النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام سورة الكهف
* * *
قوله: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ
يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
حجة على المعتزلة.
(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ
ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ
ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ)
حجة في تثبيت الأسباب، ورد على جهلة الصوفية فيما يزعمون أن
التوصل إلى الرزق بالطلب والسعي والحركة نقص في التوكل. وذلك
غلط غير مشكل، ألا يرون أن الله - تبارك وتعالى - كان قادرًا
على
إزالة البِلى عن أصحاب الكهف بغير تقليب، فهل يزعمون - ويحهم -
أن تقليبه إياهم يمينًا وشمالاً نقص في قدرته، أم يرجعون عن
قولهم
(2/185)
فيعلمون أن الله - جل جلاله - لما جعل سبب
البلى طول المكث على جنب
قلبهم إلى الآخر ليزول البلى عن القوم بالسبب الذي جعله لهم
ولغيرهم.
ولما جعل الرزق موصولا إليه بالسعي والحركة حركهم للطلب
ليصير إليهم رزقهم بالسبب الذي جعله له، ولم يكن سعي الساعي
وحركته في طلب الرزق بالسبب المجعول له نقصا في التوكل، ولا
تداوى المريض يكون نقصا في التوكل على هذا المعنى.
الاستثناء.
وقوله، (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ
غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه)
حجة على المعتزلة والقدرية واضحة، ألا ترى أن الله - جل جلاله
-
كيف أدب نبيه - صلى الله علحه ومملم - فأعلمه أن فعله الشيء
وإن كان
منسوبا إليه فبمشيئته يفعله، ونهاه أن يطلق القول في فعله بغير
استثناء
(2/186)
مشيئته.
فإن قالوا: ليس الاستثناء لزوال القدرة في الأفعال إلا
بمشيئته.
ولكن لمخاطرة الموت ولحوقه قبل مجيء وقت فعله لزمهم أن يبطلوا
الاستثناء في جميع الأحوال فيزعموا أن من قال: واللَّه لأفعلن
كذا
وكذا لوقت إن شاء الله فجاء الوقت ولم يفعله أن الحنث واقع به،
إذ
الاستثناء عندهم مصروف إلى مخاطرة الموت دون زواله القدرة في
الفعل
إلا بمشيئة الله، وهذا مقابلة الإجماع بالرد من جميع أهل
النحل.
ولا أعلم في جميع ما مضى من الحجج عليهم وإن كانت كبارا خانقة
أقرب إلى أفهامهم إن أنصفوا من هذه، وذلك أنهم مقرون
بالاستثناء في
الأيمان أنها جائزة مزيلة للحنث عن الحالفين بها، وهذا إغفال
مفرط منهم
كشفه الله لنا بنعمته، وأنطق به ألسنتنا عليهم. فإما أن
يخالفوا القرآن
(2/187)
والرسول والإجماع في جواز الاستثناء في
الأيمان فيبطلوه ويكفونا مؤونة
الاشتغال بهم، وإما أن يقروا بأن الأفعال في جميع الأمكنة وإن
كانت
منسوبة إلى فاعليها فبمشيئة الله يفعلونها، كما أن الحنث في
الأيمان
إنما زال عنهم بترك فعل معقود على الأنفس فعله وزالت كفارته
لإحاطة العلم بأن الله لم يشأ فعله فلذلك لم يفعله، ولو كان
شاء فعله
ولم يجد عنه محيصا ولفعله، فلما كان شرطه في فعل يفعله العاقد
مشيئة ربه فزال الوقت قبل فعله علم من غير لبسة، ولا إشكال أن
الله لم يشأ فعله فلذلك لم يفعله، ولم يلزمه كفارة الكذب لأنه
عاد صدقًا.
فإن قالوا: إذا أسقطتموها عنه لأنه عاد صدقا فأوجبوها عليه إذا
حلف أن لا يفعل فعلًا ففعله لكذبه.
قيل لهم: ولا هذا هو كاذب، لأنه إنما حلف أن لا يفعله إن شاء
الله ذلك، فلما شاء فعله ففعله بمشيئته لم يكن كاذبًا.
فإن قالوا: فهلا أسقطتم الحنث عنه إذ كان عقد يمينه على فعل
شيء
لوقت بلا استثناء فزال قبل أن يفعله لهذه العلة بعينها، وقلتم
زوال
(2/188)
مشيئة الله عنه في الفعل الذي كان عقد على
فعله أقعده عن الفعل لا تفريطه فيسقط الحنث والكفارة عنه.
