النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام

سورة التوبة
ذكر الرد على اللفظية: (1)
* * *
قوله: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ)
حجة في أن اللفظ بالقرآن غير مخلوق؛ لأن العلم يحيط بأن المستجير لا يقدر على سماع القرآن إلا من لفظ النبي، صلى الله عليه وسلم، أو من لفظ واحد من أصحابه، وقد سمى الله تعالى ما يسمعه كلامه.
وهذا موضوع بشرحه في كتابنا المجرد في الرد على المبتدعة.
__________
(1) اللفظية: هم الذين يقولون: لفظي بالقرآن مخلوق.
وأول من قال بذلك الحسن بن علي الكرابيسي، أحد المعاصرين للإمام أحمد بن حنبل.

(1/479)


ذكر التوبة من الشرك:
* * *
وقوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) ، وكذلك ما قبله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)
حجة في أشياء:
فأحدها: أن التوبة من الشرك تسمى توبة كما تسمى من الذنب؛ لأن معناها الرجوع عما كان عليه، والإضمار أن لا تعود في مثله، فسواء كان كفرا أوذنبا.
ذكر تارك الصلاة والزكاة..
والثاني: أن تارك الصلاة والزكاة يكفر في الظاهر، لأن الله - جل وتعالى - لم يأمر بتخلية سبيل المشركين ولا سماهم إخوان المؤمنين إلا بإقامة الصلاة والزكاة مع التوبة وهي ثلاث شرائط.

(1/480)


فإذا ترك واحدا أو اثنين لم ينفعه الشرط الباقي، ولا أعلم بين الأمة خلافا في أن: الخارج من الكفر إلى الإيمان لو قال: أؤمن بالله وأؤمن بأن الصلاة والزكاة حق، ولكن لا أقيمهما وأقتصر على القول بالشهادة - أنه لا يقبل منه، وأنه كافر كما كان حلال الدم والمال، وأن الذي يحرم دمه بالشهادة هو الذي يحمل عليه في الحرب فيظهر القول بها أو يجيء متبرعا فيقولها ويسكت ليؤمر بالصلاة والزكاة على الأيام ولا يشترط ترك الصلاة والزكاة في وقت إسلامه.
فكيف يجوز - والحال ما وصفت - من أن لا يثبت له الإسلام إلا بثلاثة شرائط، فإذا صار من أهله ثم ترك بعضها ثبت إسلامه على حاله لم ينقص منه شيء.
أو ما باله إذا ترك الإيمان بأن يدعو مع الله شريكا، وهو مقيم على الصلاة والزكاة يكون كافرا، وإذا ثبت على الكلمة وترك الصلاة والزكاة لا يكون كافرا، فإن قال قائل: لا أقبل منه بدءا حتى يأتي بالثلاثة كلها، لأنها شرائط
الله نصا في القرآن، فإذا قبلها وصار من أهل الإسلام ثم أحدث الترك جعلته ذنبا ولم أكفره بحدثه، وقد صار من أهله بالشرائط.
قيل له: أفتقره إذا أحدث ترك الشهادة وحدها، ولا تستتيبه ولا

(1/481)


تسميه مرتدا، فإن قال: بل أسميه مرتدا أو أستتيبه، فإن تاب وإلا قتلته.
قيل: ولم تفعل ذلك إلا أنه ترك بعض الشرائط التي لم يكن داخلا في الإسلام إلا بها، فإن قال: نعم، ولابد من نعم. قيل: فتارك الصلاة والزكاة أيضا تارك بعض ما لم يكن داخلا في الإسلام إلا به، فسمه بتركهما مرتدا أو استتبه فإن تاب وإلا فاقتله.
فإن قال، لا أفعل هذا في الصلاة والزكاة، وأفعله في الشهادة.
بانت مكابرته وكان لا محالة مخطئا في إحدى الحالتين:
إلا حيث لم يقبل بدءا إسلامه إلا بالشرائط الثلاثة.
وأما حيث كفره بعد الدخول فيها بتركها بعضها دون بعض، ويقال
له: لا تستتيبه بترك الصلاة والزكاة وتسميه كافرا، وتسميه بترك الشهادة كافرا أو لأنهما ليستا من الإيمان.
فإن قال: نعم، وافق المرجئة، وكذبه نفس هذه الآية، وهو ثالث العنف الذي دلت عليه ورجع عن قوله فيما لم يقبل إيمان الكافر بدءا إلا بهما مع الشهادة.
فإن قيل: فأنت تزعم أن جميع ما أمر الله به ونهى عنه من

(1/482)


الإيمان وتجادل المرجئة عليه، أفيكفر المرء بترك شيء منها، أو بمواقعة فاحشة منهي عنها، وتستتيبه عليها أم تسميه مذنبا ولا تستتيبه.
قيل: بل أسميه مذنبا بترك سائر هذه الثلاثة، ولا أستتيبه مادام معترفا بأنها مفروضة عليه.
فإن قيل: ما الذي فرق بينها وبين الثلاثة، قيل: فرق بينها أني وجدت الله - تبارك وتعالى - يأمر بقتل المشركين حيث وجدوا، قال - تبارك وتعالى -: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ)
ثم أمر بالكف عنهم بهذه الشروط، فقال: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) .
وقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) فجعلهم بهذه الثلاثة الأجزاء من الإيمان إخواننا فقال: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) .
وسائر هذه الثلاثة وإن كانت من الإيمان مسماة بأجزائه، ففعلها زيادة في الإيمان وتركها نقص منه، وهو قولنا: إن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

(1/483)


ووجدت الله - تبارك وتعالى - أوجب على منتهكي حرماته حدودا لم تخرجهم من الإسلام ولا أمر بقتلهم، فقالت - تبارك وتعالى -: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ) .
وحرم الزنا بقوله: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
ثم قال: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)
ولم يأمر بقتل واحد منهما ولو كانا كفرا لأمر بقتلهما كما قال: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ)
وهذان المعنيان من قطع السارق وجلد الزاني رد على الشراة: فيما يزعمون أن الذنوب كلها كفر (7) . ووجدناه - جل وتعالى - حيث أمر بالقتل أيضا في انتهاك محارمه جعله حدا لا كفرا فحرم القتل بقوله: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) ثم قال: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) ، فجعل السلطان للولي لا لنفسه - جل جلاله - ولو كان كفر بالقتل لأمر بالقتل، وإن لم يقتله الولي.
وقال: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ)

(1/484)


، فلم يخرجه من اسم الأخوة وقد قتل ولو كان كافرا لما سماه أخا، لأن الكافر ليس بأخي المؤمن، وهذه أيضا حجة على الشراة، لأنها في القرآن، ومثل هذا كثير في القرآن. ووجدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين رجم المحصنين من المسلمين صلى عليهم ودفنهم في مقابر المسلمين، ولم يحرم ميراث ورثتهم منهم، ولو كانوا كفروا لما صلى عليهم ولا دفنهم في مقابر المسلمين ولا ورث ورثتهم منهم، إذ من سنته، صلى الله عليه وسلم، أن لا يرث المسلم الكافر.

(1/485)


فهذه الأشياء وما يضاهيها سوى الثلاثة - وإن كانت من الإيمان - معدودة في أجزائه ليس يكفر بتركها المرء وسبيل الثلاثة غيرها.
وروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، بهذا اللفظ: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ".
وروي عنه: " حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها "
فيحتمل أن يكون الأول مفسرا للثاني، ويحتمل أن تكون الصلاة والزكاة من حقها. وكذلك قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - حيث قاتل مانعيها: هذه من حقها، وساعدة إجماع من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(1/486)


، على القتال والإجماع حجة ولا أحسبه - رضي الله عنه - قاتلهم إلا بعد ما قالوا: لا نؤديها إليك ولا نخرجها بأنفسنا، والله أعلم.
وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة فمن تركها فقد كفر " ومن ترك صلاة متعمدا فقد برئت ذمة الله وذمة رسوله، صلى الله عليه وسلم منه ".

(1/487)


وهو أصح من حديث المخدجي عن أبي محمد لأنهما مجهولان،

(1/488)


مع أن الصنابحي قد رواه عن عبادة بن الصامت، فجاء فيه بكلام يدل على أن قوله: " ومن تركها فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة ".

(1/489)


إنما هو ترك بعض خشوعها، وإتمام ركوعها وسجودها، لا أنه تركها فلم يصلها، وقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من ترك الصلاة حشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف ".
وكل عمل تاركه سوى الثلاثة كسلا أو توانيا، وهو عارف بإساءته معترف بخطيئته غير جاحد بوجوبه - فهي معصية غليظة يلقى الله بها فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له.

(1/490)


وروى يعقوب القمي عن ليث بن أبي سليم عن سعيد بن جبير قال: من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر ومن ترك الزكاة فقد كفر، ومن ترك الحج متعمدا فقد كفر، ومن ترك يوما من رمضان فقد كفر، ومن ترك الجمعة متعمدا فقد كفر.
وروى النضر بن جميل عن أشعث عن الحسن: " فيمن ترك

(1/491)


صلاته متعمدا أن لا يعيدها "
قال النضر: لأنه كفر.
تارك الصيام والحج:
فإن قيل: فتارك الصيام والحج - وهما في جملة ما بني عليه الإسلام يكفر عندك أو لا،

(1/492)


قيل: إنه وإن كان كذلك فلا يكفر بتركهما؛ لأن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد أمر المفطر عامدا في الجماع في رمضان بكفارة ولم يقتله.
ومن حكمه أن يقتل من بدل دينه، ولا قال: كفرت، وأمر رجلا وامرأة أن يحجا عن أبيهما بعد موته ولو كان مات كافرا

(1/493)


لم ينفعه الحج عنه، ومن لم يكفر بإفطار يوم لم يكفر بإفطار الشهر كله، ولكن أسهم إسلامه التي بني عليه منه ذاهب عنه حتى يراجع، وليس هدم بعض البنيان هدما لكله، والله ولي الصواب.
قال محمد بن علي: من حماقات الرافضة أنهم يتسرعون إلى آيات نازلة
في قوم بأعيانهم فيحكمون بها لغيرهم، فتسير فيهم حتى ينشأ عليه طفلهم، ويهرم كبيرهم ويتوارثه الأبناء عن الآباء، فإذا فليت بقراءة ما قبلها وما بعدها عليهم استحيوا من أنفسهم، وقد أهلكوا بها من أهلكوا، فمن ذلك: صرفهم قوله جل وعلا: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)

(1/494)


إلى طلحة والزبير رضي الله عنهما، وزعمهم أنهم نكثوا بيعة علي - رضي الله عنه - فإذا تلي عليهم قوله (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)
علموا أنهما لم يهما بإخراج الرسول في حياته من داره، ولا بعد موته من قبره، ولا طعنوا في دين المؤمنين، فأيقنوا عند ذلك أن ما

(1/495)


تسرعوا إليه من صرف الآية إليهما ليس كما تسرعوا، وهذا شيء متداول بينهم فاش فيهم، يأخذه أصاغرهم عن أكابرهم، ويتوارثونه توارث الأموال لايشكون فيه.
والآية نازلة - فيما بلغنا - في أبي جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأبي سفيان وسهيل بن عمرو وهم كانوا أئمة الكفر الهامين بإخراج الرسول، صلى الله عليه وسلم

(1/496)


فقال الله - جل وعلا: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ)
فأخزى أبا جهل وأمية بن خلف وعتبة، ونصر عليهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، وشفى صدورهم بقتلهم يوم بدر، وتاب على أبي سفيان وسهيل.
وفيه أيضا في الرافضة:
قال محمد بن علي: ومنه أيضا صرفهم في سورة يونس: (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
إنما علي ومعاوية - رضي الله عنهما.
وسمعت هذا من بعض من ناظرني في الإمامة شفاها فظننته اختراعا
من عنده حتى قرأته بعد ذلك في كتاب صنفه بعض قدمائهم في الإمامة يقال له: علي بن فلان من أهل طوس وهو من كبار أئمتهم.

