النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام سورة النور
ذكر إقامة الحد:
* * *
قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ
بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)
وعيد شديد في ترك إقامة الحدود. والرأفة - لا محالة - تعطيل
الحد
بعد وجوبه، لا ما يلحق المرء عند إقامته من الرقة على المجلود،
فإذا
تركه فقد ضيعه وواقع نهي الله، وإذا أقامه مع الرقة لم يضره
لحوق
الرقة، إذ هو غير مالك لها، فقد أصاب رسول الله - صلى الله
عليه
وسلم - من قطع السارق ما أصاب من الكراهة - وهو أعلم بتأويل
(2/379)
ما أُنزل عليه - ولم يمنعه من قطع غيره بل
حث عليه، وأوعد على الشفاعة
(2/380)
الحائلة بين إقامته وبين تعطيله،
(2/381)
وقال في قطع المخزومية: " لو كانت فاطمة
بنت محمد لقطعتها ".
فقد وضح وضوحا لا التباس فيه أن الرأفة المنهي عنها تعطيل
الحد، وترك
إقامته بعد وجوبه.
وأنا خائف على إيمان من عطله، لأنه - جل جلاله - قد جعل
إقامته من شرطه كما ترى.
* * *
وقوله: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (2)
(2/382)
دليل على أنه يقام علانية غير سر، ليتعظ به
سائر الناس.
الاختلاف:
* * *
وقوله تعالى: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ
مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ
مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) .
اختلف المفسرون في تأويله:
فكان الشعبي يقول: " ذلك في الجاهلية ".
وكان سعيد بن المسيب يقول: " هي منسوخة، نسختها الآية
التي بعدها: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ)
هي من أيامى النساء.
(2/383)
وكان الحسن يقول: " إذا حُد وحُدت لم يتزوج
كل واحد منهما إلا
مثله، ونسخ المشرك والمشركة ".
وروى حبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد المقبري.
عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الزاني
المجلود لا ينكح إلا مثله " تصديقا لقول الحسن.
(2/384)
وقال مجاهد: " نزلت في بَغَايَا كُن في
الجاهلية لهن رايات يعرفن بها ".
(2/385)
وقال عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "
نزلت في أم مهزول
وحدها، استأذن مرثد بن أبي مرثد الغنوي رسول الله - صلى الله
عليه
وسلم - في تزوجها فنزلت هذه الآية ".
(2/386)
وقال ابن عباس: " ليس هو بالنكاح إنما هو
الجماع، لا يزني بها
وهو يزني إلا زانٍ أو مشرك.
قال محمد بن علي: أما قول الحسن فهو خلاف الإجماع، لأنا لا
نعلم
أحدا خالف في أن البِكْرَين إذا زنيا، أو الثيبين إذا عطل
الجائرون حدّهما
حل لكل واحد منهما أن يتزوج بمن زنى مرة، ومن لم يزنِ،
(2/387)
بل قول الحسن أظرف من قوله، لأنه يبيح قبل
الجلد أن يتزوجا.
فإن كان مانعَا بالآية، فالآية تمنع الزاني لا المجلود، والزنا
حادث
بالفرج لا بالسوط. فكيف يجيز تزويج الزاني ويمنع تزويج
المضروب.
هذا إغفال غير مشكل، والحديث المرفوع في تصديقه ضعيف الإسناد
(2/388)
لا تثبت بمثله حجة.
وأما قول سعيد بن المسيب فإن الخطاب في قوله: (وَأَنْكِحُوا
الْأَيَامَى مِنْكُمْ) خطاب واقع على الأولياء في إنكاحهن لا
على المتزوجين في نِكاحهن.
فكيف ننسخ آية تحظر النكاح بآية تبيح الإنكاح، بل تأمر به
أمرا.
فإن كان أراد أن هذه المنكحة قد يجوز أن تكون زانية فأمر
بتزويجها فليس في
إمكان ذلك ما يبيح تزويج الزاني بغير زانية، والزانية بغير
الزاني، إن
كانت الآية الأولى قد منعت من جهة أن عضل الولي في إنكاح
الزانية
من زان، وإنكاح العفيفة من عفيف عضل واحد، فأمر أن لا يعضل
وينكح.
وقد أغنى الله عن وضع الإنكاح موضع النكاح بما استثنى في نفس
الآية الأولى حيث يقول: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا
زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا
إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) .
أوليس إن كانت الآية على المنع كما ذهب إليه
ويحتاج إلى النسخ قد أباح فيها للزانية أن تنكح الزاني،
وللزاني أن ينكح
الزانية، فليست بنا حاجة إلى أن نلتمس إذنه - جل وتعالى - من
موضع
سواه.
(2/389)
ولولا صحة الرواية عن ابن المسيب - رضي
الله عنه - لكان أرفع قدرًا
عندنا، وأجل منزلة، من أن تثبت مثل هذا عليه، ولكن الإغفال
لحق بكل من عَري من الوحي ولم يؤيد به، وهو - رضي الله عنه
- قد اجتهد وأخذ ثواب المجتهدين وإن أغفل إصابة المصيبين، ولا
أعلم رواية وردت أعجب أمرا من هذه أن تكون بتداول تداولها
وتحملها الأكابر والفاضلون وأهل اللغة، وتدون في المصنفات من
التفاسير وغيرها فيستتر موضع الإغفال فيها عن جماعتهم، والعجب
للشافعي - رضي الله عنه - مع إغراقه في اللغة، وهو في
نفسه لغة غير دخيل فيها كيف ذهب إلى قوله
(2/390)
فلو ذهب إلى رواية مجاهد فقد رواها كان
أسلم له، لأن البغايا
قد هلكن كلهن، وتزويج من يحدث الزنا من النساء بعدهن مباح
للزاني
وغير الزاني.
قال محمد بن علي: والذي نقول به - ونسأل الله التوفيق - قول
ابن
عباس، لأن أول الآية مبتدأ بالخبر لا بالنهي، ولو كان نَهيَا
كانت
(الحاء) في (يَنكِحُ) موضعين مجزومة لا مرفوعة فكأنه - والله
أعلم
- أخبر أن الزاني لا يجامع في زناه إلا زانية مثله ترى الزنا
محرمًا كما
يراه، أو مشركة بربه والزانية لا يصلها إلا زان يرى الزنا
محرمًا كما
تراه أو مشركا وله محللاً، والمؤمنون محرم عليهم فعله محرمين
له
ومحللين.
(2/391)
وأصل النكاح في كلام العرِب: الوطء، ثم
يسمى عقد التزويج
به، لأن الأغلب في عقده أنه لمِ يُسمى به، ألا ترى أن رسول
الله
- صلى الله عليه وسلم - لما نهى الرجال والنساء أن يتحدثوا بما
يكون
من بعضهم إلى بعض في المضاجعة قال: " ألا أخبركم مثل ذلكم مثله
كمثل شيطان لقي شيطانة في الطريق فنكحها والناس ينظرون ".
(2/392)
وهذا أشهر في كلام العرب من أن يحتاج إلى
إقامة البرهان عليه..
قال محمد بن علي: أرى الناس قد ألفوا من القاذف والشاهد وإكمال
عدد الأربعة بهما وكدرء الحد عنهم إذا تكاملوا من جنسين عدولا
كانوا أو غير عدول. وهو عندي خلاف الكتاب والسنة، والنظر
والقياس معا.
(2/393)
فأما الكتاب فقوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ
شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) ، فنص
الكتاب على جلد القاذفين وتسميتهم فساقا، واطراح شهادتهم دون
إقامة أربعة شهداء على تصديق قولهم يبرئونهم من الجلد والفسق،
واطراح الشهادة.
فيقال لمن ألزم الواحد والاثنين والثلاثة اسم القذفة فإذا جاء
رابع يقذف
معهم أزال عن الثلاثة الاسم بمشاركة هذا الواحد لهم فيما كانوا
بسبيله من
لزوم القذف لهم، ووجوب الحد عليهم -: لمَ أزلت حد الله الذي
نصَّ
عليه في كتابه، وأزلت اسم الفسق عنهم، ولم يزله الله عنهم إلا
بالتوبة، وعادوا عندك عدولا، ولا تقبل شهادتهم في جميع ما
شهدوا
عليه والله يقول: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا)
، لأن الواحد قال
خلاف قول أصحابه، أو هو شاهد وهم قذفة، أم عادوا كلهم
شهودا بعد أن كانوا قذفة.
وكل ما قال من هذه المعاني كابر في القول لا يشكل على السامع
عالما
كان أو جاهلا.
(2/394)
فهبنا سمحنا له بتسمية الرابع شاهدا -
ومعاذ الله أن
نسمح - أليس الله - جل جلاله - اشترط أربعة شهداء، وهم أقاموا
شاهدا واحدا، أتكون نفس واحدة أربعة أنفس، أم يكون حكمه
حكم أربعة، وكان عدده واحدا فلم اشترط الله إذاً أربعة شهداء.
ويقال له: أرأيت القاذف الواحد أيبرأ من قذفه بثلاثة شهداء حتى
يكون هو رابعهم، أم يحتاج إلى إقامة أربع.
فإن قال: يكفيه ثلاثة، خالف النص، لأن أقل ما يقع عليه اسم
القاذف في قوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) واحد،
فهلا كان: ثم لم
يأتوا بثلاثة شهداء، وهو مع خلاف نص القرآن، مكاشف جماعة
المسلمين بالرد.
فإنا لا نعلم أحدا قال: إن الواحد إذا قذف مسلما يكفيه إقامة
ثلاثة
شهداء حتى إنهم قالوا في أربعة شهدوا على امرأة بالزنا أحدهم
زوجها:
يُلاعِن الزوج ويجُلَد الثلاثة.
(2/395)
وإذا كان هذا صورة الواحد، لأنه قاذف،
فهكذا صورة الاثنين
والثلاثة لأنهم قذفة، لا نعلم كتابا ولا سنة، ولا إجماعا ولا
معقولا
فرق بينهم، وما هو إلا توهم توهموه على عمر - رضي الله عنه -
حين جلد الثلاثة لما خالفهم الرابع في حكاية رؤية الزنا.
