكون إلا ناطقا.
الغضب في الأمر، وإذا خاف على نفسه في الأمر بالمعروف:
* * *
قوله: (وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ
يَجُرُّهُ إِلَيْهِ)
حجة في الأمر بالمعروف، وجواز تناول من يؤمر عليه.
ودليل على أن الآمر وإن خرج في شدة غضبه لله - جل وعز - إلى
ما لا يحمد من الأمور معفو له عنه، لأن الغضب غير مملوك، فإذا
حدث على المرء استفزه.
فإن كان لله - جل وعلا - عفي لصاحبه عما كان من نحو ذلك.
وإذا كان لغيره نوقش في القليل والكثير.
وفي قوله إخبارا عن هارون: (قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ
اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي)
دليل على أن من خاف على نفسه وسعه وجاز له السكوت.
(1/444)
في الرد على الصوفية:
* * *
قوله: (فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ)
دليل على أن الشغل بالأعداء ليس بمؤثر في نسك الناسكين ودرجات
المقربين، لأن هارون نبي، وقد اشتغل بما لو وصل إليه من شماتة
الأعداء لم يحط من في درجته عند الله، ولا بزوال الشماتة كان
يزداد قربة.
وروي عن نبينا - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يتعوذ بالله من
(1/445)
شماتة الأعداء، فلم تؤثر في درجة القربة
كما يزعم المتنطعون من المتصوفة.
المعتزلة:
* * *
قوله: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا
لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ
لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ
أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ
إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ
تَشَاءُ)
حجة على المعتزلة والقدرية: ألا تراه كيف خاطب ربه - عز وجل -
بأن اتخاذ السفهاء العجل من فتنته وإضلاله، فلم ينكر عليه، وقد
تقدم قولنا في سورة المائدة في قوله: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ
فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)
(1/446)
بما يغني عن إعادته
من أن الفتن لو كان بمعنى الاختبار كان فتونا لا فتنة.
ويقال لهم: لا تعدوا الفتنة في هذا الموضع إلا اختبارا، كيف
اختبرهم باتخاذ العجل - وهو: شرك - وهم قبل اتخاذه مؤمنون،
أأخرجهم من الإيمان إلى الشرك لينظر كيف تمسكهم بالشرك وكيف
صبرهم عليه، كما يختبرهم بالأوجاع، والمصائب والأنفس، لينظر
كيف يصبرون ويشكرون، هذا ما لا يعرف وجهه، ألا تراه - جل جلاله
- يقول: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ
وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ
وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا
أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) ، وقال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى
نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ
أَخْبَارَكُمْ (31)
فالاختبار هذا وجهه الذي يعقل.
وبعد: فإن الاختبار نفسه على جميع تصرف وجوهه لو تدبروه، لما
خرج لهم في باب العدل مخرجا ما يعقلونه بعقولهم، إذ ليس يخلو
المختبرون بالمصائب من أن يجروا فيها على سابق علم مختبرهم بها
أو على حادث.
(1/447)
فلما كان نسبة الحادث إليه كفرا غير ملتبس،
حصل عليهم السابق الذي لا يعرف العباد وجه جميع الاختبار
والعلم السابق عليهم في باب العدل إلا بالتسليم له، عقلوه أو
لم يعقلوه، كما قلنا في باب القضاء والقدر (1) ومرض الصغار،
وخولة العبيد وأشباه ذلك.
المعتزلة:
* * *
قوله: (قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ)
حجة عليهم، وليت شعري حيث قرأوه بالسين غير معجمة ونصب الألف
من الإساءة أي شيء نفعهم، كأنه ليس في القرآن من المشيئة غير
هذا الحرف. أو من الذي لا يقوله منا: إن العذب بالإساءة، وإن
كانت الإساءة مكتوبة عليه، فقد فعلها، حتى يصحفوا - لالتماس
الحجة على خصمائهم - حرفا من كتاب الله عليهم، وما عسى يقدرون
عليه من تصحيف قوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ
هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
وأشباهه في القرآن إن هذا لأسخف سخافة بعد فرط المكابرة.