(1/497)


فمن تسمح له نفسه بأخلاق مروءته وصفاقة وجهه أن يجيء إلى معنى مبتدأ العشر كله من قوله: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)
إلى (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى)
وهو مملو بذكر الله - جل وعلا - وذكر شركاء الكفار من آلهتهم التي دعوها مع الله - جل الله - فيجعله في علي ومعاوية - رضي الله عنهما - جدير بأن يتقزز من ذكره فضلا عن أن يتخذ إماما في الدين ولكن (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) .

(1/498)


رد على المرجئة في باب الإيمان
قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
رد على المرجئة فيما يزعمون أن المرء بكلمة الإخلاص وحدها مستكمل الإيمان، ومن كان مستكمل الإيمان فهو في الجنة.
وأرى الله - جل وعز - لم يشهد بالفوز بالجنة والرحمة والرضوان في
هذه الآية إلا بالهجرة والجهاد بالأموال والأنفس.
وكذا قال في سورة البقرة: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) ،
فلم يشهد لهم بالهدى والفلاح إلا بإقامة الصلاة والنفقة وكلاهما عمل، وفي هذه السورة التي نحن فيها (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) .
فكيف يكون على هدى من يعد تارك الصلاة والزكاة مستكمل الإيمان كما يعد فاعلهما، ولا يجعل لأحدهما فضل درجة على صاحبه في

(1/499)


الإيمان، والإيمان لا محالة هدى.
أفيجوز أن يجعل الله - جل جلاله - الهدى في القول والعمل، فنجعل نحن كماله في القول وحده، ولا نقول: إن القول بعض أجزاء الهدى.
أم يجوز أن يوجب الله الفوز والفلاح والجنة بهما فنوجبه بأحدهما، إن
هذا لغير مشكل على من شرح الله صدره ولم يكابر عقله.
ومن طريف ما يحتجون به في تجريد الإيمان واستكماله بالقول وإيجاب الجنة به موت من أمر بها وحدها عليها قبل تفرض الفرائض على غيره فيقال لهم: ويحكم كيف لا يكون مستكمل شيء واحد من جاء به، أم كيف لا يستوجب الجنة من وعدها على ذلك الشيء الواحد، حتى تجعلوه ذريعة إلى استكمال إيمان الخليقة بعده، وقد أمروا بأكثر مما أمر وفرض عليهم ما لم يفرض عليه. أكانت كلمة الإخلاص مفروضة على ذلك والصلاة والزكاة وغيرها غير مفروضة على هؤلاء، حتى تسموا ايتماره في الكلمة إيمانا وايتمار هؤلاء في الصلاة والزكاة غير إيمان، إن هذا لغفلة بينه، أو مكابرة مفرطة، وهل يشك عاقل أن الإيمان ليس بصورة مصورة يستوي الجميع فيها، وأنه مصدر حادث من حدث محدث، مأمور به، فلما كانت الأحداث مفرقة في جسد المحدث الأمور فمنها نطق، ومنها إضمار، ومنها تحريك جارحة كان من أمر بإحداث النطق والإضمار دون تحريك الجوارح، فأحدث

(1/500)


في وقته مؤمنا، وكان حدثه وهو النطق الذي أحدثه بلسانه وأضمر القلب على تصديقه إيمانا ليس عليه غيره، وكان قد أكمل ما أمر به، فلما أمر غيره بمثل ما أمر به وأضيف إليه سواه من إحداث حركة الجوارح لم يقدر أن يحدث إحداث الجوارح باللسان والقلب، فأحدثها بجوارحه مؤتمرا لله - جل وتعالى - كما ائتمر له الأول.
فما بال إحداث حركة الجوارح بالأمر لا تسمى إيمانا، وإحداث حركة اللسان وإضمار القلب بالأمر تسمى إيمانا، هذا ما لا يذهب على منصف ميزه، فكل من ائتمر حقه في جميع ما أمره، وانتهى عما نهاه عنه، فهو مستكمل لما أريد منه من الإيمان، كما كان المقر بالشهادة قبل نزول الفرائض مستكملا لما أريد به منها وإنما جعلنا للإيمان أجزاء ودرجات على مقدار القيام بالفرائض، والشهادة أحدها، بل أعلاها كلها، فمن ترك شيئا من الفرائض سوى الشهادة والصلاة والزكاة إذا وجبت عليه، فهو ناقص الإيمان عن إيمان من لا يتركه، والناهض به زائد الإيمان على إيمان القاعد عنه، ثم تكون النوافل والسنن والفضائل من الإيمان فلا يكون له نهاية في الفضائل،، لأنها غير محدودة ولا متناهية في الكثرة والقلة.
فأما الفرائض: فإن وقوع اسم الإيمان بها على المؤمن متناهي، لأن الفرائض محدودة مسماة، والدليل على أن النوافل والسنن والفضائل من الإيمان: الصلاة قد دللنا أنها من الإيمان وفيها فريضة وسنة

(1/501)


ونافلة فلا يجوز أن يكون بعضها من الإيمان وبعضها ليس من الإيمان.
ودللنا على أن النفقة من الإيمان، وفيها فريضة ونافلة، وكلاهما
من الإيمان. فهذا ما في القرآن في هذه الآية وأخواتها، مع ماسنأتي عليه إن شاء الله في مواضعه على نسق السور.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الإيمان بضع وسبعون
بابا أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان "
فجعل أعلا أجزائه الشهادة، وهي فرض، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق وهو فضيلة، وجعل كليهما من الإيمان، مع أن الشهادة إنما هي فرض مع إضمار القلب على الثبوت عليها أبدا مرة عند الدخول في الإيمان ببلوغ الطفل، أو إسلام الكافر، ثم تكريرها عند الأذان ومواضع التهليل في أماكن الدعاء، وضمها إلى التسبيح والاستغفار والتكبير في أيام التشريق، وخلف الفرائض، وإعمال اللسان بها في أماكن القربات بها فضيلة

(1/502)


وليست كالصلوات الخمس والزكاة عند حلول الحول، وسائر الأعمال التي لها أوقات محدودة تكون فرائض كما أقيمت.
فهل يقولون - ويحهم - إن كلمة الإخلاص تكون إيمانا إذا كانت فرضا، وغير إيمان إذا كانت فضيلة، فيكفونا مؤنة الاشتغال بهم، أم نقرر هذه النكتة وحدها عندهم أن الإيمان لا نهاية له؛ إذ كانت الشهادة نفسها هذه سبيلها، وأن في الفضائل ما يكون إيمانا.
أم يزعمون أن كلمة الإخلاص فرض في كل وقت أن يشهد بها الموحدون من غير أن يفتروا عن القول، فيخرجون من قول أهل الملة، ويوجبون على كل من أتت عليه لحظة يمكنه أن يشهد فلا يفعل الردة، إذ لا يمكنهم أن يجعلوا لها أوقاتا كأوقات الصلاة والزكاة.
فإن قال قائل: فما حجتك في دخول من ترك شيئا من الفرائض الجنة وهي عندك من الإيمان، وقد زعمت أن الله - تبارك وتعالى - لم يوجب في صدر الآية التي بدأت الفصل بها الجنة إلا بالجهاد والهجرة وتاركهما عندك ناقص الإيمان، وأنت تزعم أنه يدخل الجنة مع نقصانه كما يدخل الزائد مع زيادته، قيل: إنما احتججت بالآية على من زعم أن الجهاد والهجرة ليسا من الإيمان، فأريته أن الإيمان ذو أجزاء، يجمع فرائض ونوافل، فإذا أتى المؤمن بجميع الفرائض، ولم يترك شيئا منها، أو تركها ثم تاب منها، فبدلت سيئاته حسنات حرمت عليه النار في حكم العلم ووجبت له الجنة، ولم يضره ما ترك من السنن

(1/503)


والنوافل، ولا أثرت في إيمانه المفروض وأجزائه الواجبة.
وكان ناقص الدرجة عن أجزاء فضائل الإيمان مستكملا لما أريد منه
من إقامتها، وكانت زيادة الخشية والمراقبة والرهبة وإحضار الهم في الإقامة من نوافله أيضا، يتزايد المقيمون في درجاتها، وإذا ترك شيئا من الفرائض ثم مات بغير توبة صار في منتظري العفو، فإن عفي عنه ربه قبل إدخاله النار وأدخله الجنة فبفضله، وإن أدخله النار باستيعابه فقد وعده أن لا يتركه فيها بقوله: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) .
وسنلخصه في سورة مريم إذا انتهينا إليه إن شاء الله، وليس جود العفو عن المذنبين قبل دخول النار وبعدها بموجب أن تكون أعمالهم التي أدينوا بتركها لا تكون من الإيمان، لأن الله - جل جلاله - إنما حرم الجنة وأوجب الخلود في النار على من ليس فيه شيء من أجزاء فرائض الإيمان، وذلك الكافر، وهذا هو الموضع الذي يغلط فيه المرجئة، فيظنون أن الكافر لما خرج من الكفر إلى الإيمان بكلمة الإخلاص كان جميع الإيمان مجموعا فيها له، ولا يعلمون أن هذه الكلمة وإن كانت أوكد أجزاء الإيمان، وكان الكافر مستوجبا لاسم الإيمان بها إذا قالها ولم يكن مستوجبا بغيرها قبلها - غير مانعة من أن يكون للإيمان جزء غيرها لا يستوجب المؤمن كماله إلا به.

(1/504)


أولا يعتبرون أن الله - تبارك وتعالى - قد أكد في فرائضه التي يعدونها شرائع الإيمان لا الإيمان - بعضها دون بعض، فحرم على المؤمن أن ينهر أبويه كما حرم عليه قتلهما.
فهل يجوز لأحد أن يقول: تحريم القتل من الشرائع، وليس تحريم الانتهار من شرائع الإيمان؛ لأن صار تحريم القتل أوكد منه، لعظم العقوبة فيه، كما يزعمون أن سائر الكلمة ليس من الإيمان، وإن كانت فريضة، لأنها ليست في التأكيد مثل الكلمة إن كان حكم النظر أن كل مسمى باسم لا يجوز أن يجعل في أجزائه ما لا يكون في التأكيد مثله.
وكوقوع اسم الإنسان على جميع شخصه، وفيه أجزاء مؤلفة بعضها أوجد قوة من بعض، وأعظم منفعة، وأضاء ضياء، فلا يقال: إن اسم الإنسان مخصوص به أعظم منفعة أعضائه، وأشد قوة جوارحه، وتكون سائر أجزاء البدن تبعاً له في أنه ذو حركة وسكون، لا أنه بعض أجزاء الشخص الذي لم يستحق الاسم إلا به.