وعمر - رضي الله عنه - أعلم بكتاب الله من أن يذهب عليه هذا مع
وضوحه، وبيانه وقلة تشابهه، ولكنهم يغلطون عليه، إذ ليس يخلو
المجلودون بقضيته من أن يكون هناك قاذف للمقذوف ادعاء شهادتهم.
أم هم قذفة لا غير.
فإذا كان هناك قاذف فلم يعده عمرُ رابعا مع القوم فيزيل الحد
عنهم.
وإن كانوا هم القذفة فإنما جلدهم، لأنهم لم يأتوا بأربعة شهداء
كما
قال الله تعالى، والرابع لم يكن قاذفا فيجلده، لأنه قد يتحول
فوق
المرأة فيتنفس من ليس بمفض فرجه إلى فرجها ولا فِخاذها، ولا
يكون
عليه حد ولا تعزير أكثر من المأثم فيما بينه وبين ربه، أو
يعزره إمام
إن رأى ذلك كما عزَّر عمر - رضي الله عنه - الرجل والمرأة
اللذين
وجدا في لحاف واحد.
(2/396)
فأي شيء أعظم من خلاف القرآن نصا لخطأ
متوهم على عمر - رضي الله
عنه - ما لم يفعله، وهو أَجَل من أن يدع نص كتاب الله في حكم
قد بينه
أوضح بيان، ولما لم يحك في خبره أن قاذفا ادعى شهادة أبي بكرة
وصاحبيه
علمنا أن عمر - رضي الله عنه - جلدهم لأنهم قذفة عنده لا شهود.
إذ لا نعلم على شاهد حدا في شيء من الشهادات.
وقد كان عدد من قذف عائشة - رضي الله عنها - خمسة رجال
وامرأة، فجعلهم الله قذفة ولم يجعلهم شهودا فقال:
(2/397)
(إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ
عُصْبَةٌ مِنْكُمْ)
فجمع ثم قال: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ
عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) .
وعائشة وإن كانت مباينة لسائر المرميات، ومبرأة بوحي رب
السموات
فهن أحق بها فيما قال: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ) ، إذ لو
لم يرد - جل وتعالى - أن يكون ذلك حكمًا في كل مرمية سواها إلى
(2/398)
يوم القيامة لكان - وهو أعلم في تكذيب من
رماها - بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ
مِنْكُمْ)
إلى قوله: (وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
وجاءوا معه فيما قال: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ) .
أراد وهو أعلم أن يكون لمن بعدها، وكان لها فيما تقدم وتأخر
كفاية تبرأ به.
فإن قيل: فما الفرق بين القاذف والشاهد في هذا الباب.
قيل: القاذف من يقول لامرأة: يا زانية، فترافعه إلى الحاكم، أو
يقول لرجل: يا زان، فيطالبه عند الحاكم، بتصحيح ما رماه فيسأله
الحاكم أربعة شهداء ليحمي به ظهره من جلد القذف، فإذا جاء بهم
مجتمعين سمع شهادتهم، وأزال الحد عن القاذف، وأقام على المقذوف
وحده من جلد مائة في البكر، والرجم في الثيب.
(2/399)
وإن جاء بأقل من أربعة لم يسمع منهم، إذ
ليس في شهادتهم ما يزيل
الحد عن القاذف، ولا يوجب الحد على المقذوف.
ولمن علِم صدق قذفه ولم يكن معه ثلاثة يعلمون مثل علمه أن
يمتنع
من إقامة الشهادة على المقذوف، إذ ليس في امتناعه إبطال حق،
ولازوال
(2/400)
ملك، ولا وجوب حد يحرج بالقعود عنه.
فالعالمِ لا يضمها إلا مع ثلاثة يكون رابعهم، والحاكم لا يسمع
ممن
نقص عن العدد، فإن جاء بهم مجتمعين سمع منهم، فإذا بينوا
الشهادة
على رؤية الزنا كالمرود في المكحلة أزال عنه الحد، وحد صاحبه.
وإن لم يأتِ بهم مجتمعين جلده للمقذوف.
فإن سأل التأجيل أجله بإذن المرمي ما يوقت له، فإن جاء بهم
وإلا
جلده. ومما يزيده تأكيدًا قوله في الأزواج: (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ
إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) ، فدل على أن الأجنبيين يبرأون من الجلد
بشهود ليست أنفسهم فيهم، كما يبرأ الزوج من اللعان بشهود أربعة
ليست نفسه فيهم، فهذا ما عليه من خِلاف الكتاب.
وأما السنة فإن سعد قال يا رسول الله: أرأيت لو رأيت إن وجدت
(2/401)
مع امراتي رجلاً، أمهله حتى آتي بأربعة
شهداء، فقال رسول الله - صلى
القَه عليه وسلم -: " نعم " ولم يقل له: يكفيك أن تأتي بثلاثة
تكون رابعهم.
فدل على أن دعواه على الرجل قذف له لا يبرأ منه إلا بأربعة
شهداء.
فإن قتله برئ من دمه بأربعة شهداء، وإن تركه حتى يتولاه
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرجم بشهادة الأربعة برئ
هو من
حد القذف.
وأما الإجماع: فقد اتفق الجميع على أن المدعي لا يكون شاهدًا
لنفسه
ولا يستحق بقوله حقا، ولا يدفع عنه واجبًا.
وأرى من يجعل الشاهد والقاذف واحدا، ويزيل الحد عنهم إذا أتموا
أربعة - وهم قذفة - يوجب بهم رجم المقذوف، ويزيل بهم عن أنفسهم
(2/402)
حد القذف فقد أبطل بهم شيئا، وأوجب غيره
بقول أنفسهم بلا شاهد
مدعى ولا يمين منكر وفي ذلك هدم الإسلام، ورد قول رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -: " - البينة على المدعي، واليمين على
المدعى
عليه ".
(2/403)
فإن زعم أنه يزيل عنهم حد القذف إذا أتموا
أربعة، ولا يوجب على
المقذوف حد الزنا زاد في الإحالة.
فيقال له: لم أزلت عنهم حد القذف.
لأنهم في الظاهر عندك صادقون أم كاذبون.
فإن قال: أزلت عنهم لأنهم في الظاهر صادقون.
قيل: فهم صادقون في الشهادة أَوْ في القذف.
فإن قال: في الشهادة.
قيل: كيف لا تحد زانيَا يشهد عليه أربعة والله - جل وتعالى -
يقول: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) .
ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أمر برجم المحصنين.
وإن قال: هم صادقون في القذف.
قيل: كيف يكونون صادقين ولم يقيموا على قولهم شهداء، والله
يقول: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) ، وقال:
(2/405)
(لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ
عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
أفليس الله العلي قد كذب الرامي إذا لم يأت بأربعة
شهداء، فكيف يكون صادقا من كذبه الله.
فإن قال: قد أقاموا أنفسهم.
قيل له: فأجز إذاً في كل حق أن يقيموا أنفسهم إذا لم يكن
غيرهم.
فإن قال: لا يجوز في القذف أنفسهم، لأن الله شرط إقامة
غيرهم.
قيل: وكذلك لا يجوز في القذف أنفسهم، لأن الله شرط غيرهم في
الأجنبيين والزوج معا.
وأما النظر والقيا: فإن صاحب هذه المقالة لا يجيز إجازة غير
العدول في شيء من الحقوق، فما باله يدرأ حد القذف إذا تكامل
عدد
القذفة أربعة عنهم.
وحد القذف عنده حق من حقوق المقذوف، فهو يبطل حقا لغيره
(2/406)
قد أوجب الله بنص القرآن، لأن تكامل عدد
قذفته أربعة، والله - جل
وتعالى - لم يزله عنه إلا بالشهود.
فهب أنا نقيم أنفسهم له مقام الشهود، أنقيم عددهم مقام
العدالة.
إن هذا لأخبر بالقبح عن نفسه من أن يحتاج إلى إقامة شاهد عليه.
وماله لا يقبل مائة شاهد لا يعرف عدالتهم وقد رضي الله
بشاهدين في سائر الحقوق، وشرط العدد فيهما كشرط العدد في
الزنا، لأنهما مع العدد محتاجون إلى شرط العدالة، فلم لا كان
العدد
في شهود الزنا ليس محتاجا إلى شرط العدالة.
وقد استدل قائل هذا القول بما شرط الله من العدالة في موضع على
أن ما أطلق منه في معنى ما شرط فيه، وأحسبه لا يزيل حد القذف
عن
واحد لو أقام أربعة غير عدول، فجعل عددهم لغوا لا يزيل بهم عن
(2/407)
غيرهم حدهم ويجيزهم لأنفسهم في زوال الحد
عنهم في جهتين.
إحداهما: عدم عدالتهم.
والأخرى: إنزالهم - في القذف موضع الشهود، وهم قذفة بنص
القرآن.
ولو تقصينا الحجج في هذا المعنى لطال الكتاب به، وفيما ذكرنا
كفاية
لمن فهمه، وبصره رشده، ووفق رأيه.
فإن قال قائل: فما الدليل على أن حَد القذف حق من حقوق
المقذوف، ولم يبين الله ذلك في الآية.
قيل: قد بينه على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث
يقول: " مَن قذف مملوكه وهو بريء مما ت\قال، جُلِد له الحد يوم
القيامة ".
(2/408)
فأضاف الحد إليه، وجعله حقا له.
فإن قال: أفيجوز للإمام أن لايجلده إذا عفا المقذوف عنه بعد
علمه به
أم هو مثل المحارب يجب عليه القتل بقتل غيره، فيعفو وليه من
الدم.
فلا يكون للإمام تركه لعفو الولي عنه.
قيل: بل عليه أن يجلده عفا المقذوف عنه أو طالب به، من أجل
أنه وإن كان حقا من حقوقه، ووجب بسببه فقدِ انتهك محرما لله
بين فيه
عقوبة، ولم يجعل السلطان مفردا فيها له كما جعله لولي المقتول
بقتله غير
(2/409)
المحارب حيث يقول: (وَمَنْ قُتِلَ
مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) .