قيل: هذا نفس ما فيه الخلاف بيننا وبينكم من أن الأفعال
المعدودة في
عداد الجنايات من الفاعلين وإن كانت بقضاء سابق، ومشيئة تابعة
لمشيئة
الخالق ففاعلوها على فعلها معاقبون، ولا يكون تصور الجور فيه
عند
الخليقة حقا بل هو باطل، وعقولهم لنقصها لا تبلغه، وهو عدل في
الحقيقة عند الخالق، موجب الحث على هذا وجوب عبادة في الأمر
والنهي اللذين قد دللنا على أن المسلك بهما مسلك القضاء خطأ في
الحكم وإن كان حقّا في الأصل. وفي وجوب الحنث على الحالف
وجوب الكفارة المجعولة فيه أيضا.
حجة على ذكر الاستثناء.
(وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)
حجة من يجيز الاستثناء في الأيمان وإن لم يكن موصولاً، حتى إن
ابن عباس - رضي الله عنه - يجعل له الاستثناء بعد سَنة، والذي
عندي فيه: أن الاستثناء لا يجوز إلا موصولا باليمين. إذ لو جاز
أن
(2/189)
يتبع الاستثناء اليمين بعد قطعها والأخذ في
غيرِها ما حنث أحد في يمين
أبدًا، ولا وجبت على الحالف كفارة، إذ الكفارة لا يوجبها إلا
الحنث.
والحالف إذا قدر أن يخرج من الحنث بالاستثناء بعد قطع اليمين
فقد أزال
الكفارة عن نفسه في كل ما حلف عليه من الأيمان.
وفي هذا إبطال آية الكفارة وإبطال حكمها.
ومما يؤيد ما قلنا من أن الاستثناء لا ينفع الحالف بعد قطع
يمينه قول
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من حلف على يمين فرأى
غيرها
خيرًا منها فليأتِ الذي هو خير، وليكفر عن يمينه "، فلو كان
(2/190)
الاستثناء ينفع بعد قطع اليمين لقال: "
فليستثن ". ليخرجه من يمينه.
ولم يقل: " فليأتِ الذي هو خير وليكفر عن يمينه "، ولدل الله
رسوله - صلى الله عليه وسلم - حين حرم جاريته على الاستثناء
ليغنيه عن تحلة يمينه بالكفارة، أو لاستدل رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -
(2/191)
بقوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)
إذ هو أذكى الخليقة
رأيًا وأجوده خاطرًا، ومحال أن يكون أحدٌ أعرف بما أُنزِل عليه
منه.
فهذا بين لا لُبسةَ فيه أن الاستثناء لا ينفع الحالف بعد قطع
يمينه، ولا
يخرجه من الكفارة إلا وصوله بها أو البر في يمينه. فالتوقيت
بالسنة في
(2/192)
ذلك فلا أعرف وجهه - والله جل وتعالى أعلم
- بما أراده ابن عباس -
رضي الله عنه -.
فإن قيل: فما الفائدة إذَا في قوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا
نَسِيتَ) .
قيل: يحتمل أن يكون ذكر ربه بالقول الذي أمر به حيث يقول:
(وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا
رَشَدًا (24)
إلا بالاستثناء
ويحتمل أن يكون تأديبَا له وحثًا على المستأنف. والله أعلم بما
أراد منه.
ذكر الدعاء ومجالسة صالح الفقراء.
* * *
وقوله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ
وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا)
دليل على أشياء:
فمنها: حمل النفس على المكاره والتماس القربة إلى الله، وصرفها
عما
تنازع إليها من هوايا.
(2/193)
ومنها: إبطال الاستحسان ولأن الخطأ فيما
يكون ظاهره قربة، لأنا لا
نشك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمَ يلهُ عمَن
عاتبه الله جل وتعالى فيه ويقبل على غيره إلا طمعا في إسلامهم.
وإسلامهم في الظاهر قربة فعاتبه الله عليه كما ترى، ونهاه أن
تعدو
(2/194)
عيناه عمن أهمله طمعًا في إسلام غيره.
وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه المنزلة لا
يصوب الله له مع حسن رأيه، وجودة خاطره ما يراه صوابا حتى
تأتيه الرسالة فيما يريد فعله، فمن بعده من المستحسنين
والقائسين أبعد
من الصواب، وأقرب إلى العتاب فيما يحلون ويحرمون بآرائهم
ونظرهم.
