النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام

سورة النحل
وما دخل فيه من النهي عن التكبر:
* * *
قوله: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
خصوص لا محالة لخلو آدم منها، وعيسى - عليهما السلام - منها.
وفيه حث على استشعار التذلل والتواضع، إذ مَن كان خلقه من نطفة
ضعيفة فإعداده نفسه في عداد الخصماء جهل به، وإغفال لمراعاة ما خلق
منه.
وفيه دليل على أن التكبر متولد في الإنسان من قلة معرفته بنفسه.
وفكره فيما خلق منه.
وقد مضى في (المبين) الذي هو من أسامي الله، وقد سَمَّى به
المخلوق ما يغني عن إعادته في هذا الموضع.
* * *
قوله: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ)
حجة في إباحة لبس المرعزي، وكل ما يتخذ من الأوبار

(2/46)


والأشعار.
وقد لخصته في سورة الأنعام.
* * *
قوله: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً)
دليل عالى أن طلب الجمال والزينة إذا عري صاحبها من الفخر
والخيلاء. وأراد بهما إظهار نعمة الله عليه ليس بمؤثر في نُسك الناسك، وليس من الدنيا المذمومة.
ألا ترى أنه - جل جلاله - جعل ذلك في عداد النعمة على خلقه.
* * *
قوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)
دليل على أن الكلأ مباح كماء السماء، لأن الشجر - واللَّه أعلم -
هو الكلأ قرنه في الآية بالماء، وأخبر أنا نسيم فيه - أي نَرعى -.

(2/47)


وهو موضوع نشرحه في كتاب التجارات من شرح النصوص.
السَّمَك.
* * *
وقوله: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
دليل على أشياء:
فمنها: إباحة أكل السمك ما طفا منه، وما انحسر عنه، إذ ممكن
أن يكون طفوه من فور خروج نفسه، والانحسار عنه كذلك، فلا يزول
اسم الطري عنه.

(2/48)


وأخرى: أن ما يحدث عليه من التغيير بعد الطراة فغير مؤثر في تحليله
إذا الطراءة متقدمة على التغيير، وإذا صار بها حلا لم يضره حدوث التغيير
عليه.
ذكر الحلى وركوب البحر.
ومنها: أن لبس حلية البحر مباح للرجال والنساء.
ومنها: أن الغوص في استخراجه مباح، ولا يكون تعرضًا للهلكة.
ومخاطرة بالروح، وذلك لمن يحسن العوم.

(2/49)


ومنها: أن ركوب البحر للتجارة مباح، وتؤيده الآية الأخرى:
(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) ، إذ محال أن يجعله في جملة النعم، ويضم ذكره في المباحات، ويذكر ابتغاء فضله جملة فيه ثم يحظر ركوبه في حال دون حال.
وليس في حديث ليث بن أبي سُلَيم عن نافع عن ابن عمر:
" لا يركب البحر إلا حاج أو غازي أو معتمر "
من القوة ما يعارض

(2/50)


به القرآن، أو يخص به، لضعف ليث في نفسه، وسوء حفظه.
الفتوى:
* * *
وقوله: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
دليل على أن من أفتى بغير علمٍ فَعُمل بفتواه كان إثم العامل عليه.
تأكيد.
* * *
قوله: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ)
دليل على إجازة التأكيد في الكلام، إذا السقف لا يخر إلا من فوق
الإنسان، وقد أكده الله كما ترى.

(2/53)


فضيلة المؤمن وما يأتيه من البشارة عند موته.
(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
دليل على أن الملائكة تسلم على المؤمن عند قبض روحه، وتبشره بما له عند ربه من الثواب.
والملائكة: مَلَك الموت وأعوانه - صلى الله عليهم -.
ومثل هذا قوله: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ) ، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)

(2/54)


وِقوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)
نظير ما مضى في سورة الأنعام من قوله: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) .
والجواب فيهما واحد لا متعلق للمعتزلة والقدرية فيهما، للحجج
التي ذكرناها هناك، وما أعقب جل ثناؤه تلك وهذه، ألا ترأه يقول
على إثرها: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ)

(2/55)


