النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام سورة مريم
* * *
قوله: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)
حجة في تسمية المخلوقين بأسماء الله، إذا الولي اسم من أسمائه.
وقد كثرت الحجج فيه، وليس للتكرير فيه موضع.
ذكر ليس الخبر كالمعاينة.
وقوله إخبارًا عن زكريا: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي
غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ
الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
إلى قوله: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً)
(2/224)
دليل على تثبيت الخبر المروي وصحته " ليس
الخبر كالمعاينة ".
وذلك أن زكريا - صلى الله عليه - لم يَشْكُ إلى ربه وَهَن
عظمه،
(2/225)
واشتعال الشيب في رأسه إلا وهو موقن بإجابة
دعوته، ثم بشره الله
ببشارة الغلام فقال ما قال وهو عالم بأن ربه يقدر عليه فلا وجه
له -
والله أعلم - غير ما قلنا من أن المعاينة في الأشياء أبلغ من
الخبر.
وإن كان الخبر بالغا عند المؤمنين.
ومثل هذا - والله أعلم - قصة إبراهيم - صلى الله عليه - حيث
سأل ربه عن كيفية إحياء الموتى فقال له: (قَالَ أَوَلَمْ
تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) . وكان
بعض الناس يقول في (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) : أنه
طمأنينة قلبه إلى إجابة دعوته، والآية لا تدل
(2/226)
على قوله، ولهذا القول أيضا خبر قد قيل
قوله - صلى الله عليه وسلم -
: " نحن أحق بالشك من إبراهيم " صلى الله عليه.
ذكرمن حلف أن يكلم رجلاً.
* * *
قوله: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً
وَعَشِيًّا (11)
دليل على من حلف أن لا يكلم رجلا فكتب إليه أو أشار أنه لا
يحنث، لأن زكريا لم يخرجه من الآية إفهام قومه بما قام عندهم
(2/227)
مقام الكلام في الفهم، ولم يكن كلاما،
ويؤيده حديث رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - حيث أشار في الصلاة برد السلام، وأشار
إلى أبي بكر رضي الله عنه - حين أراد أن يستأخر أن يثبت مكانه.
والصلاة لا يجوز فيها الكلام فلم يقِم رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -
(2/228)
الإشارة مقام الكلام في قطع الصلاة، وقد
أفهم بها إفهام
الكلام، فلا يجوز أن يكون إبداء شيء يفهم فهم الكلام كلامًا.
فإن قيل: ما تقول في رجل كتب بطلاق امرأته ولم ينطق به لسانه
أيلزمه أم لا.
قيل: حكم النظر ودليل الكتاب والسنة أن لا يلزمه من أجل أن
الطلاق لما كان من حكمه أن يوقع بإفصاح النطق، وإرادَة القلب
فكتبه
كاتبا مريدا لوقوعه وهو يقدر على أن يلفظ به فسكت لم يجز أن
يوقع
عليه ما لا يلفظ به، وقد أجمعوا جميعا لا تنازع بينهم على أن
الرجل لو
(2/229)
أراد طلاق امرأته فتهجاه بقلبه مريدًا
لوقوعه، قاصدا له لم يلزمه وإن كان
كذلك حتى ينطق به، وليس بين تهجيه بقلبه وكتبه بيده فرق في
النظر، لأن الكاتب إنما كتب تلك الحروف التي أمرها المريد على
قلبه
فقط، ولو كتبها ولم يرد إيقاع الطلاق بها لما لزمه عند الجميع
طلاق.
فحصل من هذا أنْ الموقع لطلاق الكتاب غير اللافظ أوقعه
بالإرادة
المفردة التي لا يقع بها طلاق عند بشر، فما باله يوقع بها إذا
اقترنت
مع فعل لا يقع به على الانفراد شيء ولا بها، وحكم ما لا يقع به
في
الاقتران والانفراد واحد وإن تميزه، أفنجعل حكم الكتابة أبلغ
من
حكم اللفظ الذي لا يوقع به إذا عري من الإضمار والقصد بينه
وبين
الحالف شيئا، هذا ما لا يذهب على ذي فهم إذا تدبره.
(2/230)
ولا أعلمهم يختلفون أن الولي لو كتب بتزويج
من يزوج، وكتب
الخاطب بالقبول مريدين بعقده وهما ناطقان سامعان عاريان من
الخرس والطرش أن النكاح لا ينعقد به، ولو كتبت الثيب
وهي ناطقة بالرضا لم يجز الأخذ به.