وفي ذلك دليل أن كل شيء قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو
فعل فعله، أو أمر أمره، أو نهي نهى عنه لم يوجد فيه عن الله
تعالى نكير
عليه فهو حق لم يأوِ فيه إلى هواه بلِ اتبع فيه ما أنزل إليه
من ربه كان
متلوا في القرآن أو غير متلو بقوله: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ) ، وبقوله:
(إِن أَتًبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلي) .
وبقوله: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا
وَحْيٌ يُوحَى (4)
وما يشاكل
(2/195)
هذا من آي القرآن إذ لا يخص موضعًا بإنكار
فعله، ويدله على خلافه إلا
وقد أقر له سائره، وأوجب على الخلق اتباعه.
ومنها: أن الدعاء بالغدوات والعشيات أفضل وأجدر بالإجابة.
ومنها: أن مجالسة الصالحين مأثورة على مجالس غيرهم، ومندوب
إليها المؤمنون.
ومنها: أن اجتناب دخول الغم على المؤمنين فرض على الموحدين.
ومنها: أن استبدال مجالسة صالحي الفقراء بطالحي الأغنياء
معصية.
وإن لم يعمل المستبدل بأعمالهم.
ومنها: أن النية الحسنة في ظاهر فعل منكر لا تنفع، واستعماله
لا
يجوز فقد دخل الآن في هذا ما حكي عمَّن كان يجنن نفسه، ويفعل
أفعالاً
ظاهرها منكر طلبًا للخمول، والسقوط من أعين الخلق لئلا يشار
إليه
بالأصابع فيفتتن، لإنكار الله - جل وتعالى - على رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -
(2/196)
ما أنكر من ترك جلسائه والإقبال على من
أغفل
قلبه عن ذكره مع إرادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
ذلك ما
أراد، وحرصه على إسلام من أقبل عليه.
وقد رأيت كثيرًا من نساك زماننا ومتصوفيهم مستحسن هذا الفعل من
فاعله، وهو عندي منكر لما أعلمتك، ولا أراه مع ذلك إلا كتمان
نعمة
الله على المرء في عاقبه، وتوفيقه للصلاح وعصمته من الطلاح،
أليس
اللَّه يقول: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا أنعم الله على
عبده نعمة أحب أن يرى أثر نعمته عليه "، وكان إذا مر بمبتلى
قال: " الحمد لله الذي عافانا
(2/197)
مما ابتلاه به، وفضلنا على كثير من خلقه
تفضيلاً ".
أفيجوز التشبه
(2/198)
بشيء تعوذ منه رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - أوليس يقول رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - في الذي يعمل العمل يسره فيطلع
عليه.
فيسره له أجران: أجر السر وأجر العلانية
أوليس الله - جل
(2/199)
وتعالى - قد مدح المعلنين بالطاعة كما مدح
المسرين بها فقال: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ
بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ
أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا
هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
فأَمَّن خائف الفتنة في الأعمال الصالحة عن كراهة ما يوسوس
إليه، والفزع إلى الله - جل وتعالى - في إزالته، ومكابدة عدوه
بلزوم العمل الصالح الذي يريد إقعادَه عنه بوسوسة مثل هذا
إليه، وليس الله - تبارك وتعالى - شيئًا
أحدثه بنيات الطريق إلا بين بجوده خطأه لئلا يقتدي به كل الناس
فيضلوا بعد البيان.
ونحن نظن بمن حُكي عنه من السلف هذا جميلا وأنه لم يرد إلا
الخير
ولعل علمه عَزَب عن هذه الأشياء، فلم يفض على نُكَتها، مع أنه
لم
(2/200)
يحك عن أحد من المعروفين المعدودين في أئمة
الدين وأعلام الهُدى.
وليس في تطويل سِبال أيوب السجستاني رضي الله عنه، ولبسه
نِعال الفتيان، وتطويل ثيابه نكير؛ إذ ممكن أن يكون طول سباله.
وأحفى ما بين جانبيه من الشارب، وطول ثيابه فوق ثياب أشباهه
وأشكاله ولم يبلغ بها ما يكون خيلاء، وطولها ولم يرد الخيلاء.
وهي لا تكون معصية إلا مع إرادة الخيلاء. أليس أبو بكر الصديق
(2/201)
رضي الله عنه - قال لرسول الله - صلى الله
عليه وسلم - حين سمعه
يقول: " من جرَّ إزاره خيلاء لم ينظرِ الله إليه يوم القيامة
": إن
طرف إزأري يرتخي إلا أن أتعاهده، فقال: لست منهم، فإنك لا
تريد به خيلاء ".