(1/505)


في ذكر بيان النجاسة:
* * *
وقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا)
دليل على أن النجس نجسان: نجس فعل، ونجس ذات، وهو في هذا الموضع - والله أعلم -: نجس فعل، وهو شركهم، لا أن أبدانهم نجسة، وكيف تكون نجسة وليست بين خلقتهم وخلقة المؤمنين فرق في شيء من الأشياء، وقد أباح الله لنا أكل طعامهم في ديارهم وقد مسوها بأيديهم، فعجنوا العجيب، وخبزوا الخبز، وعندهم أذهان مائعة، وقد استخلصوها بأيديهم وترطبت بمماستهم، فهي لنا طلق حلال، ولو كانت أبدانهم نجسة لحرمت علينا تلك الأشياء كلها.
وأباح لنا نساء أهل الكتابين وفيهم شرك وهن يضاجعن بأبدان رطبة ويابسة ويصيب أزواجهن من عرقهن وريقهن فلا تنجس عليهم أبدانهم، وفي أهل الكتاب لا محالة شرك لقولهم في المسيح والعزير، فإن قيل: فقد أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، ثمامة

(1/506)


بن أثال الحنفي حين أسلم أن يغتسل.
قيل: ليس في ذلك ما يدل على نجاسة البدن، إذ لو كان كذلك لما نفعه الاغتسال، وحد النجاسة على حاله لم يتغير منه شيء، والنجاسة لا تزول ما دام لها عين قائمة، والذي يشبه - والله أعلم - أن يكون أمره بالاغتسال من أجل الجنابة التي كان يجنب أيام كفره فلا يغتسل لتحل له الصلاة، أو عبادة لا يعرف وجهها كغسل الآنية من ولوغ نجاسة الكلب سبعا، وأشباه ذلك.
فإن قيل: فالميت يغسل قبل دفنه.
قيل: ولا ذاك لعلة نجاسته، إذ لو كان للنجاسة لما نفعه غسل

(1/507)


ألف مرة لقيام أصل النجس وعدم اضمحلاله، إذ لو كان لنجاسة ظاهرة لأجزأت غسل مرة واحدة ولم يبلغ به ثلاثا وخمسا وسبعا، ولا وضىء وضوء الصلاة، ألا ترى أن لو كان بدل الإنسي حيوان فارقته الروح، فتنجس ذاته لمفارقة الروح إياه - لم تطهر جيفته أبدا ولوغسلت بماء البحر،
فغسل الميت عبادة لا إزالة نجس، والمؤمن لا ينجس حيا ولاميتا
ألا ترى أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قبل عثمان بن مظعون وهو ميت حتى سالت دموعه على خده.
والعلم يحيط أنه لا يقبل جيفة

(1/508)


نجسة.
فإن قيل: فما تقول في جيفة الكافر إذا فارقته الحياة أنجسة هي أم
طاهرة،
قيل: بل نجسة، لأن كل ذي روح فارقته الحياة تنجست جيفته، وإنما سلمنا في جسد المؤمن إذا مات للخبر.

(1/509)


فإن قيل: فما وجه أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، عليا بغسل
أبيه بعد موته وهو مشرك. (1)
قيل: هو خبر في إسناده نظر لأن أبا إسحاق السبيعي ناجية ابن كعب، وناجية ليس بالمشهور في المحدثين.
رواه عن
__________
(1) خبر أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب بغسل أبيه، رواه الإمام أحمد في المسند من طريق أبي إسحاق عن ناجية بن كعب انظر مسند الإمام أحمد بتحقيق أحمد شاكر (2/2 1 1) ح (759) وانظر أيضا (136/2) ح (807) وصحح الإسنادين أحمد شاكر، والألباني في الجنائز وبدعها ص (134) .
ورواه أيضا أبوداود في سننه (3/ 4 21) ح (4 1 32) كتاب: الجنائز، باب: الرجل يموت له قرابة مشرك.
والنسائي في سننه (1/ 110) ح (190) كتاب: الطهارة، باب: الغسل من مواراة المشرك وفي ص (4/ 79) ح (6 0 0 2) كتاب: الجنائز، باب: مواراة المشرك.
والبيهقي في سننه (1/ 304، 305) كتاب: الطهارة، باب: الغسل من غسل الميت.
وأخرجه أيضا في ص (398/3) كتاب: الجنائز باب: المسلم يغسل ذا قربته من المشركين ويتبع جنازته ويدفنه ولا يصلى عليه.

(1/510)


وأبو إسحاق مدلس ولم يذكر سماعه من ناجية، ورواه عن أبي إسحاق أيضا مدلسان ولم يذكرا سماعهما: الثوري وشريك ولا قالا فيه: " اغسل أباك " إنما قالا: " وار أباك "، وقد يواريه من غير غسل لو صح الخبر، ولو كان ثابتا أيضا ما كان وجه غسله الأوجه تعبد لا نعقل علته.
فإن قيل: فهل في أمره عليا - رضي الله عنه - بالاغتسال بعد غسل - إن صح الخبر - ما يؤكد نجاسة جيفة الكافر،
قيل: هي - بحمد الله - مؤكدة بما قدمنا ذكره. فأما بهذا فلا

(1/511)


تزداد تأكيدا من أجل أنا لا نشك أن عليا لم يأت النبي، صلى الله عليه وسلم، من غسل أبيه إن صح الخبر عريانا ولا بادي العورة فلو كان أمره للنجاسة لأمره بغسل ثيابه، أو مئزره مع جسده، ولكنها من العبادات - إن كان لها أصل - لا تعقل وجوهها.
ومثل نجاسة المشرك قوله، (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
هو عند قوم نجاسة، وأنا أحتج لهم وعليهم فأقول: نجاسة العمل بها لا رجاسة ذواتها؛ لأن الخمر عصير عنبة طاهرة والنشيش لما حرم شربها لم تنجس ذاتها. ولو كان نجس ذاتها ما عادت إذا صارت خلا طاهرة، لأن النجاسة لا تعود طاهرة إذا كانت مائعة إلي بممازجة مقدار يغلبها من الماء لها.

(1/512)


ولا أعلم بين الأمة خلافا - بل هو من الإجماع المحصل - أنها إذا تتخللها صنعة آدمي واستحالت خلا أنها طاهرة فهذا يدلك على أنها كانت نجسة الشرب لتحريمها، فلما حلت بزوال اسم الخمر عنها وحدوث اسم الخل فيها صارت تلك العين المائعة بعينها طاهرة الذات، طاهرة الشرب والذات والاصطناع بها والتمول في البيع وغيره. ومما يزيد ذلك تأكيدا أن الآنية الحاوية لها قد تنجست برطوبة الخمر
عند من يراها نجسة الذات، فكان ينبغي له أن يقول: إن الخمر نفسها، وإن طهر ذاتها بالاستحالة إنما الخل، فهي نجسة بمماسة الآنية النجسة، إذ كانت النجاسات عنده لا يطهرها إلا الماء، والخل لا يطهر الأنجاس، فأما أن يقول: إن الخل وكل مائع يجري بسلاسته ورقته على النجاسة طهرت به. وإما أن يرجع عن قوله في نجاسة ذات الخمر، فلا يعتبر على نجاستها بتحريم شربها فليس كل محرم نجسا. ألا ترى أن الحرير والديباج محرما اللبس على الذكور وهما طاهران

(1/513)


في أنفسهما، ومحرم شرب الماء في آنية الذهب والفضة، والماء طاهر، والذي حرم منه فعل الشرب على تلك الحال، وكذلك العصير حرم شاربه في حال صلابته التي أحدثها النشيش عليه، وهو طاهر في نفسه إذا لم تمازجه نجاسة نجسته، والنشيش ليس بنجس، إنما تعبد الناس بترك هذا الشراب بعد النشيش في الشرب، فإذا شربوه خرجوا من التعبد وواقعوا المعصية.
فمواقعة المعصية نجسة، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم رجم ماعز بن مالك، " اتقوا هذه القاذورات التي

(1/514)


حرمها الله عليكم "
فسمى الزنا وما يضاهيه من المعاصي قاذورات. فهذا بين لا إشكال فيه أن أفعال المعاصي والكفر نجسة، ألا ترى أن نفس الميتة لما كانت نجسة فأبيح أكلها للمضطر لم ترتفع عنه العبادة في غسل فيه وبدنه إذا وجد الماء، وأنه ليس له أن يصلي، والماء موجود حتى يغسل أثر نجاسة الميتة عنه، لأنه وإن أبيح له أكلها فذاتها نجس لم تستحل على الآكل بإباحة الأكل له طاهرا، وكذلك نفس شراب أصله طاهر لم ينجس بأن حرم شربه إنما حرم فعل المعصية في شربه فهذا صحيح لا علة فيه، ولاغمة دونه عند من شرح الله صدره وأعاذه من دناءة أخلاق العامة، ولم يسرع إلى الشنعة. بما لا طائل له من حجة.
ألا ترى أن الميسر هو القمار، والمقمور طاهر في نفسه درهما كان أودينارا أوثوبا أو أي سلعة كانت، والأنصاب حجارة، أو صنم منحوت

(1/515)


من خشب أو مصبوب من صفر أو آنك أو ذهب أو فضة وكل ذلك طاهر لم يتحول المأمور نجسا لأن قمر.
ولا الحجر والخشب وأشباهها، لأنه نهي عن عبادتهما والمقمور لأن
نهي عن قمره.
وقد سمى الله كل ذلك مع الخمر رجسا، فما بال الخمر وحدها من
بين هذه الأشياء صارت بالتحريم نجسة الذات، وبقيت هذه الأشياء تكون طاهرة الذات محرمة الشرب،
ولأنها مائعة وتلك جامدة، أم النشيش لما صلب عصيرها وجعله حاليا سكرا حوله الطاهر نجسا،
وقد دللنا على أن النشيش غير نجس في نفسه فكيف ينجس غيره،
ولا السكر في ذاته نجس إنما الدخول فيه محرم.
أم الفعل في شرب الخمر منجس نفس الخمر وليس الفعل في القمار

(1/516)


وعبادة الأصنام بمنجس أنفسها.
ذكر الحرم أنه قبلة:
وفي قوله، (فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا)
دليل على أنه - وهو أعلم - سمى الحرم كله مسجدا لمجاورته المسجد، إذ لو كان واقفا على المسجد وحده لجاز للمشركين دخول الحرم إذا تجنبوا المسجد، ومما يؤكد ذلك قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ) .
وذلك أن المشركين كانوا يقدمون بتجاراتهم إلى الحرم، وكان المسلمون يصيبون من أرباحها. فلما منع المشركون من دخول المسجد الحرام بهذه الآية شق عليهم فوت أرباحهم، وخشوا دخول العيلة عليهم، فنزلت: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)
فلو كان النهي واقعا على المسجد نفسه لا على جميع الحرم، لكان دخولهم الحرم بتجاراتهم وإن جنبوا المسجد دارا عليهم بالأرباح ولم يخافوا العيلة

(1/517)


بفواتها.
وفي وقوع اسم المسجد على الحرم دليل على أنه قبلة لأهل الأرض وسعة لهم في التوجه إليه إذا أرادوا الكعبة، كما جاء في الخبر: " إن البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها ".
وهذا الحديث وإن كان من جهة النقل واهيا فقد عضده هذا المعنى.
ذكر الجهاد والجزية:
* * *
قوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ)
دليل على أن نساءهم وصبيانهم لا جزية عليهم، لأنهم لا يقاتلون بل قد نهي عن قتلهم.