ثم قال: (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) .
فكيف ينكر عليهم قول شيء قد أخبر عن نفسه من هداهم وإضلالهم
إلا على ما ذكرنا من أنه لم يجعل لهم الاحتجاج بما خزن علمه عنهم.
وتفرد به - جل جلاله - وجعله سِرا من سره.
فمغالطتهم لنا بما لا يذهب دقيقته علينا غير نافعة لهم، ولا منجيتهم
من إلزاماتنا الكثيرة إياهم بحمد الله ونعمته.
* * *
وقوله تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)
دليل على أن ما قال سفيه المعتزلة في تأويل: " ترون ربكم يوم القيامة
كما ترون القمر " غلط لا ارتياب فيه إذ حضور القيامة ومعاينة أحوالهما
مُذِهب شكوك الكفرة، ومن كان لايؤمن بها، ويكذب على ربه في
الدنيا، ويشك في ربوبيته، وإن المؤمنين غير شاكين في الدنيا

(2/56)


والآخرة.
وفي قوله: (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ)
دليل على أن الله - جل جلاله - مبين لمن خبره جمع الإضلال والعذاب، والأمر والمنع على نفس واحدة موضع عدله عليه، وإزالة جوره عنه ليعلم أنه كما قال لا محالة: (لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) .
في أن السجود لله براءة من الكبر.
(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)

(2/57)


دليل على أن من سجد لله فقد بَرِئ من الكبر، ووطن نفسه على
الذل، ولم ينازع ربه في كبريائه وعظمته، ويؤيده ما قال قبل هذه
الاَية: (يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) .
فكيف يجد التكبر مساغا فيمن صغره السجود، وذله لربه جل
وتعالى. ولا أحسب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إخبارا عن
ربه: " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري " إلا مصروفا إلى من يتكبر
عن السجود لربه، ويمتنع من الإقرار بوحدانيته، قال الله تبارك
وتعالى: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)

(2/58)


فدل على أن المستكبرين ليسوا من الذين آمنوا، وذللوا أنفسهم بالسجود للَّه تبارك وتعالى.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبةٍ من خردل من كبر ". فدل على أنه

(2/59)


الكافر الذي لم يخلط بكبره إيمانًا يحمله على السجود فيبرئه منه.
وأرجو أن لا يكون المترفع من المؤمنين على غيره المختال في مشيته.
وإن كان ذلك معدودًا منه في الذنوب العظام متكبرًا منازعًا ربه في
كبريائه، لأن الخيلاء وإن كان ضربًا من الكبرياء فهو معدود في عداد
الذنوب، والكبرياء الذي يكون كفرا هو الامتناع من السجود
والاستنكاف منه كالنفاق الذي يكون في الإيمان كفرا، وفي الأعمال
ذنبَا. قال الله تبارك وتعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)

(2/60)


وقال: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)
إلى: (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" ثلاث من كن فيه فهو منافق خالص وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: مَن إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان "، فهذه أخلاق المنافقين ولكنها ليست نفاق كفر، وهي

(2/61)


ذنوب عظام كبار لا يستوجب صاحبها بها الخلود في النار مع الكفار.
وكذا الاستكبار إذا استكبر عن السجود كان كافرًا، وإذا ترفع
على غيره، واختال في مشيته، وجرَّ ثوبه بطرًا كان ذنبًا عظيمًا ولم
يكن كفرَا للحجج التي قدمناها في ابتداء الآية، ولغيرها قال الله
تبارك وتعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)
وروي أن بعض فراعنة قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -

(2/62)


" لا أسجد فتعلوني استي. استكبارًا عن السجود.
لأنه غاية التذلل والاستكانة. وإذا سجد العبدُ لله بَرِئ من كِبر الكفر
كله.
وكذا إبليس حين امتنع أن يسجد لآدم بأمر الله كان ذلك منه تكبرًا قال
الله تبارك وتعالى: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)

(2/63)


وقال:
(فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)
فإن قيل: فما معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الكِبر
مَن سَفِه الحق، وغمص الناس ".
قيل: معناه - والله أعلم - من سَفِه الحق الذي جاءت به الرسل من

(2/64)


عند الله ونفر عنه، قال الله تبارك وتعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ) .
ومعنى " غمص الناس ": استحقرهم - والله أعلم -وتقزز من مجالستهم لفقرهم وغناه كما استحقر صناديد المشركين من عاتب الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - عليهم فيهم، وأنفوا من مجالستهم
حين تركهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقبل على الصناديد

(2/65)