والنكاح عقدة هذا الحل الذي يحله الحال بالكتابة فما بال
الكتابة تعمل
في الحل فلا تعمل في العقد،
(2/231)
فإن قيل: أفليس كتب رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - إلى كسرى
وقيصر وغيرهما فلزمتهم الحجة بكتابه كما لزم الحاضرين بقوله.
قيل له: نحن لم ننفِ أن الكتابة لا تفهم إفهام الكلام حتى يحتج
علينا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قوم، ولكنا
نزعم أنها وإن أفهمت فهم الكلام فليست بكلام، وشرط الطلاق في
الأصل أن لا يقع إلا على الناطق بالكلام، وليس شرط لزوم الحجة
أن
لا يلزم إلا بالنطق. ألا ترى أن القرآن حجة الله على خلقه أمره
أن
ينذر به الناس فقال: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ
لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)
، فكان يتلوه - صلى الله عليه وسلم - على الناس منذرَا به
فيلزمهم به
الحجة، وليس هو كلامه، وينذر فيه الرجل متبينًا لأمره ونهيه
فيلزمه حجتهما وليس هناك نطق، وكان رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يفعل الفعل فيلزم به الحجة، ويرى الشيء يعمل ولا
(2/232)
ينكر، أو يبلغه فلا ينكره ويلزم بكل ذلك
الحجة، وليس هناك
كلام. فليس لاحتجاج الحجيج بكتاب رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - إلى من كتب في لزوم الحجة لزومها بالكلام متوصلًا به
إلى
إيقاع الطلاق وجه لمن تدبره.
ونحن مقرون بأن الكتاب ينوب عن الكلام في الإفهام، ونرى الناس
جميعا يستعملونه بينهم في الرقاع والكتب من بلد إلى بلد، وتنفذ
كتب
الأئمة بالولايات والأحكام فتفهِم فَهم الكلام وتقبل ولكنها لا
تعد
كلاما. ألا ترى أن رجلاً لو حلف أن لا يتكلم فكتبه كلاما أنه
غير
متكلم. ولو كان شَرْط لزوم الحجة أن لا يلزم في الأصل إلا
بالكلام.
ثم كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر
(2/233)
فلزمتهما الحجة بكتابه لكان الاحتجاج حينئذ
أشبه للقائسين عليه كتاب
المطلقين وكان يكون عندنا مسلما في وضعه، فكيف وليس شرط لزوم
الحجة الكلام دون غيره كشرط الطلاق في الأصل.
فإن قيل: فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تجاوز
الله لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تنطق به أو تعمل به "
والكتابة عمل.
قيل: الأمة تحدث أنفسها بشيئين: أحدهما: ما ينطق به، والثاني:
ما يعمل به.
والطلاق مما ينطق به، فنفسر ما احتج به حجته عليه لأنه حدث
نفسه
بالطلاق وهو من سلطان النطق فلم ينطق به، وليس للعمل سلطان على
الطلاق نفسه، لأن الطلاق لا يعمل عملا إنما ينطق به نطقا،
والذي
عملت اليد فيه منه فهو حروف هجائية لا الطلاق الواقع على
زوجته.
أرأيت رجلا كتب حروف الطلاق في كتاب وهو لا يريد به طلاقا وقد
كتبه ثم قال: قد طلقت هذه الحروف أيقع على امرأته طلاق.
فإن قال: يقع عليها طلاق، فخالف كافة الأمة، وأبدع في الدين
ما ليس فيه، وأحال القول.
(2/234)
وإن قال: لا يقع بذلك طلاق.
قيل له: فما الذي يوقع على كاتب الطلاق طلاقا لِنية في
الكتابة، أو
الكتابة نفسها، أم مظاهران معًا في إيقاع الطلاق على الكاتب.
فإن قال: النية وحدها، أم الكتابة وحدها أحال القول وخالف
الأمة، فإن قال: الظاهر هو الذي يوقع.
قيل له: هل رأيت شيئين كلاهما على الانفراد موصوفين بصفة زوال
السلطان، فإن اجتمعا صار لهما بأنفسهما سلطان من غير أن
يستعينا
بشيء غير أنفسهما تقويهما وتجعل لهما سلطانًا.
هذا ما لا يذهب على من ميزه من العامة، فكيف على أهل العلم
المفتين، وعلى الدقائق غائصين.
فإن قيل: فأنت لا توقع بالنطق وحده طلاقًا، ولا بالإرادة
مفردة.
فإذا اجتمعا أوقعت بهما وهو نفس ما أنكرته.
