النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام

سورة الحجر
ذكر المعتزلة.
* * *
قوله تعالى: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)
حجة على المعتزلة في الوعيد، إذ لو كانت ذنوب المسلمين تخلدهم مع
الكفار في النار ما ودوا إسلامهم، ولا تحسروا ما رأوا من انتقال حالهم.
ولو كان لا يسعد بالجنة إلا صالحوا المسلمين والأنقياء من الذنوب لكان -
والله أعلم -: ربما يود الذين كفروا لو كانوا صالحين.
أفلا يدلهم إعمال فكرهم في هذه الآية لو أعملوه على أنهم لا محالة
مخلطوا المسلمين، ومن مات منهم بغير توبة، فأدخلوا النار بذنوبهم حتى
إذا استوفوا عقوباتهم، أو ما أحب الله منها أخرجهم مِنَ النار وأدخلهم
الجنة فتحسر أهل الخلود من الكافرين على ما به خرجوا وودوا حينئذ
لو كانوا من أهله.

(2/40)


باب.
* * *
قوله: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4)
حجة عليهم في ذكر الكتاب الذي لا يؤمنون به بتة.
فإن قالوا: الكتاب هو العدد لا ما جرى به القلم. واحتجوا بقوله
تبارك وتعالى في المعتدة: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) ، وزعموا أن هذا هو العدد.
قيل لهم: وهذا أيضا عندنا له مما جرى به القلم، لكنا نسامحكم في
هذا الموضع فنقول: لا تعدون الكتاب إلا عددًا. أو ليس هو عدد أجلٍ
مضروب للمهلكين قبل أعمالهم التي إذا عملوها مستوفاة على أنفسهم

(2/41)


انصرم مدة الأجل المضروب لهم فيها، فاستوجبوا الهلاك حينئذ، ولم
يستوجبوا قبله بأول عمل عملوه.
فإن قالوا: ليس بأجل مضروب لهم قبل العمل، ولكنها عدد أعمال
إذا عملوها استوجبوا الإهلاك، أحالوا معنى الآية ونقضوا قولهم في باب
الوعيد إذ من قولهم: إن الخلود واجب في النار على من مات بغير توبة
من ذنب واحد، كما يستوجب بِعِداد ذنوب، وقد أخبر الله نصا كما
ترى أنه لم يهلك قرية قط إلا بأجل معلوم، فالأجل إذًا على زعمهم
مجهول غير معلوم وفي تسميته الأجل بالمعلوم أكبر الدليل على أنه قبل
العمل لو تميزوه. إذ من قولهم: إن أعمال العباد غير مخلوقة، وهي
مبتدعة باختيار عامليها إن شاءوا عملوهها، وإن شاءوا تركوها.
فهل يجوز أن يكون لمن هذه سبيله أجل معلوم في الهلاك، والهلاك
عقوبة ذنب عامله مستطيع لتركه.
هذا ما لا يذهب على أفهام الفهماء إذا نظروا فيه بحسن روية، ونفاذ
بصيرة.

(2/42)


ذكر التأكيد فى كلام العرب.
* * *
قوله تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
دليل على أن في كلام العرب تأكيدًا، بل جمع بين تأكيدين، لأن
لأن (كُلُّهُمْ) تأكيد، و (أَجْمَعُونَ) تأكيد آخر) .
فإن قيل: فما معنى قوله: (إِلَا إبليس) وإبليس من الجن لا من الملائكة بقوله في سورة الكهف: (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ)
قيل: هو - واللَّه أعلم - مستثنى من الساجدين، لأنهم وإن كانوا
ملائكة وإبليس جنيّا فكان في جملة المأمورين بالسجود لكينونته كان معهم
حينئذ، والقرآن مختصر بليغ نازل بلغة العرب الذين يشيرون إلى المعاني
تارة، ويؤكدون تارة، في لسانها من السعة ما فيه.
وفي قوله: (يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) ،
حجة فيما ذكرنا في سورة الأنعام عند انتهائنا إلى قوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا)
من أن في القرآن أشياء لا يجوز

(2/43)


استعمال ظاهرها بتة إذا كان له معارض يدفعه، ولا يمكن توجيه ما
عورض إلا باطراح ما عارضه، وبه يمكن استعمال المعارض بتوجيهها
معًا، ألا ترى أن الله - جل جلاله - يستخبر إبليس عما هو أعلم به
منه.
أفيجوز لموحد أن يقول: إن الله تبارك وتعالى لم يعلم السبب الذي
منع إبليس من السجود لآدم حتى أخبره.
لا لعمر الله، لا يجوز ذلك بل تعالى ذو الجلال عن هذه الأشياء.
وكيف لا يعلمه وهو خالقه، وخالق طويته وإضماره، ولكنه على ما
تعرفه العرب من كلامها، وتستعمله في محاوراتها فتسأل عن الشيء
تعرفه أو لتؤكد الحجة على المسؤول، ومثل هذا كثير في القرآن، قال
الله تبارك وتعالى لموسى - صلى الله عليه وسلم -: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)
وهو يعلمها ويراها.

(2/44)


ذكر المعتزلة.
وقوله تعالى إخبارَا عن إبليس: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)
حجة على المعتزلة والقدرية في إزالة سلطان إبليس عن عباده إلا من
غوى منهم، والغي مكتوب عليه بما قدمنا ذكره من الآيات في السور قبل
هذا.

(2/45)