طمعا في إسلامهم فقال تبارك وتعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) .
فهذا كله راجع - والله أعلم - إلى ما كان عليه الكفار.
فأما من دخل في الإسلام، وأخذ بشرائعه، وصلى وصام وصار من
أهل القبلة، فعليه أن يأخذ بأخلاق أهل الإسلام، ويخفض جناحه للمؤمنين، ويكون رحيما بالضعفاء، محبا للمساكين يقربهم ويدنيهم، ولا يبطر نعمة الله، ويمشي على الأرض هَونًا بخشوع واستكانة.
فإن تمسك بالإسلام، وخالف أخلاق أهله فترفع على الناس لأمره

(2/66)


ونهيه، ونخوة سلطانه وما أشبه هذا، ومشى المطيطاء، فكل ذلك منه
ذنوب عظام كبار. ألا ترى أن الله تبارك وتعالى حيث بدأ العشر من سورة
بني إسرائيل قال: ولا تقتلوا أولادكم، ولاتقربوا الزنا، (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) .
فجعله في عداد الذنوب والمعاصي لا في عداد الكفر، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " براءة من الكبر لباس الصوف، واعتقال الشاة، ومجالسة الفقراء المؤمنين، وأكل أحدكم مع عياله ".

(2/67)


رد على المعتزلة.
* * *
قوله: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
دليل على أن الله - جل جلاله - بذاته في السماء على العرش.
وليس في الأرض إلا علمه المحيط بكل شيء.

(2/68)


وهذا والله من المصائب العظيمة أن يضطرنا جهل المعتزلة والجهمية.
وسخافة عقولهم إلى تثبيت هذا عليهم، وهو شيء لا يخفى على نوبية
سوداء. روى الشريد بن سويد قال: قلت: يا رسول الله، إن
أمي أوصت أن نعتق عنها رقبة، وعندنا جارية نوبية.
قال: " ادع بها ". فدعوت بها.
فقال لها: " أين الله، " قالت: في السماء.
قال: " من أنا، " قالت: أنت رسول الله.

(2/69)


قال: " اعتقها فإنها مؤمنة ".

(2/70)


وهؤلاء الجهلة الأعداء لله يزعمون أنه في الأرض بنفسه كما هو في
السماء، وفي كل موضع من البر والبحر والهواء، وينكرون أنه على
العرش سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرَا.
وكيف يكون كما يقولون - لعنهم الله - وهو يقول: (يَخَافُونَ
رًبَهُم من فَوقِهِم) ، ويقول: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) ، ويقول: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) ، ويقول: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) ، وقال:

(2/71)


(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ، وقال: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) ، وما يضاهي هذا من الآيات المنبئة عن الله - جل وعلا -
أنه في السماء، وعلمه بكل مكان لا يخلو من علمه مكان.
ثم اجتماع أهل الصلاة، والسائر على أَلسِنة الخاصة والعامة من أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، أُسري به إلى السماء، ودليل القرآن
عليه قال الله تبارك وتعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) .
أي في السماء - والله أعلم.
وتحقق قوله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)
فلم عُرج به إلى السماء إذًا - ويحهم - وهو في الأرض معهم،.
واحتجاجهم بقوله: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ)

(2/72)


فإنما هو علمه الذي لا يغيب عنه شيء.
ومعناه: أنه لا يخفى عليه نجواهم كما قال (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) ، وَقَوله: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ) ، و (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ)
لا متعلق لهم فيه لأنه إله من في السماء من الملائكة، ومن في الأرض من
الخلق يعلم سر الجميع وجهرهم سبحانه وبحمده.
ذكر الرد على الجهمية في خلق القرآن
* * *
قوله: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)

(2/73)


حجة على الجهمية والمعتزلة في خلق القرآن، وإعدادهم الجعل بمعنى
الخلق في كل موضع.
فيقال لهم: أخلقوا البنات ولهم البنين في هذه الآية.
فإن قالوا: نعم، كفروا بربهم حيث جعلوا معه خالقًا سواه.
وإن قالوا: ليس الجعل بمعنى الخلق، رجعوا عن قولهم في
الجعل، وبطلت في الاحتجاج به على خلق القرآن.

