النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام سورة الحج
ذكر المبالغة.
* * *
قوله: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى
وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
نظير ما مضى في سورة البقرة من إجازة المبالغة في الأشياء حتى
يسمى بأضدادها كما يقال: فلان ميت، إذا كان بليدا في أمره
خاليَا
من المنافع. وفلان شيطان، إذا كان داهية، وأشباه ذلك.
ألا تراه قال: ((وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى) ثم قال: (وَمَا
هُمْ بِسُكَارَى) يعني - والله أعلم - من الشراب، ولكن من غلبة
الفزع لما عاينوا من الزلزلة.
(2/314)
الجهمية.
* * *
وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ
عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ
عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ
وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
حجة على المعتزلة والجهمية مغنية عن جميع ما تقدمها إذ هو يقول
-
جل جلاله - نصا من غير تأويل: إن الشيطان يضل وليه، ويهديه إلى
عذاب السعير بما كتبه عليه من ذلك.
ولا أعلم في جميع ما مضى من الحجة عليهم أبلغ من هذه ولا أقل
التباسًا منها، فالحمد لله الذي وَقق أفهامنا لإثارتها، وهدانا
لما ضمن من الحجة عليهم فيها.
حذف هاء المفعول.
* * *
وقوله: (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ)
(2/315)
من المواضع التي يحسن فيها حذف هاء
المفعول.
معان.
* * *
وقوله: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا
مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ
(33)
دليل على أشياء:
فمنهاْ: أن الزيادة في السمن، وكثرة الثمن في البدن أفضل من
تكثير اللحم بعدد المهازيل.
ومنها: أنها إذا جعلت شعائر يحرم الانتفاع في الظهر، والدر إلى
أن تنحر.
ومنها: أن اسم البيت غلب على الحرم كله فسمي به، لأن العلم
(2/316)
يحيط أن الشعائر لا تنحر عند البيت نفسه
إنما هو مناحرها أرض منى.
ذكر الأكل مِنَ الهدى.
* * *
وقوله: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ
(28)
إباحة الأكل من الهدي كله تطوعه وفرضه، إذ مخرج الإباحة في
الأكل عام فمن خص منه شيئا فعليه أن يأتي بالبرهان.
ولا أعلم منع الأكل من لحم هدية المفترض من الإجماع المحصل، بل
يحيط العلم بأن كل من حج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
لم يكن
هديه تطوعًا، وكان فيهم لا محالة من كان هديه فرضا.
ألا ترى أن عائشة - رضي الله عنها - روت أنهم خرجوا مع
(2/317)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنهم من
أهل بحج وعمرة.
ومنهم من أهل بالحج ومنهم من أهل بعمرة، وأهل رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - بحج. فهب أن هدي النبي - صلى الله عليه
وسلم - حين أكل منه كان تطوعا لإفراده الحج.
أيخلو من كان معتمرا أو قارنا مِنْ إن كان هديهم فرضا واللًه -
(2/318)
تبارك وتعالى - يقول قولا عاما: (فَإِذَا
وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا) ، فما
كان من هدي متعة أو قِران فالأكل بظاهر القرآن منه مباح كهو من
أكل
المفرد الذي يكون تطوعا. إنما لا يأكل من جزاء الصيد والنذور
والفدية، لأن هذه لا تسمى شعائر، إنما الشعائر - والله أعلم -
ما
يكون بسبب القِران. والنذور شيء أوجبه المرء على نفسه فليس له
أن
يأكل منها. والفدية وجزاء الصيد عقوبة فإذا أكل منه لم تتم
العقوبة
عليه.
فإن عطب هذا الهدي الذي أبيح الأكل منه قبل محله لم يجز أن
يأكل منه
صاحبه، ولا أحد من أهل رفقته لسنة رسول الله - صلى الله عليه
وسلم
سواء كان فرضا أو تطوعا.
(2/319)
وكان عطاء يجيز أن يأكل من المتعة ومن
الإحصار، ويجيز من النذر
ما دون الثلث ما لم يسمه للمساكين، فإذا سماه للمساكين لم يجز.
فالإحصار عندي على وجهين:
فإن كان المحصور اشترط المحل فله أن يأكل منه، لأن محلها حينئذ
يكون حيث أحصر على حديث ضباعة.
(2/320)
وإن لم يكن اشترط فالحصر وجه من وجوه
العطب. إذ كل
حادثة على الهدي دون محله تمنع من بلوغه المحل عطب فليس حينئذ
أن
يأكل منه، ولا نعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل عام
(2/323)
الحديبية من هديه حين أحصر.
فإن قال قائل: كيف أبحت الانتفاع بدر الشعائر وظهورها، وقد
يحتمل أن يكون قوله: (لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى) قبل أن
تجعل شعائر.
قيل: إن هذا وإنِ احتمله فالأظهر ما قلناه، لأن الله - جل
جلاله -
ذكر تعظيمها وأنها من تقوى القلوب قبل ذكر المنافع.