والنعال لبسها مباح كيف كانت، وكان ابن عباس - رضي الله عنه -
يلبس النعال السندية ويقول: " تطرد العقارب في الصيف، وتقي
الرجل في الشتاء ".
ومنها: أن مجالسة طغاة الأغنياء من زينة الدنيا، وقد أوصى
(2/202)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة
بترك مجالستهم فقال لها: "
إن سرك اللحوق بي فإياك ومجالسة الأغنياء، ولا تستبدلي ثوبًا
حتى
ترقعيه، فإنما يكفيك من الدنيا كزاد الراكب ". ونحن نعلم أنه
(2/203)
لم ينهها عن مجالسة عثمان بن عفان، والزبير
بن العوام، وعبد الرحمن بن
عوف، وهم من صالحي الأغنياء، إنما نهاها عن مجالسة أشرارهم
وطغاتهم.
المعتزلة.
* * *
وقوله: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ
ذِكْرِنَا)
حجة على المعتزلة والقدرية لقوله: (أَغْفَلْنَا) ، ولم يقل:
غفلوا.
ثم قال: (وَأتَّبَعَ هَوَاهُ) ، ولم يقل: (وأتبعناه هواه) ،
ففيه أكبر
الدليل على أن إضافة أفعالهم إليهم في مواضع الإضافة في القرآن
غير
دافع فعله بهم وإرادته فيهم إذ قد يجمع بينهما في حرف واحد كما
(2/204)
ترى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) .
فإن قالوا: فإذا كان قد جمع بينهما فَلمَ اخترت أحدهما دون
صاحبه.
قيل: اخترت في أصل الإيمان ما يكون به إرادة المخلوق
تبعا لإرادة الخالق، ويكون الخالق غالبا عليه، ولم أختر ما
تكون به إرادة
الخالق تبعًا لإرادة المخلوق، ويكون المخلوق غالبا لخالقه،
فأضفت الفعل
إلى الفاعل في الأمر والنهي، لئلا يلحق بالآمر والناهي ظلم،
وليكون
المقصر فيهما هو الموصوف بظلم نفسه وإن كان ذلك بقضاء ربه
لأُومِنَ
بجميع القرآن ولا أرد بعضه ببعض.
ذكر الحرير.
وفي قوله: (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ
الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ
وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ)
دليل على أن الذهب والحرير حرم على ذكور هذه الأُمة في الدنيا.
لأنها دار عبادة، وفي الآخرة حل لهم كما ترى. وكذلك الشرب في
أواني الذهب حرم في الدنيا على الذكور والإناث والخمر كذلك دون
(2/205)
الآخرة.
قال الله - تبارك وتعالى - (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ
ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ) ، وقال: (وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ
(2/206)
المعتزلة.
* * *
وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ
فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا
جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي
آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ
يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
حجة على المعتزلة والقدرية واضحة لإضافة الإعراض إليهم،
وإخباره
عن الحائل بينهم وبين التفقه والسماع من الأكنة على قلوبهم،
والوقر في
آذانهم، ونفي الهدى عنهم.
وفي إخباره عن نفسه - جل وعلا - بجعل الأكنة على قلوبهم والوقر
في آذانهم في هذا الموضع، وإنكاره عليهم في أول سجدة المؤمن
حيث
يقول: (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا
إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ
حِجَابٌ)
دليل على أن الإنكار عليهم في هذا، وفي قوله: (سَيَقُولُ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا)
على معنى ما لم يجعل لهم
الاحتجاجبه والاستنامة إليه عن الأمر والنهي اللذين أمروا بما
(2/207)
أعلهما، لأنهم في الموضعين جميعًا قال غير
الحق.
وقد شرحناه في سورة الأنعام ملخصًا بحججه، وكررناه ههنا لذكر
الأكنة فإنه نظيره سواء.
ذكر أرأيت.
قوله إخبارًا عن فتى موسى: (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا
إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا
أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ)
حجة في إجازة أرأيت في المخاطبات وإباحته في المحاورات، ورذ
على مَن ينكر من أصحاب الحديث اللفظة في نفسها من أجل استعمال
أهل الرأي لها، وذلك غلط غير مشكل لما ذكرنا.
(2/208)
وقد ذكرها الله عن نفسه في غير موضع من
كتابه فقال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ
سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ) .
وقال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا
أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
،
وقال: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى
(10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ
بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) .
