النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام

سورة بني إسرائيل
* * *
قوله: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ)
كان سفيان الثوري يقول: (إِلى) هو بمعنى: على.
كأنه يقول: " على بني إسرائيل ". وهو حسن جدا.
لكنا نسامح القوم فيها، لأنها قد تكون في هذا الموضع بمعنى: (أوحينا) .

(2/107)


فى القياس.
(وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
حجة في ردّ القياس، إذ كانت الأشياء مفصلة إلى التحليل
والتحريم، فقد أغنى الله عن القياس وأهله.
ومثل هذا قوله في سورة الأنعام: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) .
ذكر المعتزلة.
* * *
قوله: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ)
حجة على المعتزلة والقدرية في إلزام الطائر.

(2/108)


والطائر: ما قضى عليهم من الشقاوة والسعادة.
قوله أيضاً: (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا)
لا تدفع قولنا، لأن الله - جل جلاله - قد أخبر بالإضلال
وهداهم عن نفسه في مواضع من كتابه هذا وكل ما يشاكله من
إضافة الأفعال إلى العباد لا ينقض ماحكاه عن نفسه، إذا الأفعال
جارية من فاعليها على ما سبق من القضاء عليهم فيها.

(2/109)


فمن نسب الفعل إليهم، والقضاء إليه فقد قال بجميع المعنيين واستقام
قوله.
ومن أنكر القضاء، وردَّ كل آية فيها. فما بالهم يردون كتاب ربهم
خشية كسر قولهم فيما لا يضر جهله. ولو أضربوا عن اللجاج، ولم
يحملوا أمر الخالق على عقول أنفسهم لانتظم لهم القول بالقضاء، ونسبة
الفعل إلى فاعله، وكانوا يصرفون لحوق الحيرة بهم في مصاحبة العدل
عقوباتهم مع قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا)
إلى ما أثرناه عليهم من أحواله في عقوبة آدم وولده، ومرض الصغار، وَخَول العبيد وأشباه ذلك. إذ لا موضع لإنكارهم معاقبة الجانين لقضائه غيره، وغير حمل حكمته الجليل - جل

(2/110)


ثناؤه - على حكمة الحكيم منهم، أولا يعتبرون - ويحهم - أن الذي
ينازعون عليه من يسمونه المشبهة ويصنفون عليهم فيه الكتب
قد التزموه دونهم، فكأن قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)
وهو عندهم في الصورة ددن الأفعال حتى يضاهون بأفعاله وأفعال
خلقه فيما ينكرون على من قَلَب عليهم نفس مقالتهم. فيقول لهم:
إذا كان لكم أن تأخذوا معرفة عدل الله وحكمته من عدل خلقه
وحكمتهم كان لغيركم أن يأخذ صورته من صورة خلقه.
وأقل ما على القائلين بالعدل إطلاق سبيل هم سالكوه، ولا يحظرون
على غيرهم نفس ما هم فاعلوه.
(وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ)

(2/111)


قد كفانا كل مؤونة في باب العدل، وأعلانا عليهم من كل جهة، إذ
ليس يخلو (أَمَرنَا) من أن يقرأوها مخففة أو مثقلة، فإن قرأوها مخففة
أقروا بكل ما أنكروه بألفاظ خصمائهم.
وإن قرؤوها مثقلة قيل لهم: أفمن العدل عندكم تأمير مترف فاسق
ومؤمره يجد مؤمنًا مطيعًا، أو تكثيرهم - فإن التثقيل يحتمل التأمير
والتكثير،

(2/112)


فإن قالوا: لا. كفروا، لأن الله قد أخبر عن نفسه بذلك. فإن
قالوا: هو من فعل المخلوق بالمخلوق جَور، ومن الخالق بالمخلوق عدل.
قيل: فهو عدل من حيث تعقلونه بعقولكم، أو من حيث تسلمون
فيه لربكم.
فإن قالوا: من حيث نعقله بعقولنا.
قالوا: محالاً. وإن قالوا: من حيث نسلم فيه لربنا علمًا منا بأن
الجور ليس من صفته، ولا الكذب من نعته، وقد أخبر عن نفسه
بتأمير هؤلاء، أو بأمرهم فهو صادق في إخباره، عادل في فعله وإن
لم نعقله نحن بعقولنا.
أقروا بكل ما أنكروه. علموا أن المنكر هو أخذ معرفة عدله من عدل
خليقته، وحكمته من حكمتهم، فإن المعروف والصواب من القول هو:
أن الله لما أخبر عن نفسه بأنه ليس كمثله شيء واستحال عندهم أن تؤخذ
صورته من صورة خلقه استحال عندهم أن تؤخذ حكمته من حكمتهم.
وما يتصور جورًا أو عدلاً في أفعالهم، وقبيحًا منهم في حكمهم لم يجز أن
يكون كذلك منه متصورَا، إذ لا فرق بين من تشبه بخلقه، وبين من تشبه
خلقه به في أفعالهم لم ينفعه امتناعه من تشبيه صورته بصورهم، والتحكم
ليس من شرط المحصلين. ومن لم ينصف خصومه في الاحتجاج عليهم لم

(2/113)


يقبل بيانه وأظلم برهانه.
أو يكون - والله أعلم - حركناهم لعمل ما سبق عليهم من القضاء
بالسبق. وقد قُرئ: (آمرنا) مطولة الألف. أي أكثرنا وهي عليهم
أيضا.
ذكر ما فى العاجلة.
* * *
قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)
حجة عليهم إذا العاجلة لا محالة هي التي استحقوا بها النار، ولا يكون
ذلك إلا مذمومَا غير مرضي. وقد أخبر الله نصا أنه عجلها لهم، بل أخبر مع التعجيل لهم بإرادته منهم بقوله: (لِمَنْ نُرِيدُ)

(2/114)


وأكده بما بعده حيث يقول: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
أفلا يرون ويحهم كيف أخبر عن إمداده إياهم بعطائه، وعن تفضيل
بعضهم على بعض، وسبب التفضيل عطاؤه لا انفرادهم باكتساب الخير
والشر.
* * *
قوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)
في هذا الموضع أمرٌ أو وصية. وليس للقوم علينا فيه حجة لاَ في
لفظِ القضاء أنه الأمر، ولاَ في الأمر بأن لا يعبد سواه، إذ قد دللنا على أن
العرب قد تُسمي باسم الواحد المعاني الكثيرة. ودللنا على الفرق بين
القضاء والأمر في سورة الأعراف عند قوله: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ)