وإذا كان الله - تبارك وتعالى - قد أوجب في انتهاك هذا المحرم
عقوبة.
ولم يشترط فيها عفو من جعلها بسببه لم يجز تعطيلها.
ولو أراد المقذوف العفو عن قاذفه من غير أن يجلد ظهره لعفا عنه
قبل
أن يأتي به الإمام، كما له أن يعفو عن سارق ماله ولايأتي به
الإمام ليسلم
من القطع كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصفوان في
سارقه: " فهلا قبل أن تأتيني به "، وقال رسول الله - صلى اللًه
عليه وسلم - جملة: " ليس للإمام أن يدع حدا يبلغه إلا أقامه ".
(2/410)
والقطع وإن كان من حقوق الله فهو بسبب مال
الآدمي الذي ظُلم
بسرقته، فلو رده السارق قبل القطع لسقطه ظلامة المسروق عنه.
وطابت نفسه، فلم يسقط عن السارق ما وجب عليه من حد تعديه في
انتهاك محرم الله طيب نفس من رجع إليه ماله بعد أن
أوذي بأخذه.
فكذلك القاذف لا يسقط عنه الحد طيب نفس المقذوف بالعفو الذي لم
يسقط عن قاذفه عدوان قوله، وإثم جنايته، وَلا عَنِ المقذوف
عارُ ما قيل
فيه
والسارق وقد سقط عنه إثم المال برده وبرئ من ظلامة صاحبه، فهو
(2/411)
أجدر بإسقاط الحد عنه لو أسقط من القاذف
الذي هو مصر على قوله.
غير نادم عليه كندم السارق على فعله برد ما أخذه.
ومن جعل للمقذوف تعطيل حد الله وإن كان وجب بسببه، أو من
جعل له أن يبطل أحدهما من السارق والقاذف بعفوه، ولم يجعل له
إبطال
الآخر، ألا ترى أن الله - تبارك وتعالى - حين أراد أن يجعل
السلطان في
عقوبة انتهاك محرم في الدنيا لغيره - جل جلاله - حرم القتل
بقوله: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ
إِلَّا بِالْحَقِّ)
لم يأمر به بعقوبة في الدنيا.
ثم بين عقوبته في الآخرة: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا
مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا
(93) ، ثم جعل سلطان عقوبته في الدنيا لوليه في قوله: (وَمَنْ
قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا
فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) . فصار الحكم في انتهاك
محارمه على ثلاثة وجوه:
منها: ما جعل العقوبة في الدنيا عليها بيد غيره مثل هذا.
ومنها: ما جعلها لنفسه، وأمر بإقامتها ولاة الأمر مثل القذف
وحد
الزنا، والسرقة والمحاربة، وشارب الخمر على لسان نبيه، صلى
الله عليه
وسلم..
ومنها: ما أبهمها ولم يبين فيها شيئا مثل عقوبة المقامر
بالميسر، وآكل
لحم الخنزير، والكذاب، وأشباه ذلك فهي مآثم على ما فاعلها
يلقاه
(2/412)
بها.
وقد أجمعوا جميعا لا تنازع بينهم على أن جائيَا صحيح العقل، لا
جِنة
به لو جاء إلى الإمام فقال: قد قذفت محصنة بالزنا، ولا شهود لي
فأقم
علي حد القذف - لم يكن له تركه، وأوجب عليه إقامته.
وقد يمكن أن يكون المقذوف يعفو عنه، فلو كان الحد يسقط
بالعفو لوجب أن يقول له: أحضِر المقذوف لعله يعفو عنك.
وفي إطباق المسلمين على إزالة القطع عن المسروق فضةً أو ذهباً
على
سقفِ مسجد يغلق بابه في غير حين الصلاة، أو حائطه، أو سرق
بَواريه بالغَا ما بلغ،
(2/413)
إذ لا مالك له من البشر -: دليل على أن حد
السارق وإن كان لله
فبسبب مال الآدمي آذاه بأخذه، فإذا برأه الآدمي، أو تصدق به
عليه بعد
رفعه إلى الإمام لم يزل عنه، ووجب على الإمام إقامته بالقذف
أسوة هذا لا
يخالفه إن عفا المقذوف عنه قبل رفعه إلى الإمام، فإذا رفعه إلى
الإمام أقامه عليه به ولم يلتفت إلى عفوه، وإذا كان الحائل
(2/414)
بين حدود الله جملة في كلها مضادا لله في
ملكه، فالعافي عن حد وإن
وجب بسببه ممنوع عنه، ومحول دونه، وعلى الإمام أن يمضيه لله،
ولا
يحفل بعفوه.
فإن قيل: فَمَالَك جعلته في صدر الكلام حقا من حقوق من أسقطت
عفوه في هذا الموضع، وجعلت إنظار المقذوف لإتيان شهوده على
القذف
بإذن المقذوف.
قيل: الإمام لا يعلم الغيب، والمقذوف خصم قاذفه يطالب بحده.
فإذا بلغ الإمام بخصومته فعرفه، أو اعترف له القاذف وجب عليه
إقامته، ولم يكن له تعطيل، ولصاحب الحق أن يعفو قبل أن يأتب
الإمام به.
* * *
وقوله: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا
وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (5)
دليل على أن شهادة القاذف بعد التوبة مقبولة، وذنبه مغفور
فيقال لمن
يمتنع من قبول شهادته بعد التوبة: لم جعلت الاستثناء واقعا على
بعض
الكلام دون بعض، وخرجت عن لغة العرب وعرفها، وعادتها في
(2/415)
كلامها، وتحكمت على لسانها - فنحن نسامحك
فيما لا تعرفه، ونسألك
من حيث تعرفه - أخبرنا عن القاذف أيفسق بالقذف أو بالضرب.
فإن قال: بالضرب.
قال: محال.
وإن قال: بالقذف.
قيل: فلم تجيز شهادة فاسق بنص القرآن، ونص شهادتك عليه.
وشرط الفاسق أن لاتقبل شهادته ما دام فاسقا، وترد شهادة
مضروب، والضرب لا محالة لم يفسقه، وأزلت اسم الفسق عنه
بالتوبة، وامتنعت من قبول شهادته، وأجزت شهادة فاسق غير
مضروب، ورددت شهادة عدل مغفور له ذنبه من أجل أنه مضروب
على خطيئته، فأسقط إذاً شهادة البِكر الزاني إذا تاب بعد ضربه،
(2/416)
لأنه أعظم جُرمًا من القاذف. والقذف شطية
منه في باب المآثم.
وأسقط شهادة شارب الخمر بعدما يحد إذا تاب، وشهادة السارق إذا
تاب بعد قطعه، ولا تجعل جهلك بلغة العرب وإيقاعك الاستثناء على
بعض الكلام دون بعض محيلاً احكام الله عن جهتها.
فإن قيل: أفليس قد روي عن عائشة - رضي الله عنها - وعبد الله
بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " رد شهادة المجلود
حدا "، والمحدود في الإسلام، كلا اللفظين.
(2/417)
قيل: إسناد الحديثين في نهاية من الضعف،
ولو صَحا أيضا لما كان فيهما
شيء يمنع من ذلك لجهتين، إحداهما: أنه لم يقولا: رد شهادة
المجلود
التائب، وكذلك نقول: لا تجوز شهادة المجلود في القذف عمره
(2/420)
إن لم يتب، فإذا تاب عليه.
جازت شهادته بنص القرآن في وقوع الاستثناء، والجهة الأخرى: أن
الحديثين ليس فيهما رد شهادة المجلود في القذف خاصة ولا
المحدود في الإسلام في القذف خاصة.
أفترد شهادة كل محدود على ظاهر الحديث، أم تتحكم فيه كما تحكمت
في استثناء القرآن.
قال محمد بن علي: وفي قوله: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ
شَهَادَةً أَبَدًا)
بعد لزوم اسم الفسق له بالقذف لا بالضرب من حيث لا التباس فيه
أكبر
الدليل على أن شهادته في نفس ما يفسق به مردودة بنص القرآن،
فلا
يكون أحد الشهود وَلا مَن كثر عددهم معه يقبلون، ولا يكونون
إلا
قذفة أبدا.
(2/421)
ذكر من اغتاب أخاه:
وفي قوله (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
دليل واضح على أن من اغتاب مسلما، وأوصل إليه أذى القول في
شَتم نفس، أو آباء فتوبته منه تحط ذنبه، وتغفر خطيئته وإن لم
يحلله
صاحبه. ألا ترى أن القاذف قد عمَّ المقذوف، وآذاه بقذفه ثم
أوجب
الله له المغفرة والرحمة بتوبته منه، ولم يشترط عليه تحليل
المقذوف عنه.
فالقصاص والمظالم ما كان في مال أو نفس أو جرح دون الكلام.
والله أعلم.
فإن قيل: أفليس قد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال
لعائشة حين قالت: ما أطول ذيل امرأة مرت بها، وما أقصر أخرى.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اغتبتهما، قومي
فتحلليهما"،
(2/422)
قيل: هي أخبار واهية الأسانيد، وليس لها من
القوة ما يُنسخ بها
القرآن، أو يخُص بها.
فيحتاج لمن وصل إلى استحلال من آذاه بكلامه، أو قفاه بغيبة أن
يستحله، فإن لم يصل إليه أو وصل فلم يفعل فحكم الآية ما أخبرتك
به.
اللعان:
* * *
وقوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ
لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ)
إلى قوله: (وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا
إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)
(2/423)
دليل على أن كل زوج رَمَى زوجته حرَّة كانت
أو أَمَة، مُسلمة أو ذِمية
فاللعان بينهما واجب لا يزيله افتراق أحوال الأزواج، وأنه باسم
الزوجية
لا بغيرها.