(2/74)


ذكر قسمة الله فى الإناث.
* * *
قوله: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ)
عِظة لمن يتسخط قِسمة الله له في الإناث، ولا يسلم لحكمه عليه.
ولا تطيب نفسه به.
استعارة الشىء.
* * *
قوله: (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)

(2/75)


حجة في استعارة الشيء ووضعه موضع غيره، لأن المبشرين بالإناث
كانت لا تصير ألوان وجوههم سودا.
ولكن السواد كناية عما كان يعدوها من التغيير والصعوبة عليهم عند
ذلك وهو - والله أعلم - على ما يتكلم به الناس: سَود الله وجه فلان
كما سود وجهي. إذا صنع إليه صنيعًا سيئَا، وفضحه في الناس بأمر
قبيح.
وهو في غير هذا الموضع سواد ألوانها قال الله تبارك وتعالى: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) .
وكذلك قوله:) (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ) ، وقوله: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ)

(2/76)


وهو سواد ألوانها.
* * *
وقوله: (أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ)
الهاء - واللَّه أعلم - راجعة فيهما على المولود.
ذكر الاختصار والإشارة.
(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
حجة في الاختصار والإشارة إلى المعنى، لأن قوله - جل جلاله -:
(مَا تَرَكَ عَلَيْهَا) أي على الأرض، ولم يجر لها ذكر في الآية.
ثم أخبر بتأخير الظالمين إلى أجلٍ مسمى لا يستأخرون عنه ساعة
ولا يستقدمون، ولم يخبر بعقوبتهم فاستغنى السامع بالإشارة إليها.

(2/77)


وفي قوله: (مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ) دليل على أن اسم الدابة واقع على الناس لدبيبهم على الأرض، ومثله - قوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) ، فقد دخل فيه الناس وغيرهم من الدبيب.
ذكر القسم.
* * *
قوله: (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ)
دليل على أنه قَسَم كما يكون بالواو. ودليل على أن المخبر عن
نفسه جائز له أن يخبر بلفظ الغائب ولا يخبرِ بلفظ الإضافة، لأنه -
جل جلاله - هو الله فقال: (تَاللهِ) . ولم يقل: بي، وهذا أيضاً

(2/78)


توكيد حجة من قرأ: (واللَّه ربَّنا) بالنصب.
ذكر الفصاحة.
وقوله: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ)
(الهاء) - والله أعلم - راجعة على الجنس، وفي سورة المؤمنين:
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا)
راجعة على اللفظ.
وهو حجة لمن فعل ذلك في كلامه، ولا يكون عيبا عليه، ولا طعنا
على فصاحته.
ذكر معنى النجاسة.

(2/79)


قوله: (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
دليل على أنه ليس كل ما جاور نجاسة نجس، حتى يدل على نجاسته
دليل آخر يسلم لها.
وفي ذلك أكبر بيان على أن الماء القليل الذي لم تغيره النجاسة لا يجوز أن
نحكم بنجاسته وأصله طاهر لمجاورة النجاسة، وتيقن كينونتها فيه حتى
ينجسه عبادة برأسها، وكذلك سائر ما جاور النجاسة من غير
الماء، كما أن اللبَن لما خلقه الله طاهرًا لم يضره مجاورة الدم له، وكان
طاهرا على أصله.
وكما خلق المني طاهرا فلم يضره كينونته في الصلب، وخروجه في
الإحليل مخرج البول وكل ذلك أماكن نجسة.

(2/80)


وكما كان فَمُ الهر طاهرًا لم يضره مجاورة النجاسة له بأكل الفأر
وغيرها، وكان سؤر مائه طاهرًا.
فكل هذه الأشياء يدل على مجاورة النجاسة للأشياء الطاهرة لا يجوز أن
يجعل علمًا لتنجيسها دون مراعاة التعبد فيها.
وليس هذا منا بقياس غير المذكورات على المذكورات، ولكنه تنبيه

(2/81)


المعتبرين بمجاورة النجاسة للأشياء الطاهرة على تنجس ما جاورها على أن
لا يعتبروا بها، ويراعوا العبادات في تنجيسها للإرادة.
فإن قال قائل: أفيجعل ضَم الفرث إلى الدم في الذكر دليلا على نجاسة.
قيل: لا يجوز ذلك، لأن الدم قد وقفنا على نجاسته من موضع
آخر، ولم نقف على نجاسة الفرث، بل لنا أدلة على طهارته، وقد

(2/82)


يقرن الشيء بالذكر إلى ما لا يشاكله في الجنس ولا يوجب الجمع بين
حكميهما.
والأدلة على طهارة الفرث مذكورةٌ في كتاب الطهارة الذي ألفناه في
شرح النصوص.
ذكر الخمر.
* * *
قوله: (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا)
(الهاء) في: (مِنهُ) راجعة - والله أعلم - على لفظ (مِن) أو على العصير، أو الجنس لاَ عَلَى الثمرات والنخيل والأعناب.