(2/115)


إذ الأمر لا يكون إلا بإفصاح، والقضاء: إرادة في
المأمور مغيبة عنه. ودقيقة العدل في جميعها على نفسٍ واحدة مغيب عن
أفهام البشر منفرد ربنا - جل وتعالى - بعلمه.
ذكر الاستطاعة.
قوله في الوالدين: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
حجة عليهم في الاستطاعة، إذ تربيتهما إياه ليس بقوة أنفسهما.
ولا باقتدارهما بلِ الله رابهما ورابي الولد معهما ورازق الجميع.
وموفيه. وقد نسبه الله إليهما كما ترى. وكذا فاعل المعصية والطاعة
معا بقضاء الله ومشيته منسوبان إلى الفاعل لا يؤثر أحدهما في صاحبه.

(2/116)


ذكر القربى.
* * *
وقوله تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
حجة في أن للمسكين وابن السبيل حقَا في الغنائم والصدقات
جميعًا لأن ذكرهما مع ذي القربى - وذوي القربى ليس من أهل

(2/117)


الصدقات - دليل على أن المقصود بإعطائهما منه في هذه الآية الغنائم لا
الصدقات. غير أنهما إن كانا مستغنيينِ بمال الغنيمة في عام الصدقة لم
يكن لهما أن يأخذا منهما، لأن أخذهما بمعنى الحاجة إليه. فإذا
استغنيا عنه وارتفع عنهما الاسم الذي يستوجبانها لم يكن لهم حق في
مال ليسا من أهله.
وإذا ضاق المال ولم يكن فيما يصل إليهما ما يزول به اسم الحاجة عنهما
أخذا منهما معا، وحل ذلك لهما.
وكذلك إن وقعت غنيمة وقد استغنيا بمال الصدقة لم يكن لهما حق.
وجعل لمن لم يستغن بها ممن يأخذ بالاسم الذي كانا به آخذين.
والحجة في أنهما يأخذان من كلا المالين أن اللَه - جل وتعالى -
قد ذكرهما في آية الصدقات في التوبة فقال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) إلى قوله: (وَابْنِ السَّبِيلِ) ، وذكرهما في آيتي

(2/118)


الغنيمة في الأنفال والحشر فقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ، وقال: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) .
فقد أوجب لهما في كلا المالين حقًا لا يجوز إسقاطه.
وما روي: " أهل الغنيمة كانوا في عهد رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - بمعزِل من أهل الصدقة، وأهل الصدقة بمعزِل عن أهل
الغنيمة".
مصروف إلى سوى من ذكر في أهل الصدقة معهما. فلا يجوز أن نحرم
المساكين وأبناء السبيل حقهم من المالين وقد أثبته الله لهم نصا برواية يمكن
صرفها إلى غيرهم من غير معارضة ولا انتقاض.
وفي قوله: (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ)
في سورة بني إسرائيل دليل على أن سهم المساكين إذا أعطوا جاز أن يُوضع في واحد دون ثلاثة، إذ المقصود - والله أعلم - اسم المسكنة لا العدد. ألا ترى أن الله - جل

(2/119)


جلاله - جمعهم في اللفظ في سورة الأنفال، وسورة التوبة والحشر ثم
أفرد لفظهم في سورة بني إسرائيل. وإذا كان ذلك كذلك والمقصود به
المسكنة فسواء أخذوا من فيء أو غنيمة أوصدقة يُعطى العدد والواحد
على ما سهل وتيسر على المفرق ولا حرج عليه.
فإن قيل: أفيجوز أن يوضع أربعة أخماس خمس الغنيمة والفيء في
صنف واحد من المذكورين في الآية كما زعمته في الصدقات.
قيل: لا يجوز في الغنيمة ما يجوز في الصدقة.
والفرق بينهما أن مال الغنيمة والفيء مقهور عليه المشركون، ومأخوذ
منهم قسرا، مشروك فيه من ذكر في الآيتين.
ومال الصدقات: طهرة لأهله متقرب به إلى الله طلب الثواب. ففي
أي صنف وُضع لحق دافعه اسم القربة، واستوجب الطهرة. ولو كان
لا يلحق دافع الصدقة اسم الطهر، ولا يستوجب الثواب حتى تصل إلى
جميع المذكورين في الآية لوجب أن يتألف منه قوم على الإسلام إلى يوم
القيامة، كما كانت المؤلفة تُعطى منه على عهد رسول الله - صلى اللَّه
وأوجب إذا فقد المكاتبون في بلد يقسم به صدقة

(2/120)


أهله أو غيرهم من الأصناف أن تخرج إلى غيرهم، فكان يخرج سهما من
صدقات أرض الخيل كلها في كل عام إلى غيره.
وهذا خلاف ما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن

(2/121)


جبل من أخذ صدقات أغنياء أهل اليمن ورده في فقرائهم.
ولو لم يكن من الحجة في إجازة وضعها في صنف واحد إلا هذا الخبر
لكفى. إذ ليس أحدٌ أعلم بالمراد في آية الصدقات ممن أنزلت عليه وهو -
صلى الله عليه وسلم - لم يقل لمعاذ بن جبل: خُذها من أغنيائهم
فردها في الأصناف الثمانية، بلِ اقتصر به على فقراء اليمن.
فكل هذا يدل على الأصناف المذكورة في الآية منهم أصناف مواضع
الصدقة، ومن يستوجب دافعها إليهم ثواب صدقته فطهرة لسائر
ماله، لا أنهم يشتركون فيها كاشتراك أهل الغنيمة والفيء.

