النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام

سورة طه
الرد على من يقول بخلق القرآن ولبس النجس.
* * *
قوله: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
حجة على من يقول بخلق القرآن، ويزعم أن الله لا يجوز عليه الكلام
فيقال له: من نادى موسى بهذا النداء.
فإن قال: لم يناده ربه، إنما ناداه بعض ملائكته.
قيل: (إِنِّى أَنَاْ) راجع على من.
فإن قال: على الملك، كفر حيث جعله رب موسى - ولن يقوله

(2/282)


إن شاء الله -.
وإن قال: هو راجع على الله - جل الله -.
قيل له: أفيجوز أن يكون ذلك راجعَا عليه والنداء من غيره.
فإن قال: لا يجوز، إنه محال.
أقر بأن الله متكلم، وأن: (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ)
وكل ما بعده من (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) من الابتداء، والجواب لموسى كلامه، وكلامه لا يكون مخلوقا، لأنه صفة من صفاته، ولا يجوز عندنا وعنده وعند من يؤمن به أن يكون شيء من صفاته مخلوقا.
ولو كان: نودي يا موسى، إنه هو ربك، وهو اختارك أنه لا إله
إلا هو فاعبده، وأقم الصلاة لذكره، وكل ما بعده على هذا المعنى لكان
قوله حينئذ أوجه في المخلوق في حق الكلام، وإن كان خطأ من كل
جهة.
فهذا وما يشاكله في القرآن واضح بلا لُبسة أن الله متكلم ناطق، وإذا
كان متكلما ناطقا فما خرج منه من كلامه كان غير مخلوق، وانقطعت مادة
ما يوردون من المحالات في التطرق إلى خلقه من الجعل وغيره.

(2/283)


ويحتمل أن يكون قوله: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
حجة في لبس النجس، والاستمتاع بغير طاهر في غير حين العبادات
فإذا جاء وقتها خلع وتجرد منه لها، وقد روي أن نعليه - صلى الله عليه -
كانتا من جلد حمارٍ ميت، وظاهر الكلام في الأمر بالخلع يدل على أنه

(2/284)


من أجل الوادي المقدس أمر بخلعهما لئلا يطأه بهما، لا أنه نهُي عن
لبسهما بكل حال.
ذكر الاستخبار.
* * *
وقوله تعالى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)
حجة في الاستخبار عن الشيء الذي يعلمه المستخبر ولا يكون

(2/285)


حشوًا.
ذكر إجازة الجواب فوق الاستخبار.
(قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
دليل على إجازة الجواب فوق الاستخبار.
ذكر - " الحيات.
* * *
قوله: (قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ)
دليل على اختصار الكلام، لأن ذكر الخوف لم يتقدم في
اللفظ فدل قوله: (وَلَا تَخَفْ) على أنه - صلى الله عليه - لما رأى
عصاه تحولت حية فرق منها.

(2/286)


وفيه دليل على أن أنفس البشر مجبولة على الخوف من المؤذيات، وأن
الخوف اللاحق بها عند رؤيته لها لا يحط من درجة التوكل شيئًا، وفي
ذلك دليل على أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فَمَن ترك منهن
شيئا خيفة فليس منا " أنه خيفة ما يلحقه من الحرج في قتلهن فأعلم أنه
مأجور من غير حرج مما يتقيه من ظهور الجان في خلقهن وصُورهن.
وسيما إذا كُن في الصحاري لا ما يخاف من توثبها عليه، إذ لا يكلفه

(2/287)


ما لاطاقة له به ونفسه مجبولة على خلافه.
ذكر المعتزلة.
* * *
قوله: (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)
حجة على المعتزلة والجهمية شديدة لا مخلص لهم منها. إذ لو كان
معنى السمع والبصر معنى العلم والإحاطة لاقتصر - والله أعلم - على
(إِنَّنِي مَعَكُمَا) ولم يقل: (أَسْمَعُ) كما قال في سورة المجادلة:
(مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) .
فلما قال: (أَسْمَعُ وَأَرَى (46) بعد تمام المعنى الذي يشيرون إليه أزال كل ريب، وكشف كل غمة عن أنه يسمع بسمع، ويرى ببصر غير مخلوقين.

