النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام

سورة لقمان
* * *
وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ)
هو - واللَه أعلم - مثل قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) يؤثره ويشتغل به، لا أنه يخرج فيه مالا. ويحتمل أن يكون رفع الأموال إلى المغنين، وإخراجه في شِرى القينات المغنيات.

(3/624)


وفيه دليل على تحريم الغناء وما أخذ أخذه مما يضل عن سبيل الله. وكذا
قال ابن عباس ومجاهد - رضي الله عنهما -: أنها نزلت في الغناء
وأشباهه (1) . فهي تخبر عن تحريم جميع ذلك.
* * *
قوله: (وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا)
(الهاء) - والله أعلم - راجعة على السبيل، لأنها مؤنثة.
وقد يحتمل أن تكون الآية - وإن كان الغناء محرما من موضع آخر -
نازلة في حديث الكفر وما دعا إليه، لأن ما بلي من المسلمين باستماع
الغناء لا يضع نفسه موضع المتخذين سبيل الله هزوَا، والدليل على ذلك
* * *
قوله: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا)
فهذا فعل الكافر. وقد يجوز أن تكون الآية نزلت في الكفار
ومن يؤثر استماع الغناء واللهو على استماع القرآن فيدخل
فيها تفسير ابن عباس ومجاهد، ويكون السبيل القرآن. والله أعلم

(3/625)


كيف هو.
* * *
قوله: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا)
نظير ما مضى في سورة العنكبوت من قوله، (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) .
وجواز الحائل بين تمام الخبر بغيره ثم الرجوع إليه.
ذكر احتقار الناس.
وقوله إخبارَا عن لقمان في وصيته ابنه: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)

(3/626)


زجر عن احتقار الناس، ومشية الخيلاء، وحث على التواضع وأخذ
السكينة والوقار.
الإجهار فى المنطق.
* * *
قوله: (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ)
دليل على أن الإجهار الشديد في المنطق مذموم.
وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الله يحب
الحافض الصوت الرقيقه، ويبغض المجهار ".

(3/627)


قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) .

(3/628)


حجة على المقلدين في تركهم اتباع كتاب ربهم سلفهم، لأن الله - جل
جلاله - لم ينكر منهم اتباع الآباء خاصة من جهة النسب، إنما أنكر ترك
كتابه.
وليس في إيمان هؤلاء، وكفر أولئك ما يزيل عنهم اسم الترك، إذ
الترك من كل تارك ترك، وليس حسن ظن المقلِّد بالمقلَّد أكثر من تلاوة
القرآن في الشيء. والغلط في المقلَّد ممكن، وفي القرآن غير ممكن.
وجائز أن يكون ما يظنه به من سبب عرفه من القرآن الذي شهد خلافه
من نسخ أو تأويل إغفال لا ما ظنه. وقد وضع الله عنه مثل هذا ولم
يعذره بترك كتابه بل أمره باتباعه مطلقا بلا شرط، ونهاه عن اتباع ما
سواه فقال: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) .

(3/629)


المعتزلة:
* * *
وقوله: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا)
حجة على المعتزلة شديدة إذ لابد لهم من أن يقولوا ما لم تدره النفس
من كسبها غدا يدريه الله، بل قدم ذكره بأن علمه عنده فقال: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) كذا وكذا وكذا.
فإن قالوا: يقدر على أن لا يكسب ما علمه الله من كسبه، فقد كفروا
لأن الله أعلم ما يكون من أمره في كسبه فلا يقدر الحيدة عنه، كما علمه
منه موته بأرض فلا يقدر أن يموت بغيرها.
وإن قالوا: لا يقدر أن يحيد عما علمه منه، وما علمه من شيء فهو
الذي علمه لا غير. أقروا بكل ما أنكروه، ولزمتهم الحجة فيما جحدوه.
ولا بُد من القول بأحدهما، والعلم لا يمكن فيه الاختيار كما يزعمونه
في الإرادة، وَلا في الإرادة يمكن لو أنصفوا.
فإن قالوا: إنما العلم أنه سيختار غدا كسبا، لا أنه يعمل كسبا بغير
اختيار.
قيل: أفيعلم على أيهما يقع اختياره، أو لايعلم.
فلا بُد من أن يقولوا: يعلم، وإلا كفروا.

