النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام

سورة الأنفال
قوله عز وجل: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ)
رد على المرجئة من وجوه:
أحدها: أنه ذكر عامة الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة وجعلها من الإيمان، وذلك أنه ذكر قبل (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) التقوى وإصلاح ذات البين، ثم نسق في هذه الآية عملا بعد عمل وذكر فيها التوكل وهو: باطن.
والثاني: أنه ذكر زيادة الإيمان بتلاوة الآيات عليهم وهم ينكرونه.
والثالث: أنه لم يثبت لهم حقيقة الإيمان إلا باجتماع خصال الخير
من الأعمال الظاهرة والباطنة وهم يثبتون حقيقة بالقول وحده.

(1/461)


والرابع: أنه - جل وتعالى - قال بعد ذلك كله: (لَهُمْ دَرَجَاتٌ)
وقد أثبت لهم الإيمان بشرائطه وحقيقته، وهم لا يجعلون للمؤمن في إيمانه إلا درجة واحدة، ولا يجعلون للإيمان أجزاء. فكيف يستقيم أن يسمى المرء بالإقرار وحده مستكمل الإيمان وقد سمى الله - جل جلاله - كل ما حوته الآية إيمانا.
فإن قيل: فما لك تنكر على القوم أن يشهدوا لأنفسهم بحقيقة الإيمان وقد شهد الله لهم في هذه الآية؟
قيل: لم أنكر حقيقة الإيمان، وإمكانه في كثير من الخلق، وكيف أنكر شيئا أكمله الله لملائكته وأنبيائه وشهد لأهل هذه الآية به، إنما أنكرت عليهم ما أنكرت من جهتين:
إحداهما: أن الله شهد بحقيقته لأهل هذه الآية، بخصال كثيرة وهم يشهدون لأنفسهم بخصلة واحدة.
أيجوز أن أشهد على مقر بكلمة الإخلاص مصدق بها، ذكر عنده ربه
فلم يوجل قلبه، أو فرط في الصلاة، ولم يؤت الزكاة بحقيقة الإيمان، والله - جل وعلا - لم يشهد له به، فأساوي بينه وبين من كل ذلك كائن فيه.

(1/462)


أم كيف يجوز أن يكون إيمان هذين يستوي من غير أن يكون أحدهما زائدا على صاحبه فيه، وكيف ينكر الزيادة والنقصان في شيء، ولا محالة كل زائد على شيء فالآخر أنقص منه.
فإن كانوا يزعمون إيمانهما في كلمة الإخلاص قولا واحدا فنحن لا
نأباه.
وإن زعموا أن اسم الإيمان لا يقع على غيرها، فنحن لا نخالف كتاب
ربنا.
وقد حوت هذه الآية وغيرها - مما سنأتي عليها في مواضعها على نسق السور إن شاء الله - ما حوت من العمل المسمى بالإيمان.
والأخرى أن تحت الحقيقة معنيين، فإن كانوا يقولون: إنهم حقا مؤمنون بخصال بأعيانها فيهم في وقت القول عند أنفسهم، فنحن لا ننكره، وإن قالوا: إنهم حقا مؤمنون لا يأمنون مكر الله - جل جلاله - في السلب، ولا يحذرون القطع بهم عند الخاتمة، فهذا هو المنكر الذي لا نواطئهم عليه ولا نسلمه لهم لتكذيب الخبر والمشاهدة

(1/463)


ذكر الطهارة:
* * *
وقوله: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ)
دليل على أن المزيل للأنجاس هو الماء لا غير، وأن الماء إذا طهر الأنجاس استحال أن تنجسه الأنجاس، إلا أن يصير مستهلكا فيها أو يغلب عليه روائحها، فيسلم في الغلبة للاتفاق، وفي الاستهلاك لزوال العين والإجماع معا.
ذكر الجهاد:
* * *
قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)
دليل على اختصار الكلام والإشارة إلى المعنى؛ إذ النهي عن تولية الأدبار مقصود لا محالة به الهزيمة والفرار، لا أنه نهى أحداً أن يول كافرا ظهره، وهو مريد لقتاله ناوي الإقبال عليه.
* * *
قوله: (فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ)
ردعلى الجهمية في إنكارهم الغضب.