* * *
قوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ
آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ
فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ
بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ
هَوَاهُ)
(1/448)
حجة عليهم لأنه جمع بين فعل المنسلخ من
الآيات، وبين تسوية الشيطان له، وذكر فعله قبل ذكر مشيئته فيه
وبعده، وأخبر أنه لو شاء رفعه بالآيات ولم يصفه بما لم يرتضه
من أفعاله، فهل يرتاب منصف متيقظ مضرب عن اللجاج والعصبية أن
نسبة الفعل إلى فاعله ليس بمؤثر في القضاء والقدر، ولا القضاء
والقدر بمسقطي اللوم عن الفاعلين أفعالا نهوا عنها، وأنهم
جانون بفعل أفعال وإن كانت قد قضيت عليهم، وإن الله - جل جلاله
- ليس بظالم لهم فيما أعد لهم من العقوبة عليها وإن كان قضاها
عليهم، ولا بجائر فيما أمرهم به من اجتناب ما لايستطيعون
الاحتراز منه إلا بعصمته والمسارعة إلى ما لا يقدرون عليه إلا
بمعونته، وأن الذي بقي عليهم من تقرر صحة هذا عندهم رفض مفتاح
الجهل الذي يريدون به فتح مغالق عدله الذي لا وصول إليه بعقول
ناقصة، وهو مع ذلك - جل ثناؤه - عدل صادق غير نسي، أفيجمع كل
ما ذكرناه في صدر الفصل في آية واحدة ولا تكون حقا، والقائل به
لا يكون على هدى، هل الصدود عن هذا إلى غيره إلا من الجهل
الغالب أو الكفر المصرح.
المعتزلة:
* * *
قوله: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ
يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
(1/449)
حجة عليهم. وهو أيضا من المواضع التي يحسن
فيها حذف هاء المفعول به، لأنه لا محالة من يهده الله ومن
يضلله.
* * *
قوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ)
حجة عليهم، إذ ليس يشك عارف باللغة أن ذرأنا هو خلقنا كما قال
في موضع آخر: (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ
وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) .
وقال: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ
الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ)
أي في الرحم، والله أعلم.
فأي حجة يلتمس أكبر من أن يكون - جل وتعالى - قد أخبر عن نفسه
نصا أنه خلق لجهنم كثيرا من الجن والإنس، أم كيف يقدر من هو
مخلوق للنار أن يذهب بعمله إلى الجنة.
وفي قوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ)
دليل على أن تمام الكثير من القليل مخلوقون للجنة.
وبلغني عن بعض سفهائهم أنه قال: (ذرأنا) بمعنى طرحنا،
(1/450)
وهذا من الأمكنة التي إذا أرادوا متابعة
اللغة تابعوها بأقبح وجوه الغلط.
ألا يعلمون - ويحهم - أن ما كان بمعنى الطرح فهو أذريت بالألف
وسقوط الهمزة كما يقولون: أذري الجمل راكبه، إذا طرحه عن ظهره
وألقاه إلى الأرض.
وكما تبدد الريح الشيء فتطرحه يمينا وشمالا قال الله تبارك
وتعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ)
.
وبلغني عمن هو أجهل من هذا منهم أنه أنشد بيت المثقب حجة في
هذا المعنى:
تقول إذا ذرأت لها وديني
(1/451)
بالذال معجمة، فماذا يقال لقوم يبلغ بهم
الحرص على تصفح مقالتهم، والأنفة من الرجوع إلى الحق مثل هذه
الأشياء القبيحة، نعوذ بالله من الضلالة.
* * *
قوله: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ
أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا
يَسْمَعُونَ بِهَا)
نظير ما مضى في سورة البقرة.
قوله: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ
مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)
حجة على المعتزلة والقدرية والجهمية معا، إذ الاستدراج لا
محالة كالمكر، وقد أخبر - جل وتعالى - عن نفسه كما ترى.
* * *
قوله: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
حجة على الجماعة أيضا في الإملاء والكيد، فالاستدراج والإملاء
كاسر قولهم فيما يدعونه من معرفة العدل الذي لا يعقلونه والكيد
مع
(1/452)
الاستدراج في باب نفي الصفات عنه جل وعلا.
قوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ
إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
حجة عليهم، إذ سمى نبيه صلى الله عليه وسلم، بما سمى به نفسه
من المبين، ألا تراه يقول: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ
دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ
الْمُبِينُ (25) .
وقد يقع على السحر الأمم المبين، قال الله تعالى: (وَبَشِّرِ
الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ
رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ
(2) .
وكذلك الوفاق الواقع بينه وبين الخلق في جميع أسمائه أو في
أكثرها مثل: الصادق، والعالم، والملك، والجبار، والقادر،
والقاهر، والرحيم، واللطيف وأشباهها، وكل هذه الصفات ذاتية قد
شاركه فيها خلقه.
أيشك أحد أن الرحيم واقع على الرحمة، والقادر واقع على القدرة،
(1/453)
والعالم واقع على العلم، وكذلك أخواتها،
فلا تكون رحمته ولا قدرته ولا علمه ولا سائرها مخلوقا، وكل ذلك
من الرحمة والقدرة وأشباههما في الخلق مخلوق، وكل هذه الأشياء
وإن لم تكن محسوسة بيد ولا نظر فهي ثابتة في الموصوف بها من
الخلق ومنه، وكذلك السمع والبصر، واليدان والكيد، والقوة
والبطش، والمكر، وأشباه ذلك مثله من حيث لا التباس فيه عند
منصف منقاد للحق.