والثواب في تسمين البدن يكون لما تنحر لله، فأما ما نحرت
للمأكلة
فلا ثواب فيها من جهة نفس النحر سمانًا.
وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يسوق بدنة أن
يركبها وكرره عليه ثلاثًا. فهذا يبين أن المنافع المباحة منها
هي بعد
التسمية مع أن منافعها قبل التسمية معروفة بملكها فلا يحتاج
إلى التكرير
(2/324)
ذكر ذبح الجنين:
* * *
وقوله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا
لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ
بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)
كان عطاء بن أبي رباح - رضي الله عنه - يتناوله فيما أرى
التسمية
على ذبح الجنين إذا خرج حيًا، ويزعم أنه إذا مات قبل أن يذبح
لم
(2/325)
يؤكل. كأنه يذهب إلى أن بهيمة الأنعام
الجنين.
وليس ذلك ببين في تفسير الجنين، لأن الجنين لا ينسك به.
فأما قوله في ترك أكله إذا مات وقد خرج حيا فكما قال، لأن كل
حي خرجت نفسه من المأكول بغير ذبح أو ما يقوم مقامه في الصيد
والمتوحش، والناد من الإبل والبقر، والساقط في البئر ميتة.
(2/326)
وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "
ذكاة الجنين ذكاة
أمه " واقع على من خرج ميتا. والله أعلم.
(2/327)
ذكر الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
* * *
وقوله: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ
اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ
فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ
وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن نصرة
الله لا محالة نصرة دينه. إذ هو - جل وتعالى - قوي عزيز كما
قال.
لا يرام فإنما الواجب على أهل دينه نصرة دينه الذي شرعه لهم،
ولا
وصول إليه إلا بإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ لو
كانا
غير مفترضين لاتساع القعود عنهما، وارتفعت المآثم في تضييعهما
من
أجل أن أحدًا لا يجبر على عمل تطوع، ولا يحرج بتركه، وفي ذلك
زوال النصرة عن دين الله، ودخول الوَهَن عليه، وسببه قعود
(2/328)
الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر عنه
وهم قادرون على
التغيير لم يجز أن يسمى نهوضهم إليه تطوعًا.
* * *
وقوله: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ)
تفسير من ينصره - واللًه أعلم - ومدح لهم بقيامهم بأمور هي
مفترضة عليهم كإقام الصلاة وإيتاء الزكاة مع التمكين والقدرة.
وساقطان بعدمهما كما تسقط الصلاة بالعجز من زوال العقل،
والزكاة
بإعواز المال.
وكان بعض أهل التمييز يزعمِ أنهما مفروضان على السلاطين دون
الرعية ويحتج بقوله: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي
الْأَرْضِ) .
وهو عندي إغفال، إذ لو كان كذلك لكان - والله أعلم - أقاموا
الصلاة وأخذوا الزكاة كما قال: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
صَدَقَةً)
ولكانت
(2/329)
الصلاة والزكاة أيضا غير مفروضتين إلا على
السلاطين دون الرعية، لأن
الله تعالى - جل وتعالى - وصف الممكنين في الأرض بالأربعة
الأوصاف
وصفا واحدا. وهذا خروج من الإسلام.
ذكر اختصار الكلام.
* * *
وقوله: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ
وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى
فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ
كَانَ نَكِيرِ (44)
دليل على أشياء:
فمنها: اختصار الكلام والإشارة إلى المعنى، لأن في
(يُكذِبُوكَ)
اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي اسم المفعول، ولم يذكر
المفعول
به من المكذبين ظاهرا ولا مكينا إلى ذكر موسى - صلى الله عليه
وسلم -
فاستغنى السامع بالإشارة إلى ما ذكر غير هذا الموضع، وعلم أن
قوم
(2/330)
نوح كذبوا نوحًا، وعادًا كذبت هودًا، وثمود
صالحًا، وقوم إبراهيم
إبراهيم، وقوم لوط لوطًا، وأصحاب مدين شعيبًا، وفي أصحاب
مدين خصوص لأن شعيبًا - صلى الله عليه وسلم - المكذب وبناته
أيضًا من أصحاب مدين ولم يدخلوا في التكذيب.
ومنه: أن المغتم بالشيء قد يتسلى بأن يكون له في مصيبته شريك.
ألا ترى أن الله - جل جلاله - كيف عزى رسول الله - صلى الله
عليه
وسلم - بمشاركة من مضى قبله من الأنبياء في تكذيب قومهم إياهم.
واحتمال مضضه وأذاهم، فدل على أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وغيره من الأنبياء - صلوات الله عليهم - كانوا يغتمون
من
تكذيب قومهم إياهم.
ومنها: أن الإملاء للكافرين مكر بهم واستدراج.
(2/331)
وهو رد على المعتزلة والقدرية.
اختصار.