(2/83)


وفيه دليل على أن الخمر لا يحل ثمنها، ولا تعد في عداد الأملاك
لإفراد ذكرها بالسكر، وسائرها بالرزق الحسن.
فما لم يكن رزقًا لم يجز أن يكون ملكًا، ولو كان أيضًا رزقًا لكان خبيثًا
لتسميته سائرها بالحسن، والخبيث لا ثمن له.
وفي ترك تعليمه خلقه كيفية اتخاذ الرزق الحسن، وإخباره عن
اتخاذهم معدودًا في ذكر النعيم - دليل على أن اتخاذه كيف أحبوه مباح
لهم، وإذا كان ذلك كذلك فإفساد العصير المتروك للخل بالخل قبل
النشيش ليأمن النشيش غير مفروض، إذا النية في اتخاذه الرزق
الحسن لا السكر القبيح، فليس في حدوث النشيش والمرارة عليه قبل
الحموضة معنى يحرمه، قال الله تبارك وتعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ)

(2/84)


فتارك العصير بنية الخل المنتظر إدراكه مصلح لا مفسد
وقال رسولى الله - صلى الله عليه وسلم - لفيروز الديلمي
به حين نهاه عن شرب الخمر، وسأله كيف نصنع بأعنابنا.
قال: " زببوها ". قال: فما نصنع بالزبيب.
قال: " انبذوه على غدائكم واشربوه على عشائكم، وانبذوه في الشنان
ولا تنبذوه في القرب " فإنه إن تأخر عن عصره صار

(2/85)


خلا "، ولم ينهه عن أكل ذلك الخل الحادث من عصير لم يفسد بالخل
قبل استحالته إلى الخل. فهذا بين لمن تدبره. غير أني أحب على بيانه لمن
قدر على الخل أن يفسد به عصيره قبل النشيش ليسلم من الاختلاف.
فإن تركه لم أحرجه وكان مباحًا.

(2/86)


ذكر النحل.
* * *
قوله: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ)
وفي قوله: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ) رد على الشافعي فيما
يزعم أنما خرج من البطون نجس كله.
ودليل على أن النحل خلق يسوقه الله حيث يشاء، فإذا اتخذت بيتًا
في مُلك بشرٍ كان ما يخرج من بطونها رزقًا لحدوثها في ملكه، فإذا تحول
إلى غير ملكه لم يكن له المطالبة به، وكان ما يحدثه في ملك من تحول إليه
من العسل له كما كان ما أحدثه في ملك الأول، ثم كذلك كلما انتقل.
فإن اتخذ في أرض موات لا مالك لها كان عسله لمن بادر إلى أخذه.
وتحصيله بالحيازة والنقلة.

(2/87)


ونفس النحل لا يصلح فيها البيع والشرى، ولا يقع عليها
ملك، لعدم الوصول إلى إحرازها بوجه من الوجوه، وليست كالصيد من
الطائر والدواب الذي إذا صِيد أُحرز وحبس حيث شاء صاحبه بقص
أجنحة الطائر، ومنع الصيد من الخروج بغلق باب أو حائط أو
تشكيل، والنحل لا يمكن فيها هذا، ألا ترى أنه يطين على مواضعها
الصائرة فتخرج قبل أن يكشف أبواب أحجرة مواضعها، فهذا أحد
وجوه منع البيع والشرى، وزوال الإملاك عنها.
ووجه آخر: أنها غير مضبوطة بكيل ولا وزن ولا عدد. ولا محاط
بالنظر إليها ليشتَرى جزافًا كَشِرى الصُّبر المصبوبة في الأرض، وسائر
الجزاف المحاط بالنظر إليه. ولإعواز الوصول إلى قبضها فبائعها يعتاض
ملكًا ولا يعوض مملوكًا.