(1/518)


وفي قوله: (وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
دليل على توهين قول من قال: إن من أسلم من رجالهم وقد مضى بعض السنة فعليه من الجزية بقدر ما مضى منها، لأن الله - جل جلاله - جعل الجزية صغارا والصغار لاحق بالدافع وقت الدفع لقوله: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) وكيف يلزم المسلم صغار الجزية وقد أعزه الله بالإسلام، والإسلام يجب ما قبله
وقال تبارك وتعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)
وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: " ليس على مسلم جزية ".
ذكر تسمية الشيء باسم الشيء إذا جاوره:
وقوله (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ)
حجة في شيئين، أحدهما: جواز

(1/519)


تسمية الشيء باسم الشيء إذا جاوره كما مضى في غير فصل من كتابنا، لأن القول - لا محالة - بالألسنة لا بالأفواه.
والآخر: إجازة التأكيد في الكلام وإبطال قول من قال: لا تأكيد
فيه، إذ الكلام لا يخرج من غير الأفواه.
ذكر اختصار الكلام والإخبار عن المعاني المختلفة باللفظ الواحد والتقليد:
* * *
قوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
دليل: على اختصار الكلام والإخبار عن المعاني المختلفة باللفظ الواحد، فمن ذلك أن الأحبار على الأغلب في اليهود والرهبان في النصارى، وقد أخبر عنهم في الإضافة بلفظ واحد.
ومنه عطف المسيح - عليه السلام - على جماعتهم باتخاذه ربا دون اليهود.
ومنه أن المعنى الذي اتخذته الأحبار والرهبان أربابا مخالف لما اتخذته

(1/520)


المسيح عليه السلام، لأن السيد دعي ولدا، وكذب فيما جاء به من الدعوة إلى الله، والأحبار والرهبان أطيعوا فيما أمروا ونهوا من تحريم الشيء وتحليله، فنسبهم إلى أنهم اتخذوهم أربابا بفعلين مختلفين ولفظ الأرباب واحد.
ومنه: أنه أوقع أسما هو له على خلقه ولم يكن نقضا فيما هو له ثم أشرك فيه أعداءه ونبيه.
ومنه: أنه سمى سجود النصارى لعيسى، وقبول من قبل من الأحبار والرهبان - عبادة. وفي هذا أكبر دليل على نفي التقليد، وإعظام القول به.
ومنه أنه سمى الجماعة مشركين من المؤتمرين - الأحبار والرهبان - والساجدين وعيسى الداعينه إلها مع الله - تعالى الله - من أجل أن الائتمار في تحليل الشيء وتحريمه لا يصلح إلا لله، كما لا يصلح السجود ودعوى الإلهية إلا له، فلما ائتمر هذا وسجد هذا كان قد أشرك كل مع الله من لا يصلح أن يكون معه فيه، فسمى كلا - وهو أعلم - مشركا، وإن كان سبب شركه وعقوبة فعله مختلفا.
حجة لأهل السنة على المبتدعين:
* * *
قوله: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
حجة لأهل السنة على كل من أسر دينا

(1/521)


من أهل البدعة وما يحتجون به من قصة آسية ومؤمن آل فرعون
وقوله (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)

(1/522)


(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
ودخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغار وأشباه ذلك، فهو قبل هذه الآية.
وما أمات الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد ما أظهر دينه
على الأديان، وأكمل له بقوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)
أنزل هذا عليه في حجة الوداع، وهو واقف، صلى الله عليه وسلم، مع أصحابه - رضي الله عنهم - بعرفات مع أن أكثر ما يحتجون بها.
وكل ما كان على شيء يزعم أنه من الدين، وهو يستره ولا يظهره خشية إنكاره، فقد عرف بطلانه قبل أن يسأل برهانه، واستوى في

(1/523)


معرفة تزييفه العالم والجاهل، إذ من شرط الآية أن يكون بعد نزولها في دين الحق ظاهرا.
فإن كتم عدم شرطه المشروط فيه، وفي عدم شرطه دخول الخلل عليه وزوال الحق عنه، فإن احتج محتج بما روي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ ".
قيل: ليس فيه وقت مؤقت يعود فيه، ولو كان أيضا مؤقتا لعلمنا أن غرباء الدين بدءا كانوا يسترونه عن الكفار وعبدة الأوثان، ومن كان يقاتلهم عليه، وترى المبتدعة يسترونه عن أهل القبلة ومن هو مستعل عليهم، وعلى عبدة الأوثان والممتنعين من أداء الجزية من أهل الكتاب، فإن كان الخبر صحيحا وجازما يرجع عدد المسلمين في الشرق والغرب إلى من كان يسر الدين قبل إسلام عمر - رضي الله عنه - صح تأويل الخبر حينئذ، والا فلا متعلق للمحتجين من أهل البدعة

(1/524)


ذكر الزكاة في الكنوز:
(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)
الهاء راجعة إما على الكنوز، وإما على عدد الدنانير والدراهم، أو قطاع التبر من الذهب والفضة لا على لفظهما.
فلا يشبه أن يكون هذا الكنز - والله أعلم - إلا المال الذي لا تؤدى زكاته، إذ لو أريدت جميع الأموال من الذهب والفضة، ما كان لقوله (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً)
معنى، ولا لقوله: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) .
ومع ما جاء في القرآن من آيات الزكاة، وحبس الأموال حتى يحول عليها الحول، ولبطلت السنن المروية في الزكاة، ولعللت آي المواريث وكان كل من له مال قل أو كثر ينفقه ولا يحبسه للزكاة ولا للميراث،.
ولا أحسب الزكاة إلا من سبيل الله، فإذا أخرجها فقد أنفق ماله في سبيل الله وكذا قال ابن عمر - رضي الله عنه: " ما أدى ركاته فليس بكنز".

(1/525)


وقد أسندوه إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، من طريق ابن عمر، وجابر،

(1/526)


وأم سلمة.
فإن احتج محتج بالحديث المروي عن أبي أمامة الباهلي

(1/527)


وغيره: أن رجلا من أهل الصفة مات وترك دينارا، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: " كية " وتوفي آخر وترك دينارين، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: " كيهان ".
قيل: ليس في إسناد هذا الخبر ما يعارض به ماذكرنا من آي القرآن
في الزكاة والمواريث، لأنه رواه عن أبي أمامة أبو الجعد مولى لبني ضبيعة وهو مجهول وعبد الرحمن بن العداء

(1/528)


الكندي وليس ممن تثبت بروايتهما حجة، وسيما وقد رويا رواية تعارض القرآن في الظاهر.
ورواه شهر بن حوشب وفيه ضعف، وحديث أبي ذر

(1/529)


وقد دلت حديث ثوبان مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم،
على ما قلنا وهو أصح إسنادا حيث يقول: " أيما رجل ترك كنزا بعده مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان "

(1/530)


وهذا مثل رواية عبد الله بن مسعود وأبي هريرة في المال الذي لا تؤدي زكاته، فرواه ثوبان مجملا بذكر الكنز، وروياه مفسرا.
ولو صح حديث أبي أمامة أيضا، لاحتمل أن يصرف قوله في الكية

(1/531)


والكيتين إلى غلول أو عقوبة كذب حيث يوهم الرسول، صلى الله عليه وسلم، أن لا شيء عنده، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعده في عداد أصحابه من أهل الصفة، ثم يترك ما ترك، ولا نترك آي الزكاة والمواريث، ألا ترى أنه، صلى الله عليه وسلم، لم يقل لسعد ما قال لهما، حيث دخل عليه وهو مريض فقال: يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال، بل لم يدعه أن يتصدق من ماله في

(1/532)


الوصية إلا بالثلث، واستكثره ولم يقل: أنت ميت، ومالك كنز فأخرجه في سبيل الله قبل يحمى عليك في نار جهنم. وكذا قال لأبي لبابة حيث تيب عليه، وأراد أن ينخلع من جميع ماله قربة إلى الله - جل وتعالى " يجزيك منه الثلث ".

(1/533)


وقال له جابر بن عبد الله: كيف أقسم مالي بين ولدي، فأنزل الله - تبارك وتعالى -: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) .
فدل الكتاب والسنة على أن الحابس ماله بعد أداء الزكاة المفروضة لا حرج عليه فيه، وكل شيء أخرجه بعد الزكاة في وجوه البر ونوائب الخير فهو فضيلة وقربة.
فضائل أبي بكر - رضي الله عنه -:
* * *
قوله: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)
رد على الرافضة في تقديم علي على أبي بكر - رضي الله عنهما -؛ إذ قد شهد الله - جل وتعالى - له بالصحبة والكينونة

(1/534)


معه في الغار من دون الناس، ولخروجه من توبيخ الخطاب وترك النصرة بالمسابقة إلى ما قعد عنه غيره، والمشاركة له فيما يحذر المطلوب، إذ لا نصرة أنصر ممن بذل نفسه للمكروه وخرج مع المطلوب يؤنسه في وحدته ويشاركه فيما يتقيه من محذور عدوه.
ولئن كان على - رضي الله عنه - قادرا على الخروج مع رسوله الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الغار فلم يخرج، أو أراد الخروج فرده وأخرج غيره لقد قدمه عليه تقديما ظاهرا، إذ رضيه لأنسه، وأشركه فيما نال من ثواب الله هناك، ولئن كان عن ذلك عاجزا لصغره، لقد سبقه إلى مكرمة لا يقدر مشاركته فيها أبدا، وبان فضله عليه.