* * *
وقوله: (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ
ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ)
وكذلك ما بعده: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا
وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
حجة واضحة في اختصار الكلام، والاستغناء بما يدل عليه لسياقه
عن الإفصاح بالمشار إليه، لأن القرية لم تكن ظالمة ولا مأخوذة
إنما المراد
بها أهلها.
وفيه رد على المعتزلة فيما يزعمون أن العفو عن الموعودين
بالنار لا يجوز على الله، لأنه كذب.
(2/332)
وقد دللنا في غير آية على بطلان قولهم بما
يغني عن إعادته في هذا
الموضع. فإذا كان العفو عن مستوجب النار الموعد بها كذبا عندهم
ينفونه
عن الله - جل الله - تعظيما له.
والعفو كرم بإجماع العرب لا خلف. فما عسى يقولون في ظلم القرية
وأخذها وأشباهه، وظاهر الظلم مضاف إليها، فهل يكفرون - ويحهم -
بكل ما كان من هذا النمط في القرآن تعظيما لله عندهم بجهد لهم
الذي
يحملون أمر الخالق كله عليه، فيجيزون عليه ما يستجيزونه،
وينفون عنه
ما تضيق عنه، والله الحاكم بيننا وبينهم.
(2/333)
ذكر المعتزلة.
* * *
وقوله: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً
لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ
وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (54)
حجة على المعتزلة والقدرية واضحة، وقد أخبر نصا عن نفسه أنه
جاعل ما يلقي الشيطان في أمنية الرسول فتنة للذين في قلوبهم
مرض، والقاسية قلوبهم، وأخبر عنه وعن نسخه أنه الحق، وأثنى
على المؤمنين من أولي العلم بحقيقة المخبتين قلوبهم له،
المهديين إلى
الصراط المستقيم بهدايته، ولو كان إيمانهم بالآيات والثناء
عليهم بها
(2/334)
لا بِما قلنا لكان - والله أعلم: (وليعلم
الذين أوتوا العلم أنها الحق من
ربك فيؤمنوا به فتخبت لها قلوبهم) لأن الآيات مونثات.
ذكر مرض المؤمن.
وقوله: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ
قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا
حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ
لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
بشارة للمؤمن كبيرة، وتقوية الحديث المروي: " من مات مريضَا
(2/335)
مات شهيدا "، لأن الله - تبارك وتعالى - قد
جمع بين ثواب الميت
والمقتول في هذه الآية، ولم يفضل أحدهما على صاحبه بشيءْ.
وأشركهما في الرزق الحسن والمدخل المرضي.
(2/336)
وقد دللنا على أن الموت والقتل - وإن فرق
بهما اسم - فهو يجمعهما
معنى واحد في سورة آل عمران بما يغني عن إعادته في هذا الموضع.
فما كان سببه فعل بشر سمي قتلا، وما لم يكن سببه فعل بشر سمي
موتا، وكلاهما موت، وصاحبه وإن سمي ميتا فهو يسمى مقتولا.
ومقتولا وإن سمي ميتا. ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم
- قال
لرجل من المشركين: " إن ربي قد قتل صاحبك البارحة "، ولو كان
الأمر كما تزعم المعتزلة والقدرية أن المقتول ظلما مقتول بغير
أجله.
ولا يسمى ميتا إلا من مات ميتة نفسه، لكان حقا على الله أن
يحييه ليذوق الميتة التي وعده حيث يقول: (كُلُّ نَفْسٍ
ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)
(2/337)
أليس يزعمون في باب الوعيد أن العفو عن
الموعود بالنار لا يجوز عليه
لأنه خلف عندهم.
فهل يخلو مَن زهقت نفسه بسبب فعل غيره، وتعديه عليه من أن
يكون ذائقا الموت الموعود به في قوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ
الْمَوْتِ) .
وبقوله: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)
أو غير ذائقه.
فإن كان ذائق تلك الموتة فلم لا يكون ميتا بأجله، ولا يكون فعل
غير
به مقضيَّا عليه.
أم كيف يقدر هو بتعديه أن يقدم ما أخره الله عنه.
أليس يقول: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ
سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
(وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا)
(2/338)
فقاتل المؤمن وإن كان متعديا عليه بفعله
فمكتوب عليه تعديه، والمقتول
ميت بأجله وإن كان ذائق تلك الموتة، فمتى يذوق تلك ويحهم وقد
فارق الحياة وخرج من الدنيا.
أفيذوقها في الآخرة أم يرده إلى الدنيا ليذيقه إياها بغير فعل
بشر.
وما الذي يفرق بين القِتْلَتين عندهم، وكلاهما سبب من البشر
وإن كانا
مطيعا بأحدهما عاصيا بالآخر، فيما أنا سائلهم فأقول: ما تقولون
فيمن أمرنا الله بقتلهم من المشركين حيث وجدناهم فقتلناهم -
وقتلهم
لا محالة عقوبة لكفرهم -، أهم ميتون بآجالهم ويسمون ميتين، أم
مقتولون بغير آجالهم وغير مسمين ميتين.