(2/288)


ذكر الساحر.
* * *
قوله: (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)
دليل على أن أمر السحرة في أفاعلهم من تغيير خلق الصور تخييل لا
حقيقة. فمن زعم أنهم يقدرون على تغيير الصور وتحويلها عما خلقها الله
إلى غيرها فقد كفر، لمساواتهم بأفعالهم رب العالمين. ألا ترى أن الحاج
إبراهيم في ربه حيث قال له: (أَنَا أحيى وَأُمِيت) فلجه بقوله:
(فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ)
فبهت حينئذ إذ ماله معوز عنده. وما يلحق المسحور من ضرر الساحر
فيما سوى هذا أيضا فبإذن ربه لقوله: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) .

(2/289)


قوله: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً)
محقق لما قلنا: الأنفس مجبولة على الخوف من المؤذيات، بل هذا أوكد
من الأول، لأن الحية التي تحولت إليها عصاه كانت على الحقيقة حَية.
وما يخيل إليه من حبال السحرة وعصيهم كان باطلا لا حقيقة له.
فخاف منهما معا خوفا واحدا لظاهر سعيها.
وقوله إخبارا عن السحرة - (لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ)
يؤكد إجازة طلاق المكره، وكل فعل يكره عليه المرء (2) إذ لو لم يكن
المكره مأخوذا بفعله ما احتاج إلى غفرانه.

(2/290)


ذكر المجرم.
* * *
قوله: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)
دليل على أن المجرم في القرآن واقع على الكافر.
(لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)
ففيه دليل على أن من دخل من الموحدين بذنبه النار مات فيها، ولم
يشعر بعد الموت بألم العذاب حتى يخرج منها.
إذ لا يجوز في عدل الله - جل وتعالى - من حيث يعقل القوم أن
يسوي بين عذاب الكافر والمذنب، ويجمع عليهما الخلود.
وذوق عذاب الأبد.

(2/291)


فإن قيل: كيف يموت في النار من ذاق الموت في دار الدنيا والله يقول:
(لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى) .
قيل: هذا في أهل الجنة ممن لم تمسه النار إلا تحلة القسمِ، لاَ فِيمن
تمسه النار ببعض عذابها، ألا تراه يقول: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) .
وقوله إخبارا عن السامري وغيره: (فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)

(2/292)


يحتمل أن يكون النسيان راجعا على الموعد وهو قوله: (فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) .
ويحتمل أن يكون نَسي أن العجل وإن كان له خوار مطالب بالنطق
والصوت.
ومنهم من يقول: إن النسيان أخبر به السامري عن موسى - عليه
السلام - كأنه قال: نسي موسى أن العجل إلهه فتركه وطلب غيره
وأجيبه.
* * *
قوله: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)
إلى قوله: (إِلَّا يَوْمًا (104)

(2/293)


دليل على ما قلنا: إن الميت لا يشعر بطول مكثه في البَرزخ، لولا
ذلك لما أحالوا على لُبث عشرِ ويوم.
فإن قال قائل: إنما هذا منهم على سبيل كذب ومكابرة كما هو في
سجيتهم، واحتج بقوله - تبارك وتعالى - في سورة الروم: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
وقال: ألا ترى أن الله قد أنكر عليهم قولهم فقال: (كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) .
قيل: ليس إنكاره عليهم - والله أعلم - من جهة أنهم شعروا

(2/294)