وليس في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده في منع
اللعان بين أربعة ما يدفع به عموم الآية في اللعان، ونحن وإن
(2/424)
خصصنا بالسنة عموم القرآن فبالصحيحة، وهذه
واهية الإسناد لعمرو بن
شعيب ومن دونه.
(2/425)
والعجب لمن اعتل لإبطال اللعان بين الأَمة
والحرة بأن الأَمة لا رجمَ
عليها، والله يقول: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ
تَشْهَدَ أَرْبَعَ) أفتستحيل.
ليت شعري أن تدرأ عن نفسها بشهادتها عذابها من جلد خمسين.
ولئن كان كل زوجة لاَ رجم عليها تبطل اللعان بينها وبين راميها
من
الأزواج، أن رامي الحرة البِكر قبل دخوله بها لأسعد الناس
بإبطال اللعان
بينه وبينها، فأرى هذا القول من قائله قد أدى إلى إبطال اللعان
بين الحرين البكرين إذ لا رجم على واحد منهما.
(2/426)
وليس بين ألأُمة خلاف في أن مَن قذف بِكرَا
بعد عقد النكاح، وقبل
دخوله بها أنه يلاعنها، فإن امتنعت من اللعان جُلِدت مائة
جلدة، وإن
كذب نفسه جلد مثلها.
فما بَال الأَمَة لا تلاعِن زوجها إذا رماها، فإن امتنعت من
اللعان
جلدت خمسين. هو الذي أوجد عذابها، ولا يبطل عنها وعن غيرها
بهذه العلة حكم الله في اللعان بينهما.
وكان بعض أهل النظر يحتج في إبطال الملاعنة بين المسلم
واليهودية
والنصرانية بأن الله - جل وعلا - لم يجعل نحرج الأجنبي من
القذف
إلا بشهادة الشهود، وجعل مخرج الزوج إذا لم يكن له هؤلاء
الشهود
اللعان. فإذا لم يكن على قاذف غير المسلمة حد فمن أي شيء يجعل
نحرجه، ولم يجب عليه بقذفه حد حتى جعل له منه مخرج باللعان.
ولعمري إن هذا حجة من أبطل الحد عن قاذف الأجنبي بيهودية أو
نصرانية، ثم أوجب اللعان بينهما وبين الزوج.
فأما نحن فلا يلزمنا، لأنا نزعم أن القاذف اليهودية والنصرانية
إذا لم
(2/427)
يأتِ باربعة شهداء محدود كما يحد للمسلمة
إذا قذفها، اتباعا لكتاب الله -
عز وجل - حين سوى في اسم الإحصان بينهما حيث أباح تزويجهما في
قوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، ثم قال
في آية القذف: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) .
فمن أخرج الذميات من المحصنات في القذف وأدخلهن في التزويج
فعليه أن يأتي بالبرهان، ولن يجد إلى ذلك سبيلا، إذ كل ما يدل
عليه
دال من إنزال درجة الكافر عن درجة المسلم في هذا الباب قياس -
والقياس لو كان حقا أيضا في نفسه لم يجز عند أهله ترك النص به
-
فكيف وقد دللنا على فساده في هذا الكتاب، وفي شرح النصوص بما
يغني عن إعادته.
(2/428)
وهب أن الحد لا يجب على الأجنبي إذا قذف
ذمية أَوَ يُعطل حكم الله
عليها إذا قذفها ولا شهود له غير. نفسه يوجب عليها بهِم حد ما
رميت به
من الزنا، والله - جل وتعالى - لم يلغِ قول الرجل لامرأته في
القذف
لغوا بكل حال بل جعل مخرجها منه شهادات اللعان، ودعوة الغضب في
الخامسة، وهذا شيء لا يفعل إلا بعد أن يفرغ الزوج من شهادته
ودعوته
باللعنة، ففي كم موضع يشاء ترك نص القرآن في إبطال حد القذف عن
قاذف الذمية، وقد سماها الله محصنة، أم في إزالة حكم اللعان
بينها
وبين زوجها واسم الزوجية شامل لها، والله يقول: وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) ، أم في إبطال حد الزنا عنها وقد
رُمِيت به بغير مخرجِ لها
منه. وهل يخلو زوجها من أن يكون صادقا فيما قذفها
به، فيلزمها الحَد أو كاذبا فيلزمه حد القذف. فلما رأينا الله
- جل
وتعالى - لم يجعل قول القاذف لغوًا في أجنبية ولا زوجة بل أوجب
به
حدَّا عليه، أو على من قذفه به إلا أن يخرج هو منه بالشهداء.
والزوج بهم إن كانوا، أو باللعان إن لم يكونوا، والمقذوف من
الزوجات باللعان، ومن الأجنبيات بعدم شهود القاذف. علمنا أن
قول القاذف غير لغو وقع من مسلم أو كافر فيزعم أنه غير آثم.
أَوَ مباح له التفكه به.
أوليس فى إزالة اللعان بين الذميات وأزواجهن المسلمين تجرئة
لهن على
(2/429)
الفاحشة إذ كان قول الرجل لا يوجب عليهن
حدا يخرجن منه باللعان.
وتجرئة للزوج على أذاهن بالقذف إذا كان بقوله لا يجب عليه وَلا
على غيره
حكم. وهذا عظيم لمن تدبره، وأعطى النصفة من نفسه.
ذكر الإيجاز والاختصار.
* * *
وقوله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
حجة لمن يحذف من لفظ الكلام ما لا يتم على الحقيقة إلا به
التماس
الإيجاز والاختصار كقول الشاعر:
فإن المنية من يخشها
فسوف تصادفه أينما
(2/430)
لأنه - جل وتعالى - ابتدأ (بلولا) ولم يصله
بشيء يكون تمامه ظاهرًا
في اللفظ، فكأنه - وهو أعلم - ولولا فضل الله عليكم ورحمته،
وأن
الله تواب حكيم، لما بين لكم هذه الأحكام التي قبل هذا الكلام،
ولكن
من فضله عليكم بين لكم وأنصف المرمي من الرامي، وطهر الزاني
والزانية بالجلد. أو شيء هذا معناه، تبارك اسمه.
ومثله قوله في خاتمة العشر الثاني: ((وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
.
لأن (لولا) كلام يقتضي صلة كقوله - جل
وعلا -: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ
فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) ، وقال: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ
اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
(68) ، (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ
لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) ، فهو لا محالة على
الاختصار، ولولا فضل الله عليكم
(2/431)
ورحمته وأن الله رؤوف رحيم لعاقبكم على ما
جئتم به من الإفك كذا
وكذا. ألا تراه يقول: (وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
هذا وجه الجملة، وقد يحتمل أن يكون (مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ
أَحَدٍ أَبَدًا) لكل ما بعده كأنه: ولولا فضل الله عليكم الأول
والثاني والثالث ما زكى منكم من أحد أبدا. والله أعلم.
ذكر قول الزور.
* * *
وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ
مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ)
حجة فى أشياء:
فمنها: غلبة المذكر على المؤنث في الذين، لأنه كان فيمن جاء
بالإفك امرأة والمرأة يقال لها: التي، وجمعها اللاتي،
واللواتي.
ومنها: الرجوع من الخبر إلى المخاطبة في قوله: (لَا
تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) أي لا تحسبوا الإفك، والقول به شر
لكم (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)
(2/432)
ومنها: تفضيل الشيء على الشيء بلفظ الخير
والشر باطراح الهمزة -
والهمزة فيها لحن ليس من كلام العرب.
ومنها: أن قول الزور في المقول خير مدخر له يثاب عليه في
الآخرة، وشر على قائله معدود عليه في عداد ذنوبه.
ومنها: أن من لحقه غَم بالمتقول عليه من الزور شريكه في
الأجر، لأن المرمية بالإفك أم المؤمنين - رضي الله عنها -
وحدها.
فجمع الله معها من لحقه أذى القول معها ورسول الله - صلى الله
عليه
وسلم - وأبويها، وكل من لحقه غم بسببها فقال: (لَا تَحْسَبُوهُ
شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) على لفظ الجميع.
(2/433)
ذكر من سَنَّ شرًا.
* * *
وقوله تعالى: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ
الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ
عَظِيمٌ (11)
دليل على أن من سَن شرا أعظم إثمًا ممن واطأه عليه، لأن
المتولي
للكبر كان السابق إلى الإفك، وسائرهم صدق قوله، فاستوجب
ضعف العذاب وهذا يؤيد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-: " ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من
دمه، لأنه أول من سن القتل ".
(2/434)
وذكر تسمية جنس الآدميين بالأنفس.
* * *
وقوله: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا
إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
حجة في تسمية جنس الآدميين بالأنفس، ومؤيد تفسير من فسر:
(وَلَا نَقتُلُوَا أَنفُسَكم) أي لا يقتل بعضكم بعضا، ومن فسر:
(فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ)
أي سلموا بعضكم على
بعض، لأن الأنفس التي أمرت أن تظنوا بها خيرا أم المؤمنين -
(2/435)
رضي الله عنها - فسماها الله - جل وتعالى -
نفسهم كما ترى، وهو
يؤيد أيضا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " المسلمون
كنفس واحدة ".
وفيه دليل على أن التصديق بالذايع من الخبر المنكر، والنحلة
الفاحشة
إلى المخبر عنه محرم، وموجب على سامعه إعداده في وجوه الكذب
والزور، بل لازم له أن يلفظ بتكذيبه، ولا يقتصر على إضمار
القلب
ونبوه عنه.
وأرى نساك زماننا قد أهملوا هذا من أنفسهم كل الإهمال بل تأسوا
فيه
(2/436)
بأطباع الجهال، وركبوا فيه أمحل المحال حتى
صاروا يهجرون عليه فضلا
عن التصديق به الذي حرم الله بنص القرآن كما ترى. وقد لخصناه
في سورة بني إسرائيل.
* * *
وقوله: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ
بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ
وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
شديدة لو تأملوها، وقد أكده الله مرة بعد أخرى كما ترى فقال:
(وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا
أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ
(16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ
الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ
يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا
لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
حجة في أشياء، فمن قال فيها - رضوان الله عليها - هذا، أو
صدق به خرج من الإسلام.