فإن قالوا: بل هم مقتولون بآجالهم ميتون به.
قيل: فلم لا كان المقتول ظلما ميتا بأجله، وكلاهما مفادت نفسه
بسبب من العبيد، وهب أن المطيع والعاصي مختلفان في الفعل كيف
تختلف المفعول به في وصول الفعل إليه وإفاتة نفسه به.
وإن قالوا: بل مقتولون بغير آجالهم غير ميتين به. لزمتهم الحجة
من
جهتين.
(2/339)
إحداهما: أن فعلا بعينه معدودا من فاعل
جورا على غيره قد رأوه
جاريا في عداد العدل وهو فعل واحد، وإن كان بمفعولين مختلفي
السيرة.
والأخرى: ما يلزمهم في قولهم من بقاء الميتة الموعد بها من قتل
بغير
أجله.
ويقال لهم: أخبرونا عن القتل الذي أمر المؤمنون به للكفار، أهو
عقوبة لكفرهم أم غير عقوبة.
فإن قالوا: عقوبة لكفرهم.
قيل: فما وجه تثنية العقوبة عليهم في الآخرة بالنار، وكيف
خروجه
عندكم في العدل الذي تدعون التحذلق في معرفته، والله - جل
وتعالى -
يقول،: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ)
إلى قوله: (كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)
فإن قالوا: هو بعض أجزاء جزائهم، وطائفة من عقوبة كفرهم.
وتمامه يجزون به في النار.
قيل لهم: أَوَ للكفر عقوبة معروفة متناهية الحد يكون القتل
بعضها.
فإن قالوا: نعم.
(2/340)
قيل: فما وجه تخليدهم في النار، والتخليد
لا نهاية له، وقد
زعمتم أن عقوبتهم متناهية، والقتل طائفة منها.
فإما أن يكون قولكم في نهاية الكفر وعقوبته خطأ، وإما أن يكون
تخليدهم من العدل الذي لا تعقلونه، ويوجب عليكم القول بالقضاء.
وإعداده في وجوه العدل وإن لم تعقلوه.
وإن قالوا: ليس بعقوبة لكفرهم، لأن عقوبة الكفر تخليدهم النار
بعد الحشر.
قيل لهم: فما وجه قتلهم، وتصرفه في العدل الذي تحملونه على
فطرة عقولكم.
هذا مع ما يلزمهم من خلاف نص القرآن حيث جعل الله ذلك عقوبة
لكفرهم وجزاء له.
ويقال: هل يخلو أمره - جل وتعالى - بقتلهم إن كان غير عقوبة
عندكم من أن يكون عدلا لا تعقلونه يلزمكم أن تؤمنوا بغيره وإن
لم
تعقلوه كإيمانكم بهذا، أو جورا عندكم تجحدون بتنزيله فيكفونا
مؤونة
الاشتغال تناقضكم لما تصرخون به من ظاهر كفركم.
ولو قلتم كما قال، واتبعتم في جميعه القرآن، والرسول - صلى
الله
عليه وسلم - من أن المفات نفسه بفعل البشر وغير البشر ميت
بأجله.
الكافر مع خلود في النار معا عقوبة، وتبرأتم من عدل يخرج
(2/341)
في فطرة عقولكم فيه، وسلمتم صرفته من
العادل الذي يعرف كنهه
سلمتم من جميع هذه المناقضات.
وبعد فلو جاز أخذ معرفة العدل من الخالق بفلسفة المتفلسفين.
وعقول العاثرين لكان من أمحل المحال أن يكون فعل واحد - وهو
القتل - معدودا في حال مدحا وفي حال ذما، وفي حال طاعة.
وفي حال معصية من فاعله، ووقوعه بالمفعول في حال سعادة وفي
حال شقاوة، ولكن أحكام الله لا تضاهى بالرد، ولا تقابل
بالفلسفة، ويؤمن بجميعها مسلما للخالق فيها علما من المؤمن
بأنه -
جل وتعالى - عدل كيف قضى وحكم، وأثاب وعاقب لا معقب
لحكمه وهو سريع الحساب.
ذكر الرجوع من الخبر إلى المخاطبة.
* * *
وقوله: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ
يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ
آيَاتِنَا)
حجة في الرجوع من الخبر إلى المخاطبة، ولو لم يجز ذلك لكان:
يعرف في وجوه الذين كفروا المنكر.
وفيه دليل على أن أهل الباطل تضيق صدورهم من الحق.
(2/342)
وقوله: (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ
مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ)
نظير ما مضى في سورة المائدة من قوله: (قُلْ هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ
مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ.
لأنْ تلاوة الآيات ليس بشر، والنار شر.
(2/343)
سورة المؤمنون
المرجئة.
وقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ
فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
إلى قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)
حجة على المرجئة واضحة، ألا تراه كيف نعت المؤمنين بنعوت العمل
ولم يجعلهم وارثي جنته وفردوسه إلا بها. فكيف يكون مستكمل
الإيمان
من عري من هذه النعوت المذكورة في وصف المؤمنين.