فأنكروا وكابروا، ألا ترى أنهم يتخافتون بينهم بذلك والمكابر وإن كابر
فهو عارف بمكابرته في نفسه، وهؤلاء يتخافتون بينهم بذلك ولكنه -
والله أعلم - على معنى أنهم مخدوعون بذلك فيظنون أنهم مكثوا
ذلك، المقدار وأنه حق "، كما كانوا يخدعون بكفرهم في الدنيا.
وإماتتهم أنهم لا يحشرون ولا يبعثون. ونفس الآية التي هي في سورة
الروم حجة أيضاً في ذلك.
ذكر الشفاعة.
* * *
وقوله: (يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)
دليل على أن الشفاعة مأذون فيها لخصوص من الناس، وأن غير النبي
- صلى الله عليه وسلم - يشفع فيشفع، وإن كانت الشفاعة العظمى له.
وكذا قوله: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)
دليل على أن هناك شفعاء، وفي زوال منفعتها عن قوم دليل على أن غيرهم يسعدون بها.

(2/295)


اختصار.
قال محمد بن علي: ومما يؤكد سعة لسان العرب، وإجازته الاختصار
والإشارة إلى المعنى قوله - تبارك وتعالى - في هذه السورة: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)
فابتداء الكلام بذكر العدو لهما وحذرهما - من صنيعه بهما، ثم
قال: (فَتَشْقَى) فجعله لآدم وحده، ولم يقل: فتشقيا، لأنه إذا
شقي شقيمت - والله أعلم - بشقائه.
ويجوز أن يكون المعنى فيه مصروفا إلى أن عليه التكفل
بأمرها وهو القائم عليها. فجرى اللفظ بتوحيده من هذه الجهة.
ثم قال: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)
ثم قال: (فَأَكَلَا مِنْهَا) فرجع إلى الإخبار عنهما بعد

(2/296)


أن ذكر الوسوسة إليه وحده، ثم قال: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) فوحد
بالذكر، وهي لا محالة عاصية مثله بأكل الشجرة، لقوله في البقرة:
(وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
فعمها بالنهي.
وقال: (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
وهي أيضا متاب عليها.
ثم رجع إلى لفظ التئنية فقال: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا) .
ثم جاء بلفظ الجمع فأدخل إبليس والحية - وهو أعلم - معهما فقال:
(بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) .
وكان ابن عيينة يقول: إن قوله لآدم: (إِن لَكَ أَلَا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا
تَعرَى) يعني به في الدنيا، وأولاده دَاخلون معه، ويحتج بأنه لو
كان فى الجنة لما عريا فيها حتى بدت سوآتهما ".

(2/297)


وليس هو عندي كذلك ولا المراد به - والله أعلم - إلا الجنة.
وكيف يكون ذلك في الدنيا وهو - جل وتعالى - بعد ذكر تحذيرهما ولم
يخرج من تمام القصة، وصنع إبليس بهما وما وسوس إليهما من أمر
الشجرة وما عوقبا به من بدُوِّ سوءاتهما وإهباطهما إلى الأرض. إنما
قوله - تبارك وتعالى -: (إِنَ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعرَى)
في الجنة إن قبلت تحذيري إياك من عدوك. ولن تعصيني بقبول قوله
وتصديق وسوسته. فلما قبل قول عدوه وعصى ربه بأكل الشجرة
أهبطه إلى الأرض فشقي وشقيت زوجه معه، وشقي بشقائهما
أولاده، وصار عيشهما وعيش أولادهما بالتعب والنصب.
ومما يصدق أن قوله: (إِنَ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعرَى) هو في
الجنة، وهو على سبيل ضمان منه ووفاء من آدم، وقبوله ما حذر منه

(2/298)