قيل: النطق الذي لا أوقع به طلاقًا هو الذي يأوي فيه إلى ما لا
يقع به طلاقًا كقوله: طلقتك من وثاقك، إذ لا إرادة فيما صرح به
من
هذا
(2/235)
أو يكون نطق على الغلط من أن يريد أن يتكلم
بشيء فيجري على
لسانه الطلاق. فهذا وما يضاهيه لا يقع فيما بينه وبين الله.
فأما النطق على الانفراد الذي يوقع طلاقا مع النية فمعوز
توهمه.
فكيف النطق به كما يكن كتب حروف الطلاق على القصد والغلط معًا.
فإذا كان النطق الذي يقع به الطلاق لا يمكن إفراده على قصد كما
يمكن إفراد كَتْب حرفه على النطق الذي قصد الكتابة دون إحضار
النية
في وقوعه - لأنه إذا نطق بقصد فقد جمع - كان الجمع بينه في
الداخلة
وبين ما أنكرناه من إفراد النية وإفراد الكتابة والجمع بينهما
ظلمًا بينا -
واللَّه أعلم -.
فهذا حق النظر وما دل عليه لفظ الكتاب والخبر، فإن أمكن أحد
(2/236)
إيجاد الإجماع في إيقاع الطلاق بالكتابة من
غير نطق به فالتسليم له
واجب
وإن أعوزه إيجاد الإجماع وهو معوز، فيما قلناه واضح لا إشكال
وسواء كان الكاتب بالطلاق حاضرا أو غائبا، لأنه يمكنه أن يلفظ
به
في الغيبة والحضور ثم يكتبه فلا يقع أبدًا عليه طلاق ألا ينطق
بقصده
أحكام.
ولد الزنا.
وقوله تعالى إخبارا عن مريم: (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي
غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
دليل على أن ولد الزنا يلحق بأمه، ويكون منسوبا إليها. ألا ترى
أنها
نسبت مولود البغي إليها كما ينسب إليها ولد الحلال فلم ينكر
عليها
الملَك، بل أعلمها بأن الله - جل وتعالى - هين عليه أن يرزقها
غلاما بغير إمساس ذكر، ويجعله آية للناس. فهو واضح لمن تدبره.
(2/237)
ذكر الرطب للنفساء.
* * *
وقوله تعالى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ
تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)
دليل على أن الرطب للنفساء نافع.
ذكر الإشارة.
قوله إخبارًا عن مريم حيث قال لها قومها: (يَا أُخْتَ هَارُونَ
مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ
بَغِيًّا (28)
(2/238)
يؤكد ما قلنا من أن الإشارة وإن قامت في
الإفهام مقام الكلام
فليست بكلام، لأن مريم - صلى الله عليها كانت نذرت أن لا تكلم
شيئا فلم تخرجها الإشارة إلى ابنها عيسى - صلى الله عليه وسلم
- من
النَذر، ولا عدت كلاما يخرجها منه.
(2/239)
ذكر تربية المولود فى المهد.
* * *
وقوله: (قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ
صَبِيًّا (29)
دليل على أن تربية المولود في المهد سنة المولود، لأن فعل مريم
بابنها - عليهما السلام - سُنة ولنا قدوة.
(2/240)
الجهمية.
قوله إخبارًا عن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: (يَا أَبَتِ
لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي
عَنْكَ شَيْئًا (42)
رد على المعتزلة والجهمية.
إذ لا ينكر إبراهيم على أبيه ما لا يسمع ولا
يبصر إلا ومعبوده يبصر ويسمع ويغني عن كل شيء.
وقوله إخبارًا عن إبراهيم: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ
سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي)
حجة في إجازة السلام على ذي الرحم مِنَ الكفار، فيكون ذلك
جائزًا
بالقرآن، وعلى الأجنبيين ممنوعا بالسُّنة.
وليس تأويل من تأول نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إبداء
أهل الكتاب بالسلام من جهة أنه أمان، وتطرقه إلى جوازه بسلام
(2/241)
إبراهيم على أبيه بشيء، لأن النهي من رسول
الله - صلى الله عليه
وسلم - في الظاهر واقع، والتأويل ظن من المتأول. ألا ترى أن
الله - تبارك وتعالى - أمر موسى وهارون - صلى الله عليهما - في
مخاطبة فرعون أن يقولا: (وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ
الْهُدَى (47) .