(2/437)
(وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ
وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ
وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ
لَكُمْ)
حجة فى أشياء:
فمنها: أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - بعدما أنفق ماله
على
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أغناه الله وجعله من أهل
السعة
والفضل.
ومنها: أن اسم القربى شامل لكل من مَت إلى الإنسان بِرَحِم
قربت أو بعدت، إذا الرحم قربة يقترب بها ذو النسب، وقد عري
منها
الأجنبي فلا يمت بها أبدا وكذا النسب وإن بعد نسبه قربة من
الإنسان لا
يقترب بها سائر جنسه من الناس وسواء كان ذلك من قبل الأب أو
الأم لا
أنه أسباط الإنسان وبنو عمه الأدنون كما تزعم الرافضة من أن
(2/438)
قول الله - تبارك وتعالى -: (قُلْ لَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى) أنه علي والحسن والحسين وفاطمة - رضي الله عنهم -
دون
سائر قرابات النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا ترى أن مِسطح بن
أثاثة المخصوص عليه أبو بكر رضي الله عنه، على الإنفاق عليه
المسمى بأولي القربى إنما هو ابن بنت خالة أبي بكر الصديق -
رضي
الله عنه - وقد سماه الله من أولي قرباه. فكيف تخص ابنة رسول
الله، وسبطاه، وابن عمه دودن سائر أداربه المسلمين بالمودة في
الآية.
وابن بنت خالة الإنسان قريبه كما ترى.
(2/439)
ومنها: أن الذنب الواحد - وإن عظم - إذا
احتقبه المرء لا تحط
عنه سائر حسناته، ولا يحط من درجاته فيها، لأن الله - جل
وتعالى -
قد سمى مسطحَا مهاجرا في سبيله بشهوده غزوة بدر، وقد احتقب
(2/440)
عائشة - رضي الله عنها - ما احتقب، وشارك
أهل الإفك فيما شارك من
عظيم الذنب. وفي هذا رد على جهلة الصوفية فيما يزعمون أن
الكبائر
تمحو الحسناتِ وتحط درجة أصحابها فيها.
ورد على من يزعم أن الذنوب كفر.
وكيف تكون كفرا، وقد سقى الله مِسطحَا - مع عظيم ذنبه -
مهاجرا.
ومنها: أن مواصلة من قطع، والإحسان إلى من أساء مرضي
الأخلاق، ومندوب إليه المرء.
ومنها: أن اليمين إذا وقعت على مَا لا قربة فيه إلى الله
فالطاعة
تركها، وترك الماضي عليها وإن لم يكن الترك مفروضا إذا كان
غيره
أقرب منه، لأن سياق الآية يدل على أن الله - جل وتعالى - ندب
أبا
بكر إلى العود إلى مسطح بفضله، وترك معاقبته على ما كان
منه إلى ابنته ندبا، ولم يفرض عليه فرضا. لولا ذلك ما دله -
وهو
أعلم - على العفو والصفح، وَلا وَعده عليه الغفران، إذا العفو
والصفح بَابَا فضلٍ لا يجُبر أحد عليه.
(2/441)
وليس في الآية أنه أمره بكفارة ألبتة،
فيحتمل أن يكون إتيانه الذي
هو خير من النفقة على قريبه كفارتها.
ويحتمل أن يكون مع ذلك كفارة وهو أحوط وبه نقول.
قال محمد بن علي: لا خلاف بين الأمة أن هذه الآيات كلها من
قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)
نزلت في أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - فمن ذكرها
بالفاحشة
(2/442)
بعد نزول هذه الآيات، وهوعالم بنزولها فهو
كافر يستتاب، لأنه راد على
الله قوله في براءتها ومكذب بما أنزله من وحيه فيها، فإن تاب
وإلا
قُتل.
ومَن جهل نزول الآيات تليت عليه، وعرف بما فيها فإن آمن بها
وقبلها جُلد حد المفتري وترك، فإن عاد بعدما عرف مرة أخرى
استتيب كالأول.
ذكر المرأة إذا ملكت زوجها.
وقوله تعالى في النساء المؤمنات: (وَلَا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ
آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ
بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ
أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ)
دليل على أن المرأة إذا ملكت زوجها حرمت عليه، وانفسخ نكاحها،
(2/443)
لأن الله - جل وتعالى - جعل مُلك يمين
المرأة في عداد محارمها،
والمحرم لا يصلح أن يكون زوجًا بحال.
(وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ
مِنْ زِينَتِهِنَّ)
دليل على أن المرأة منهية عن إبراز كل ما دعا إلى شهوتها، وإن
كانت
مباحًا لبسه لها.
ذكر التزو".:
* * *
وقوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ)
لحجة واضحة في أن ليس للبِكر ولا للثيب أن تتزوج بغير أمرِ
وليها.
إذ لو كان لها ذلك ما أمر غيرها بإنكاحها.
(2/444)
وهذه أبين مما احتج بها الشافعي - رضي الله
عنه - من قوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ
أَزْوَاجَهُنَّ) ، لأن ظاهر
تلك مخاطبة الأزواج. كأنهم يطلقون واحدة، أو اثنتين حتى إذا
حاضت
المطلقة حيضتين وقاربت الخلو من العدة برؤية الثالثة التي
تحلها للأزواج.
راجعها من غير رغبة فيها يضارها لئلا تتزوج.
(2/445)
ولولا رواية الحسن عن معقل بن يسار أن
الآية نزلت فيه.
حيث عَضَل أخته وأبى تزويجها ممن طلقها - لقلت بظاهرها
(2/446)
تحتمله الآية، ولكني أتهيبه، مع أني أظن في
سَماع الحسن عن
معقل شيء، فإن صحت روايته عنه فتلك أيضا تقوية لهذه التي في
النور، وإلا ففي هذه كفاية لأنها نص.
* * *
وقوله تعالى: (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ
وَإِمَائِكُمْ)
دليل على أن ليس للعبد ولا للأمة أن يتزوجا بغير إذن سيدهما،
(2/447)
غير أن العبد يؤذن له في التزويج فيعقد هو
على نفسه إن كان كبيرا، أو
يقبله عليه سيده إن كان صغيرا كما يقبل الأب على صغار ذكوره
والأمة يعقد هو نكاحها على من أراد تزويجها.
ولو جاز أن تعقد الأيم على نفسها وقد أمر غيرها بالعقد عليها
جاز أن
(2/448)
يعقد العبد والأمة على أنفسهما وإن امتنع
سيدهما.
فإن قيل: الأيم مخالفة لهما لقول رسول الله - صلى الله عليه
وسلم
-: " الأيمُ أحق بنفسها من وليها ".
قيل: هذا ليس بمخالف للقرآن في الأمر بإنكاحهن، إنما أفادنا أن
الولي لا يعقد عليها إلا برضاها كما يعقد السيد على أَمته وإن
كرهت.
ألا ترى أن نفس الحديث حجة في أن الولي هو العاقد عليها غير
أنه
لا يتقوى حتى تأذن، وفي إضافته ولايته عليها إليها، فلو كانت
هي
أملك بنفسها بمعنى أنها تتولى العقد دونه ما كان لتسميته
بالولي وإضافته
إليها معنى وهذا موضوع بتمامه في كتاب النكاح من شرح النصوص.
(2/449)
ذكر ملك العبد.
* * *
وقوله: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ)
قد شمل الأيامى، ومن ذُكر معهن من العباد والإماء، واستوجب
جميعا إنجاز الوعد في الغنى بالنكاح، إذ لو خلا العبيد منهم
وقصد به
الأيامى كان - والله أعلم - إن يكن فقراء يغنهن الله من فضله.
فلما
كان (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ) علمنا أن العبيد داخلون
فيه وهم ذكور فغلبوا.
وفي ذلك دليل واضح أن العبيد والإماء يملكون ولا يكون الملك
مضافا إليهم على المجاز وحقيقته للسادة، إذ لو كان كذلك ما
استغنوا
بالإنكاح، ولكانوا فقراء قبله وبعده، لأن من لا يملك شيئا لا
يقع
عليه اسم غنى، وقد قطع الله الريب بما قال: (يُغْنِهِمُ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) .
ودل على أنه غنى بالمال لا بالنكاح كما قال: (وَلَا
تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى
بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ
نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ
فَضْلِهِ)
(2/450)
ففضله بعد ذكر الاكتساب لا يكون إلا مالاً.
قال محمد بن علي: وفي مُلك العبد أشياء مختلفة ملبسة أمره،
تؤكد
بعضها ملكه، وبعضها تنفيه، فمن ما تؤكد ملكه هذه الآية التي
ذكرناها
في هذا الموضع وهي واضحة، والمكاتب يكاتبه سيده وهو عَبد، فلو
كان
لا يملك ما كان لمكاتبته معنى، لأن سيده كان لا يملك كسبه عليه
قبل
حلول النجم، فكان يحل وليس بيده شيء وقد أمر الله بكتابه،
واتفق
الجميع على أن ما يملكه له يؤديه في نجومه حتى يعتق
بأداء جميعها، فلو كان لا يملك ما عتق بالأداء أبدًا.
(2/451)
والذي هو أيضاً واضح في ملكه أنه لا يخلو
من أن يكون لما كان مالا
في نفسه بملك سيده وقد استحال أن يضاف إليه مُلك بوجه من
الوجوه
كالبهائم التي يملكها الإنسان، وهي مال في أنفسها فلا يكون
مالكه
بحال، أو يكون.
وإن كان مملوك الرقبة - لا يستحيل أن يضاف إليه ملكه يكون فيه
أسوة جنسه من الناس الذين هو مشاركهم في جميع ما هم بسبيله من
العبادات والأحكام الجارية بين المسلمين لهم وعليهم، وإن
اختلفت
كيفيتها في الكثرة والقلة، فلما اتفقوا جميعاً من ثبت له ملكا
ومن لم
يثبت أن ماله مستفاد لا مخلوق معه كعضو من أعضائه يملكه سيده
معه. علمنا أن السيد ملكه دون ماله، ثم نظرنا إلى ما يقع بيده
من
وجوه الاستفادات فإن كان مما سبيله ملك فيما يقع بيديه قبل أن
يأخذه سيده منه فقد سُمي مالكا قبل سيده. فإن أخذه منه عن غير
طيب نفس منه كان غصباً له.