(1/535)


ألا ترى أن الله - تبارك وتعالى - يقول: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) .
ولو قبلوا الأخبار لجئنا في هذا الفصل من صحاحها بسبب الغار ما
كان يزول بها عنهم كل ريب، مع أن ما أداه القرآن من ذلك - بحمد الله - شاف كاف لمن بصره الله وكشف عنه غمة الغباوة.
المعتزلة:
* * *
قوله: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ)
حجة على المعتزلة والجهمية شديدة من جهات:
أحدها: ما قدم من ذمهم في قوله: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلى قوله: (لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) .
الثانية: ما ذكر من الكراهة التي هي عندهم من صفات الخلق ولا يميزون أن كراهة الخلق مخلوقة، وكراهته غير مخلوقة فهي مباينة واضحة بينه وبين خلقه.
الثالثة: ما ذكر من تثبيطهم، فأي شيء يلتمسون أوضح من هذا أن

(1/536)


يكون ذمهم على التخلف عن أمر هو ثبطهم عنه، وكره خروجهم فيه، أوليس هذا من العدل الذي لا نعقله، وهذا نظير ما مضى في سورة الأنفال في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) .
لأنه نفس ما بيننا وبينهم فيه الخصومة، لا مشابهه فيما أثرناه عليهم من أنواع صنعه في عدله. وقد قال في تمام ذكرهم: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ)
فأخبر عنهم بما هم فاعلون قبل الفعل - سبحانه - أن يقدر بشر الحيدة عما علمه منه قبل فعله، والله المستعان على عقول تضيق عن هذا البيان الواضح أو تكابر في الخطب الفاضح.
ذكر من يعد المعاصي كفرا:
قال محمد بن على: ومن حماقات من يعد المعاصي كفرا أو يزعم أن

(1/537)


النار لا يدخلها إلا كافر احتجاجهم بقوله: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) .
وإخراجهم المؤمن المذنب من جملة من تحيط به، وادعاؤهم أن محالا عندهم أن تذكر الإحاطة بقوم موصوفين فيدخل معهم غيرهم، وهذا هو نهاية الجهل والإفراط في الحماقة.
أو ليس جائزا عندهم أن تكون لرجل ماشية من بقر وغنم أو غنم وحدها - عفر وسود - فيدخلها حظيرة فيقال: أحاطت حظيرة فلان ببقره ولا يذكر فيها غنمه، أو أحاطت بسود غنمه ولا يذكر عفرها، وقد أدخل كلا فيها، فيكون كلاما غير مستحيل أن تكون الحظيرة أحاطت بالمذكور وغير المذكور، وما عسى يقولون في قوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)

(1/538)


أيقولون - ليت شعري - إنه غير محيط بالمؤمنين وبالبهائم وجميع الخلق، نعوذ بالله من الجهل.
المعتزلة:
وقوله: (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا)
رد على المعتزلة والقدرية من جهتين:
إحداهما: أنه قال: (إِنْ تُصِبْكَ) ولم يقل " إن تصب " والمضاف غير مالك لما يصيبه
والثانية: (لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا)
وهم ينكرون الكتاب السابق في كل شيء وهو نظير ما مضى في سورة النساء (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) .
وحق قراءة من قرأ هناك: " فمن نفسك وأنا كتبتها عليك) إذ

(1/539)


جائز أن يكون بين هاهنا ما أجاز اختصاره هناك، والله أعلم.
ذكر أشياء مختلفة في اسم واحد:
* * *
قوله: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)
حجة في تسمية أشياء مختلفة باسم واحد؛ لأن إحدى الحسنين هاهنا - والله أعلم - الفتح أو القتل في سبيل الله، وكلاهما مختلف، والحسنة الجنة قال الله - جل وعز -: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)
والحسنى صفة لجميع أسامي الله - جل الله - قال الله - تبارك وتعالى -: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)
وهو حجة على المعتزلة في باب موافقة الأسماء الواقعة على ما سميت به، ولا تكون المسميات متفقات لاتفاق أسمائها كما ترى.

(1/540)


وقوله: (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا)
حجة في إضافة الإصابتين إلى الله - عز وجل - ما كان منه وما كان بأيديهم، وهو فعل فعلوه هم بحركاتهم وأعمال أسلحتهم، وقد أضافه تعالى لنفسه كما ترى.
ذكر المرتد يخرج الزكاة:
* * *
قوله: (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
دليل على أن الكافر لا يصعد له عمل، ولا يقبل منه خير يثاب عليه في الآخرة، وأن مرتدا لو أخرج زكاة ماله في الردة، ثم راجع الإسلام لوجبت عليه الإعادة واستئناف ما دفع مرة أخرى، لأنه دفعه في حين لم يقبل منه والزكاة أعظم النفقات.
المعتزلة والقدرية:
* * *
قوله: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
حجة على المعتزلة والقدرية

(1/541)


سديدة، إذ أخبر الله - جل وعلا - نصا عن إرادته في خروج أنفسهم على
فإنا لو سامحناهم في زوال القضاء عنهم حيث دخلوا في الكفر والنفاق
ما سامحناهم في الخروج منهما مع هذه الآية.
وكيف يقدرون الانتقال عن شيء يريد الله قبضهم عليه، ولا يعتبرون - ويحهم - أن من كان إليه الدخول باختياره فالخروج أيضا إليه. فإن زعموا أن المذكورين في هذه الآية قدروا على الخروج والانتقال عما أراد الله، فقد كفروا - لامحالة - إذ المغلوب عن إرادته غير نافذ الأمر، وليس هذا من صفة الإله.
وإن قالوا: لم يقدروا على الخروج عن إرادته انكسر قولكم فيما يزعمون أن الإرادة منه إرادة بلوى واختبار لا إرادة حكم واضطرار، فأين موضع البلوى والاختبار بعد موت المذكورين في هذه الآية.
* * *
قوله: (لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)
بلغني أن قتادة كان

(1/542)


يقول: فيه تقديم وتأخير، كأنه يقول: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله أن يعذبهم، أي في الآخرة، وتزهق أنفسهم وهم كافرون، وقد يحتمل ما قال، ويحتمل غيره. كأنه يقول - والله أعلم -: ليعذبهم بها في الحياة الدنيا بما يمضهم من ذهاب أموالهم وفقد أولادهم ولا يثيبهم عليه في الآخرة كما يثيب المؤمن فلا يكون فيه تقديم، وأيها كان فالحجة في زهق أنفسهم على الكفر قائمة على القوم.
ذكر الأصناف الذين يستوجبون الزكاة:
* * *
قوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) .
دليل على أن هذه الأصناف مواضع للصدقات، لا أنهم

(1/543)


مشتركون فيها حتى يكون توزيعها على جميعهم فرضا لا يجزئ غيره. ألا تراه - جل وتعالى - يقول: (وَفِي الرِّقَابِ) (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، فغير لفظ النسق على لام الفقراء، وليس يعرف في معنى الاشتراك أن يقال: هذا لفلان وفلان، وفي كذا، ومما يزيده تأكيدا قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) ،
فأخبر أن هؤلاء اللامزين ليسوا موضعا للصدقة، ولكن مواضعها كذا وكذا - والله أعلم - فقال: إنما الصدقات هذه مواضعها.
ومما يؤيد قولنا أيضا أنها لو كانت اشتراكاً لبين - والله أعلم - مبلغ ما يعطى كل صنف منهم ليزول التشاح منهم، وكذا روي عن أصحاب رسول الله صلى الله أعليه وسلم، مثل: حذيفة وغيره، وعن

(1/544)


التابعين مثل إبراهيم النخعي وغيره أنه يجعلها في صنف واحد
ولا أعلم أحداً شدد فيها كتشديد الشافعي - رضى الله عنه - والشافعي ينهى عن تقليده وتقليد غيره.
* * *
وقوله: (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)

(1/545)


الهاء في (إليه) راجعة على الملجأ وحده، لابتدائه به ولعمل المغارات، والمدخل - والمغارات عمله - أو على المعقل أو المكان لا على جميع ما ذكر، والله أعلم.
قوله (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ، الهاء راجعة على الله وحده والرسول تبع له.
معنى الوعد:
(وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ)
دليل على أن الوعد يكون في الخير والشر، والإبعاد هو الذي يكون في الشر ولا يشاركه فيه الخير، وفصله بين المنافقين والكفار بالواو على تفريق الاسم بهم، لا على اختلاف المعنى - والله أعلم - لأن المنافق أيضا كافر وهذا كقوله: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)
وأهل الكتاب أيضا مشركون لقولهم في

(1/546)


عزير والمسيح، ولكن فرق بينهما - والله أعلم - على غلبة اسم المشركين على أهل الأوثان، وأهل الكتاب على اليهود والنصارى،، وغلبة اسم الكفر على من أعلن به، واسم النفاق على من أسره. وكما قال: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ)
إلى قوله ((وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) .
وكل هذا داخل في الميتة، والذي فصل بينها بالواو الأسامي الغالبة عليها لا المعاني المتفقة فيها.
* * *
وقوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) .
دليل على أن زيادة البيان من فصيح كلام العرب ممدوح في أماكن الحاجة إليه، لأن كل ما تقدم الطاعة في هذه الآية داخل فيها فلم يضر رده مع غيرها في جملة الطاعات.
ذكر حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " ما منكم أحد ينجيه عمله ":

(1/547)


قوله: (أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ)
يؤيد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ما أحد منكم ينجيه عمله " قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة "،
لأنه - تبارك وتعالى - بعد ما وصفهم به من كثرة الأعمال وعدهم الرحمة قبل الجنة حتى يكون دخولهم إياها برحمته لا بأعمالهم، إذ أعمالهم لو قيست ببعض النعم لاستفرغتها، فلا يحصل لهم إلا رحمته.
فلما تغمدتهم وأدخلتهم دار كرامته عطف عليهم بفضل جديد ونعمة مثناة، فقال: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) ،
و (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) ، و (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) .

(1/548)


والإحسان والعمل: ما أسلفوه في الأيام الخالية كله من نعمته عليهم وتوفيقه إياهم وهدايته لهم - سبحانه -.
* * *
قوله: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ)
حجة في أشياء:
فمنها: أن المرتد تقبل توبته، ولا يقتل بتبديل دينه كما روي في ظاهر الخبر: " من بدل دينه فاقتلوه "، فكان معنى " فاقتلوه ": إن لم يتب وبقي على الردة. ومنها حجة للنابغة فيما قال:

(1/549)


لا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
وحجة للآخر:
ولا عيب فينا غير عرق لمعشر
كرام وأنا لا نخط على النمل
لابتداء الآية بذكر النقمة، ومجيء لفظ الاستثناء بالإغناء.، وهو من غيرجنسه
وكذا الشاعران ابتدأا البيت بذكر العيب ثم استثنيا منه بما هو مدح.
ومنها: إشراك الرسول في الإغناء مع الله، والله هو المغني وحده
وفيه حجة قي أن نسبة إغناء المخلوق إلى المخلوق جائز، ولايكون كذبا، بل هي منة من المعطي على المعطى، واجب عليه معرفة إنعامه وشكره عليه وإن كان أصلها من عند الله.
ومنها: أن ذكر التوبة فيها حجة على المعتزلة في امتناعهم من جواز

(1/550)