وقد أمرهما بتليين القول له، والسلام ألين القول فلم يجز لهما
أن يخصاه
به، وفرعون أجنبي منهما، وأجازه لإبراهيم على أبيه. فدل ذلك
على أن ذا الرحم يخص به، والأجنبي لا حظ له فيه.
فهذا أحسن وأولى من تأويل يرد به ظاهر سُنة ثابتة يشهد لها
دليل
القرآن واللًه أعلم.
(2/242)
ذكر الولد الصالح.
* * *
وقوله: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا
جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا
وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
(2/243)
حجة فى أشياء:
فمنها: أن طاعة المؤمن تثمر له الثواب في الدنيا والآخرة.
ومنها: أن الولد الصالح من نعم الله على أبيه وجده وليس بفتنة
عليهما، وأن الولد الذي قال الله - تبارك وتعالى -: (إِنَّمَا
أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)
هو الطالح لا الصالح، فتكون الآية عامة المخرج خاصة المعنى.
إذ محال أن يَمتن على إبراهيم - بإسحاق وابنه يعقوب وهما فتنة.
والدليل على صحة ذلك أنه قدقال قبل تلك الآية: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ
عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)
فجعله خاصا، فمن كان عدوا لأبيه فهو الذي
(2/244)
فتنة عليه. ولا يجوز أن يكون يحيى بن زكريا
فتنة على أبيه، ولا إسماعيل
وإسحاق فتنة على إبراهيم. وقد يجوز أن يكون الولد الصالح فتنة
على أبيه
وجده ما دام صغيرًا، فإذا كبر وظهر صلاحه، وبانت طاعته عاد
نعمة عليه والدليل عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصر
الحسن
والحسين وهو على المنبر، عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران،
فنزل
إليهما وحملهما وعاد إلى المنبر ثم قال: " صدق الله (إِنَّمَا
أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) ، إني لما نظرت إلى
هذينِ الغلامينِ يمشيانِ
ويعثرانِ لم أتمالك أن نزلتُ إليهما فحملتهما " (2) . فقال هذا
فيهما
(2/245)
وهما صغيران فلما كَبِرا عادا نعمة عليه
بما صار لهما من الجلال والمحل في
الإسلام، فلم يجز أن يعدا حينئذ في عداد الفتن.
ومنها: أن الثناء الحسن جليلة جميلة يُلبِس الله عبدَه المؤمن
التقي.
لأن لِسان صدق في هذا الموضع هو الثناء الحسن. والله أعلم.
وإذا كان الله بجوده جعله في عداد النعم، ومدح به من جعله فيه
لم
يجز للمؤمن أن يكرهه، وكان له أن يفرح به ويعده من كبار نعم
الله
عليه.
ومنها: أن الشيء إذا سمي به شيئا جاز أن ينقل إلى غيره لسعة
اللسان، إذا اللسان المعروف عند العامة هو الذي ينطق به، وقد
نقل
في هذا الموضع إلى الثناء الحسن.
ذكر تناول الأب مال ولده.
قال محمد بن علي: وكان بعض النظار يجعل هذه الآية حجة في تناول
الأب مال ولده، ويؤيده به الحديث المروي: " أنت ومالك
(2/246)
لأبيك "، ويزعم أن الله لما وَهبَ إسحاقَ
لأبيه، وقال في موضع
(2/247)
آخر: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا
وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ
ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا)
لم يكن للموهوب أن يمتنع على من وهب له، والهبة تصير
ملكا للموهوب له، فكل ما أضيف إليها كان منها.
وليس هو عندي كذلك، لأن الهبة في هذا الموضع هي هبة نِعمة لاَ
هِبة مُلك، إذ لو كانت هبة ملك لجاز للوالد أن يبيع ولده كما
له عند هذا
الناظر - أن يأخذ ماله بغير أمره - ولما جاز للولد أن ينفق من
ماله إلا بإذن
أبيه، ولما جاز له وطء جاريته يشتريها بالمال الذي هو في يديه
إذ كان ملكه
لأبيه حتى يهبها له أبوه، ولما صحت فيه هبته أيضا، لأن أكثر
حال الهبة
أن تصير ملكا للموهوب له كما كان سائر ماله، ولكان الوالد أحق
بوطئها، وَلمَا حكم على الموسر إذا كان له والد بصداق نسائه
ونفقاتهن، ونفقة صغار أولاده وعبيده وخدمه، ودفع ديون الناس
إذا
(2/248)
طالبوا بها، وفي ذلك عكس أحكام الإسلام
كلها، وفي توريث الله -
جل وتعالى - مع الوالد بعد موت الولد غيره، والاقتصار به على
نصيب
معلوم أوضح البيان، وأدل دليل على أنه غير مالك مال ولده في
حياته
إذ لو كان له مال في حياته لأخذه بعد وفاته، ولم يأخذ معه غيره
والخبر
المروي في: " أنت ومالك لأبيك " مرسل، ولا يثبت به حجة.