(1/464)


قياس واستطاعة:
* * *
قوله: (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ)
دليل على نفي الاستطاعة، وما يدل عليه العقل من الغلبة بالتظاهر، ولو كان كل ما دل عليه العقل حقا لكانت الكثيرة معانة في القتال غير محتاجة إلى معونة النصر.
فهذا يبين أن دليل العقل إذا خلا من النص غير مستعمل في الدين.
وقد دخل في معنى هذه الآية القائسون في الفقه، والمستعملون عقولهم من أهل البدع غير مراعي فيه خبر السماء الدال على حقائق الحق،..
*، معاني في الاستطاعة:
(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
دليل على أشياء:

(1/465)


أولها: وقوع اسم الدواب على الناس كما يقع على البهائم، لأن كل ماش
داب.
والثاني: إجازة تسمية السامع الناطق أصم أبكم إذا تباعد عما أريد منه من السماع والنطق، وامتنع من استماع الموعظة والنطق بما تأمره به، وإن كان ناطقا سامعا في كل شيء سواها.
وهذا نظير ما مضى في سورة البقرة في قوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) .
والثالث: أن الاستطاعة في الإنسان لو كان لها في الحقيقة سلطان
في الخير والشر لكانت كل نفس منفوسة فيها خير، ولما عري منه أحد، وإلا فما الفائدة إذا في قوله: (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) .
أولا يدلهم على أن الاستطاعة المركبة في الإنسان، وإن كانت كائنة فيه مع الفعل فغير مستغنية بنفسها، ومحتاجة إلى من يمدها

(1/466)


بمعونة الحركة كما السمع مركب فيه.
ومن حكمه في العقل أن يسمع فهو محتاج إلى من يسمعه، ولا يستطيع بنفسه أن يسمع إلا ما أذن له في سماعه.
فكذلك الاستطاعة لا تقدر أن تنفذ إلا فيما أذن لها فيه. هذا واضح
لمن تدبر معنى الآية وغاص على نكتها.
والرابع: ما دل عليه قوله، (لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
من أنه - جل جلاله - يعلم الشيء قبل كونه - سبحانه وتعالى - عما يقول الظالمون علوا كبيرا، فليس شيء أوحش عند المؤمنين من تثبيت مثل هذا على الجهلة قاتلهم الله وأسحقهم.
المعتزلة:
* * *
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)
حجة على الجهلة أيضا شديدة، لأنه - جل وتعالى - ابتدأ الآية بالأمر في الاستجابة، ثم قال على إثره بلا فصل وللخروج من خطاب الأمر إلى

(1/467)


غيره: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) .
أمره من لا يملك قلبه - وهو الحائل بعدله بينه وبين مراده بالاستجابة إلا مما لا يقدر المؤتمر عليه إلا بمعونة آمر، ولا وصول له إليه باستطاعة نفسه،.
أوليس هذا متصور في عقول الجهلة بصورة الجور، وهو نفس ما بيننا وبينهم فيه الخلاف والمناقشة لا ما أثرناه من نظرائه عليهم.
فهل يتوجه هذا في عقولهم الناقصة العاثرة في طرق العدل، أم ظاهر
ما يعقله منه جور، وهو لا شك عنده عدل وعلينا الإيمان به وإن لم نعقله، وشاهدون بأنه عدل من جميع جهاته، ولولا أنا شرطنا أن نأتي على نسق الآيات في السور وندل على كل ما دلت عليه من الحجج على كل فريق لقطعنا ذكر المعتزلة والقدرية من الكتاب بعد هذه الآية؛ إذ كل ما توصلنا إليه من نظائر ما أنكروه في الرد عليهم قد استغنينا عنه بهذه الآية، لأنها نفس النكتة التي عليها المدار، وفيها جرى الخصومات قديما وحديثا، ولكن الشرط أملك بنا - بعد إكثار حمد الله على نعمه في هذه الآية - منا.
الحذر وخلق الشر
* * *
قوله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)
دليل على وجوب المراعاة وأخذ الحذر والاحتراس من الفتن قبل وقوعها.

(1/468)


وفيه أيضا دليل على خلق الشر، إذ محال أن يأمر باتقاء ما لا أصل له، ألا تراه يقول: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)
وفيه أيضا أنه أمر باتقاء ما لايقيهم منه غيره.
معاني ذكر المعرفة بوجوب تذاكر النعم والفكر:
قوله: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) .
دليل على غير شيء:
فأحدها: المعرفة بوجوب تذكر النعم، والفكر في حسن صنيع الله
والثاني: أن الشكر يستخرج من العبد، فإذا أغفلها أغفل الشكر معها.
والثالث: ذكر الخصوص في الناس، ووقوعه على بعضهم
لأن المستضعفين أيضا أناس.