العفو على الله على المحتقب ذنبا مات عليه، وادعائهم أنه مخلد في النار من أجل أنه خلف لوعده عندهم، والثواب والعقاب عندهم واحد، فيقال لهم: إن كانت العلة في ذلك أن من أوعد قوما عقوبة ثم لم يفعلها كان خلفا وكذبا - ولا يجوز ذلك على الله - فهذه العلة قائمة في الدنيا قبل أن يصار إلى الآخرة، فما باله - جل وعلا - يقول قبل هذه الآية: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ) .
فيخبر عن قوم بأن مأواهم جهنم ثم لا يجعلها مأواهم، بل يجعل مأواهم الجنة بإحداث التوبة.
وما باله يقول: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) ، فيوجب عليه الخسران وحبط العمل، ثم يرده عليه بالتوبة ويجعله مفلحا بعد أن كان خاسرا.
وهو حينئذ واحد قد وعد شيئا، ثم فعل به غيره، وإن كان بالتوبة فعل به ما فعل فلم يفعل به ما وعد.
وتوبة هذا لم تحقق الوعد من الواعد على معنى ما ذهب إليه القوم،

(1/551)


وإن كان لله أن يترك ما وعد السمك من العقاب ولا يكون ذلك خلفا ولا كذبا، فسواء تركه بسبب شيء يحدثه الموعد، أو بغير سبب منه لأن السبب إحسان جديد من الفاعل، والإساءة في فطرة العقول لا تعود غير معقولة وقد فعلت.
بل قولهم هذا جهل بلسان العرب، فإن العرب لا تعد الخلف إلي ترك إنجاز الوعد في الخير، فأما ترك إنجاز الإيعاد فهو عندها كرم وتفضل لا خلف ولا كذب، والقرآن نازل بلغتها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم،: " من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له، ومن وعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار ".
وقال الشاعر:
وإني إذا أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

(1/552)


والله أحق من تكرم على عبده، فقد سمى نفسه كريما، والكريم يعفو عن قدره ويتجاوز عن حقه.
وقد أمر الله بالتحفظ بالأيمان وقال رسوله الله، صلى الله عليه وسلم: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ".
وروي " وهو كفارته ".
وقال ابن عباس: " من حلف على عبده

(1/553)


أن يضربه فكفارته تركه، ومع الكفارة حسنة ".
وقد وعد الله يونس، صلى الله عليه وسلم، أن يهلك قومه، فآمنوا فلم يهلكهم فذهب مغاضبا، فعاقبه الله بحبسه في الظلمات (1) حين رأى من ربه ما أعده خلفا (2) ، ولم يكن في الحقيقة إلا كرما وجودا.
وفي قوله - تبارك وتعالى - في أهل الأعراف: (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
قطع لكل لبسة لمن تدبر في هذا المعنى.
__________
(1) قصة يونس - عليه السلام - مع قومه ذكرها الله في مواضع من كتابه، منها ما ذكره في سورة يونس آية ما وهي قوله: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
وفي سورة الصافات من آية (139) وهي قوله: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)
إلى آية (148) وهي قوله (فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
ولمزيد من التفصيل راجع في ذلك تفسير الطبري (1 1/ 171) وما بعدها، و (23/ 98) وما بعدها، ومعالم التنزيل للبغوي (2/ 369) ، (4/ 42) وما بعدها، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (87/ 384) ، (5 1/ 1 2 1) وما بعدها، وتفسير ابن كثير (4/ 1 23) ، (33/7) وما بعدها، وقصص الأنبياء لابن كثير (5/1 9 1) وما بعدها، والدر المنثور للسيوطي (4/ 391) وما بعدها، (7/ 1 12) وما بعدها، ومع الأنبياء في القرآن الكريم لعفيف طياره ص (306) وما بعدها.
(2) هذا بناء على أن المغاضبة كانت لله، وهو قول الحسن البصري وفيه نظر، فالأنسب بمقام النبوة أن تكون المغاضبة لقومه لأجل الله. وانظر تفسير الطبري (7 1/ 77، 78) .

(1/554)


فإن قيل: فقد وصل الله الاستثناء في سورة الفرقان للتائبين من الكفر والذنوب حيث يقول: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
وهو كلام واحد فالخلف غير لاحق به إذا فعل بالتائبين خلاف ما وعدهم،
قيل: ليس هذا إلا في هذه الآية وحدها وقليل معها، وممكن أن يكون الاستثناء نازلا بعد نزول الآية، كما نزل: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ)

(1/555)


بعد نزوله: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، فيكون أسوة سائر القرآن الذي لا استثناء فيه عند الوعيد متصلا بسياق الآي.
قال تبارك وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا)
، وقال: (وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)
إلى قوله: ((أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) .
والقرآن مملوء بمثل هذا، والتوبة غير متصلة بآياته، ثم قد أُمر الكافرون والمؤمنون بالتوبة على الانفراد، فقال تبارك وتعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) ، وقال: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) .
وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)
وكل هذا على كلامين وما كان على كلام وعلى كلامين فهو عندنا نعمة وفضل وكرم ليس بخلف ولا كذب، بل العفو

(1/556)


والكرم قبل التوبة أبين منه بعدها، مع أن معول الناس على العفو أكثر منه على التوبة.
فالتوبة منقطعة بكثير من الناس قبل طلوع الشمس من مغربها، والعفو والغفران مبسوطان للمؤمنين، قال الله تبارك وتعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
وقال، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
وقال: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا)
وقد منع الله فرعون التوبة، ومنعها قوما من المنافقين في قوله (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ) .
وقد دللنا عليه في آخر سورة الأنعام.

(1/557)


ومنعها ثعلبة بن حاطب (1) في هذه الآية في سورة التوبة، قال الله - تبارك وتعالى -: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
فجاء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، لما بلغه نزول هذه الآية بصدقته فأبى أن يقبلها، ثم جاء
__________
(1) هو ثعلبة بن أبي حاطب الأنصاري، وقيل ثعلبة بن حاطب وليس هو ثعلبة بن حاطب البدري بل هو آخر، انظر الإصابة (1/ 206) .
وقال الذهبي في تجريد أسماء الصحابة (66/1) : (هو ثعلبة بن حاطب بن عمرو الأنصاري الأوسي بدري، قال: يا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ادع الله أن يرزقني مالا ... فذكر حديثا طويلا منكرا بمرة، وقيل: قتل يوم أحد.
وكما ترى، هذه القصة منسوبة لشخصين، ولكن الأمر يهون إذا ما علمت أن هذه القصة لا تثبت وليست بصحيحة عن أي شخص من أصحاب رسول الله فضلا عن ثعلبة البدري، وقد أثبت عدم صحتها بالدليل القاطع الأستاذ عداب محمود الحمد في رسالته التي ألفها عن ثعلبة بعنوان " ثعلبة بن حاطب الصحابي المفترى عليه " وهي رسالة قيمة فراجعها إن شئت.
وخلاصة الكلام على هذه القصة من الناحية الإسنادية أنها لا تصح ولا تثبت، انظر ثعلبة بن حاطب الصحابي المفترى عليه ص (64) وما بعدها، وص (83) ومابعدها، وص (91، 21) حيث ذكر من ضعفها من العلماء فقال ( ... ثم رواها البيهقي (458 هـ) في دلائل النبوة ونبه على ضعفها، كما نبه على بطلانها ابن حزم، وابن عبد البر، وابن الأثير في أسد الغابة، والهيثمي في مجمع الزوائد، والحافظ ابن حجر في مواضع من كتبه، والسيوطي..) إلى أن قال: وكثير من المعاصرين قد تنبهوا إليها أيضا منهم علامة مصر المحدث أحمد محمد شاكر في تعليقه على تفسير الطبري، وشيخي في هذا العلم الشريف العلامة المحدث محمد الحافظ التجاني، وقد تنبه إليها المحدث الشيخ ناصر الألباني ... ، وحين كتب الشيخ مقبل بن هادي الواقعي الصحيح المسند من أسباب النزول نبه على هذه القصة وبطلانها.
وفي ص (91، 92) زاد في ذكر من ضعفها فذكر القرطبي، والذهبي، والعراقي، والمناوي، ومحمد رشيد رضا.

(1/558)


بها إلى أبي بكر وعمر بعده، فلم يقبلاها، وهذا من العدل الذي لا يعقل علته، والعجب للمعتزلة كيف تتلاعب بهم الحماقة ويستفزهم الجهل فيغفلون في باب الوعيد العدل الذي يدعون الفلسفة في معرفته، وهو شعارهم وفى دثارهم، فليت شعري كيف يستقيم لهم فيه أن يكون عادل في تضييع حسنات مائة عام من الفرائض والنوافل، والقرآن مملوء بذكر مجازاتهم عليها بقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)
فلهم كذا وكذا - من أجل ذنب واحد يموت محتقبه عليه بغير توبة، فيخلد صاحبه مع الكفار - في النار - الذين أسخطوا الله عمرهم ولم يطيعوا طرفة عين.
ويستقيم عندهم نفي القضاء والقدر، وخلق الشر والأفعال السيئة والحسنة خشية منهم أن ينثلم به العدل الذي لا يعرفون حقائقه.
فإن قيل: فهل للكفار مطمع في العفو إذا ماتوا على كفرهم إذا
كان ترك الوعيد عندك كرما لا خلفا،

(1/559)


قيل: قد اتفق الجميع على أن الكافر لا حظ له فيه، والإجماع لا يقابل بالرد، مع أن القرآن قد دل عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) .
وليس في إنجاز الوعيد لأهله نقيضة على الموعد، وإن كان الكرم في تركه أظهر والكرم والفضل ليس بحق لأحد عند الكريم، فإن تفضل كان أهلا له، وإن عاقب كان عدلا منه، ونحن لا ننكر أن يكون الله بعدله يدخل النار بعض المذنبين من الموحدين بذنوبهم ثم يخرجهم منها بعد استيفاء جزائهم أو قبله، ويدخلهم الجنة برحمته، ولا يضيع لهم ما عملوا من الصالحات.
فإن قيل: فلم يخلد الكافر في النار ولا يقتصر منه على مقدار عمره الذي كان في الدنيا كافرا، ثم ينجيه - كما يُنجي المؤمن - بعد استيفاء جزائه،
قيل: قال الله - تبارك وتعالى من قائل -: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) وليس هذا أول عدل لم نبلغ كيفيته.
وقد يجوز أن يخلده - بإضماره كان على الكفر - لو خلد في في دنياه فيجازى بالخلود على إضماره.
والمؤمن يخلد في الجنة بطويته كانت على الإيمان لو خلد في دنياه مع ما
له من الحظ في وصول الكرامة إليه وتفضل ربه عليه.