وقد وصله من ليس محله محل الاتفاق ولا هو بحجة في أئمة النقل،
وما كان هذا سبيله لم يصلح أن يتخذ دعامة ولا يكون حجة
وسيما إذا دفعوا القرآن، وكان فيه عكس أحكام الإسلام.
فإن احتج محتج بحديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
" إن أولادكم من كسبكم فكلوا من أموالهم ".
(2/249)
وقال: " كسب الرجل له ".
قيل: الخبر صحيح لا مطعن في إسناده، ولكنه موافق لما افتتحنا
به
هذا الفصل من أن الطاعة تثمر ثواب الدنيا والآخرة فالولد كسب
الطاعة لا
كسب التجارة المدارة بيننا في الأسواق. ألا ترى أن إسحاق
ويعقوب وُهِبَا
لإبراهيم جزاء على اعتزاله عبادة الأصنام.
والدليل على أن فعل الطاعة تسمى كسبًا:
(2/250)
قوله تبارك وتعالى: (لَهَا مَا كَسَبَتْ
وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) .
وقال: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) .
ومثله في القرآن كثير.
وكان ولد المؤمن من كسبه أي كسب من طاعته، وقوله - صلى الله
عليه وسلم -: " فكلوا من أموالهم "
خصوص في شيئين.
أحدهما: إباحة الأكل الظاهر المخرج، وإن كان يحتمل غيره.
والثاني: الاقتصار في الأكل على بعضه لقوله: " فكلوا من
أموالهم "، ولم يقل: فكلوا أموالهم.
ومن مقتضاه خصوصًا لا عمومًا، وقد قال تبارك وتعالى على إثر
الآية المبتدأ بها الفصل: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى
إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ
وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ
رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
(2/251)
وقال في أيوب: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا
مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ
وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ)
فهل يجوز عند هذا الناظر أن يأخذ الرجل مال أخيه
ومال أهله ويتملكه عليهما بغير إذنهما من أجل أن الله - تبارك
وتعالى -
جعلهما هِبة له كما جعل الولد هِبة لأبيه، وجعله رسوله - صلى
الله عليه
وسلم - كسبًا له. وكل هذا الاحتجاج لا يوهن نفقة الأبوين على
الولد
الغني زمِنينِ كانا أم صحيحين، وقد بيناه في كتاب آخر بحججه.
(2/252)
ذكر الرد على من يقول بخلق القرآن.
* * *
وقوله تعالى: (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ
الْأَيْمَنِ)
(وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (10) .
حجة على من يقول بخلق القرآن، إذ لا يمكنه أن يقول في المناداة
ما يتأوله في الكلام، وإن كان ما يتأوله فيه خطأ.
(2/253)
قوله: (وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
أكده بلا أشكال، لأن النجي لا يكون إلا من يكلم ويحاور.
وفيه حجة على من ينكر أن الله - جل جلاله - بنفسه في موضع دون
موضع، وأنه على العرش وعلمه في الأرض. إذ لو كان بنفسه
في كل موضع كما يزعمون ما كان لقوله: (وَقَرَّبْنَاهُ) معنى،
ولما
كان لموسى فضيلة على غيره. إذا المعنى الذي يذهب إليه يستوي
جميع
الناس فيه كافرهم ومؤمنهم، وليس لما يتأوله من أن القرب قرب
الطاعة، لما قربه بالمناجاة ولذا روي في الخبر: " أنه قربه حتى
سمع
صريف القلم ".
(2/254)
البكاء والتسبيح.
(إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا
سُجَّدًا وَبُكِيًّا)
حجة في جواز البكاء في السجود، والاقتراب به من المعبود.
وكذلك قوله في آخر سورة بني إسرائيل: (إِذَا يُتْلَى
عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)
وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا
لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ
وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) .
فهذا نظير تلك، وفيها زيادة دَليل
هو أن التسبيح في السجود صلاة، وسجود القرآن سجود واحد
(2/255)
والقول فيها قول واحد، وأن كل كلام في
الصلاة يراد به دعاء وذكر مباح
في الصلاة لا يقطعها كما يقطعها الكلام في أمر الدنيا، وما ليس
من
سبب الصلاة.
ذكر تكفير تارك الصلاة.