(2/122)


ومما يؤكد ذلك إجماع الأمة جميعا على أن صاحب الصدقة لو جاءه
المصدق وقد أخرج صدقته، وثبت عنه لم يكن له أن يعيدها عليه.
وقد دفعها إلى بعض من ذكر في الآية دون بعض إذ لا محالة لم يلحق
العامل عليها منها شيء.
غير أني أقول: إن العامل عليها إن لم يعوضه الإمام من موضع آخر
حقًّا بما صار في يديه لابد من إعطائه لمِاَ لحقه من التعب والنصب في
جميعها، فيكون أجرة له على عمله.
ذكر السرف.
وفي قوله: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
تغليظ شديد على المنفقين في معاصي الله، إذا التبذير لا يقع إلا

(2/123)


عليها من أجل أن النفقة على ثلاثة وجوه:
فمنها: ما يلتمس ثوابها من مفروض وغيره.
ومنها: مباح وقد وضع الله الحرج فيها بقول: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) ، وبقوله: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ، (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا) ، فلم يبق إلاّ نفقة المعصية فاستحق صاحبها اسم التبذير، وصار به من إخوان الشياطين.
فكل ما حرم الله على العباد أكله أو شربه أو فعله فأنفق فيه منفق نفقة
سُمي مبذرًا. صائرًا بها من إخوان الشياطين كفورًا لربه جل وتعالى.

(2/124)


والذي نختار من النفقتين القصد فيهما لقوله تبارك وتعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) .
فنهيه جل وتعالى - عن مجاوزة الحد والإجحاف بالنفس في النفقة، وتركها بواحدة خشية السرف.
أنزلت هذه الآية فيما بلغنا في دفعه - صلى الله عليه وسلم - قميصه
إلى سائله من النساء، وقعوده في البيت عريان.
والنهي واقع على ما تجحف هذه الإجحاف بالمنفق، ويكون مثله

(2/125)


معدودًا في وجوه السرف.
إذا السرف في اللغة سرفان:
أحدهما: مجاوزة الحد في النفقة. وهو ما نهى عنه رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - فقال بعد ذلك: " خير الصدقة ما تصدقت به
عن ظهر غنى".
والسرف الثاني: هو الخطأ في الفعل ما كان الفعل من شيء.
قال جرير يمدح قوما:
أعطوا هُنيدةَ تحدوها ثمانية
ما في عطائهم منٌّ ولا سرف

(2/126)


فلم يمدحهم بقلة العطية، لأن ذلك هجو. إنما مدحهم باجتناب الخطأ فيها.
ألا ترى أنه قد ضَمّ السرف إلى المن ونفيها معًا عن القوم
وكلاهما مدح، والسرف وإن كان منهيا عنه فليس بتبذير. إنما
التبذير: ما يستعان به على المعاصي وحدها.
والسرف قد يكون في طلب الثواب وغيره من المباحات، لأن دفع
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قميصه إلى المرأة كان في التماس
ثواب، فلما أخرجه إلى العُري نهُي عنه وأمر بالقصد، والقصد مع
ذلك قصدان: فللموسع قصد على مقدار اتساعه، وللمقتر قصد على
قدر إقتاره.
قال الله تبارك وتعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) .
* * *
قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ)

(2/127)


حجة في وجوب نفقة الآباء على الأبناء. إذ لوكانت النفقة غير واجبة
لهم عليهم لكان في الناس من تسمح نفسه بترك الإنفاق، وكان مع عدم
الإجبار عليه آمنًا من الإملاق.
والآية عامة المخرج على جميع الآباء، فلا تدل إلاّ على الوجوب بل
على الإجبار مع المنع.
وفيها عظة للمغتمين بكثرة ولادة الأولاد خشية العجز عن القيام
بنفقاتهم ومؤناتهم، وفي ضمانه تبارك وتعالى نفقتهم أمان للمضمون له
ما يتقيه من العجز، ويحذره من دخول الفقر عليه بسبب أولاده.
وبشارة يسكن إليها المؤمن ويزول اضطراب قلبه بما لا يخلف ضامنه من
وعده.
وإذا كان في حياته مضمونا له رزق أولاده وهو قيمهم فبعد وفاته
أحرى أن تحسن خلافة ضامنه عليهم. وفي ذلك تطييب أنفس من
يترك بعده أصاغر، وسكون قلوبهم إلى من لا يخلف ميعادًا، ولا يضيع
لهالكٍ أولادا.

(2/128)


وفي تركه تبارك وتعالى ذكر القود عنِ الآباء في قتل من يقتلونه من
الأولاد، وإفرادهم غيرهم بالقتل في قوله: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) ، لمن يزيل القود بين الآباء والأبناء متعلق.
وإن لم يكن بالبين جدا.
ذكر السرف فى القتل.
* * *
قوله: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ)

(2/129)


دليل على أن لا تقتل نفسٌ بأنفس، لدخوله تحت السرف في ظاهر الفعل.
وأجمع المفسرون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وغيرهم على أن السرف في القتل هو أن يقتل غير القاتل.
فلما كان تحريم دم المقاد منهم قبل إحداث حدثهم على من تلفت نفسه
به مثل دمه، وأعوز تحقيق القتل على واحد من المحدِثين على المقتول منفردًا
به، لم يجز أن يشاط دمه المتيقن تحريمه بحدث أحدثه، لا يدري أتلفت
نفس المحدث عليه به أم لا، إذ ليس أحد الدّمينِ بأشد تحريمًا من
الآخر، وقد يجرح الرجل غيره جراحاتٍ ويسلم منها، ويجرحه
غيره جراحة واحدة فيتلف منها، فلو تيقن مع إمكان هذا ووضوحه
عند جميع العالم إعانة جرح كل واحد منهم على تلف المقتول لكان

(2/130)


محسوبا عليه في علم الله - جل وتعالى - المحرم للقتل، والموجب به
القود جزءا من أجزاء الجناية. فكيف يبيح عدم وصول الخلق إلى
معرفة ذلك الجزء إفاتة جميع نفس جانِ واحد فضلا عن أنفس الجميع.
وقد قال الله تبارك وتعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) ، وقال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) .
أفمِنَ العدل أن تُعدل نفسٌ واحدة بأنفسِ أَلفِ إنسان في إفاتة أنفسهم
وكل واحد منهم محرم الدم بل اجتماعه مع غيره في الحادثة على المقتول.
أم يكون قتل نفس حقا لا يجرح صاحبها إلا جرحًا. أليس الله
يقول: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) ، وقال:
(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) . أفتكون إفاتة نفس مثل جرح جراحة
قد يسلم منها المجروح في أكثر الأحوال. وهل يخلو كل واحد من
المجتمعين على قتل المقتول من أن يكون منفردا بالقتل - فإن كان محالا
في التجريح - أو غير منفرد به "
فإن كان منفردا به فَلم لا نجعل عليه دية ثانية إذا عُفي من الولي
عن القود واللَّه - جل وتعالى - يقول: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) ، كما يكون على المنفرد الذي لا شريك