(2/344)
خصوص.
* * *
وقوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ
طِينٍ (12)
عام المخرج خاص لآدم - صلى الله عليه -.
(ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً)
الهاء غير راجعة إلى آدم، بل راجعة على ولده لأنهم شاركوه باسم
الإنسية، وهي عموم منهم إلا عيسى - صلى الله عليه وسلم - فإنه
غير مجعول نطفة بل مخلوق بقدرة الرب في بطن أمه، وحواء خارجة
من الطين والنطفة معا، لأن خلقها بعد خلق آدم، وبعد نفخ الروح
(2/345)
فيه من ضِلع من أضلاعه والضلع حينئذ عظم.
فإذا كان القرآن هذا سبيله من الفصاحة يحصر ويعم، ويشير إلى
المعنى
على هذا الاختصار الشديد فإقحام كل عليه، وادعاء علمه من معرفة
به
افتراء على منزله سبحانه.
ثم عم الجميع بالموت من خص في الأول ومن عم فقال: (ثُمَّ
إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
* * *
وقوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا
كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) .
رد على من يزعم أن الله في الأرض بنفسه كهو في السماء، ولو كان
كذلك ما كان في قوله: (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ
غَافِلِينَ) فائدة، لأن من
كان مع خلقه بنفسه علم أنه لا يغفل عنهم، ولكنه دل المرتابين
على أن
الطرائق السبعة لا تحجب خلقه عنه، ولا تنسيه أمرهم. وهو واضح
لا إشكال فيه.
(2/346)
ذكر أبي حنيفة.
وقوله إخبارًا عن بعض من كذبوا رسولهم واتهموه فيما جاء به عن
ربه: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)
حجة على من يمهد عذر أبي حنيفة فيما رذَ من أخبار رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - على أنها لم تصح عنده عن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -.
إذ كل ما كان صحيحا في الأصل لم يعذر راده باتهام رواته، ألا
ترى
أن الله - جل وتعالى - لم يمهد عذر هؤلاء فيما اتهموا رسولهم -
صلى الله عليه - وظنوا أنه لا يجوز على الله ما نسبه إليه
وادعاه عليه،
(2/347)
وكذا أبوحنيفة لما رد أخبار رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - لم يردها
على من زعم هذا الذي يمهد عذره - إلا تنزيَها لرسول الله - صلى
الله
عليه وسلم - ألا يقول شيئا يأباه عقلُ مثله، فلو كان معذورا في
اتهام
الصادقين من النقلة لعذر أهل هذه الآية في اتهام الرسول
الصادق.
فلما لم يعذروا وفرض عليهم قبول قوله، واستعظموه لصدقه
وجب على أبي حنيفة أن يقبل رواية الصادقين عن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - في تفضيل سهم الفارس على الراجل
مسلم، ولا يردها استعظاما لذلك، ولا تنزيَها لرسول الله - صلى
الله عليه وسلم - عن تفضيله سهم بهيمة على سهم رجل مسلم
وأشباهه فيما رد به الأخبار، مع أن قوله - صلى الله عليه وسلم
-:
" سهم له وسهمان لفرسه " ليس كما ذهب إليه الأحمق، إنما
(2/348)
قال: " لفرسه " أي لما ينفق عليه في علفه
ومؤونته.
وهب أن هذا يعذر فيه - وإن لم يكن معذورا لأنها رواية - ما
عذره في
(2/349)
إعداد الجزية رشوة.
وقد نزل القرآن بها، وقدِ اتفقت الأمة عليها.
ولو لم يكن في إبطال القياس والاستحسان من المعتبر إلا ما يؤدي
إلى
مثل هذه الأشياء لكفى. فكيف والحجج في إبطالها أكثر من أن
(2/350)
تحصى) .
فإن قيل: أفتجعل اتهام أبي حنيفة لرواة الأخبار كاتهام أولئك
لرسولٍ
يثبت صدقه بالآيات.
قيل: الذي يوجب الحجة على المبعوث إليهم صدقه لا ما يثبت به
الصدق، والآيات لا تتكلم فتخبر بالأمر والنهي وغيره عن الله.
والمتكلم صاحب الآيات فإذا ثبت صدقه عند المخبر وجب عليه
تصديقه، وقبول قوله فيما يحكيه عن غيره.
وقد دللنا في كتاب شرح النصوص على أن الساحر قد يجيء بمعوز من
الفعل، وقوله كذب كله.
ولكنه لما جعل - تبارك وتعالى - في أطباع البشرية ألا يثبت
عندها
(2/351)
صدق المخبِرين إلا بأمارات فيهم يسكن إليها
قلوب المخبَرين جعل للرسل
آيات يتباينون بها سائر الخلق، لتوكيد الحجة على المبعوث
إليهم.