(1/469)


والرابع: وقوع اسم الناس على الصالح والطالح، لأن الناس لا محالة هاهنا الكفار.
والخامس: ندب الخلق كلهم إلى التبرؤ من الضر والنفع، وتسليم
أن كل ذلك منه - عز وجل.
والسادس: توحيد وصف الجماعة القليل كما يوصفون بالكثير " لأنه - تبارك وتعالى - لم يقل: إذ أنتم قليلون.
فضائل القرآن:
* * *
قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ)
جامع كل فضيلة، وحائز كل غنيمة، لأن جعل الفرقان كاشف كل غمة، وجابر كل كسر، ومؤمن من كل فزع ورعب، ومزيل خوف الفقر، ومفرع روح الاستغناء بالله عن كل من دونه، ومتحد ظليل كنف الغار إليه من فتنة الدنيا وعوائق جميع أهلها والمنتشرين فيها من خلقها، وتكفير السيئات وغفران الذنوب من وراء ذلك كله في المعاد، فإن الله - جل جلاله - لا يخلف الميعاد.

(1/470)


قوله: (وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا)
حجة على المعتزلة والقدرية، إذ ليس يخلو هذا القضاء من أن يكون سابقا في هلاك من يهلك عن بينة، وحياة من يحيا عنها، فينقذه في ذلك الوقت، أو مبتدأ فيهم، وأيهما كان، فالله فاعله.
وهكذا الآية التي بعدها: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
بل قد زاد فيها كما ترى، وجعل مرجع الأمور كلها إليه.
ذكر الجهاد:
* * *
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا)
إلى قوله (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)
دليل على أن لا يصلح في الحرب إلا مدبرا واحدا، وأن منازعته والخلاف عليه داع إلى الفشل وتشويش الأمر، والصبر - والله أعلم - في الآية جامع للثبات ولزوم طاعة الأمير في تدبير الحرب.

(1/471)


تزيين الشيطان:
وقد مضى قولنا في تزيين الشيطان قبل هذا في سورة الأنعام بما يغني عن إعادته في هذا الموضع غير أن في قوله: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ)
إلى قوله: (وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
زيادة لم نذكرها هناك وهي أنهم يجعلون الشر من الشيطان على الحقيقة بقوة وسلطان له فيه، وقد أنبأ الشيطان عن نفسه في هذا الموضع بأنه لا يقدر على ضر أحد ولا نفعه، وأن تزيينه غرور، وقوله كذب لا حقيقة.
فإن كانوا يزعمون أن تزيين الشر قد يكون من الشيطان، لا أن نفس
الشر منه فنحن لا نخالفهم، بعد أن لا يقولوا: إنه منفرد به؛ إذ لا يصلح أن يفرد بهذا الفعل، وقد قال الله - تبارك وتعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) .
فإن زعموا أن حقيقة الشر منه فأمحل الحال أن ينسب إليه ما هو متبرئ منه، مع أنه ليس يعجب منهم أن يكذبوا على الشيطان وقد كذبوا على الله.
ومثل هذا قوله في سورة إبراهيم: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ)

(1/472)


فقد تبرأ من السلطان كما ترى، فكيف يكون الشر منه وهو لا ينفذ سلطانه فيه بأكثر من أن له جزءا في التزيين، وذلك الجزء أيضا مخلوق فيه
ذكر زوال النعمة بإحداث الشر عقوبة.
* * *
وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)
دليل على أن الله - جل وعلا - قد يسلب النعم بفعل المعصية عقوبة لفاعليها، ولا أحسب - والله أعلم - قوله في سورة الرعد: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)
إلا على هذا المعنى من أنه لا يغير ما بهم من النعم حتى يحدثوا أحداثا يعاقبهم الله عليها، فيغير ما بهم، ويكون الإحداث سببا للتغيير.
في ذكر الجهاد:
قول: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ)
دليل على أن التحرز وأعمال الواسطات غير مؤثرة في توكل المؤمنين.
ألا ترى أنه - جل جلاله - قد قال في هذه السورة بعينها: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)

(1/473)


وقال: (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ) .
ثم أمر بإعداد القوة - وهي في التفسير الرمي - ورباط الخيل لإرهاب العدو.
ذكر قبول الإجماع:
* * *
قوله: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ)
حجة على قبول الإجماع ولزومه لزوم نص القرآن؛ إذ محال أن تتفق الألسن على شيء إلا وقد ائتلفت قلوب الناطقين به؛ لأن الألسنة مترجمة عن الضمائر ما حوتها، وقد أخبر الله تعالى كما ترى أنه مؤلفها.