(2/88)


وما كان هذا سبيله فإن لم يكن زائدًا على بيوع الغرر والمخاطرات فهو مثلها
ولا يجوز بيع عسلها قبل تحصيله منها، لأنه غير محاط به، ولأنه
إذا بيع ما حواها وعسلها أخذ النحل من الثمن نصيبًا ففسد الجميع.
ذكر المعتزلة.
* * *
قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
حجة على المعتزلة والقدرية شديدة لجمعه بين المشيئة والإضلال
والهدى والسؤال عن العمل في آية واحدة، وهو قولنا الذي نقوله:
إن الله - جل جلاله - لو شاء لجعل الناس كلهم مؤمنين، ولكنه لم
يفعل فأضل قومًا فكفروا، وهدى قوما فآمنوا، فعذب الكافر بجنايته
وقد قضاها عليه بعدله، وأثاب المؤمن على إحسانه، وقد هداه إليه
بفضله.
وكل هذا حكم منتظم، وعدل شامل، وفضل بين عقلته الخليقة

(2/89)


بعقولها أم لم تعقله، ولو لم يكن في القرآن من الرد عليهم إلا هذه الآية
وحدها لكفتهم، فكيف وهو مملو بأمثالها بحمد الله ونعمته.
ذكر القياس.
(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)
إلى قوله: (عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
حجة في إبطال القياس واضحة لمن وفقه الله لفهمها، وأضرب عن
اللجاج والعناد، وما ألفته نفسه من حلاوة قياسه والتحريم به والتحليل.
وذلك أنه ابتدأ الآية بالحث على كل ما رزقنا الله من الحلال.
وأخبر أنها نعمة علينا وأمرنا بالشكر عليها، ثم فصل ما حرم منه

(2/90)


فقال: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ)
فصار كل ما عدا هذا داخلاً في الرزق، والحلال الطيب المعدود
في النعم التي يجب الشكر عليها، ولا يذهب على مميز إنما يعد ما تقدمه
فصل في معنى الاستثناء من الجملة لا ابتداء، ثم لم يقنع - جل جلاله -
بذلك حتى قال على إثره: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
فليس لأحد من البشر أن يزيد في هذه الأنواع الأربعة المستثناة من جملة
الرزق الحلال الطيب إلا طاعته مفروضة، لا يحرم ولا يحلل إلا ما
أمره الله - جل جلاله - هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
الذي حرم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير.
وحرم التفاضل في أشياء مذكورة مسماة مذكورة معدودة، وحرم مهر البغي،

(2/91)


وثمن الكلب، وعسب الفحل، ونهى عن بيوع بأعيانها مروية

(2/92)


بروايات الثقات، فكل ما وجد نصا عن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - فهو مضموم إلى الأربع، وما لم يوجد فيه نص وكان تحريمه
بآراء الرجال فهو في حكم الآية افتراء عند من تدبرها، وغاص على
نكتها.
فإن قال قائل: أفتجعل سعد بن أبي وقاص في تحريم البيضاء

(2/93)


بالسلت - والسلت ضرب من الشعير - وابن عباس في إعداد ما عدا
الطعام في البيع بمنزلة الطعام قبل القبض والاستيفاء. مفتريين على
الله.
قيل: معاذ الله أن يكونا مفتريين، بل كانا فيما قالا موفقين
مصيبين. فأما سعد بن أبي وقاصٍ - رضي الله عنه - فإنه كان من
مذهبه أن الحنطة بالشعير لا يصلح إلا مثلا بمثل. فلما سئل عن
البيضاء بالسلت - والسلت ضرب من الشعير رقيق القشر صغار
الحب - قال: أيها أفضل،

(2/94)


قال: البيضاء. فنهى عنه.
ولعل السلت بصغر حبه إذا يبس نقص.
فسئل عن البيضاء بالسلت الرطب، فعلم أن السلت إذا يبس نقص
عن البيضاء في الكيل، فيكون صنف من أنواع الستة بصنفٍ منها
متفاضلاً، والدليل على ذلك ما قال: " سئل النبي - صلى الله عليه
وسلم - عن شِرَى التمر بالرطب " - والرطب رطب ينقص عن
التمر - فإذا نقص السلت الرطب إذا يبس عن البيضاء، وهما جميعًا
منصوصين، وعند سعد مستويان كان التفاضل بينهما ربا.
فإن قيل: فما وجه إعداد سعد الشعير بمنزلة الحنطة في أن لا يجيز

(2/95)


التفاضل فيهما ورسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أجازه.
قيل: ليس ذلك من جهة القياس. وقد وافقه على ذلك
عبد الرحمن ابن الأسود بن عبد يغوث
وابن معيقيب الدوسي، وإليه يذهب أهل المدينة، ويلحقون
بهما سائر الأصناف، ولا يجيزون واحدَا باثنين، وإلا كانا من جنسين
مختلفين.
فأما قول سعد وعبد الرحمن بن الأسود فله وجه عندنا وهو أن سعدًا
فني علف حماره، وعبد الرحمن علف دابته فأمرا غلاميهما أن يأخذا