وفي قوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا
الصَّلَاةَ)
دليل على أن الإنسان يدرك ما يكفر، لقوله: إن إضاعتها تركها لا
تأخيرها عن وقتها كما يزعم بعض المفسرين لقوله تبارك وتعالى:
(إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ) ، فذكر الإيمان مع التوبة.
وفيه تأكيد قولنا: في أن تارك الصلاة بلا عذر يكفر.
* * *
وقوله: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا) -
والله أعلم -
(2/256)
مستثنى من المسموع، إذ كل مسموعٍ مِنَ
اللغو وغيره مسموع، وهو نظير
ما مضى من رد استثناء إبليس من السَّاجدين في ذكر الملائكة.
وكل هذا
دليل على سعة لسان العرب، والقرآن بلسانها نزل.
ذكر أنجزاء الأعمال مواريث.
* * *
قوله: (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا)
حجة للصوفية فيما يسمون جزاء الأعمال مواريث، لأن الجنة وإن
كانت من ميراث الآخرة فهي ثواب عمل وكل ثواب مثله.
(2/257)
ذكر أن العبادة ثقيلة.
* * *
وقوله: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ)
دليل على أن العبادَة ثقيلة مملوة، والمؤمن مأمور بالصبر عليها
إذ
اسم الصبر لا يكون إلا مقرونَا بالكراهة والصعوبة.
خصوص.
* * *
وقوله: (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ
أُخْرَجُ حَيًّا (66)
خصوص لا محالة، لأن هذا قول بعض الناس دون بعض.
(2/258)
ثم قال: (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ
وَالشَّيَاطِينَ)
عموم، لأن الحشر لا يكون إلا للجميع.
فأي شيء يلتمس في سعة اللسان بعد هذا، وابتداء الكلام خصوص
وآخره عموم من غير حائل لفظ بينهما يرد خصوصًا إلى عموم المعنى
المفهوم منه.
ذكر المعتزلة.
* * *
وقوله: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى
رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ
اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
حجة على المعتزلة في الوعيد شديدة، لزعمهم أن الداخل من
الموحدين النار لا يخرج منها أبدًا، وهذا نص القرآن يخبر بورود
الجميع
إياها وصدر المتقين عنها.
(2/259)
فإن زعموا أن الورود ليس بورود النار كذبهم
أول الآية، لأنه ذكر
الحشر وذكر جهنم بلفظها.
فإن قالوا: قد قال: (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ
جِثِيًّا (68)
كانت عليهم فيها حجتان:
إحداهما: أنهم لا يقولون ولا غيرهم أن أحدا يخلد حول جهنم، ولا
يعذب به ثم ينجو عنه حتى يصرفوا النجاة التي ذكره الله إلى
الخلاص
(2/260)
من حولها لا منها نفسها.
والثانية: أن هاء التأنيث في قوله: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا
وَارِدُهَا) قد
(2/261)
أذهبت كل ارتياب بأنه ورود النار. إذ لو
أريد حوله لكان: (إلا
وارده) ، لأن الحول مذكر، فقد دل هذا على أنهم يحضرون حولها
أجمعين ثم يردونها فينجوا المتقون، ويبقى الظالمون فيها جثيا.
فإن قالوا: أليس قد رويتم في بعض تفاسيركم أن الورود هو ورد
الحمى.
قيل: ليس كلما نرويه نصححه، وكيف يكون صحيحا والله
يقول: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ
الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) ،
ونحن نرى عيايا أن الحمى إذا أخذت الظالم في وقت فارقت كما
تفارق
التقي، فلو كان كذلك لبقي جَمّ من الظلمة فيها أبدا، فهذا واضح
أنه ورود جهنم في الآخرة لا ورود الحمى في الدنيا، ونحن نقول
بعد
تصحيح مقالتنا في الورود الذي في كتاب الله أنه ورود جهنم وأن
الحمى من فيحها في الدنيا كما قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - فإنه إذا أخذت منا أحدًا أبردناها بالماء ائتمارًا
لرسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وقبولاً لوصيته،
(2/262)
ولا يكون ذلك نقضًا للورود في الآخرة.
وبعد فلو كانت روايته عن سعيد بن جبير أن الورود هو ورود الحمى
لا ورود جهنم صحيحة، وكان القرآن لا يدفعها ما كان لهم علينا
فيها
شيء، بل كانت لنا عليهم إذ استعظامهم لخروج موحد من النار بعد
دخوله إياها هو من أجل خلف الوعد الذي لا يجوز على الله عندهم.