(1/560)


وقد دللنا على أن التفضل ابتداء عطية لاحق لأحد قبله فيكون بمنعه عنه ظالما له
وبعد، فلو قلت معناهم بعينه قالت عليهم، فقال: وكذلك من وعده على عمل صالح الخلود في الجنة والنجاة من النار، فعمل به أكثر عمره طمعا في وعده الذي لم يشترط عليه فيه حبطا بمعصية في النار الذين أسخطوا الله عمرهم، ولم يطيعوه طرفة عين بكلمة بها لشرطه على المرتد بالشرك إذا خلده في النار بذنب واحد أذنبه بعد العمل الصالح لكان خلفا لوعده، فلنسبة الكرم إليه في الصفح عن الوعيد على ذلك الذنب الواحد أو أخذه به وحده ثم الخلود في الجنة بالكثير من العمل الصالح بعده - أجدر وأليق بربوبيته، وأبعد من الخلف والجور جميعا، وأوجه في العدل والفضل معا.
* * *
قوله: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ)
حجة عليهم وعلى الجهمية في ذكر السخرية التي جمع بينهما من نفسه ومنهم. ذكر الاستغفار:
* * *
قوله: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)

(1/561)


دليل على أن منتهى الاستغفار الحاط عظام الذنوب المتوقع بها الغفران سبعين مرة، وهو يؤيد حديث أبي بكر الصديق، رضوان الله عليه -: " ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة " وحديث أنس: " كنا نؤمر - إذا صلينا من الليل - أن نستغفر في السحر سبعين مرة ".
وأشباههما من الحديث.

(1/562)


وفيه دليل أن الاستغفار للناس نافعهم ولاحق بهم؛ لأن الذي حال بين أهل هذه الآية وبين استغفار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لهم كفرهم لا غيره.
المعتزلة:
* * *
قوله: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)
حجة على المعتزلة لنسبة الكراهية هاهنا إليهم، وعند الخمسين من أول السورة إلى نفسه - جل وتعالى - حيث يقول: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) .
ونحن لا نقول: إن القضاء والقدر يزيلان سعي الساعين وفعل الفاعلين، وكيف يزيلان أفعالا ينسبها الله إلى فاعليها، ولكننا نقول كما قال الله: إنهم لم يكرهوا حتى كره الله لهم، وسبق به قضاؤه عليهم، ونسكت عن تصحيح هذا عندنا بعقولنا علما منا بعدله وصدقه، وأن الجور والكذب ليسا من نعته.
فلما رأيناه جمع بين كراهة فاعل لخير مأمور به وبين كراهته له، وجب علينا الإيمان به كما أنزله، وعلمنا أن القدر سره حجبه عنا معرفة كيفيته وتصرفه في عدله الذي لم يطلعنا على معرفته وانفرد هو - جل جلاله - به،

(1/563)


ذكر الجنائز:
* * *
وقوله: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ)
أصل في سنة الصلاة على الموتى، إذ لا يخص الله - جل وتعالى - قوما بترك الصلاة عليهم إلا وهي سنة غيرهم.
وفيه دليل - هو أشرف دليل - على أن الإمام إذا حضر جنازة فهو المقدم عليها في الصلاة دون الأولياء، كما تكون في سائر الصلاة، إذ لو كان الأولياء أحق منه - كما يزعم من يقول: إن الصلاة على الميت من الأمور الخاصة، فيتقدم الولي عليه - كان النهي - والله أعلم - واقعا على منع، ولي عبد الله ابن أبي ابن سلول النازل

(1/564)


فيه هذه الآية من الصلاة عليه، لا على النبي، صلى الله عليه وسلم، الذي هو الإمام.
وفيه دليل على إباحة الوقوف عند القبور وانتفاع المقبور بوقوف من يقف عنده من الداعين، إذ كل ما منع منه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في هذه الآية عقوبة للمقبور لا محالة.
وفيه فضيلة لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لنزول القرآن بتصويب قوله في المشورة على النبي، صلى الله عليه وسلم، بترك الصلاة على المقصود بهذه الآية.
ذكر الجهاد:
* * *
قوله: (وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)

(1/565)


دليل على أن الجهاد لا يجب إلا على القادرين على التجهز له بالطول وهو الغنى، وقد بينه الله - جل وتعالى - في الأخرى حيث يقول (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ) .
ودليل على أن النساء لا جهاد عليهن وإن أطقنه، لأنه - جل جلاله
- قد ذكر الخوالف مرتين في الآية الأولى، والثانية، ولم يخرجهن إنما أخرج من تشبه في التخلف عنه بمن لا جهاد عليه، ورضي الكينونة معه عما هو مندوب إليه.
وفي قوله: (ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
دليل من جهة الإعراب على

(1/566)


أن المذكر يغلب على المؤنث في اللفظ؛ إذ الخوالف كن - لا محالة - مع القاعدين من الضعفاء والمرضي وعادمي النفقة الموضوع عنهم الحرب.
المعتزلة:
* * *
قوله: (وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
حجة على القدرية والمعتزلة.
- ذكر فضائل أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم:
* * *
قوله: (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)
إلى قوله: (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
شاهد لكل من حضر مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غزوة تبوك من أصحابه بالجنة فيكونون مضمومين إلى العشرة المشهود

(1/567)


لهم بها، وكل من شهد غزوة تبوك من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو معه في الجنة على ما كان فيه بشهادة هذه الآية له وهي حق.

(1/568)


ذكر تمنى العبد المال:
* * *
قوله: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ)
دليل على أن تمني المال ليطاع الله فيه، والحزن على فواته - طاعة، ورد على من يزعم من متنطعي المتصوفة أن عدم المال أربح للمرء من وجوده وإن كان ناويا طاعة الله فيه للمخاطرة دون القيام بها وأداء حق الله فيها.
ذكر الاعتذار:
* * *
قوله: (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ)
حجة في ترك قبول الاعتذار ممن يعرف كذبه بأي وجه عرف منه بعد أن يكون يقينا.
فأما من جهل منه الكذب فقبوله اعتذاره واجب، لقول رسوله الله.
صل الله عليه وسلم: " من اعتذر إليه فلم يقبل كتب عليه خطيئة صاحب مكس.

(1/569)


يعنى العشار (1) ، ومن تفضل عليه فلم يقبل لم يرد عليَّ الحوض ". (2)
ذكر الطهارة:
* * *
قوله: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ)
نظير ما مضى في رجاسة ونجاسة المشرك أنها رجاسة الأفعال لا رجاسة الذوات.
أيضا في الاعتذار:
* * *
قوله: (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
دليل على أن من لم يقبل عذره من
__________
(1) هذا التفسير من المؤلف لصاحب المكس، والعشار: هو الذي يأخذ عشر أموال الناس بغير وجه حق. انظر معجم مقاييس اللغة (4/ 324) مادة عشر، ولسان العرب (4/ 570) مادة عشر.
(2) لم أجده بهذا اللفظ، إنما وجدته بلفظ: " من اعتذر إليه فلم يقبل لم يرد علي الحوض! كما سبق ذكره في الحديث السابق وهو من رواية عائشة أخرجه عنها أبو الشيخ هـ
انظر في ذلك مجمع الزوائد (8/ 81) ، المقاصد الحسنة ص (630) ، وكشف الخفاء (2/ 232) واللآلىء الصناعة في الأحاديث الموضوعة (2/ 0 9 1) .

(1/570)


الكذابين بغير يمين فحلف قبل منه، لأن الله - تبارك وتعالى - لم يأمر برد اليمين عليهم كما أمر برد الاعتذار، حيث قال: (قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ)
إنما أخبر - جل وتعالى - عن نفسه بأنه لا يرضي عنهم، وإن رضى عنهم المحلوف له، ويؤيد هذا المعنى حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرضَ، ومن لم يرضَ بالله فليس من الله ".
فالمتعذر إليه ينبغي له أن يقبل يمين المعتذر على الظاهر، ويكل سريرته إلى الله - جل وتعالى -
* * *
قوله تعالى: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ)
(وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ)
حجة في

(1/571)


إبطال أعمال الرياء، وإحباط أجر النفقة إذا لم تحتسب، والحث على استشعار الاحتساب فيها، واتخاذها قربة.
قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " إذا دفع أحدكم زكاة ماله فليقل: اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما " (1)
وقال: " إذا أنفق الرجل على أهله محتسبا كتبت له صدقة " (2)
فكل من عمل عمل خير لم يحتسبه لم ينل ثوابا، لما في هذه الآية من الدليل.
ذكر دفع الزكاة إلى الأئمة:
* * *
قوله: (وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ)
دليل على أن دفع الزكاوات إلى الأئمة أفضل من تفرقتها بالأنفس لاستغنام دعوة الإمام له عند أخذها منه، قال الله - تبارك وتعالى - بعد هذا: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)
__________
(1) رواه ابن ماجه في سننه (573/1) ح (1797) كتاب الزكاة، باب ما يقال عند إخراج الزكاة،، مع اختلاف يسير حيث إن فيه: وإذا أعطيتم الزكاة فلا تنسوا ثوابها أن تقولوا: اللهم ... الحديث.
وأورده السيوطي في الجامع الصغير، انظر: فيض القدير (1/ 290) ، والألباني في إرواء الغليل (3/ 343) وضعيف الجامع (1/ 152) وقال: موضوع، وعزاه في الإرواء لابن عساكر في تاريخ دمشق
(2) أخرجه البخاري في صحيحه في عدة مواضع، منها ما أخرجه في كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، انظر الفتح (165/1) ح (55) ، والنسائي في سننه (5/ 96) ح (2545) كتاب الزكاة، باب: أي الصدقة أفضل، وابن حبان في صحيحه انظر الإحسان (219/6) ح (4225) باب النفقة، ذكر البيان بأن الصدقة إنما تكون للمنفق على أهله إذا احتسب في ذلك، وأورده السيوطي في الجامع، انظر فيض القدير (1/ 306) .

(1/572)


وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أخذ صدقة قوم صلى عليهم، فأتاه أبو أوفى بصدقته فقال: " اللهم صل على آل أبي أوفى مرتين.
تفضيل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين:
* * *
قوله: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) .
شاهد لهم بالجنة أيضا، وفيهم العشرة وغيرهم، وقد سعد التابعون

(1/573)


لهم أيضا بهذه الآية كما ترى.
أفليست من سب واحدا منهم أو ممن شهد غزوة تبوك في الآية الأخرى أو تنقصه - مغبون الحظ، منحط الدرجة في الإسلام، مضاهي كتاب ربه بالرد، هذا مع ما يلحقه من لعنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: " لا تسبوا أصحابي، من سبهم فعليه لعنة الله (1) .
ذكر زكاة أصناف الأموال:
* * *
قوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً)
يقال: إنها نزلت في أربعة نفر من الأنصار، جد بن قيس.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في فضائل الصحابة 11/ 54) ح (11) ، والطبراني في الأوسط 2/ 503) ح (9867) -
وأورده الهيتمي في مجمع الزوائد (10/ 21) ، وابن حجر في المطالب العالية (4/ 149)

(1/574)


وأبي لبابة وخذام، وأوس.
وهم الذين قال الله تبارك وتعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)
وكانوا وعدوا أن يجاهدوا ويصدقوا.
وإذا كانت الآية نازلة فيهم أحاط العلم أنهم كانوا غير مالكين لجميع أصناف الأموال من الناض والماشية والنبات والأمتعة. فليس لأحد أن يوجب على جميع الأموال الزكاة إلا ما خصت بالإسقاط عنها، بل عليه أن يجعل الأمر بأخذ الصدقات خاصَّا على بعض الأموال دون بعض، وهو موضوع بشرحه في كتاب الزكاة.
ومن الدليل على صحة ما قلناه قوله على أثر الكلام: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ)

(1/575)