(2/131)


معه في الجرح، وإن كان غير منفرد بالقتل فكيف يفرد بالقَود من لم تبلغ
جناية القَود، هذا غير مشكل لمن تدبره.
وعدل القول في ذلك أن تجعل عليهم ديةٌ واحدةٌ في أموالهم موزعة
بين الجميع، إذ لا وصول إلى الوقوف على من حدث التلف من جرحه
بعينه وعتق رقبة واحدة يشتركون في ثمنها، فإن أعوزتهم الرقبة
فالاحتياط أن يصوم كل واحد منهم شهرين متتابعين - إذ لا سبيل إلى
الاشتراك في الصوم كما يشترك في ثمن الرقبة - ولا أوجبه عليهم
إيجاب فرض.

(2/132)


إذ صوم شهرين متتابعين واجب على مُوقن القتل عند إعواز الرقبة، فأما
من " يوقن الجرح ولا يكون القتل فلا صوم عليه إلا احتياطًا.
فإن قيل: فإذا كان غير موقن للقتل فلم لا تسقط الدية والرقبة أيضًا.
قيل: اليقين في القتل مرتفع على الانفراد، وغير مرتفع على الجمع
فلما أمكن توزيع الدية وثمن الرقبة بين الجميع وزعت، ولما أعوز توزيع
الصوم بين الجميع أسقطته إيجابًا واخترته احتياطًا، وقد دللنا على تَوهين
رواية سعيد بن المسيب، عن عمر في كل شيء، لولادته لسنتين خلتا
من خلافته، وما ذكر عن عمر من قتل نفر بواحد

(2/133)


بروايته

(2/134)


وروي عن معاذ بن جبل، وابن الزبير، وعبد الملك، وسعيد بن جبير، وحبيب بن أبي ثابت

(2/135)


لا يقتل اثنان بواحد.
* * *
قوله: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)
دليل على تصرف الولي في مال اليتيم بما عادَ صلاحه على اليتيم.
والله أعلم.
فإن قال قائل: قد قبلنا قولك في جعل الدية على قاتل العمد لما
ذكرت من قوله تبارك وتعالى في سورة البقرة بعد ذكر القصاص
في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ)
فلم جعلت عليه عتق رقبة، وصيام شهرين متتابعين إذا أعوزها،

(2/136)


وهما كفارة قاتل الخطأ الذي تُقْبل توبته، وقاتل العمد لا تقبل توبته.
وإنما الكفارة كاسمها تكفر معصية قتل الخطأ، وقتل العمد لا تكفره
الكفارة، إذ لو كفرته ما منع التوبة من فعله.
قيل له: ولم لا يقبل توبته.
فإن قال: لأن الآية التي في سورة الفرقان منسوخة بالآية التي في
النساء، من أجل أن الفرقان مكية والنساء مدنية.
قيل له: أما نزول السورتين فكما ذكرت. ولكنه جل وتعالى ذكر في
سورة النساء عقوبة قاتل المؤمن عمدًا، ولم يقل أنه حجب عنه التوبة
فإن قال: ذكر الخلود في النار والغضب واللعنة دَليل على حجب
التوبة.
قيل: لا يجوز أن يجعل ذلك دليلاً، لأنه جل وتعالى قد ذكر الخلود
واللعنة والغضب في عقوبة الكافر، ولم يحجب عنه التوبة فقال تبارك
وتعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) .
وقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)

(2/137)


وقال: (إِإِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) .
وقال: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) ، وقال (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ)
إلى قوله: (وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) ولم يحجب التوبة عنهم. ثم قال في سورة النور وسورة المتحرم مدنيتان: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) .
واسم الإيمان غير زائل عن قاتل العمد، وهو داخل في دعوة الآيتين إلى التوبة وفي كفارة سيئته بقوله: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) .
وقال في سورة اَل عمران وهي مدينية) 9 (
أيضًا: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)

(2/138)


وقال في سورة النساء: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) . فأوجب المغفرة في هاتين الآيتين إيجابا عاما ولم يستثنِ فيها
أحدًا، والمغفِرة في اللغة مثل الكفارة، لأنهما جميعًا يستران الذنوب، ومنه سُمي مغفر الرأس، لأنه يستره، وسُمي الكَفّار في الزروع، لأنهم يسترون الحب إذا بذروه بالتراب. وكذلك الكفارة تستر الذنب، وتصير والمغفرة معًا حجابًا وسترا لعامل المعصية من النار، وسائر عقوبات الآخرة. فإبطال التوبة وحجبها عن قاتل العمد بما ذكر الله من عقوبته في الآية لا وجه له لمن تدبره.

(2/139)


فلو أنه قال: إن قاتل العمد بما ذكر الله من عقوبته مات بغير توبة
يخلد في النار، واستوجب العقوبة المذكورة له في الآية، ولم يمنعه التوبة
كان كلامه أشد استقامة وأحسن توجهَا كما أن الكافر المذكور عقوبته
بالخلود واللعنة والغضب كذكر عقوبة القاتل إذا مات على كفره قبل
إحداث التوبة منه استوجب ما ذكر به، وخلد في النار بكفره مع أن
هذا وإن حسن توجهه من قوله فإنا لا نسلمه له في الموحدين وإن ماتوا
بغير توبة، للحجج التي حواها فصول كتابنا هذا على نسق الآيات في
السور، وعند الرد على المعتزلة والشراة، والأخبار الصحيحة عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نزل الموحدين في النار،

(2/140)


وإخراج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان منها.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم بتأويل ما نزل عليه من التغليظ في آية قاتل العمد.
ونحن وفقهاء المسلمين كافة من أصحاب رسول االله - صلى
الله عليه وسلم - والتابعين والأئمة بعدهم نخص بالسنة الصحيحة
عموم القرآن، ونجعلها بيانا لجملته.
وبعد فقد وجدنا آية في سورة المائدة تدل على أن التوبة مقبولة من
قاتل العمد بلفظ التوبة - وإن كان كلما ذكرناه من تمهيد التوبة له شافيًا
قال الله تبارك وتعالى - وهي آية مدينية -: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)

(2/141)


ولا يشك أحد أن المحاربين قد يبلون لا محالة بالقتل إذا طال مكثهم في
المحاربة، ولم يَستثنِ الله منهم القاتل، بل الفقهاء المتقدمون والأئمة
المختارون كلهم على تفسير علي، وابن عباس في أن (أو) ليس بتخيير
في هذه الآية، وأنه لا يقتل منهم إلا من قتل.