قوله: (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ
فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
حجة عليهم.
* * *
قوله: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)
حجة عليهم واضحة فما بقي شيء من منافع الدين والدنيا إلا وقد
دخل تحت هذه الآية ما أراهم إلا يكابرون عقولهم.
* * *
قوله: (وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا
أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)
حجة عليهم في نفي الاستطاعة.
فيقال لهم: أخبرونا عن العامل بالطاعة، أيسمى ناصر نفسه أم لا،
والعامل بالمعصية أيسمى خاذل نفسه أم لا،
(1/454)
فإن قالوا: بلى.
قيل: أفلا تراه يقول، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا
وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) ، أفيرتاب منصف أن
العامل بالطاعة معان عليها بالتوفيق، والعامل بالمعصية مخذول
بحجب التوفيق عنه،.
وان قالوا: لا يسمى العامل بالطاعة ناصر نفسه، ولا العامل
بالمعصية خاذلها ولا ظالمها - كابروا في القول وخرجوا من العرف
والعادة.
قول: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ
أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا
أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ
يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا)
حجة على الجهمية بنعمة الله شديدة.
أليس بينا - من حيث لا التباس فيه - أن الذي قرر عندهم به
بطلان آلهتهم عبادتهم ما لا يستجيب دعوة داع، ولا له رجل
ماشية، ويد باطشة، وعين مبصرة وآذان سامعة، وأن لله - جل
وتعالى - كل هذه الأشياء ولكنها غير مخلوقة فيه.
(1/455)
أو لايفكرون - ويحهم - أن البعل قد عبد وهو
رجل وفرعون وهو رجل لهما أيدي باطشة وأرجل ماشية، وأعين مبصرة
وآذان سامعة، ولكنها لما كانت مخلوقة كخلق أجسادهم كانوا عبادا
أمثالهم.
فالحاصل من هذا عند من هداه الله وهذب طبعه وفتح عيون قلبه أن
المعبود هو الله الواحد الموصوف بهذه الصفات التي وإن شاركه
فيها خلقه
(1/456)
بالاسم والذات، فهي فيه غير مخلوقة ولا
مستدرك كنه صفتها كهيئتها عنده، وفيهم مخلوقة وهو خالقها.
* * *
قوله: (قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا
تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ
الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)
حجة في الاعتصام بالله، وأمن الأنفس من وصول ضرر الكائدين
إليها إلا بمشيئته عز وجل.
وفيه أن هذه الفضيلة لم يخل منها محمد - صلى الله عليه وسلم -
وإن كان قد سبقه إليها نوح وهود - صلى الله عليهما وسلم -.
قوله: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ) .
و (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ
الشَّيْطَانِ) .
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ
إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ)
وأشباه هذا لا تعلق لهم فيها لما دللنا عليه في سورة الأنعام،
من أن الشيطان من بعض عقوبات الله مخلوق لمثل هذه الأشياء
بالوسواس لا بسلطان نافذ، وهو مع ذلك ضعيف الكيد لقوله: (إِنَّ
كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) .
(1/457)
وقد سمى الله كيد النساء عظيما، فهل
يقولون: إنهن متسلطات
على الشيطان أيضا مع رجال البشر، فينسبون الشر الذي هو عندهم
منسوب إلى الشيطان إليهن، إذ كان العظيم الكيد أقرب إلى أن
يكون لضعيفه قاهرا، وأجدر بالاستعلاء عليه.
لا، ولكنه على ما أخبرت من أن الشيطان مخلوق لأذى البشر
كالسباع والحيات وسائر المؤذيات، وتسليط بعضها على بعض، وكما
خلقت الفراعنة لأذى الأنبياء.
ومعرفة العدل في جميع ذلك غائب عنا منفرد بعلمه ربنا.
الشرك:
* * *
وقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)
إلى قوله: ((فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ
شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا) دليل على أن الشرك على وجهين:
فشرك في طاعة،
(1/458)
وهو - والله أعلم - هذان لأن أحداً لا يشك
أن آدم وحواء لم يشركا بالله شرك كفر وعبادة، ولكنهما عصيا في
القبول من إبليس واغترا بقوله: إن الولد إذا سمي عبد الحارث
عاش كما اغترا به في أكل الشجرة.
وشرك في كفر وعبادة وهو فعل الكفار في عبادة الأصنام، وافتراء
اليهود والنصارى في ادعاء الأولاد على الله جل الله.
وكان الحسن يقول: إن الجاعلي شركاء فيما آتاهم الله صالحا في
هذا الموضع هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولادا فهودوهم
ونصروهم.
ولا أدري ما وجهه، لأن أول الآية لا يدل عليه.
(1/459)
|