فإن
كان إخراج من دخلها عظيمًا عندهم فينبغي أن يكون الصفح عمن
أوعد
إدخالها بذنوب اقترفها أعظم عندهم من الباب الذي يذهبون إليه.
أولا يعلمون أن الخلف في اللغة هو: ترك إنجاز الخير،
(2/263)
والصفح في الوعيد كرم لا خلف كما دللنا
عليه في سورة التوبة عند
انتهائنا إلى قوله: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا
وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ
إِسْلَامِهِمْ) .
فإن كانت الاستراحة إلى قول سعيد بن جبير آثر عندهم في الورود
مما يدل عليه القرآن فِرارًا من كسر قولهم في خروج من دخل
النار منها فنحن نسامحهم، لأن الذي نريده من إيضاح خطأ ما
ذهبوا
إليه في الوعيد من أجل الخلف قلبه عليهم من قول سعيد بل العفو
عن
الموعد والاقتصار منه على حرِّ الحمى في الدنيا أبلغ فيما
يريد، وأرجو
أن يفعل الله ذلك بأكثر المؤمنين على رغم من إنافهم، فقد روى
(2/264)
مغيرة، عن إبراهيم، عن الأسود عن عائشة -
رضي اللَه عنها
- قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " الحمى
حظ كل مؤمن من النار"، ورواه أنس - رضي الله عنه - أيضا من
(2/265)
رواية قتادة عنه مرفوعَا، وروى أبو حصين،
عن أبي صالح
الأشعري، عن أبي أُمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: " الحمى كير من جهنم فما أصاب المؤمن منها كان
حظه من النار ".
(2/266)
وروى هذا الحديث أيضا شهر بن حوشب عن أبي
ريحانة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
(2/267)
أنه عادَ رجلاً من وعك به فقال: " يقول
الله -
تبارك وتعالى -: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من
النار "، وحديث أبي بردة عن أبي موسى الأشعري عن النبي - صلى
الله عليه وسلم -
(2/268)
في تجعيل اليهود والنصارى فداء للمسلمين من
النار مشهور.
فهذه الأخبار موافقة لتفسير سعيد بن جبير في الحمى والروايات
الأخر أن قوما يخرجون من النار بعدما دخلوها فيسمون بعد
إدخالهم
الجنة الجهنميين، حتى يغيرون فيها، فيذهب الله عنهم سِيماء أهل
النار موافقة لدليل القرآن في الورود، وأيهما كان من هذين فهو
لنا
(2/269)
لا لهم، وأنا آمل أن يكون كل ذلك مؤتلفا
غير مختلف، فيكون ما دل
- عليه القرآن في الورود ورود لا يحرق ولا يؤلم كما روي في
الخبر: " إذا
ورد المؤمن النار لتحلة القسم نادته جهنم يا مؤمن أطفأ نورك
لهبي ".
(2/270)
ويقول أهل الجنة إذا دخلوا الجنة: " ألم
يعدنا ربنا أنا نرد النار، فيقال
لهم: بلى، ولكنكم مررتم بها وهي خامدة ".
(2/271)
فإذا خرجوا منها سموا جهنميين، ويكون حظهم
من ألمها ما وصل
إليهم من مس الحمى وألمها إذ كانت من فيحها.
فإن قيل: فَمَن الذي تسميهم الجهنميين، وكل يَرِدها ممن يخلد
ومن
يخرج منها.
قيل: قد يجوز أن يكون الورود من جميعهم فمن لم تمس منه شيئا
ولم
تسمه بسمة وتغير من مَست منه ووسَمَته بسمة ويسمونهم جهنميين.
فإن قيل: فما بالك تقول: مرة لا تمس منهم ولا تؤلمهم، ومرة
تجعل الألم والمسيس خصوصا لقوم دون قوم.
قيل: هي أخبار مروية بعضها أثبت من بعض وأقوى دعامة في
الإسلام. ومن وجد شيئا من الرجاء والتأميل لم يضمن زوال الخلل
كله عنه، والذي ليس بمخلول ما دَلت عليه التلاوة من القرآن.
الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا مِن خلفه من أن الورود
من
(2/272)
الجميع ورود واحد ثم ينجي الذين اتقوا،
وتكون نجاتهم على وجهين.
فمن وردها لِتَحلة قَسَمه - جل وتعالى - صدر عنها بنعمته غير
ممسوس بألم إن شاء الله.
ومن وردها باقتراف ذنوبه أمسه الله من ألمها ما شاء، ثم أخرجه
منها
إذا شاء، وترك الظالمين فيها جثيًّا.