(2/142)


وقد أسقط الله عنهم جميع عقوباتهم بالتوبة، وذكرها بلفظها.
ووعدهم المغفرة كما ترى في الآخرة، والصفح عن العذاب العظيم
الذي ذكره بعد ذِكر الخزي في الدنيا بلفظ ما ذكر في سورة النساء:
) وَأَعَدَّ لَهم عَذَابًا عَظِيما) .
قال محمد بن علي - رضي الله عنه: وإذا صح أن توبة قاتل
العمد مقبولة، وله ممهدة فلا تصح له مع الندم إلا بعتق الرقبة، أو
صيام شهرين إن عدمها لشمول اسم القاتل له. وليس سبب القتل من

(2/143)


العامد والخاطىء بمزيل عنه اسم القتل، وقال الله تعالى بعد ذكر الرقبة:
(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) .
فهذا نص لا قياس لما دللنا عليه من أن سبب القتل لم يُزل اسم القاتل
عنه، ووجوب الكفارة بالفعل لا بسببه، وإسقاط القود عن قاتل الخطأ
مسلم فيه لإجماع الأمة.
ذكر تحريم الحكم والفتوى بغير علم، وترك قبول الطعن في المسلمين.
* * *
وقوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)

(2/144)


حجة فى أشياء:
فمنها: تحريم الحكم والفتوى بغير علم.
ومنها: ترك قبول الطعن في المسلمين بغير ثَبت - ولا ثَبت إلا بيقين
المعاينة، أو السمع من المطعون عليه لا مِنَ الطاعن، أو قيام بينة عادلة
معروفة بالصدق والأمانة من كل ترة أو حقد بينها وبين من يشهد
عليه، غير سابقة إلى شهادتها.
قيل: يستشهد عند الضرورات، وإقامة الشهادات لإقامة حد، ولا
مبادرة إلى اغتياب من يطعن عليه عند من ليس بسلطان يقيم الحدود.
متفكهة بهمزه ولمزه غير جارة بهما نفعًا إلى مسلم، ولا دافعة

(2/145)


مضرة عن موحد أو ذي عهد. فإن لم يحب ستر أخيه وإخفاء عيوبه جهده
وطاقته ويكره أن يسير في الناس على لسان غيره فضلا عن أن يتفكه هو
بها، ويذيعها فيمن يعرج بهتك الأستار أجدر أن يعد في عِداد الفجار.
ولا يقبل قوله في الأخبار.
وأرى نساك زماننا قد أهملوا هذا من أنفسهم، وأغفلوه في
رعياتهم، وتسرعوا إلى تعليق العيوب على إخوانهم المؤمنين يوهمهم
الشيطان أنهم بذلك إلى الله متقربون، ولدينه ناصرون، وبحقه قائلون.
فقصارهم اتباع عورات المسلمين، وهتك أستار المستورين بعد
الجهلة المغتابين فيفسقون من يجهلون حاله بشهادة من يشهد بفسقه غيبته
المحرمة بنص القرآن، ويحققون الظنون على المستورين بإذاعة
الكذابين.
أليس يعلمون أن أهل الإفك ما أهلكهم إلا الظنون السيئة بأم المؤمنين، والخير من الصحابة الفاضلين صفوان بن المعطل - رضي الله عنه -

(2/146)


حيث تخلف من وراء الجيش، وأقامت أم المؤمنين
المبرأة بكلام رب العالين على التماس العقد حتى اجتمعا على غير
تواطؤ، ولا إرادة سوء في منزل واحد، وَبَقِيَا معًا منفردَين حتى
أبقا بالجيش، وهلك فيهما من هلك.
أفترى شهادة المغتابين والمذيعين الفواحش بالبلاغات، وفقد المعاينات
أبلغ في فسق المستورين من اجتماع هذين المعصومين رضي الله عنهما -
على حال يقدح معشارها في قلوب المنافقين، وتطلق أَلسُن المفتونين على
البرية الرضية أم المؤمنين وصاحبها الخير من المسلمين حتى أدتهم ظنونهم إلى
ما أدت، ونزل فيهم في تكذيبهم، وفي براءة المرميين من الآيات في
سورة النور ما نزل فيها: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) .
وفيها: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) .

(2/147)


أوليست هذه الآيات - وإن كانت خاصة في براءتهما - فهى مأدبة
وَعِظة لمن سمعها أن لا يهلك بما هلكوا، ولا يفعل في المسلمين ما
فعلوا.
وبعد فلو كان مفسق المستورين بالبلاغات، وقول المغتابين " ومن
يفرح بهتك المؤمنين عاين ممن طعن عليه قبله بعض محارم الله يفعلها
لكان مأمورًا بالستر عليه، وترك إذاعة فعله في غيره، والذب عنه
جهده وكان في إسرار النصيحة إليه ما يؤدي حق ربه عليه.
أوليس معروفًا عند علماء الحديث والفقهاء صنيع رسول الله - صلى
الله عليه وسلم بماعز بن مالك وهو يُقِر على نفسه بفاحشة الزنا، ورده
مرة أخرى، والمسألة عن عقله بعد استثبات معرفة الزنا والتحصين
منه،.