(3/630)


قيل لهم: أفيقدر بعد ما يقع اختياره على أحدهما أن لا يعمل ويعمل الآخر.
فإن قالوا: بلى.
قيل: فالاختيار بعد حادث في العزم على الكسب، لا في الكسب
نفسه والله يقول: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا) ، ولم يقل:
ماذا تعزم على كسب غد. مع أن الخلاف بيننا وبينهم في الكسب لا في
العزم.
فيقال لهم: فبد لهذا العزم من أن يكون له آخر يودي إلى كسب.
فإن قالوا: لابد من ذلك.
قيل: أفليس هذا الذي لابد منه يعلمه الله منه قبل غدِ كيف يكون.
فلا بد من الإقرار به.
فيقال: أفليس إن لم يعمله وعمل غيره قد عمل خلاف ما علمه ربه.
فإن قالوا: بل لابد لمن أن يعمل ما علمه ربه ولا يقدر على خلافه.
وكل ما عمله فهو الذي علمه.
قيل: فعمل معصية وقد أقررت بأن كل ما عمله فهو الذي منه علمه.
ولم يجد بداً من عمله. ومع ذلك فقد أمره بان لا يعملها. فليس دون هذا

(3/631)


التباس عند عالم ولا جاهل، ولم يبق فيه إلا الإذعان بالجهل عن بلوغ
معرفته هذا العدل عليه المتصور في العقل بضده، وهو الذي قلناه إنه
سر ربنا - جلا وعلا - لم يُطلِع عليه ملكَا مقربَا ولا نبيَّا مرسلَا.
وهو الذي عوتب فيه موسى وعيسى - صلى الله عليهما - ويجيء
بالإلحاح في الاطلاع عليه عزيز ولو جاز لأحد أن يكابر بعد هذا
الوضوح فيه جاز أيضاً المكابرة في موت النفس بالأرض التي تموت فيه.
فيقال: ليست هي الأرض التي علمها الله وقدر موته كما يزعمون أن
الكسب ليس هو الذي علم، لأنه منها. وهذا هو الكفر الصراح.
والمكابرة الظاهرة.

(3/632)


سورة السجدة
ذكر الرد على الباهلى.
* * *
وقوله تعالى: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ)
دليل واضح لمن عدل عن المكابرة. أن الله - جل جلاله " - بنفسه في
السماء، وليس كما يقول الباهلي وأصحابه، والحلولية وأشياعهم.
إذ كان - جل جلاله - يدبر أمر الأرض من السماء، ثم يعرج
من الأرض إليه، وهو نص لا تأويل كما ترى.

(3/633)


المعتزلة.
* * *
قوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
حجة على المعتزلة والقدرية خانقة لهم، مستغنية بجملتها عن تفصيلها
عليهم.
ذكر السجود.
* * *
وقوله تعالى: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)
دليل على أشياء:
منها: أن السجود من الإيمان، وهو رد على المرجئة، إذ في قوله
: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا)
دليل على أنهم لو لم يخروا سجدا لم يكونوا مؤمنين، وهذا إذا امتنعوا من سجدةٍ

(3/634)


فرضِ أو تطوع استكبارَا. فإذا رأوها حقا وهي تطوع فتركوها كسلاَ، أو
علما بأنها غير مفترضة لم يأخذوا ثواب الساجدين، ولم يكونوا حرجين.
وعلى كل حال جاءوا بها فهي من الإيمان، فإن كانت فرضا كانت جزءا
من أجزاء فرضه، وإن كانت تطوعا فهي من أجزاء نوافله.
ألا ترى أن من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كان
يقول: " تعالوا نؤمن ساعة " يقولها في المسجد.