فأما لزوم الحجة فالصدق لا بالآيات، فبأي شيء ثبت صدق المخبِر
عند المخبَر وجب قبول قوله عليه ولزمته الحجة به، وإن لم يكن
مثل آيات
الرسل.
أليس الله - جل جلاله - قد أمر بقبول قول العدل من الشهود على
ما يعرف - فظاهر عدالته وصدق لهجته - ولم يثبت صدقه عندنا بآية
أوتيها
كآيات الرسول.
وأبو حنيفة ممن يقول بخبر الواحد، وقد ثبت عنده برواية هؤلاء
بأعيانهم الذين رد أخبارهم أخبار كثيرة وقال بها، وجعلها حجة
لمذهبه.
(2/352)
أفيكونون عنده في حال صادقين، وفي أخرى
كاذبين، فالآية حجة
على ممهد عذره بما لا عذر فيه بينة لمن تدبرها عليه.
* * *
قوله: (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا
يَسْتَأْخِرُونَ (43)
حجة على المعتزلة والقدرية فيما يزعمون أن المقتول ميت بغير
أجله.
(2/353)
ذكر نقض ضلالة الضالين على أْلسنتهم.
وقوله تعالى إخبارا عن فرعون وملئه:
(فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا
لَنَا عَابِدُونَ (47)
دليل على أن الله - جل جلاله - يجري نقض ضلالة الضالين على
ألسنتهم فلا يشعرون بها، ولا أتباعهم ليحق كلمته على من قضى
عليه
الشقوة.
ألا ترى أن فرعون مع ادعائه الربوبية قال مع ملئه: (فَقَالُوا
أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا) ولم يحترز من تسمية نفسه
بشرا، وقد سماها ربا لا ملؤه.
قالوا: كيف تدعي الربوبية وأنت بشر مثلنا ومثل موسى وأخيه.
وهكذا كل مبتدع يغني أتباعه عن فَلي قوله عليه، وهو ذا يناقض
نفسه ولا يشعر هو ولا أتباعه كالباهلي الذي صنف كتابا في الرد
على
(2/354)
المشبهة ثم جعل رده تشبيهًا كله، ولم يشعر.
* * *
قوله: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً)
وحدت الآية وهما آيتان - والله أعلم - ردَّا على العجب من
أمرهما أن
تكون أنثى تحمل من غير ذكر، وتلد مولودًا بلا أَبٍ.
اختصار "
* * *
وقوله: (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ
وَمَعِينٍ (50)
دخلت الواو - والله أعلم - على معين كأنه: (ماء معين) فاستغنى
بالإشارة إليها كسائر ما تقدمه من الاختصار. ولو كانت من نعت
القرار
لكان بغير واو.
(2/355)
المعتزلة.
* * *
وقوله: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ
(55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ
(56)
يحقق سوء خطر القدرية والمعتزلة، وضعف رويتهم، واغترارهم
بحلم الله عنهم في تحريف القراءة في سورة آل عمران حيث كسروا:
(إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ) الأولى، وفتحو الآخرة، فما عسى
يقدرون عليه
(2/356)
هاهنا وقد قال نصا: (أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ
بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55)
ليس هو الخير يريدهم به، والإملاء والإمداد واحد، وقد شرحنا
هناك بما يغني عن إعادته هاهنا.
(2/357)
قال محمد بن علي: فنفى - جل جلاله - أن
يكون ما يمدهم به مسارعة
لهم في الخيرات، ثم بين من يسارع في الخيرات فقال: (إِنَّ
الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)
وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58)
وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا)
(2/358)
أردناه واحد - (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ
أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ
يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
فكأنه - والله أعلم - قال: لا نسارع لأولئك في الخيرات، ولكنا
نسارع فيها لمن هذا صفتهم فيسارعون، والدليل على ذلك آية كذلك
-
والله أعلم: (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا
وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ
(63)
فرجع إلى صفة الأولين.
(2/359)
أفلا يعتبرون - ويحهم - أن أحدا لا يسارع
في خير إلا وقد سُورع له
فيه، وأن الفعل المضاف إلى فاعله لا يدفع إمكان قضاء غيره عليه
وتوفيقه له.
بشارة للمشفقين.
وفي قوله تعالى - تبارك وتعالى -: (وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا
إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ
وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
بشارة للمشفقين من خشية ربهم والوجِلة قلوبهم مع صالح أعمالهم
من الرجوع إلى ربهم، وتطييب أنفسهم بأن لا يرهبوا ظلما،
ويطمئنون
إلى أن الله - جل جلاله - لا يطالبهم فوق وسعهم، ووسعهم في
صالح أعمالهم قد أحصاه كتاب ينطق لهم.
* * *
وقوله: (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ
عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ
سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
(2/360)
الهاء في (بِهِ) ليست راجعة على الآيات،
لأن الآيات مؤنثة.
ويقال: هي راجعة على الحرم كأنه قال: كنتم تستكبرون بالحرم.