(2/96)


حنطة يبتاعان به شعيرا، ولا يأخذا إلا مثلا بمثل. ولعلهما أرادا أن لا
يأخذا إلا مقدار ما يكفي الحمار والدابة كل يوم، فمنعا التفاضل فيه من
أجل تأخير قبض جميعه فكان يصير نسيئة فأمرا الغلامين أن لا يربيا، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما أباح فيهما نقدًا، وحرمه نسيئه.
فهذا وجه متوجه من قول سعد، وهو أحسن وجه يوجه فيه.
وأما قول ابن عباس - رضي الله عنه - في أنه قال: " كل شيء
بمنزلة الطعام " فهو نصّ في قول حكيم بن حزام حيث قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الرجل يريد مني البيع ليس

(2/97)


من عندي أفأنفقه له، قال: " لا تبع ما ليس عندك ".
فإن قيل: أفليس وإن وافق قوله النص من حديث حكيم فقد قاله
وهو لا يعرف النص.
قيل: قاله على الظن، فقال: " ولا أحسب كل شيء إلا بمنزلة
الطعام " ولم يحتم به، ولا خطره فوافق ظنه الحق.

(2/98)


وما في قول صحابي تكلم بكلمة وفقه الله فيها للحق في شيءٍ بعينه
من الحجة للقائسين. أترى قول ذلك الصحابي - رضي الله عنه - في
شيءٍ بعينه أكثر من أمر الله - جل وتعالى - العدلين بالمثل في جزاء
الصيد الذي لايعدوا به موضعه، ولا يحمل غيره عليه.
وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في أشياء نزل القرآن

(2/99)


بتصديقه، وابن عباس - رضي الله عنه - وإن لم يكن له من الجلالة ما لِعُمرَ فهو صحابي فاضل جليل لاينكر له أن يتكلم في شيءٍ تَرِدُ سُنة لرسول الله -
صلى الله عليه وسلم - بتصديقه. ولا يكون ذلك ذريعة إلى إباحة
القياس، وحجة فيما ليست لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُنة
يوافق قوله، ويصدق تحليله وتحريمه.

(2/100)


ومن الدليل على أن هذا من قول ابن عباس لم يكن قياسًا، ولا رأى
القياس دينًا مستعملاَ في كل ما عدم فيه النصوص: أنه جعل أجل الحامل
المتوفى عنها زوجها آخر الأجلين، ولم يقسها على المطلقة، وأجاز لها
أن تعتد حيث شاءت ولا تمكث في بيتها، ولم يقسها على ما أمر اللَّه
المطلقة من المكث في بيتها، وترك الخروج إلى انقضاء أجلها إلا لفاحشة
مبينة.

(2/101)


وفي ذلك دليل أيضا أن الصحابي قد تذهب عليه السنة التي يعرفها
غيره، فلا تنحط بذلك درجة فضله وحق صحبته. فقد خَفِي على
ابن عباس - رضي الله عنه - في هاتين المسألتين حديث سُبيعَة الأسلمية.

(2/102)


وحديث الفريعة أخت أبي سعيد الخدري بخلاف ما أفتى به.
ذكر المعاني المختلفة باسم واحد.
(وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ)
يعني - والله أعلم - ما قصه في سورة الأنعام في قوله: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ)
إلى آخر الآية. وهذا تحقيق

(2/103)


نزول الأنعام بمكة ونزول النحل بالمدينة إلا أربعين آية من أولها إلى قوله
(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً)
والحسنة في هذا الموضع هي المدينة.
وهذا أيضًا حجة في تسمية العرب المعاني المختلفة باسم واحد.
* * *
قوله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا)
أيضًا حجة في تسمية العرب كثير المعاني باسم واحد، والأمة هاهنا

(2/104)


معلم الخير يأتم الناس به في الهدى.
صفة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
* * *
قوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)
حجة في ترك الغِلظة والخرق عند الأمر بالمعروف والنهيْ المنكر
واستعمال اللين واللطف فيهما، لأنه أجدر أن يلين له قلب المأمور.
وأحرى أن تصل الموعظة إليه.

(2/105)


ذكر الاستطاعة.
* * *
وقوله: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ)
دليل على أن الاستطاعة وإن كانت منسوبة إلى العبد فالمعونة عليها من
عند الله.

(2/106)