(1/474)


ذكر الجهاد والمفاداة والمال:
* * *
قوله: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)
دليل على أن المفاداة بالمال جائزة، لأن الله - جل وعلا - وإن كان أنكر الإبقاء على الأسرى قبل الإثخان، فقد أباح لهم ما أخذوا من المال بالفداء وسماه غنيمة فقال: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا) .
* * *
قوله: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ)
يعني - والله أعلم - ما أخذوه بالفداء من الأموال، ولكنه سبق في كتابه أن يحل لهم الغنائم ولا يشقيهم بالعذاب.
وفيه رد على المعتزلة والقدرية فيما ينكرون من الكتاب السابق
جملة.
إغاثة الملهوف:
* * *
قوله: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ)
دليل على

(1/475)


وجوب إغاثة الملهوف ونصر المظلوم وإن كان بعيدا.
رد على المرجئة في باب الإيمان:
* * *
قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا)
رد على المرجئة: فيما أضاف الهجرة والجهاد والنصرة والإيواء إلى الإيمان، وقد شهد لقوم في أول السورة تحقيقه، ولم يذكر هذه الشرائط، وذكر لأولئك شرائط لم يذكرها لهؤلاء، فدل على أن الإيمان ذو أجزاء، وأن كل خير يفعله المؤمن متقربا به إلى الله، فهو من الإيمان فرضا كان أو تطوعا، لأن الجهاد والنصرة والإيواء قد يكون نافلة في بعض الأوقات إذا لم يكن التصور والمؤوى مضطهدا.
والجهاد إذا قامت به طائفة فهو للباقي فضيلة لا فريضة.
فإن قال قائل: فالنصرة والإيواء في هذا الموضع مقصود به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكانا فيه، صلى الله عليه وسلم،

(1/476)


فرضين - بقي عليه الجهاد الذي لا يتهيأ له فيه شيء من أن الخارج فيه بعد الكفاية متطوع بخروجه.
وفيه دليل: على أن اسم الإيمان شامل المؤمن بقليل الإيمان وكثيره، وأن مستحقه بكلمة الإخلاص قبل أن تفرض الفرائض لم يستكمل أقاصي درجاته وأنه إنما سمي مؤمنا في ذلك الوقت، لأنه لم يكن مخاطبا بغيرها، فلما أتى بما خوطب به سمي ائتماره ذلك إيمانا، لأن الله - تبارك وتعالى - أفرد قول تلك الكلمة وحدها بالإيمان ومنعه من غيرها، فكل مؤتمر لأمر من أمر الله فأتماره إيمان كما كان ائتمار قائلي كلمة الإخلاص إيمانا.
ولا أحسب المرجئة المساكين أوتوا إلا من قلة بصرهم باللغة، حيث قدروا أن شيئا بعينه إذا سمي باسم لم يجز أن يسمى به غيره، أو أن الاسم لا يقع على المسمى إلا بعد كمال ذلك الشيء الذي سمي به فيه، وأغفلوا أن الله - جل وعلا - سمى نفسه عليما وحكيما، وهو عليم بكل شيء حكيم في جميع صنعه، ثم أجاز أن يسمى غيره عليما وحكيما، ولم يستكملوا ما استكمله - جل وتعالى - ولم يجز أن يستكملوه وقد استحقوا الاسم ببعضه، ويسمى الإنسان حسنا وقبيحا وطويلا

(1/477)


وقصيرا ببعض أجزاء الحسن والقبح والطويل، والقصر وأشباه ذلك، ثم يكون في الناس من هو فوقه في ذلك، والاسم واحد وإن اختلفت درجاته وتفاضل بعض فيه على بعض.
وكذلك المؤمن في درجات إيمانه، لأن الذي يقع عليه الإيمان هو الائتمان وهو واحد في شيء كان أو شيئين، كما أن الحسن واحد، وإن كان في الوجه والعينين والشفتين وأشباه ذلك.

(1/478)