وقال أبو ذر في مخاطبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين
أمره أن يكف يده في الفتنة: " أرأيت إن دخل بيتي فلم ينكر
عليه، وقال له رجل: أرأيت إن قتلت في سبيل
(2/209)
الله صابرًا محتسبا، وقال له آخر: أرأيت
رقى تسترقيها، ودواء
نتداوى به ونفثَا ننفثه هل يرد من قدر الله من شيء فما أنكر
على
واحد منهم.
(2/210)
وقول الشعبي - رضي الله عنه -: " بغَّض هذا
المسجد إليَّ
الأرايتيون: أرأيت أرأيت " إنما أنكر منهم مرادهم به لا نفس
الكلمة، كما قال الله - تبارك وتعالى -: (إِذَا جَاءَكَ
الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ
(1)
(2/211)
فأنكر عليهم مرادهم بالشهادة، وكذبهم في
إضمارهم خلافها لا نفس الكلمة، ولا أحسب سُمي أصحاب الحديث
بالحشوية
إلا من مثل هذه الأشياء وشبهها. والإفراط في كل شيء قبيح،
والاقتصار فيه محمود.
المعتزلة والنسيان.
فإن احتج علينا المعتزلة والقدرية بقوله: (وَمَا أَنْسَانِيهُ
إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) ، وبقوله في سورة يوسف:
(فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ)
في تثبيت قدرته، وما يحول بين المطيع وبين طاعته.
وقالوا: هذا هو قولنا في الشر إنه من إبليس.
قيل لهم: ليس معناه معنى القدرة والسلطان، إذ محال أن يقدر على
إنساء شيء أراد الله ذكره إنما معناه: أن وساوسه تشغله حتى
ينسى وقتا
ثم يذكره، ألا ترى أنه يقول في سورة يوسف: (وَقَالَ الَّذِي
نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) .
(2/212)
فلو كان إنساؤه إياه بمعنى الاقتدار عليه
في نفس إزالة الشيء عنه ما ادكر بعد أُمة.
والأُمّة: الحين في هذا الموضع.
ذكر أن العلم موهبة من مواهب الله.
وفي قوله تعالى: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا
آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ
لَدُنَّا عِلْمًا (65)
إلى آخر قصة الخضر مع موسى - صلى الله عليهما - أدلة
(2/213)
فمنها: أن العلم غير مقسوم على فضائل
الرجال ودرجاتهم عند الله.
حتى يكون من هو أعظم فضلا في عمله ودرجته أعلم في دينه، وغير
جائز أن يكون الأدون الفضل أعلم في أشياء ممن فوقه في درجة
الفضل، وإنما العلم موهبة من مواهب الله يخص به من يشاء من
عباده، ويفضل بعضهم على بعض فيه فلا تحط زيادة علم واحدة
درجة فضيلة الآخر، ولا فضيلة الآخر تحيل أن يكون من دونه أعلم
منه.
ألا ترى أن موسى - صلى الله عليه - قصر علمه عما كان يفعله
الخضر - وهو لا محالة أفضل منه - ولم يتخط درجة نبوته وفضله،
لأن سبقه الخضر إلى علم لم يعلمه.
وهذا حجة لنا فيما نختار قول الأصاغر من أصحاب رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - في بعض الأمكنة على قول الأكابر، ونرى
الحجة في بعض الأشياء مع الأنزل من العلماء دون الأعلى منهم
فلا
تكون حطا من درجات الأكابر والفاضلين، ولا طعنا عليهم وبخسا
لحقوقهم.
ذكر أن قلوب المؤمنين مجبولة على إنكار المنكر.
(2/214)
ومنها: أن قلوب المؤمنين مجبولة على إنكار
المنكر، وغير مالكة للصبر على
احتماله، لأن موسى - صلى الله عليه - وعد الخضر أن يصبر على ما
يراه
منه، فلما رأى ما أنكره عليه.
النكير على الوعد.
ومنها: أن من وعد وعدًا يريد الوفاء به عند قوله ثم عارضه دون
الوفاء مانع قطعه عنه لم يكن خلفا، ولا كان عليه حرج ومثل هذا
الدليل حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَن وعد أخاه
ومن نيته أن يفي ولم يفِ فلا إثم عليه ".
(2/215)
بل لو رأى الرشد في ترك الإنجاز فلا حرج،
وقوله - صلى اللَّه
عليه وسلم -: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت
الذي
هو خير وليكفر عن يمينه "، وروي: " فليأت الذي هو خير وهو
(2/216)
كفارته ". فقد أمره أن يعمد ترك الوفاء بما
قال باليمين فما لم يؤكده
باليمين أحرى أن يتداركه. والله أعلم.