(3/635)


فرأى قعوده فيه إيمانا، وليس القعود فيه مفروضا، فهو من الإيمان الذي
يكون تطوعا.
ومنها: أن من وُعِظ بالله كان من تمام اتعاظه إتراب جبينه بالسجود
لله تواضعا له، وتذللا لجلاله، وهو مندوب إليه بهذه الآية - والله أعلم
- خلافا على الجبابرة والكفار، ومن تأخذه العزة بالإثم، قال الله - تبارك
وتعالى -: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) ، وقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا) ، فالخلاف على هؤلاء من أقرب القربة إلى الله - جل وعلا - وروي أن رجلا قال لمالك بن مِغول: " اتقِ الله،

(3/636)


فألزق خده بالأرض ".
ومنه: أن السجود يجُمع فيه بين التسبيح والتحميد، وفيه تقوية
لحديث حذيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في
سجوده: " سبحان ربي الأعلى وبحمده "، بل قد روي عن عائشة
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجوده وركوعه:
"سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي " يتأول القرآن ".

(3/637)


كأنها تعني هذه الآية. والله أعلم.
ومنها: أن التكبر هو في الامتناع من السجود، وأن من سجد لله
وتواضع وتذلل بترب وجهه لله برئ منه.
أسماء الفسق.
* * *
وقوله: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)
دليل على أن اسم الفسق واقع على الكفر والمعصية معا، لأنه
توثب على الكفر أو على الذنب، فهو متوثب على النهي. فمن
توثب على الكفر أو على الذنب فهو متوثب، إذ كان الله - جل
وتعالى - قد سوى بين النهي عنهما، وإن جعل أحدهما أغلظ من

(3/638)


صاحبه، وهو في هذا الموضع كفر، لقوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) .
فعلم أنه لا يكذب بعذاب النار إلا كافر.
وفيه رد على المعتزلة فيما لا يفرقون بين المكذب والمصدق به في الخلود
فيه، وهذا من قولهم تحكم مع ما يلزمهم فيه من ثلم العدل الذي
يتحذلقون في معرفته.
* * *
قوله: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا)
دليل على أن الأئمة يتبعون على الهداية بأمر الله لا بآرائهم، وأن فضل
إمامتهم لا تثبت حجة على غيرهم، إذ لم يهدوهم بأمر الله.
وأمره كتابه. والله أعلم.
وهذا وإن كان في أئمة بني إسرائيل فليس بين أئمتنا وأئمتهم فرق.
لأن الله - جل جلاله - لم يجعل لأحد من خلقه أن يقول من تلقاء نفسه
شيئا، وإذا لم يجعل له أن يقول فلم يجعل لأحد أن يقتدي به إلا فيما هداه
بأمره، فمن كان مميزًا فالتقليد محرم عليه، ومن أعوزه تبصر الحجة فهو

(3/639)


كالأعمى يتبع البصير أنجاه أم أهلكه، وليس عليه غيره.
ألا ترى أن الله - جل جلاله - لم يلزم الخلق الاقتداء برسول الله - صلى الله
عليه وسلم - والائتمار له والتأسي به إلا بعد ما شهد له بأنه لا ينطق
عن الهوى، ولا يبدل من تلقاء نفسه، ويحكم بين الناس بما أراه الله
ثم حينئذ قال: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) ، لأنه يهديهم بوحي الله
ورسالته، وما وفقه له من عصمته، وليس هذا لأحد بعده وإن كان
فاضلاً جليلاً.