(2/148)


أوليس قال لهزال حين أخبره بعد رجمه إياه أنه المشير عليه بإتيانه:
" يا هزال، لو سترته بثوبك كان خيرا لك مما فعلت به ". أوليس حين
فرغ من رجمه، وركب مركبًا سمع قائلا يقول لآخر: انظروا إلى هذا ستر
الله عليه فلم يستر على نفسه حتى رُجِم رجم الكلب، فسار صلى الله عليه
وسلم قليلا فإذا بحمار ميت شابكٍ برجله، فقال: " أين فلان

(2/149)


وفلان، " فقالا: نحن يا رسول الله. فقال: "انزلا وكلا من جِيفة هذا
الحمار ". فقالا: غفر الله لك يا رسول الله، ومن يأكل من جِيفة هذا
الحمار، فقال: " قد أكلتما آنفا من عرض أخيكما ما هو أشد تحريمًا
عليكما من جيفة هذا الحمار"، فجعل القائل والمستمع في دَرجة
العقوبة والتحريم واحدة.
أوليس قد أشار أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - على آتي.
أليس كعب بن عمرو البدري - رحمه الله - حين أخبرهما بصنيعه
بالمرأة التي أرادت منه تمرا، فذهب بها إلى البستان، وفعل بها ما فعل
من التقبيل والاعتناق، وكل شيء مكروه غير الجماع أن يستر على
نفسه، ولم يذكرا أمره لأحد، ولا أقصياه ولا هجرا بل ظنا به أن
قوله لهما ندم على فعله.

(2/150)


أو ترى شهادة الفاسق المغتاب أكبر من شهادة ثلاثة من أصحاب رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - وإثباتهم على رؤية الزنا، والرابع يشهد بأنه
قد رآه فوقها، وسمع نفسا غالبَا على من شهدوا، فجلد عمر - رضي
الله عنه - الثلاثة، وفسقهم ائتمارَا لربه، وامتنع من قبول شهادتهم مدة
حلافته
وكان المشهود عليه عنده في حالته الأولى من ستره وفضله لم يحفه.

(2/151)


ولم يتغير له. فما بال نساك زماننا يوثر في قلوبهم على إخوانهم المؤمنين
قول كل ناعق يغويهم بكذبه، ويهلكهم بغيبته حتى يتسرعوا
إلى الهجران المحرم بنص السنة، وإلى إذاعة الفاحشة في المؤمنين
الموعود عليها بنص القرآن أليم العذاب في الدارين معا، وما بالهم
يتحلون بالفظاظة والغلظة على من زلت به قدم الستر بيقين. فكيف
بالظنون والكذب المخترص، ولا يقتدون بما أدب الله به نبينا - صلى
الفَه عليه وسلبم - وغيره حيث يقول: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) ، وقال لموسى وهارون - صلى الله عليهما -
حين بعثهما إلى فرعون: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
فاستعمله رسول اللَه - صلى الله عليه وسلم سمعًا وطاعة لربه، فقال
للرجل الذي استأذنه في الزنا: "أترضاه لأمك، أترضاه
لأختك، " ولم يغلظ له.

(2/152)


وأمر من أخذ بيد علقمة بن عُلاَثة حيث مرَّ على خيم له فقطع
أطنابها - وهو سكران - من يأخذ بيده حتى يبلغه إلى أهله.
وقيل لعقبة بن عامر الجهني: إن لنا جيرانا يشربون الخمر، أفلا نرفعهم
إلى السلطان.
فقال: لا، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من
رأى عورة فسترها فكأنما أحيا موءودة من قبرها "، وقال عليه
السلام: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكن بالمؤمنين رحيمًا

(2/153)


ولايكونن عليهم غليطا ".
وقال علي بن أبى طالب - رضي الله عنه -
: " لو رأيت رجلا يشرب الخمر لم يره معي غيري فاستطعت أن أستره
لسترته "، ومر سعيد بن المسيب بسارق أتريدون به السلطان.
فأعطاهم دينارا حتى خلوه.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكرر على سارق،: " ما
إخالك سرقت " مرة بعد أخرى. وهو يقر له. وكلح وجهه حين
قطع بين يديه. فقالوا له: كأنك كرهت، فقال: " ومالي لا أكره
وأنتم أعوان الشياطين على أخيكم " يحثهم على الستر ما استطاعوا،

(2/154)


ولا يرفعوه إلى الأئمة الذين ليس لهم تركها بعد رفعه إليهم.
وقال

(2/155)


لصفوان في سارقه: " فهلا قبل أن يأتيني به "، وقال عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه -: " أذنوا للفجر بليل ليسير السائر.
ويخرج العاهر". فهذا وما يشاكله من الأخبار - التي لو تقصيناها
لطال بها الكتاب - يأمر بالستر على ما فيه لله - جل وتعالى -
حدود وقد أمر بترك الرأفة في إقامتها، فكيف فيما هو دونها من

(2/156)


العيوب، أو الأمور التى يمكن فيها التأويلات، وتحسين الظنون.
وائتلاف القلوب، وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:
"من بلغه عن أخيه شيء يكرهه، فما دام يجد له في الحق مساغا لم
يذهب إلى غيره ".
وروي عن لقيط بن أرطات السكوني: إن لنا جارًا يشرب الخمر
ويأتي القبيح أفأرفع أمره إلى السلطان.
قال: لقد قتلت تسعة وسبعين من المشركين مع رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - وما أحب أني قتلت مثلهم، وأني كشفت قناع
مسلم،

(2/157)


وقال أبو قلابة إذا بلغك عن أخيك أمر تكرهه فاطلب له المعاذير
بجهدك، فإن طلبتها فلم تجدها فقل: لعل له عذرًا لا يبلغه
علمي.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا ".