أي - والله أعلم - التي كانوا وعدوها؛ لأن الياء في " يعلموا " إخبار عن الغائبين.
ذكر صفة الشاهد:
* * *
وقوله: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)
دليل على أن شهادة المؤمنين مقبولة لبعضهم على بعض بالخير والشر، ولا تقبل إلي شهادة من جمع مع الإيمان أمانة وفضلا واتقاء لربه ومروءة، لأن المؤمنين الذين رأوا أعمال هؤلاء مع الله ورسوله كانوا كذلك، لا أن شهادة كل من شمله اسم الإيمان مقبولة، وإن كان بضد ما وصفنا به أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذين رأوا أعمال القوم معه، وذلك أنهم شهداء الله في أرضه، ولا يجوز أن يكون بها شهداء إلا المبرئين من العيوب، الطاهرين من أدناس الذنوب، أمناء فيما يقولون وعليه يشهدون، لا يحملهم شنآن قوم على قول القبيح فيهم بغير علم، علماء بما يكون جرحا ظاهرا، لا يتأولون على المرمى بآرائهم، يتوقون أن يجرحوا إلا بالنصوص المتيقنة المؤدية إلى حقائق الجرح دون غيرها، فإن كثيرا من الناس يرى الشيء محرما بتأويل فيه فيدين الله به وغيره يراه محللاً وهو أمين

(1/576)


يقتدي بصالح سلفه وصحابة نبيه، صلى الله عليه وسلم، قد تبين موضع الحجة فيما أداه إلى تحليل ما أدى الشاهد الآخر إلى التحريم.
وإذا لم يجرح الرجل بالنصوص التي يستوي المجروحون بها في الذم، خاطر بدين السامعين بشهادته، وسيما إن كان مرموقا بعيد التوقي، فلعلهم يهجرون المشهود عليه بشهادته، والهجران محرم، أو تكون شهادته عليه بالخير في نحو ذلك، فيغر من يذكر إليه ويستنيم إلى حسن الثناء عليه من أمن عنده، فيودعه أمواله أو يناكحه، ويبايعه، ويشاركه، فيكون فيه هلاكه.
وما استشهدنا به من دليل هذه الآية في شهادة المؤمنين قد روي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مثله في رواية سلمة بن الأكوع

(1/577)


قال: كنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في جنازة، فأثنى القوم عليه ثناء حسنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " وجبت " فقيل: يا رسول الله، ما وجبت " قال: " الملائكة شهداء الله في السماء، وأنتم شهداء الله في الأرض، فإذا شهدتم وجبت ".
وقرأ رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) .
المعتزلة:
وقوله (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ)
حجة على المعتزلة واضحة إذ قد جمع بين الإضلال والهدى منه ولزوم الحجة للمضلين أو المهدين في آية واحدة متصلة المعاني بعضها ببعض، لا يقدرون أن ينفصلوا منها بدعاويهم الباطلة، فإذا كان المضلون مأخوذين ببيان ما يتقون لهم فأي شيء يلتمسه أوضح من هذا، ولا أحسب قوله: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) الأعلى هذا المعنى، والله أعلم.

(1/578)


وفيه من جهة الفقه أن الله - جل جلاله - قد بين المحرمات وفصلها
من حيث لا التباس فيها، ولا يكون ذلك إلي منصوصا، إذ ما يكون اتقاؤه بالرأي والقياس لا يستوي الجميع فيه وهو غير مشكل لمن تبينه.
* * *
قوله: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ)
إلى قول: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
حجة عليهم في عدم الوصول إلى التوبة المدعو إليها الخليقة إلا بمعونة منه - جل جلاله - ونحن لا ننفي الاستطاعة مع الفعل في الخير والشر عن المأمورين المنهيين بكل حال، ولكنا نزعم أن عامل الخير محتاج إلى توفيق لا يتم أمره إلا به، ومجتنب الشر محتاج إلى عصمة تحول بينه وبين ما تنازع إليه نفسه الأمارة بالسوء، فإذا لحقتها رحمة ربها أمدت بالعصمة، فحيل بينها وبين المعصية كما حيل بين يوسف، صلى الله عليه وسلم، وبينها بعدما هم بها، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) .
وكل ذلك من الخير والشر بقضاء سابق، والخلق ميسرون لما خلقوا

(1/579)


له من خير أو شر، وعلم ذلك مخزون عنهم ومنفرد به من خلقهم، فمن زاحمه فيه تقدم إلى الباطل على بصيرة، وقد حرص موسى بن عمران، صلى الله عليه وسلم، على تعرف ذلك، وسأل عيسى بن مريم، صلى الله عليه وسلم، ربه، فمنعا، صلى الله عليهما وسلم، وألح فيه عزير فمحى الله اسمه من النبوة، ومع ذلك
__________
(3) ذكر إلحاح العزير في السؤال عن القدر ومحو اسمه من النبوة وما تقدم من سؤال موسى عليه السلام، وعيسى عن القدر - الطبراني من طريق ميمون ابن مهران عن ابن عباس وهو بتمامه كما يلي:
عن ابن عباس قال: الما بعث الله موسى، عليه السلام، وأنزل عليه التوراة قال: اللهم، إنك رب عظيم، ولو شئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت أن لا تعصى ما عصيت، وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعصى، فكيف هذا يارب، فأوحى الله إليه: أني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. فانتهى موسى.
فلما بعث الله عزيرا وأنزل عليه التوراة بعد ما كان رفعها عن بنى إسرائيل حتى قال من قال: إنه ابن الله قال: اللهم، إنك رب عظيم ولوشئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت أن لا تعصى ما عصيت، وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعصى، فكيف يارب، فأوحى الله إليه له أني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. فأبت نفسه حتى سأل أيضا فقال: أتستطيع أن تصر صرة من الشمس، قال: لا. قال: أفتستطيع أن تجيء بمكيال من ريح، قال: لا. قال: أفتستطيع أن تجيء بمثقال من نور، قال: لا.
قال أفتستطيع أن تجيء بقيراط من نور، قال: فهكذا إن لا تقدر على الذي سألت، إني لا أسال عما أفعل وهم يسألون، أما إني لا أجعل عقوبتك إلا أن أمحو اسمك
من الأنبياء فلا تذكر معهم. يمحى اسمه من الأنبياء فليس يذكر فيهم وهو نبي. فلما بعث الله عيسى ورأى منزلته من ربه وعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، قال: اللهم، إنك رب عظيم، لو شئت أن تطاع لأطعت ولو شئت أن لا تعصى ما عصيت، وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعصى، فكيف هذا يا رب، فأوحى الله إليه: أني لا أسال عما أفعل وهم يسألون، وأنت عبدي ورسولي وكلمتي ألقيتك إلى مريم وروح مني، خلقتك من تراب ثم قلت لك: كن، فكنت، لئن لم تنته ليفعلن بك كما فعلت بصاحبك بين يديك ... إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. فجمع عيسى من تبعه وقال: القدر سر الله فلا تكلفوهم. اهـ
أورده الهيتمي في مجمع الزوائد (7/ 199، 200)
وقال: ( ... وفيه أبو يحيى القتال وهو ضعيف عند الجمهور، وقد وثقه ابن معين في رواية وضعفه في غيرها، ومصعب بن سوار لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح.
وأورده السيوطي في الدر المنثور (5/ 622) وما بعدها.
وذكر سؤال عزير عن ذلك وحده ونهي الله له عن ذلك ثم عقوبته - الآجري في الشريعة ص (236) ، واللالكائي في " أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لا (4/ 727) ومابعدها، والبيهقي في الأسماء والصفات ص (221) .
وأشار إليه ابن كثير في قصص الأنبياء ص (357) ثم قال (.. وهذا ضعيف منكرا وفي البداية والنهاية (2/ 42) وقال أيضا ( ... فهو منكر وفي صحته نظرا. وأورده السيوطي في الدر المنثور (6/ 622) وعزاه لابن أبي حاتم والبيهقي. ولا شك أن هذا من أخبار بني إسرائيل التي أغنى الله أهل الإسلام عنها بما أنزل عليهم وشرعه على لسان رسوله.
قال الدكتور أحمد سعد حمدان في تعليقه على شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (728/4) عند ذكر ما جاء عن العزير (.. ونحن نعتقد أن مثل هذه القصة باطلة لا تصح وذلك لعدة أمور: -
الأول: أن فيها إساءة إلى مقام الألوهية. وذلك لأن الله عز وجل عندما يختار أحدا من خلقه للرسالة أو النبوة فإنه يختار أفضل ذلك المجتمع في خلقه، وذلك لما في سابق علمه عز وجل عن خلقه، وهذا لم يتوفر في عزيرا حسب هذه الرواية، فيكون اختيار الله عز وجل لم يكن مصيبا تعالى الله وتقدس.
الثاني: أن هذا طعن في مقام الأنبياء أنفسهم، إذ أنهم كانوا أول من يعصي الله عز وجل، فإنه إذا نهاه الله عز وجل عن أمر ولم يمتثل ثم نهاه أخرى ولم ينته فإن ذلك عصيان بين، ثم هو بلادة حس لا تليق بعوام المؤمنين فكيف تكون في مصطفين أخيار؟!
الثالث: أنها تحمل في ثناياها هدم هذا البحث الذي قدمه المؤلف في إثبات القدر من أساسه، وذلك لأن اختيار الله عز وجل لعزير يعني أنه لا يعلم ما سيكون منه في المستقبل، فلما اختاره وظهر له عدم طاعته جرده من وصف النبوة) ثم قال ( ... وبهذا يتبين بطلان هذه القصة الإسرائيلية والتي تروى عن ابن بنت كعب الأحبار نوف البكالى ... ) إلخ كلامه فراجعه فإنه مفيد.

(1/580)


فالخلق غير محتاجين إلى معرفته ولو احتاجوا إليه لما منعوا، والله أعلم.
ذكر النفير:
قوله (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)

(1/581)


حجة في أن النفير والنفقة فرضان على الكفاية، وحجة عند المحصلين في قبول خبر الواحد؛ إذ لم يلزمهم الحذر بنذارتهم إلا وقد لزمهم خبر من أنذرهم، وكل واحد منفرد بنذارة قومه، والحجة بخبره لازم للمخبر عنه.
المرجئة.:
* * *
قوله: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)

(1/582)


حجة على المرجئة فيما ينكرونه من زيادة الإيمان ونقصه، وهذا نص القرآن ينطق بزيادته كما ترى.
ذكر الطهارة:
* * *
قوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
قد بين بلا إشكال أن الرجس لا يكون نجسا بكل حال، إذ السورة لا تزيد أحداً نجاسة، وإنما زاد هؤلاء جحودهم بها كفرا إلى كفرهم، والرجس هو: الكفر، والشرك بفعله نجس، وهكذا اللاعب بالميسر وشارب الخمر وعابد الأنصاب أنجاس بأفعالهم، لا أن الميسر والخمر والأنصاب أنجاس الذوات، ولكنها أفعال نهي عنها فاعليها، فصارت أرجاسا، وقد لخصناه في أول السورة عند قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) .

(1/583)