ومن الأخبار الصحيحة التي لا نشك في أسانيدها خبر مالك بن
أنس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قدّم من المسلمين
ثلاثة من الولد لم تمسه النار إلا تحلة القَسم ".
وخبر أبي نضرة، عن أبي سعيد وإن لم يوازِ هذا فهو
(2/273)
يقاربه في الصحة أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قال: " أما أهل
النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها، ولا يحيون، وأما
قوم دَخلوها
بذنوبهم فإنهم يموتون فيها، ويصيرون كالحمم فيمكثون فيها ما
شاء اللَه
حتى إذا أراد الله أن يعتقهم انطلق بهم إلى نهر يقال له:
الحياة، فينبتون
فيه نبات الحبة في حميل السيل ".
(2/274)
وحديث جابر بن عبد الله حين أهوى بأصبعيه
إلى أُذنيه وقال: صُمَّتا
إن لم أكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "
الورود
الدخول لا يبقى برّ ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن
بردًا وسلاما
كما كان على إبراهيم حتى إن لسقر - أو قال: لجهنم ضجيجًا من
بردهم، (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ
الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) "
فالمعول على هذا التصديق القرآن إياه في الورود.
(2/275)
وفي قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ
نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا
يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا) .
فدل أن من دخل النار من الموحدين فمسته مات فيها، إذ محال أن
يخص الكافر بصفة في عذابه فيشاركه فيه المؤمن، والله أعلم.
قال محمد بن على: ولأهل الأعراف حالة غير هذه كلها قد بيناها
في
موضعه.
* * *
قوله: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ
الرَّحْمَنُ مَدًّا)
حجة على المعتزلة والقدرية.
(2/276)
ذكر زيادة الإيمان.
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى)
(حجة على المرجئة في زيادة الإيمان.
ذكر القدرة.
* * *
قوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى
الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
حجة على المعتزلة والقدرية في إرسال الشياطين، وهو يؤيد ما
قلناه
(2/277)
قبل هذا من أن الشيطان مخلوق نِقمة لمن حقت
عليه كلمة ربه يزعجه إلى
معاصيه، والكفر بإرسال ربه عليه.
ذكر سعة لسان العرب.
* * *
قوله: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ
وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ
وِرْدًا (86)
دَليل على أشياء:
فمنها: تأكيد قراءة من قرأ في سورة الأنعام: (وَاَللَّهِ
رَبِّنَا)
بالنصب على سعة اللسان، بالرجوع من الخبر إلى المخاطب المواجه
ألا
تراه يقول: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ
وَفْدًا (85)
بالنون إلى الرحمن،
(2/278)
ولم يقل: إلينا.
ولو كان الاختيار في (رَبِّنَا) بالخفض على النعت لكان - والله
- كلا
هذا - والله أعلم - بالياء، يحشر على لفظ ما لم يُسَم فاعله
إلى الرحمن.
ومنها: الرد على من يقول: إن الله - جل جلاله - بنفسه في كل
مكان، ولا يكون في مكان دون غيره ولو كان جل وتعالى كذلك ما
كان
لحشرهم إليه معنى، إذ هو معهم حيث يكونون.
ومنها: إجازة الإخبار عن الجميع بلفظ واحد في قوله: (وَفْدًا)
، ولم يقل: (وفودا) . وكذلك: (وِرْدَا) عن المجرمين.
* * *
قوله: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ
جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)
(2/279)
يؤيد ما قلنا أيضاً في تأييد: (واللهِ
رَبِّنَا) ، لأنه قال
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)
ولم يقل: جاءوا على لفظ الأول.
وكل هذا دليل على سعة اللسان بالخفض والنصب في القراءة مختاران
جميعًا لا يفضل واحد منهما على صاحبه، وفي هذا توسيع ما قلنا
في
سورة فاتحة الكتاب من أن فيها إضمار قل، وتسهيل الكلام
بإسقاطه.
ذكر أن البنوة والعبودة لا يجتمعان في حال واحدة.
) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي
الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)
دليل واضح لمن تدبره أن البنوة والعبودة لا يجتمعان في حال
واحدة، وأن من ملك ابنه عتق عليه، لأن الولد لا يكون عبدًا
لأبيه
في حكم هذه الآية. والله أعلم.
(2/280)
قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
حجة على الجهمية في الوُدّ، وبيان لإعطاء المؤمن ثواب عمله في
الدنيا والآخرة.
(2/281)
|