(2/158)


فهذا وما يضاهيه من أخلاق المؤمنين المؤيدين بالتقوى، وما خالف هذا
فهو من أخلاق المنافقين السارين بعيوب المؤمنين، ومن يحب تفرق
الكلم، وانغراس العداوة والبغضاء بين أمة محمد - صلى الله عليه
وسلم - وقد كره، غير واحد من الأئمة أن تجمع في مسجد مرتين
خشية تشتت الكلم، وتفرق نظام الإسلام. فضلا عن تتبع
العيوب بخاطر من الغيوب، واقتفاء ما لا علم لمعنفيه به كما

(2/159)


قال الله - جل وتعالى - في هذه الآية التي بدأنا الفصل بها.
ومنها: التحفظ في الشهادة على الحقوق. وقد ذكره الشافعي -
رضي الله عنه - في كتاب الشهادات.
ومنها: حفظ السمع عنِ استماع المنكر كله، وغضّ البصر عن
المحارم كلها.
ومنها: أن الله - تبارك وتعالى - يسأل عن الإضمارات والطوايات
المذمومة، وإن لم تساعدها الجوارح بالحركات، لأن الأفئدة محل الضمائر
والنيات، وبها تصح جميع أعمال الجوارح والحركات.
وليس في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إخبارا عن ربه - تبارك
وتعالى - أنه يقول لملائكته: " إذا هَمَّ عَبدِي بسيئة فلا تكتبوها حتى
يعملها " ما يدفع ذلك، لأن ذلك هو في الاهتمام بسيئة لا تعمل

(2/160)


إلا بالجوارح مثل القتل والزنا وأشباهه مما لا يستطاع فعلها إلا بالجوارح
فتجاوز الله رفقًا بعباده ورحمة لهم عن الاهتمام بها دون الفعل. إذ
الاهتمام يضاهي الخاطر والشهوة وهما غير مملوكين. فأما ما كان
سلطانه فيه للقلب من الطوية على الكفر، وحفظ المنكر وأباطيل السحر
وأشباهه فالإضمار عليه والقبول له عمل يكتبه الحافظ، ويسأل عنه
الرب جل وتعالى.
ومن زعم أن خطرة المعصية التي لا تتم إلا بالفعل يسأل عنها إذا
طالت عليه، وتمكنت شهوته من قلبه وإن لم يعملها بجوارحه.
واحتج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا توجه المسلمان
بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) قيل: يا رسول الله: هذا القاتل
قد عرفناه، فما بال المقتول، فقال: " إنه كان حريصًا على قتل
صاحبه ".

(2/161)


فقد أغفل عندي، لأن المتواجهين بالسيفين كليهما مستعمل
جوارحه ويريد ضرب صاحبه بعمل يده، واستعمال حديدته، ونفس
إشارة الحديد إلى المسلم، والحمل عليه وتخويف به معاصٍ كلها

(2/162)


معمولة بجارحة اليد وقوة البدن، فكان يصح تأويله لو كان أحدهما كافا
يده مقتصرًا على إضمار قلبه، والآخر مضمرًا ومستعملاً. فأما وكلاهما
مضمران مستعملان فهما فاعلان ولا وجه لتأويله مع الفعل وليس في قوله
صلى الله عليه وسلم: " في النار " ما يسوي بين درجتيهما فيها إذ
قد يجتمع في النار من يتباين في كثرة العذاب، وذواق مضضه.
فيجوز أن تجمعهما النار، والقاتل أكثر عذابا من المقتول لزيادة جرمه وقد
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " منهم من تأخذه النار إلى
كعبه، ومنهم من تأخذه إلى ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم
ومنهم حتى ينغمس فيها ".
* * *
قوله: (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) .
وقوله في سورة الأنبياء: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)

(2/163)


حجة فيما نقوله عند الاحتجاج على المبتدعين والمعطلين لو كان الأمر
كما تقولون لما كان كذا وكذا ولوجب أن يكون كذا في الشيء الذي لو
ابتدأه مبتدئ على غير تمثيل لكفر، وقد أبيح له أن يقول متمثلا لتقرب
الحجة به على مخالفه ولا يحرج.
ذكر التسبيح.
* * *
وقوله: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)
دليل على أن ذا الروح وغيره مما لا حياة فيه، ولا حركة ظاهرة مثل
الحجر والدر والخشب تسبح لا أنه مخصوص به الروحانيون دون غيرهم.
ويحقق قول أبي صالح.

(2/164)


حيث جعل نقيض الباب تسبيحَا له، وقول مرثد اليزني حين أخبر: أن الزرع يسبح. ويوهن تفسير عكرمة (3) حيث خص الروحانيين
بالتسبيح.
ويؤيده الحديث المروي: " كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل ".
وتسبيح الحصا في يد النبي صلى الله عليه وسلم، ويد من سبح فيها
من أصحابه، وهذا أعم وأبلغ في قدرة الرب القادر على إنطاق كل شيء

(2/165)


كما أنطق الروحانيين. ألا ترى أن السموات والأرض ليستا ذوات روح
ظاهرة كالإنسان وسائر الحيوان، وابتداء الآية بذكر تسبيحها قبل تسبيح
من فيها، وهو واضح لا إشكال فيه.
ذكر الرقية.
* * *
قوله: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
دليل على إباحة اتخاذ القرآن حرزا، وأن اتخاذ التمائم أحرازا هو المنهي
عنها، لأن التميمة لا تكون إلا ما هي بغير لغة العربية من ألسنة العجم
وغيرها من سائر ألسنة العرب - ولعله يكون شركَا وكلامَا مكروهَا -
والقرآن حق فهو شفاء مَنِ استشفى به، وحرز من احترز به.

(2/167)


فإن قيل: إنما جعل قراءة القرآن في هذه الآية حجابًا بين النبي -
صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين آية لهم خاصة.
قيل: ليس ذلك بيناً في الآية، ولو كان بيناً أيضا ما ضرَّ أمته
الاحتراز بما يكون في نفسه حرزًا، لأنهم لا يدّعون بذلك نبوة إنما
يحترزون به من المكاره، وشر الجن والإنس.
ويؤيد ما قلنا الحديث

(2/168)


المروي في الرجل الذي رقى رئيس الحي بفاتحة الكتاب وقول النبي
- صلى الله عليه وسلم -: " من كان آكلًا برقية باطل فلقد أكلت برقية
حق ".
وحيث قال للمرأة وهي ترقي بعض أزواجه: "ارقيها بكتاب

(2/169)


اللَّه، ولما جاء جبريل - عليه السلام - يوقي النبي - صلى الله عليه
وسلم - في مرضه قال: " بسمِ الله أرقيك من كل شيء يؤذيك،

(2/170)


وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعوّذ الحسن والحسين فيقول:
" أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامَّة، ومن كل عين
لامَّة".
ويقول: " بهذا كان أبوكما إبراهيم - صلى الله عليه - يعوذ إسماعيل
وإسحاق "
فكل ذلك يدل على أن المنهي عنه من النشر والتمائم ما كان بغير ذكر الله، فأما الاحتراز بذكر الله والقرآن فهو الحق الذي لا يرتاب فيه، أليس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الشيطان ليفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة " (3) ، وحديث أبي أيوب الأنصاري:

(2/171)


مع الجنية في شأن آية الكرسي، وأشباه ذلك.
* * *
قوله: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا)
حجة على المعتزلة والقدرية.