وإن كان ممن لا يثبت له ملك فيما يصير في يده فمحال أن يسمى
مال
العبد ما لم يملكه العبد بعده، والسيد لا يملك مالَ غير عبده،
وأكثر
(2/452)
وجوه استفادته منه ما ينتقل من مالك إليه
مثل الهبة والصدقة، والجعل
على عمل يعمله فلا يخلو من أن يكون من كان له أصل هذه الأموال
وهو مالكها فدفعها إلى العبد بهذه الوجوه انتقل ملكه عنها إلى
من دفعها
إليه، أم ملكه ثابت فيها بعد غير منتقل، فإن كان ملك أرباب هذه
الأموال لم ينتقل عنها بدفعها إلى من لا يملك ملكهم، ويستحيل
أن
يضاف إليه مُلْك، فينبغي للسيد أن يرد ما بيده على من أخذه
منهم.
لأنه ملكهم وهو لا يملك أملاكهم.
وإن كان لما صارت في يد العبد ملكها العبد كملك من كانت له فلا
يجوز للسيد انتزاعها من يده إلا بإذنه، فهو صالحه لأنه.. في
ملكه
إذ ... سيده إلى وإلا كان غاصبًا، عليه ما على الغاصب.
فلما اتفقوا على أن ملك العبد متقدم لما يقع بيده قبل أن يصير
لسيده
ثبت ملكه فيه بإجماع الأمة، فمن زعم أنه قد انتقل ملكه إلى
السيد بِلاَ
وَجه من وجوه الانتقال فعليه أن يأتي بإجماع مثله ولن يجد إليه
سبيلا.
هذا ما في تثبيت ملكه وأما ما يدل عليه على أنه ليس بمالك
فإجماع
الناس جميعًا على أنه إذا مات وله ورثة كان سيده أولى بماله من
ورثته، فلو كان مالكًا لمِالِهِ في حياته لَوَرِثَتْه
وَرَثَتُهُ بعد وفاته، لأن
(2/453)
ما ملكه تركة، والتركة مقسومة في كتاب الله
على الورثة دون
الأجنبيين. فهذا أوكد شيء في إزالة الملك عنه، وفي الكتاب
والسنة أشياء تدل على كلا المعنيين من إثبات مُلكه وإزالته،
فأما ما في الكتاب فقوله - تبارك وتعالى - في سورة النحل:
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ
عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا
فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ) .
فيحتمل أن تكون الآية في عبدين أحدهما فقير، والآخر غني، كما
يكون حران أحدهما غنيا، والآخر فقيرا.
ويحتمل أن يكون حرَّا وعبدا، لأن (مَن) تكون للحر والعبد، وإذا
احتمل الشيء معنيين لم يجزْ أن يحكم لأحدهما دون الآخر إلا
بحجة تحقق
أحدهما
وقوله في سورة الروم: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ
أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ
سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ)
(2/454)
يحتج به من ينفي ملكه، كأنه يذهب إلى أن
المملوك لا يجوز أن يشارك المالك في ملكه كما لم يجز للخلق وهم
عبيد
الله أن يشاركوه في ملكه.
وهو يحتمل ما ذهب إليه، ويحتمل غيره من أنكم لا تملكون معي إلا
ما ملكتم كما لا يملك عبيدكم مما رزقناكم شيئًا إلا ما
ملكتموهم. فيكون
هذا حجة في ملكهم.
وكان قتادة - رحمه الله - يقول: " هذا مثل ضربه الله لمن عدل
به
شيئا من خلقه يقول: أكان أحد منكم مشاركا مملوكه في قرابته
وزوجته.
فكذاكم الله لا يرضى أن يعدل به أحد من خلقه " ففسره على معنى
ثالث.
وأما ما في السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " مَن باع
عبدَا وله
مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ".
(2/455)
يحتج به الفريقان مثبتوه بإضافة المال إليه
في موضعين، ونافوه تجعله -
وإن أضافه إليه - لغيره للبائع مرة، وللمبتاع أخرى.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - حين فرض زكاة الفطر: " على كل
حُر وعبد، صغير وكبير ".
(2/456)
فالمثبتون يقولون: لا تفرض على غير مالك.
والنافون يقولون: فرضها على سيده، كما فرض عليه لزوجته،.
وصغار ولده.
وكل يحتج لمذهبه كما ترى. فنظرنا في ذلك فلم يجز أن يكون على
تضادهما حقَّا، والحق لا محالة في أحدهما.
(2/457)
ووجدنا من ينفيه قد وافق من يثبته في
المكاتب، ووافقه في أن العبد
مَلَك ماله قبل سيده، وإيتاء الإغناء من فضله في باب الإنكاح،
والأمر
بالمكاتبة يشهدان له بالملك بلا احتمال معنى سواه، وإذا شهد
آيتان
مفردتان لأحدهما يحتمله الآخر بأن كان - والله أعلم - أولى من
الاحتمال إلى الآخر الذي لا شاهد له على الانفراد، فنقول: إن
العبد
مالك لماله كالحر مسلط عليه لما تقدم من ملكه بإجماع الأُمة
قبل تملك
عليه سيده في قول بعضهم والله يحكم لا معقب لحكمه. فإن
حكم في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - بشيء
في ماله، أَوِ اتفق جماعة المسلمين عليه سُلم في موضعه، ولم
يجعل ذريعة إلى توهين ملكه الدي هو فيه كالحر، فما حكم في ماله
عند بيعه مُسَلمَا للسنة، وأخذ سيده ماله بعد موته دون ورثته
وَسُلم للإجماع. وإن عدم رضاه ورضاء ورثته - كما تجعل دية
الخطأ في مال العاقلة والجاني غيرهم أحبوا أم كرهوا. ليس لأحد
أن يضرب أحكام الله بعضها ببعض ويعقبها، بل عليه التسليم
والرضا لما حكم، وإن اختلف عند الناظر فيه قال الله - تبارك
وتعالى
(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) .
(2/458)
ونقول في زكاة الفطر إن وجدنا موجب اتفاق
المسلمين على أنها
مفروضة على سيده سُلّم لهم كما سُلّم في ماله بعد موته، وإلا
فظاهر
الخبر أنها مفروضة عليه، فإن اطلع بأدائها أدّاها وإن عجز عنها
سقطت عنه كما يسقط عن الحر بالعجز، وإن تطوع السيد فأخرجها
عنه أجزأه كما تجزي الحر بأن يتطوع غيره عنه، وبالله التوفيق.
وأما من قال: مال العبد مضاف إليه كإضافة السرج إلى الفَرَس.
والغنم إلى الراعي فقد جمع بين شيئين متفاوتين، لأن الفرس لم
يستفدِ
السرج بنفسه، ولا ملكه قبل صاحبه، كما استفاد العبد ماله، وإن
كان بزعمه عليه السيد، وقد يعتق العبد فيملك عند قائل هذا
القول، والفرس لا يملك أبدا. وإضافة السرج إلى الفرس مجاز بكل
(2/459)
حال، وإضافة المال إلى العبد في حال دون
حال.
والراعي ليس بمستحيل أن يملك تلك الغنم باعيانها التي هو أجير
عليها والفرس لا يملك سرجه أبدا.
وإسقاط مُلك العبد عنه باختلاف وتأويل، ومُلك الفَرس عن السرج
بعيان وإجماع، لأن الفرس بهيمة والعبد بشر مستعبد تجري - عليه
أحكام
الإسلام.
وكنت أحب لقائل هذا القول أن يصون نفسه عن هذا، فإنه أجل في
نفسه وأرفع قدرا من أن يُعرف بهذه الهفوة، وسِيما وهو من أهل
اللغة
يغفر الله لنا وله.
ذكر نفقة الزوجات والصدقات:
(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى
يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)
(2/460)
دليل على وجوب نفقة الزوجات إماءً كُن أو
حرائر، وعلى أن
الصدُقات تكون نقدا إلا أن ترضى المرأة بتأخيره. إذ لا نجد
شيئا
يكون بها المحتاج إلى النكاح غير هذين الشيئين من نقد المهر
والإنفاق.
وإلا فلم لا يجد النكاح.
وليس في الناس أحدٌ إلا وَلَه أكفاء ممن يتزوج به حتى إن ذوي
العاهة
بالبرص والجذام وأشباهه يتخذ كُفُوا مثله، فقد صح أن المحضوضين
(2/461)
على الاستعفاف هم الذين لا نقد لهم يصدقون
منه، وينفقون على
الأزواج، وهذا من أوضح دليل في وجوب النفقة، وتقديم
الصداق لمن تدبره.
فإن قال قائل: فلم لا تجعل هذا دليلا على التفريق بين من عجز
عن
النفقة على امرأته وبينها، وهو من التأكيد بهذه المنزلة.
قيل: ليس المستدبر في ذلك كالمستقبل، لأن أمرهن في المستقبل
بأيدي أنفسهن، لا يجبرن على تزويج من لا يشتهين، وإذا حدث
الإعسار بعد عقدة النكاح فقد صار الأمر بيد الأزواج ولا سبيل
إلى
تحريمهن إلا بطلاق يحدثه، وهو شيء يطلق الزوج به لسانه، فإذا
امتنع من الإنفاق معدوما كان أو واجدا فليس للإمام عليه سبيل
إلا
مطالبته للزوجة بنفقتها، وحبسه به إن طلبته حتى يخرج إليه
منها.
فإن امتنع مع الحبس من النفقة ولم يحل عقالها بالطلاق فهو ظالم
لها.