ليس على سبيل إعطاء في الدنيا وتمكن منه كما كان يأكل في الجنة رغدا
حيث شاء وشاءت زوجته أنا نرى من أولاده الذين زعم ابن عيينة أنهم
داخلون معه من يجوع في الدنيا ويعرى كثيرا من عيشه، وعيشه
نكد غير رغد. فكيف جعل له ألا يجوع فيها ولا يعرى، وأعطاه
ذلك وأدخل ولده معه فيه، ونحن نشاهد هذا في أولاده بالمعاينة من
غير خبر، ولو كان جعل لهما جعل عطية، واقتدار مُلْك ما أصابهم
ذلك طرفة عين، لأنه - جل جلاله - لا يخلف ميعاده بل هم أشقياء
كما أخبر إياهم بمصيره إليه بعد المعصية، بل ضمان رزق عبيده في
الدنيا ونعمه عليهم في المأكول والملبوس مأخوذ من غير هذا الموضع.
والقرآن مملو به، قال اللَه تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) .
(وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) .
وقال: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) ، وقال: (أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)

(2/299)


وقال: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ) ، ومثله كثير، ثم أخبر عن تقديره وتنزيله بقدر على من يشاء وإذا شاء، إذ هو أعلم بعباده منهم بأنفسهم، وسائق إليهم بأرزاقهم في أوقات تصلح لهم فقال: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) ، وقال: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) .
تفسير حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أربع ما جاوزهن
ففيه الحساب ".
وقال محمد بن علي - رضي الله عنه -: وليس في قول النبي -
صلى، لله عليه وسلم -: " أربع ما جاوزهن ففيه الحساب، ما سدً
الجوعة، وكف العطشة، وستر العورة، وكن البدن.

(2/300)


ما يحقق قول ابن عيينة - وضي الله عنه - في تأويله: (إِنَ لَكَ أَلا
تجَوُعَ فِيها وَلَا تَعرَى) أنه في الدنيا، إنما هذا إن صح ففيه سعة للمؤمن أن
تأخذه من الدنيا بسماحة إذ كان لابد منه، ويكون الحساب عليه فيما
توسع فيه من فضولها المستغنى عنه، مع أن الخبر له معارض وهو قوله
لأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - حيث أكلا معه عند أبي الهيثم بن
التيهان، وقد أخرجهم الجوع الشديد: أكلتم وشربتم وهو من
النعيم الذي تسألون عنه ".

(2/302)


يريد - والله أعلم - قوله: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) .
وأخبار سوى هذا لو تقصيناها لطال الكتاب بها. ولبيانه موضع غير هذا
وهو كتابنا المؤلف في تعارض الأخبار.
ذكر السرف.
* * *
وقوله: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ)
يؤكد ما قلنا من أن السرف هو: مجاوزة الحد في الفعل كله، لا في
الإنفاق وحده،

(2/303)


ويكون أيضا بمعنى الخطأ، وهو في هذا الموضع - والله أعلم - الكفر.
لأنه قد جمع خطأ ومجاوزة للحد.
إذ لا فعل أحق بأن يكون المرء مجاوزا فيه حده من الكفر.
ثم خلق ورزق، وأعطى وأمات وأحيى، وله نِعم لا تحصى جل ربنا
وتعالى.
* * *
وقوله: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
فيه - والله أعلم - تقديم وتأخير كأنه: ولولا - كلمة سبقت من ربك
وأجل مسمى لكان لزاما.

(2/304)


وفيه حجة على القدرية والمعتزلة في ذكر سابق الكلمة وهو - والله
أعلم - نظير قوله: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
في معنى السبق

(2/305)


سورة الأنبياء
ذكر تثبيت خبر الواحد.
* * *
قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)
حجة في تثبيت خبر الواحد، لأن كل واحد من المسؤولين مخبر عن
ذلك على الانفراد، والحجة لازمة على المخبر بقوله.
المعتزلة.
* * *
وقوله: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ)
حجة على المعتزلة والجهمية فيما يزعمون أن الله - جل جلاله - لا
يوصف بحدِ ذات، وأنه ليس على العرش. إذ محال عندهم أن

(2/306)


يكون في موضع دون موضع وقد قال تبارك وتعالى: (وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ) ، فوصفهم بأنهم عنده، ولو لم يكن جل
جلاله أنه في موضع وعلمه في كل موضع ما كان لقوله: (وَمَن
عِندَه) معنى.
وبلغني عن بعض سفهائهم أنه تأول قوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) .
فما عسى يستطيع أن يقول هاهنا والملائكة لا ثواب لهم، ولو كان لهم