(2/172)


ذكر الموعظة.
* * *
قوله: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى) .
دليل على أن الإنصات للموعظة والإقبال على الواعظ واجب، وأن
الكلام عندها أو محادثة بعضهم بعضا في مجمع يعظ فيه واعظ مذموم.
وتهاون بالموعظة ولهو عنها، وفي ذلك زوال منفعتها وفهم ما أودع فيها.
ذكر المعتزلة.
* * *
قوله: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
حجة على المعتزلة والقدرية في الكتاب السابق، إذ تستطير إهلاك
القرى وتعذيبها لا يكون إلا بإساءة أهلها. فهي بحمد الله حجة خانقة
لهم، إذ محال أن يسطر إهلاك شيء من أجل شيء ويجعل عقوبة له
إلا وقد سبق الكتاب في ذلك الشيء، ولا يكون مبتدأ بل يكون

(2/173)


جاريًا على ما فرغ منه، فلو تميزوا هذا الفصل الواحد لأغناهم - بعون
الله - عن غيره، ولعلموا أن إقحامهم على معرفة كُنهِ عدل الخالق.
وحمله على فطرة عقولهم من أجهل الجهل.
(وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ)
دليل على تشريف هذه الأمة، وتفضيل رسولها على سائر الرسل -
صلوات الله عليه وعليهم - وذلك أنه - جل جلاله - كان من
حكمه في الأمم السالفة أن نزل العذاب بكل من كفر بآياته فصرفه عن
هذه الأمة بترك إرسال الآيات الموجبة للعذاب على من كفر بها.

(2/174)


قوله: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ)
حجة على المعتزلة والقدرية، وفي تفسير ابن عباس على الجهمية
ذكر التاكيد.
* * *
وقوله: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ)
حجة على من نفي التأكيد في كلام العرب من حيث لا إشكال فيه ولا
لبسة دونه، لقوله إخبارا عن إبليس: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ)

(2/175)


بعدما قال: (قَالَ أَأَسْجُدُ) ، ولو كان التأكيد نافيا عنه لكان -
والله أعلم - أرأيتك بلا (قال) ، ويكون (وقال) بالواو، ويكون كلاما
مستأنفَا.
* * *
وقوله تعالى: (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)
حجة على المعتزلة والقدرية، وبراءة إبليس اللعين ما ينسبونه إليه من
القدرة على تضليل الخلق. ألا تراه كيف ألقى الله الاستثناء على لسانه حتى
استثنى بالقليل، علمًا منه بأن المعصوم ومن سبق له الخير من ربه لا
سبيل له عليه، إنما سبيله على من حقت عليه كلمة ربه فتبعه وتولاه.
وسبق القضاء عليه أن يكون معه في دار الهوان، قال الله تبارك
وتعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) .
وهذا السلطان منه على متوليه المشركين بربهم سلطان تسليط لا اقتدار بقوته.

(2/176)


ألا ترى أن من الكفار من قد سبق له في علم الله إيمان وانتقال من
الكفر إليه فيذهب سلطانه حينئذ عنه، فلو كان سلطانا بغير تسليط لدام له
عليه، أو كان على الجميع ولا يستثنى القليل فهذا واضح لا بعد فيه، ومما
يؤيد به أنه يسلط قوله: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)
وليس يخلو قوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) من أن
يكون واقعا على الجميع مؤمنهم وكافرهم، أو على المؤمن دون
الكافر، فإن كان واقعا على مؤمنهم خاصة فهم المستثنون بالقليل

(2/177)


وسلطانه زائل عنهم بكل حال. وإن كان واقعا على جميعهم فقد صح
أن سلطانه على الكافر سلطان تسليط. وعدته عدة غرور.
الفزع إلى الله في الشدة دون الرخاء:
* * *
وقوله تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ)
إلى قوله: (ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) .
دليل على أن الفزع إلى الله في الشدة دون الرخاء خلق من أخلاق
الكافرين. وأن المؤمن مندوب إلى مراعاة حق الله عليه، والتعرف إليه
في الرخاء ليجاب عند الشدة فإذا أجيب ازداد ذكرا وخشية

(2/178)


واقترابا وتفويضا ليكون عبدًا مؤتمرا لا وجلا خائفا، متبرئًا من الحول
والقوة مستمدًا بالمعونة من ربه في كلا حاليه من الرخاء والشدة مثل
هذا قوله في سورة النحل: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) .
* * *
قوله: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)
إلى قوله: (وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
حجة على المعتزلة والقدرية في نسبة التفتين إليهم على ما بينا في غير
فصل من كتابنا من نسبة الفعل إلى فاعله، وزوال الضرر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(2/179)


في تثبيته، وما في زوال القدر عن تحويل السنة.
ذكر صلاة الليل.
* * *
وقوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
دليل على أن صلاة الليل وإن كانت على النبي - صلى الله عليه وسلم
- أشد تأكيدًا فهي نافلة له لا فرض عليه.
وتفسير مجاهد

(2/180)


من رواية ليث عنه لا يقوم للمعتزلة والجهمية.

(2/181)


والتفسير الذي روي عنه - صلى الله عليه - أنه قال: " هو المقام الذي
أشفع فيه لأمتي "لا يدفع تفسير مجاهد. أو جائز أن تكون شفاعته في

(2/182)


ذلك الموضع، وكل موضع يحل به المرء فهو مقامه.
* * *
وقوله: (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ)
حجة على المعتزلة والقدرية
ذكر الاستشهاد ببعض الحق
* * *
وقوله: (أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ)

(2/183)


حجة في الاستشهاد ببعض الحق على بعض.
ودليل على أن أحدا لا يلزمه حجة فيما يخاطب إلا من حيث يعقلها
ويفهمها. وأن الشاهد يستدل به على الغائب ويكون حقا.

(2/184)