ومنها: أن المعاريض ليست بكذب، لأن موسى - صلى الله عليه وسلم
-
(2/217)
عارض الخضر بالنسيان. كذلك قال ابن عباس: "
أما إنه لم ينسَ، ولكنها كلمة من معاريض كلامه ".
ومنها: أن الحق عند الله واحد، وإن كان قد جعل لكل بأن يتكلم
فيه على اختلاف ظاهر الرأي، إذ إنكار موسى فعل الخضر - صلى
اللًه
عليهما - كان حقَا في الظاهر عنده، وفعل الخضر هو الحق عند
الله
في الباطن.
ومنها: الحجة في قبول خبر الواحد، لأن موسى - صلى الله
عليه - ترك ما عرفه من تحريم القتل، وخرق السفينة بخبر الخضر،
(2/218)
إذ كان عنده صادقًا ولزمته الحجة بقوله:
حتى عاد الحرام عنده حلالاً.
ومنها: أن إحياء الحقوق بذهاب بعضها قربة إلى الله إذا لم يوجد
السبيل إليه إلا بذلك، لأن الخضر - صلى الله عليه - قد أنقص
بخرق السفينة من ثمنها طمعًا في أن يبقى أصلها لأصحابها.
ومنها: أن كسب الملاحين حلال، واشتراكهم في عمل السفينة
جائز.
ومنها: أن اسم المسكنة واقع على من له البلغة من العيش، لأن
الخضر - صلى الله عليه - قد سمَّى من له سفينة يعمل فيها
مسكينًا.
وقد أخبر الله عنه به في جملة ما أخبر من الحق.
(2/219)
ومنها: أن للمسافر أن يستطعم من ينزل به
إذا عدم ما يأكله، ولا تكون
مسألة، لأنهما سألا حقهما لوجوب الضيافة على أهل المنازل
للمارة.
ألا تراه يقول: (فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا)
ومنها: أن إباحة المكاسب وأخذ الأجرة على العمل وفي ذلك
ْتجهيل من يحرم الكسب من الصوفية، لأن موسى - صلى الله عليه -
قال له: (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
فلم ينكر الخضر ما قال، بل أعلمه أن الانتظار به إلى وقت
اتخاذه الأجر لم يمكنه لما خَشي من ظهور الكنز بعد انقضاضه.
ذكر المعتزلة وقتل الغلام الذي طبع على كافرا.
وفي قوله تعالى: (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ
مُؤْمِنَيْنِ)
حجة على المعتزلة والله شديدة، لأن الأُمة بأسرها مجمعة على أن
(2/220)
المولودَ بين أبوينِ مؤمنينِ يكون مؤمنا،
وهذا مولود طبع كافرا، وأبواه
مؤمنان، وليس في ذلك ارتياب بتة لإباحة قتله، ولإخبار الكفر
عنه
بلفظه. فلو لم يكن من الحجة عليهم إلا هذا الغلام المخلوق
كافرًا.
وإباحة قتله قبل بلوغ الحنث وجري القلم عليه، والسلك به غير
مسلك أبويه لكفى، فأين تحذلقهم، وادعى الفلسفة في معرفة عدل
الله عندهم بعقولهم الناقصة العاثرة، وهل يقدرون في هذا الموضع
إلا
على التسليم لعدل لا يعرفونه ضرورة، فيلزمهم أن يسلموه في باب
القضاء والقدر ضرورة، أو يكفرون بالقرآن وينسبون الخضر - صلى
الله عليه - إلى أنه قتل في الحقيقة نفسا زكية بغير نفس كما
رأى
موسى - صلى الله عليه - من ظاهر فعله، وكيف لهم بذلك -
ويلهم - وقد سلمه موسى للخضر وعلم أنه الحق. ثم أخبر الله نبيه
-
صلى الله عليه - وأنزله في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا مِن
خلفه من غير إنكار عليه، بل أخبر أنه فعل بأمره تبارك وتعالى
حيثما يقول
إخبارًا عنه - صلى الله عليه -: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ
أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا
(82)
(2/221)
ومنها: إباحة كنز الكنوز وحفظ الأموال على
الصغار إلى وقت البلوغ.
واختلف في الكنز أي شيء كان.
فمنهم من قال: كان لوحين فيهما علم، وروي عن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - أنه قال: " كان ذهبا وفضة "
من أيهما كان فهو حجة فيما قلناه، لأن اللوحين أيضًا قيمة.
(2/222)
|