(2/307)


أيضا ثواب لكان في القيامة.
فيقول: - ويله - إنهم عند ثواب مجعول لغيرهم في الجنة. إنهم
ليقولون قولا عظيما.
وبؤكد قوله: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
فهذا الآن على أن الله الذي يجوز أن يكون إلها دون من يتخذونه من
الأرض، وهو في السماء لا محالة، وعلمه محيط بالأرض وغيرها.
ذكر الرد على الجهمية في نفي الكلام عن الله عز وجل.
وقوله إخبارا عن إبراهيم - صلى الله عليه -: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
حجة على الجهمية والمعتزلة في نفي الكلام عن الله - جل الله -
فيصفون - ويلهم - ما وصف به المشركون آلهتهم، ألا يسمعون بخبر
عن خليله - صلى الله عليه - بهذا، وعن تظليم القوم أنفسهم حيث
اتخذوا إلها لاينطق، وهذا مرتضى من قولهم لولا ذلك ما قال: (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)

(2/308)


فإنما نكسوا على رؤوسهم حيث رجعوا عن الحق إلى الباطل.
وصوبوا لأنفسهم عبادة إله لا ينطق بعد أن كانوا ظلموها أفيجوز -
ويحهم - أن يكون إله إبراهيم وآلهتهم بصفة واحدة لا ينطق ذاك ولا
هؤلاء.
أليس كان عجز آلهتهم عن الكلام نقصا فيها، وأحد علامات تحقق
بطلان الإلهية عنها.
فأراهم لا يرون - ويحهم - إلا على أن يصفوه صفة الموات، ومن
لا يقدر على نطق ولا حركة، وهذا هو التعطيل بعينه نعوذ بالله منه.
سعة لسان العرب.
* * *
قوله: (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)

(2/309)


دليل على سعة لسان العرب، ألا تراه كيف نسب العمل الخبيث إلى
القرية، وإنما عمله أهلها، وهذا من الكلام الذي يأتي آخره عن
أوله، لأنه حين قال: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) حقق أن العمل
كان منهم لا مِن القرية، ومثله كثير في القرآن إنما تركنا
ذكره لأن الشافعي - رضي الله عنه - قد سبقنا إليه في كتاب
الرسالة، فاقتصرنا منه على هذا الموضع وحده لئلا يعرو الكتاب منه.
وفي تسمية العمل بالخبائث دليل على أن الأنجاس قد تكون فعلا.
وتكون ذاتية، لا أنه مقتصر بها على الذاتيات المجسدات، ولا على أن كل
موصوف بالخبث والرجس والنجس مقصود به ضد الطهارة كالغائط
والبول وما ضاهاهما.
ذكر الاحتراز.
* * *
وقوله: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)

(2/310)


دليل على أن الاحترازات ليست تنقص في التوكل، إذ كان الله -
جل وتعالى - قد جعل الدرع صيانة في الحروب، وجعلها في النعم
التي طالب بشكرها.
لماذا كان ذلك كذلك فالمكاسب كلها، وإعداد الأقوات غير مؤثرة في
الثقة بالخالق، ولا معدودة في عداد خوف فوات الرزق.
ذكر التسبيح.
* * *
وقوله: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
دليل على أن التهليل والتسبيح يجليان الغموم، وينجيان من الكرب
والمصائب، فحقيق على من آمن بكتاب الله أن يجعلها ملجأ في
شدائده، ومطية في رخائه ثقة بما وعد الله المؤمنين من إلحاقهم بذي
النون في ذلك حيث يقول: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)

(2/311)


ذكر القدرية.
وقو له: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)
حجة على المعتزلة والقدرية.

(2/312)


قوله: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ)
حجة على الجهمية.

(2/313)