كما يكون الغائب المنقطع الغيبة ظالما بحبس النفقة، فلا يطلق
الحاكم
عليه، فكيف يفرق الحاكم بين امرأة المعسر وبينه، وإيساره أقرب
إمكانا من وصول نفقة يبعث بها الغائب إلى زوجته بعد ندامته من
ألف
فرسخ.
فهي إلى أن يفرق بينها وبين ظالمها بالغيبة أقرب، وبه أجدر من
معسر
(2/462)
يعسر يومَا ويجد بعده.
ذكر المكاتب:
* * *
وقوله: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا
وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ)
دليل على أن فرضاً على السيد إذا عرف من عبده خيرا، أو من
أَمته أن
يكاتبهما إذا التمسا منه الكتابة، ولا يكون بالخيار في
إجابتهما، لأن ظاهر
الآية أَمر، والأمر من الله تعالى حَتْم حتى يقوم دليل من كتاب
وسنة أو
اتفاق أنه إباحة وندب، ولا سبيل إليها في هذه الآية.
(2/463)
واختلفوا في الخير ما هو.
وجماعه الذي يجمع أقاويلهم الأمانة، والاضطلاع بأداء ما يكاتب
عليه على الأغلب من أمره، وما يعرف به.
والعجب لمن لا يجبر السيد على الكتابة، ويجبره على إعطائه منها
إذا
فرغ من أدائها، وكلاهما أمر واحد (كاتبوهم) ، (وآتوهُم) ، وهما
عندنا واجبان جميعًا.
(2/464)
واختلف علي بن أبي طالب وابن عمر في مقدار
ما يُعطى، فأعطاه ابن
عمر سُبع مال الكتابة، وقال علي: يعطى رُبعها.
وإليه نذهب،
(2/465)
لأن ابن جُريج - وهو ثقة - وَسيما إذا ذكر
السماع - قال: دنا
عطاء بن السائب،
(2/466)
عن عبد الله بن حبيب، عن علي، عن النبي -
صلى الله عليه
وسلم -: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ)
قال: " رُبع الكتابة " وهذا الحديث يقفه غير ابن جريج على علي
ولا يسنده إلى
(2/467)
النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماع ابن
جريج من عطاء قبل الاختلاط
أولى من سماع من بعده. مع أنا قد دللنا في كتاب شرح النصوص على
أن
الثقة إذا أسند حديثًا يقفه غيره من الثقات كان الحكم حكم
المسند، كالزيادة في الخبر.
(2/468)
ولو لم يذكر ابن جريج سماعه من عطاء لما
ذهبنا إلى روايته، لأنه
معروف بالتدليس، فإذا ذكر السماع فهو ثقة لا عِلة في رد خبره،
بل
أكد سماعه منه بما قال بعد روايته: وقد سمعت غير واحد يرويه عن
عطاء لا يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -. فصح أنه لم يَشك
هو في رفعه.
قال محمد بن علي: وعبد الله بن حبيب هو أبو عبد الرحمن السلمي
وقد
سَمِع من علي ولم يسمع من عثمان.
* * *
قوله: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ
أَرَدْنَ تَحَصُّنًا)
نزلت في مسيكة جارية عبد الله بن أُبي بن سلول كان يكرهها على
البغاء، فأتته بِبُردة، فأمرها أن تعود، فقالت: واللهِ لئن كان
حرامًا
لقد آن لنا أن نتركه، وإن كان حلالاً لقد استكثرنا منه. فنزلت
(2/469)
فيها الآية.
ففيها دليل على أن اسم الإحصان يقع على العفاف، وأن المرأة إذا
صانت فرجها عن الفاحشة فهي محصنة. قال الله - تبارك وتعالى -:
(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا)
. فالإحصان اسم جامع كما
قال الشافعي - رضي الله عنه - يقع على هذا، وعلى الإسلام.
والنَرويج وجماعه الحبس عن الشيء بالحائل دونه. فكأنها تحبس
نفسها
عن الفاحشة بحاجز الإسلام، والتعفف بالزواج. والله أعلم.
ذكر ولد الزنا.
* * *
وقوله: (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) .
كان عبد الله بن أُبي يستغنم جُعلها وولدها. ففيه دليل على أن
ولد
(2/470)
الأمة من زنا عبيدٍ لسيدها.
* * *
وقوله: (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ
إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) .
دليل على أن، إثم الزنا مدفوع عن المكرهة، وَلاَحَد عليها فيه.
وفيه إبطال قول من قال: إن الرجل إذا أكرى جاريته من الفساق
بيعت عليه. ألا ترى أن الله - تبارك وتعالى - يقول،:
(2/471)
(وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ
مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) ، فوعدها
الغفران
على الإكراه، ولو كان البيع عليه جائزا لكان حائلا بينها وبين
الإكراه.
فلا يكون السيد بعده مكرهَا، وَلا هي محتاجة بسبب الإكراه إلى
المغفرة
والرحمة - وإن كانت محتاجة في غيره -.
قال محمد بن علي: وفي هذا إبطال الاستحسان لمن تدبره، لأن
البيع
على مَن يعقل هذا حَسن في العقول أن تكون أَمة تريد تحصنَا
وسيدها
يكرهها على الفاحشة ولا ينتهي بالتعزير والمواعدة يحالُ بينها
وبين المنكر
بالبيع عليه.
وأحسن منه ترك إملاك المالكين لهم، والكف عن إزالتها بغير
رضاهم، فمن فعل هذا بجاريته فهو في سخط الله ولعنته حتى تنزع
عنه، ولا تباع عليه، وعلى الجارية أن تقاتل من أراد ذلك منها.
وتفرغ مجهودها في المنع عنها، ولا تسلم فرجها قبل بذل المجهود
في
الدفع عن نفسها بسلاحها ويدها، وأسنانها واضطرابها حتى، تنقطع
حيلها، وتغلب ثم تكون حينئذِ مكرهة مستوجبة ما وُعدت
من الغفران والرحمة، بل عليها أن تكره مَا لا تملكه من لحُوقِ
الحلاوة
(2/472)
بالبشر عند الوقائح لتستكمل اسم الإكراه.
قال محمد بن علي: وذُكِر عن ابن عباس - رضي الله عنه - في
* * *
قوله: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا
حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)
شيء أغفلنا إيراده عند فصله فأوردناه هاهنا لئلا يعرو الكتاب
عن
ذكره، ولا أحسبه محفوظا عنه لإرساله.
روى بِشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك بن
(2/473)
مزاحم عن ابن عباس - رضي الله عنه - في
قوله: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا)
قال: " ليتزوج من لا يجد، فإن الله سيغنيه ".
(2/474)
فكيف يقدر على التزوج من لا يجده، والغناء
بالتزويج وهو لمن يجد التزويج
ولا يعدم من يزوجه، فإذا تزوج من ليس بغني أغناه الله ببركة
التزويج
وهو ما قاله في الآية: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ
يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) .
وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: " ما رأيت مثل من
قعد أيمَا بعد هذه الآية (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ
يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) .
وقد يجد الرجل صَداق امرأة وهو محترف كسوب، فإذا فقد ما يجد في
صَداق امرأةٍ كان فقيرا بعده، ومجزيا أيامه باكتسابه، فوعده
الله أن
يغنيه من فضله، فأما من لم يجد النكاح وعدم من يزوجه لعسرته
بالصداق
والنفقة فليس من أهل هذه الآية، بل هو من أهل الثانية يستعفف
عن
(2/475)
الفاحشة، ويصبر على العزبة حتى يغنيه الله
من فضله ويرزقه ما يتزوج
به، وهذا وجه الآيتين. والله أعلم.
وابن عباس أعلم بكتاب الله من أن يشكل هذا عليه.
فإما أن يكون دخل مَتن في مَتنٍ وغلط به الكتاب، وإما أن يكون
الخلل من جهة الإرسال، لأن الضحاك لم يلقَ ابن عباس.
ولا سمع منه شيئا.
* * *
قوله: (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ)
مؤيد للرواية في الحث على أكل الزيت والأدهان لبركة شجرتها
أعني
الزيتونة التي خرج منها.
(2/476)
فى إطالة بناء المسجد.
* * *
وقوله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ
فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ
وَالْآصَالِ (36)
(2/477)
دليل على إطالة بناء المساجد، وكذلك كان
قتادة يقوله.
ويحتمل أن تكون رفعتها بالذكر لا بإطالة البناء.
وفيه دليل على حث المسلمين أن يصلوا في المساجد، لأن الذكر
(2/479)
والتسبيح فيها هي الصلوات الخمس.
خصوص:
* * *
وقوله: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ)
خصوص لم يدخل فيه آدم ولا حواء، ولا عيسى، صلى الله عليهم.
الفتوى.
* * *
وقوله: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)
إلى قوله: (وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَائِزُونَ (52) .
وعيد شديد لمن يعيب الداعين إليه ورسوله في الفتوى والأحكام،
إذ
لا يجوز أن يحكم فيهما وَلا في غيرهما إلا هما، والخلق تبع
لهما.
(2/480)
الإمام.
* * *
وقوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)
حجة في تسمية الإمام العامل بطاعة الله خليفة الله، ولا يكون
منكرًا
فإن الله - جل وتعالى - قد وعد ذلك من آمن به، وعمل بطاعته كما
ترى.
ويجوز أن يسمى العلماء أيضا، وكل من دعا إلى دينه، أو أرشد إلى
سبيله خلفاءه، لأن مخرج الوعد عام.
فإن قيل: فما فضلة آدم وداود - صلى الله عليهما - إذًا على
غيرهما
إذ كان من ذكرت يسمى خليفة.
قيل: فضلهما بالنبوة. والاستخلاف اسم واقع لمعنى وكل من أخذ
بذلك المعنى استحقه، وإن لم يكن له فضل النبوة.
(2/481)
ولو كان كل صفة وصف بها نبي لم يجز أن
يشاركه فيها أُمته.
ما شاركوهم في الإيمان والصلاة وسائر الطاعات.