ولا تتذللون فيه بعبادة ربكم.
واختلف المفسرون في قوله: (تَهجُرُونَ) .
(2/361)
فكان الحسن يقول: " تهجرون كتاب الله ونبيه
- صلى الله عليه
وسلم - ".
وكان قتادة يقول: " تكلمون بالشرك والبهتان في حرم الله وعند
نبيه
- صلى الله عليه وسلم - ".
يذهب إلى الهجر وهو القبيح من القول الفاحش منه. فهذا يجيء على
(2/362)
قراءة من قرأ: (تهُجِرُون - بضم التاء،
وخفض الجيم - ولعل قتادة
قرأه كذلك، فلم يؤذه الراوي، فيكون شريك نافع في قراءته.
فى سجايا الناس.
* * *
وقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ
مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)
دليل على أن في سجايا الناس نُبوًا عما لم يسمعوا به، ولم تجرِ
سنته
فيمن قبلهم فصارت الحجة عليهم بذلك من حيث يعقلونها، ولا
ينكرون
تخصيصهم بما دعوا إليه، لتكون أوكد عليهم وأبعد لهم من أن
يعذروا
عند أنفسهم، لا أنها لا تلزمهم ولا تجب عليهم إلا بما سار سُنة
في
غيرهم، فقد أمر آدم بترك الأكل من الشجرة ولزمته حجة ربه، ولم
يتقدم له في ذلك مقتدم.
فليس لأحد رد حجة واضحة يوردها عليه مورد وإن لم يكن سمعها
من غيره، ولا سبق موردها إليه سواه اعتمادًا على أن الله - جل
ثناؤه -
قال في هؤلاء: (أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ
الْأَوَّلِينَ (68) .
(2/363)
لأن ذلك منه - والله أعلم - على معنى
النكير لا على الارتضاء.
ذكر الجد.
* * *
وقوله تعالى: (أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ
الْأَوَّلِينَ (68)
نظير ما يؤكد من الآيات أن الجد أب.
قال محمد بن علي أبو أحمد: وليس في وقوع اسم الأب على الجد
(2/364)
ما يجريه في الميراث مجراه بكل حال، ويسقط
معه الإخوة والأخوات
الذين وَرثهم الله نصا في القرآن.
فقد دللنا في سورة البقرة على أن اسم الأبِ واقع على العم أيضا
في
قوله: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ
الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي
قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) .
وإسماعيل لا محالة عم يعقوب، فلم تحجب به الإخوة
والأخوات لوقوع اسم الأبِ عليه، والميراث بابٌ آخر يحتاج فيه
إلى
حجة مفردة.
واسم الأب واقع على أب الأم نصا كوقوعه على أبِ الأب، قد كان
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمي الحسن والحسين ابنيه.
ويسميانه جدهما، ولا ميراث له بحال.
(2/365)
فليس في وقوع اسم الأب على الجد ما ينزله
في الميراث منزلته.
والذي نقول به في ميراثه - ونسأل الله التوفيق - إنما لم نجد
الله -
جل جلاله - فصل له ميراثا باسمه في كتابه، ولا وجدنا رسول الله
-
صلى الله عليه وسلم - فصله مع غيره إلا مَا وَرِثه عن سبطه إذا
انفرد
جميع تركته فلا نجد شيئا نورثه إلا إجماع الأُمة، فعلينا أن
ننظر إلى
الفريضة فإذا كانت مجمعا عليها أعطيناه نصيبه، وإذا اختلف فيها
أعطيناه الأقل الذي قد أجمع كل عليه، لنكون قائلين في جميع
ميراثه
بالإجماع، إذا المعول في توريثه على الإجماع، ومن الإجماع في
أمره
أيضا أنه مسمى بالعصبة وله حظ من قول النبي - صلى الله عليه
وسلم
-: " ألحقوا المال بالفرائض فما بقي فهو لأولى رجل ذكر "، وهو
(2/366)
موضوع نشرحه في كتاب الفرائض من شرح
النصوص.
ذكر قبول خبر الواحد.
قوله: (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ
مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ)
دليل على أن خبر الواحد يلزم قبوله بشرط معرفة المخبَر بصدق
المخبِر
وثبات عقله.
ألا ترى أن حجج قريش كانت منقطعة بما عرفت من عقل النبي -
صلى الله عليه وسلم - وصدقه فلزمهم خبره عن الله - جل جلاله -
إذ
لا علة لهم في رسوله - صلى اللَه عليه وسلم - يتعلقون بها،
ويأوون
في تكذيبه إليها.
وهذا من أكبر ما يحتج به في تثبيت خبر الواحد لمن تدبره. وإن
كان
كلما ذكرناه قبله شافيا.
ذكر الموازين.