ومعنى الاستخلاف: إقامة المستخلف مقام المستخلف فلما أقام
(2/482)
الله آدم وداود - صلى الله عليهما - في
الأرض مقامه في الحكم بين عباده
استحقوا الاسم بذلك، ووعد الله المؤمنين العاملين بالطاعة أن
يستخلفهم
كما استخلف غيرهم، فهم خلفاؤه في ذلك وإن لم يكونوا أنبياءه.
فإن قيل: فما معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "
الخلافة
بعدي ثلاثون ثم يصير مُلكَا "،
(2/483)
قيل: معناه - والله أعلم - خلافة على تمام
سيرته في أُمته، فليس
يمتنع أحد من كل مَن ولي الأمر بعد الأربعة لم يسرْ في الأُمة
بتمام
سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيرتهم وإن ساروا
بأكثرها.
وهذا أبو مسلم الخولاني فقيه ذو ورع ويقول: " يا أهل المدينة
أنتم
أعظم جرمَا عند الله من ثمود، فإن ثمودَا عقروا ناقة الله،
وأنتم
(2/484)
قتلتم خليفته، وخليفته أكرم عليه من ناقته
" - يعني عثمان رضي الله
عنه - فلا ينكر عليه منكر، ولا يقول له: لا تسميه خليفة الله،
فإنه
خليفة رسوله لا خليفته.
فإن قيل: فقد روي أن، أبا بكر الصديق - رضي الله عنه -
حين قال له الرجل: يا خليفة الله، قال: لست بخليفة الله، ولكني
خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
(2/485)
قيل: لا يصح على أبي بكر - رضي الله عنه -
خلاف القرآن
واللغة وهو لباب اللغة.
وقد يجوز أن يكون قاله إن صح عنه إشفاقا على القائل له أن لا
يعرف
معنى الخلافة، فيذهب بها إلى شيء منكر. فقال: أنا خليفة رسول
الله
- صلى الله عليه وسلم - لأن رسول الله خليفة الله على عباده،
وخليفة
خليفته يقوم في اسم الخلافة مقامه. والنبوة ليست من الخلافة في
شيء.
فيكون أبو بكر - رضي الله عنه - قد أزال عن الرجل ما خشي عليه
من
الجهل بمعنى الخلافة، وقد سَلِم من الكذب
(2/486)
من يستر دينًا.
* * *
وقوله تعالى: (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي
ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)
حجة على جميع من يستر دينا يكتمه لا يأمن في إظهاره، لأن الله
-
جل وتعالى - وعد مع تمكين الدين لأهله أمنَا مقرونَا به.
فمن كان خائفا في دين يتمسك به من ينكر عليه إن أظهر، ومعاقب
له على باطل يعتقده غير متمكن له دينه، بل هو من إيمانه على
مخاطره أن
يكون الله - جل وتعالى - أنجز أهل الإيمان العاملين بطاعته
ميعاده في
الأمن دونه، والله لا يخلف الميعاد، فكيف يكون فاقدَا لا
متمسكَا
بمرضي الدين وهو فزع في إظهاره، مشمئز من إعلانه.
الاستئذان فى الأوقات الثلاثة.
* * *
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ
ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ
الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا
عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ
بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ)
(2/487)
آية محكمة قد أغفل للناس استعمالها، فينبغي
للمسلم أن يتقي الله
ولا يغفلها.
وفيها دليل على أن هذه الثلاثة الأوقات هي أوقات المضاجعة.
والإفضاء إلى الأزواج في الوطء وبدوء العورات.
ويدخل فيه أن ستر العورة على الأطفال الذين قد بلغوا مبلغ
معرفتها
فرض في كل وقت، إذ لا يأمر - جل وتعالى - بالاستئذان من أجل
ذلك
(2/488)
إلا وقد فرض سترها في كل وقت عنهم، وعن ملك
اليمين.
ذكر غض البصر.
وفي قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ
بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ)
دليل على أن لا حَرج على المرأة أن ينظر إليها الذكر البالغ من
ملك
يمينه، وَلا عليه إذا نظر لغير رِيبة إذ كان في غير هذه
الأوقات الثلاثة
مباح له أن يدخل بغير إذن. ومن دخل بغير إذن أبصر الحرم، وقد
أزال الله عن الجميع الحرج كما ترى. فهذا خاص في المماليك.
(2/489)
وأما الأحرار يُفرض عليهم غَض البصر عن
النساء لشهوة، وغير
شهوة، ورِيبة وغير رِببة إلا ما تجوز لهم عنه من نظرة الفجأة.
لأن الله - جل وتعالى - أمر بغض البصر مطلقًا بلا شرط في قوله:
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) ،
(وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ)
(2/490)
وقد أمر النبي - صلى" الله عليه وسلم - أم
سلمة وأخرى من أزواجه
أن تستترا عن، ابن أم مكتوم حين استاذن عليه، فقالا: إنه أعمى
لا يبصرنا.
قال: " أو عمياوان أنتما ".
(2/491)
فإن قيل: أَوَلاَ يكون قوله - صلى الله
عليه وسلم - لفاطمة بنت
قيس: اعتدي في بيتِ ابن أم مكتوم، فإنه أعمى تضعين
ثيابك " معارضًا لأمره إياهما، وكانت هي تبصره ولا يبصرها.
قيل: ليس فيه بيان أنها كانت تبصره، إنما أمرها بذلك - والله
أعلم
- ليأمن مِن اطلاعه على عورتها إذا وضعت ثيابها في وقت يصادف
دخوله
البيت وهي فيه. لا أنها تنظر إليه.
(2/492)
فإن اضطر الإنسان إلى إبراز عورته عند
الاطلاء بالنورة.
والاستحداد والتداوي فأمكن منه صبيا غير بالغ لم يحرج - والله
أعلم
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى غلام لم يحتلم
فحجم
أم سلمة، والمرأة عورة.
* * *
وقوله: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ
فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ)
دليل على أن الاحتلام في الذكران حد البلوغ ووقت وجوب الفرائض
(2/493)
عليهم.
* * *
وقوله: (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)
دليل على أن الاستئذان في جميع الأوقات واجب في الثلاثة وغيرها
على سائر الناس سوى الأطفال، وملك اليمين الذي أبيح لهم إلا في
الثلاثة الأوقات.
* * *
وقوله: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا
يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ
يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ
يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ)
(2/494)
دليل على أن الأخذ بالرخص - وإن كان مباحا
- فالأخذ بالتشدد
أفضل، ويؤيده قوله - تبارك وتعالى -: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ
فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ
صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) ، وقوله:
(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا
عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)
(2/495)
ثم قال: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ
ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) .
* * *
وقوله: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ
الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا
عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ
تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا
(149) .
فإن. قيل: أفليس قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
" إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه ".
(2/496)
قيل: ليس ذلك بمؤثر فيما قلناه، إذ ليس في
حبه أن يؤخذ كراهة
للأخذ بما هو عنده أفضل من الرخص، وإذا أحب أن يؤخذ برخصه فهو
(2/497)
لما هو أفضل من الرخص أشد حُبًا. وللآخذ به
أكثر ثوابا لما عليه من
المضض، والمجاهدة في تحمله، ومخالفة نفسه فيما هي بسبيله من
الميل إلى
الراحات، واجتناب تحمل المشقات.
ومن علم أن رخصة الله ممهدة لأهلها، والآخذ بها آخذ بالحق،
بعيد
من الإصر فقد قبلها وأخذ بها، وإن لم يعمل بها في كل وقت لما
يؤثر
غيرها في العمل عليها، ويجاهد نفسه في استيجاب ثواب ما فضل
عليها، ألا ترى أنه قد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه
قال:
(2/498)
" من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم
مثل جبال عرفات "، فمن
لم يرمق الآخذين بالرخص بعين التقصير، وعلم أنهم سالكون سبل
الحق
عاملون بغير معصية، فقد قبلها وأخذ بها، ولكنه رأى درجة
المجتهدين
أعلى من درجة المترخصين فسما إليها رجاء ما ذكر الله في كتابه
فيها.
(2/499)
فإن قيل: أفليس أباح الله - جل وتعالى -
إفطار رمضان في السفر وأذن
فيه، وقال: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ) .
قيل: وَلا في الرخص والتشديد أراد إلا اليسر، لأنه مهد الرخص
ولم يؤثم القاعد عن الأصعب، بل دل على زيادة فضل، وعلو درجة إن
أخذ بها نالهما، وإن قعد عنه لم يلحقه مأثم. فأي يُسرِ أيسر من
هذا عند
من تميزه.
وأرى كثيرا من الناس يحملون هذا الخبر غير محله، ويتناولونه.
على غير جهته، فيرون أن الرخص المذكورة عن أهل العلم داخلة في
الخبر
وليس كذلك، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أضاف الرخص
إلى الله - جل وعز - فقال: " إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما
يحب
أن يؤخذ بعزائمه "، ورخصه غير رخص غيره، إذ لا يمكن إضافتها
إليه إلا ما بين منها في كتابه، أو شَهِد بها جماعة الأمة
عليها، أو أضيف
(2/500)
بظاهر خبر الثقات إليه. ورخص العلماء
محتاجة إلى حجج تشهد
بصحتها، فمن سمى رخص العلماء رخصة فقد افترى على الله
الكذب، وإن أمكن أن تكون في أنفسها حقَّا.
الأكل من بيت الصديق.
* * *
قوله تعالى: (وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ
بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ)
إلى قوله: (أَوْ صَدِيقِكُمْ)
دليل على أن المرء لا حرج عليه أن يأكل من جميع هذه البيوت
بغير إذن
بعد أن لا يفسد، ولا يحمل، إذ لو كان بإذن ما كان لاختصاص
هؤلاء
معنى، لأن الإذن يبيح من جميع الأمكنة.
(2/501)
المرجئة.
* * *
وقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ
يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ)
حجة على المرجئة فيما يزعمون أن الأعمال ليست من الإيمان، وقد
جعل الله - جل وتعالى - استئذان الرسول من الإيمان، إذ جعله في
صفة
الإيمان، ولم يشهد لهم به إلا معه.
(2/502)
|