* * *
وقوله تعالى: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ
(103)
(2/367)
دليل أن الموازين للكافر والمؤمن معًا، وأن
الأجساد والأعمال تُوزَن
جميعًا، وفي تمام الآية ذهاب الريب على أن من خسر نفسه، وخلد
في
النار تحفه مثل به هو الكافر حيث يقول: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ
النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ
آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ
(105)
ومما يؤكد أن الإنسان يوزن مع عمله قوله: (قُلْ هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ
ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ
يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَزْنًا (105) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يؤتى بالرجل العظيم
السمين، الأكول الشروب فيوضع في الميزان فلا يزن جناح بعوضة "
ثم تلا: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا
(105)
، وقال في وزن المؤمن حين صعد عبد الله بن مسعود شجرة
(2/368)
فضحكوا من دِقة ساقيه: " أتضحكون من
دقتهما، لهما في الميزان أثقل
من أُحد ".
(2/369)
المعتزلة.
قوله تعالى إخبارا عن أهل النار: (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ
عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)
حجة على المعتزلة والقدرية، لأن الله - جل جلاله - لم يخُسهم
بهذا
القول، إنما أخساهم باتخاذهم المؤمنين سخريا، وضحكهم منهم.
وكيف ينكر عليهم ما قالوا، وقد قال تبارك وتعالى: (فَأَمَّا
الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ
وَشَهِيقٌ (106) .
وقال على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -
(2/370)
" إن الإنسان يُكتب شقيا وسعيدا في بطن أمه
" برواية
الثقات الذين لا يرتاب بصدقهم وإتقانهم.
ولو كان أنكره أيضا لكان على نحو ما ذكرنا في سورة الأنعام عند
قوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
أَشْرَكْنَا) .
(2/371)
(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا
أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
فيه - والله أعلم - ضمير (بِهِ) ، فاستغنى بالإشارة إليه على
ما تفعله
العرب الفصحاء في كلامها.
كأنه يلهيهم أهوال القيامة عن التساؤل بالأنساب، فهي منقطعة
المنافع، لا أنهم لا يتكلمون بتة ولا يتساءلون. وكيف يكون كذلك
وقد قال اللَه تعالى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ
(24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ
مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
يَتَسَاءَلُونَ (27) .
وقال: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ
إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ
(31) .
(2/372)
فمعنى ما قلنا: من ترك التساؤل واضح لمن
تدبره، ويؤيده قوله جل
وعز: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ
وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) .
* * *
وقوله: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ
(112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ
الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا
لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
(2/373)
حجة أيضاً في أن الميت لا يشعر بطول مكثه
في البرزخ، ألا تراهم أجابوا
بلفظ ما أجاب المارُّ على القرية الذي أماته الله مائة عام ثم
بعثه، (قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ
بَعْضَ يَوْمٍ) .
ورَد الله عليهم: (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
فدل على أنهم لم يكونوا يعلمون.
* * *
وقوله: (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا)
وإنما سماه - وهو أعلم - قليلا عنده لا عندهم كما قال:
(2/374)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) .
فالساعة عنده - جل جلاله - في القرب كغد، وقال صلى الله عليه
وسلم: " بعثت في نفس الساعة فسبقتها كما سبقت هذه هذه " وأشار
بالسبابة والوسطى.
وكل هذا قريب عنده قليل وإن كان عند خلقه بعيدا طويلا كما قال:
(تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ
كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ
صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6)
وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)
(2/375)
والأرض في هذا الموضع - والله أعلم - أرض
القبر.
فإن قيل: فما معنى (فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) ، وكلهم قَدِ
استوى في
الموت مع صاحبه.
قيل: لم يُسمَع فيه شيء، ويحتمل أن يكونوا أرادوا من بقي بعدهم
وعدُّوا أيام موتهم إلى أن ماتوا. والله أعلم كيف هو.
والعجب لمن قرأ: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ) (قَالَ
إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا)
على الأمر لا عَلى الخبر (1) ، وكيف يكون ذلك هو
__________
(1) القراءة متواترة وهي لابن كثير وحمزة والكسائي، ومن ثَمَّ
فلا وجه لتعجب المؤلف.
(2/376)
شيء يسلمون في القيامة، ولا يعلم في شيء من
الأخبار والروايات
وَلا دَل عليه سياق الكتاب أن الله - تبارك وتعالى - يخاطب أهل
النار
بما قال من عند قوله: (أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى
عَلَيْكُمْ)
إلى قوله: (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا
أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) .
ثم يقول لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: قل لهم: (قَالَ كَمْ
لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)
ولو لم يكن من الدليل على أنهما جميعا (قال) على الإخبار عن
نفسه -
جل جلاله - إلا قوله: (قَالُوا لَبِثْنَا) لكفى، لأنه يقبح في
كلام العرب
أن يقال: قل لفلان كذا. قال: كذا، ولو كان في (قالوا) فإنه
كانت
القراءة على الأمر حينئذ أشبه وأوجه. والله أعلم.
(2/377)
لأنه كان يجوز أن يكون معناه: قل لفلان كذا
وكذا. فيقول لك
كذا. والله ولي الصواب.
(2/378)
|