(3/640)


سورة الأحزاب
* * *
وقوله تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ)
فيه أدلة:
فمنها: أن الإنسان يُدعى لأبيه بظاهر فِراش أُمهِ، ويثبت به النسب
والميراث، وتجري به الأحكام، وأن الله - جل جلاله - قد تجاوز عما
يمكن في الباطن من إحداث الأم.
ومنها: أن ظاهر الدعوة علم لا جهل لقوله: (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ) وهم لا يقدرون أن يعلموه إلا بظاهر الفِراش دون حقيقة

(3/641)


العلم.
ومنها: أن الإضمار في الكلام جائز وإن استطيع إظهاره، إذ في
قوله فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) لا محالة إضمار، كأنه - والله أعلم -
فهم إخوانكم.
ومنها: أن المولى اسم واقع على أشياء، ويُسمَّى به الأعلى والأسفل.
والحر والعبد، والرب والخلق.
ذكر الخطأ.
* * *
وقوله: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ)
دليل على أن الخطأ مرفوع عن الناس في هذا، وفي الأيمان وغيرها
دون مادل عليه القرآن من أنه غير مرفوع مثل قَتْل الخطأ وجَرحِه، وما

(3/642)


يحدث من أفعال المخطين على أموال المسلمين. وقد يكون في الخطأ من
الدعوة زوال مال بالميراث، ولكنه مرفوع بنص الآية كما ترى، وكل
هذا دليل على إبطال القياس، إذا الخطأ كله لا يجري مجرى واحدا.
ولا يكون جميعه هدرا. فكان مجاهدٌ يذهب إلى أن الجناح مرفوع فيما
دعوهم إلى غير آبائهم بالتبني قبل النهي.
وقد يجوز أن يكون كما قال رحمه الله، ويكون مثل رفع المآثم في نكاح نساء الآباء في الجاهلية، ولكن ليس فيه دليل على أن من دعا بعد النهي مدعواً
إلى غير أبيه وهو يرى أنه أبوه حَرَج لعدم طاقته عن إصابة حقيقة
أبوته، والحرج لاحِقٌ بمن يدعوه إلى غير أبيه بعد ما عرف أباه.

(3/643)


وقوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ)
دليل على أن ذوي الأرحام أولى بالميراث من المؤمنين والمهاجرين على ما
فرض في آي المواريث، وهم أولوا الأرحام المسمون في سورة
النساء لا مَن لم يُسم منهم، لأنا لا نعلم أحدا روى في شيء من
الأخبار أن المؤمنين والمهاجرين كانوا يرثون ميراث مَن لم يترك من أهل
الفرائض المسمين أحدًا، فكانوا يرثون دون من لم يُسم من ذوي
الأرحام، ولو كان ميراثهم على ذلك لكان توريث من يورث من ذوي
أرحام لم تسم أشبه، ثم كان يحتاج حينئذ إلى نص يفصل ميراثهم كما
فصل ميراث المسمين، فأما والتوارث كان بالإسلام والهجرة دون
توريث أولي الأرحام المسمين وغير المسمين. فالاعتبار على ميراث من
لم يسم منهم بهذه الآية لا وَجْهَ له. وقد ذكرنا تمام الاحتجاج في
كتاب الفرائض في شرح النصوص

(3/644)


تفسبر سورة الأحزاب
* * *
قوله: (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا)
فأبدل سياق الآية على أن الاستثناء في فعل المعروف واقع على من كان
وَليا للميت من المؤمنين والمهاجرين، ويكون المعروف وصية يوصى له
حيث نسخ الميراث عنه إلى ذي الرحم. ولكن الحسن وقتادة جميعا
قالا: " إن الاستثناء واقع على أقرباء الميت من المشركين يوصى لهم لا
حرموا الميراث "، ولا أحفظ عن غيرهما قولاً ولم يجرِ في الآية ذكر

(3/645)


المشرك. فالله أعلم كيف هو.
* * *
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا)
رد على من يقول: إن الاسم إذا وقع على شيء لم يجز أن يقع على غيره
إلا أن يشبهه بجميع صفاته.
وهذه الملائكة والمشركون من الأحزاب قد شملهما معا اسم الجنود على
اختلاف صفاتهما، فكيف لا تتفق الأسماء وتختلف الصفات، أم ما في
اتفاق الشخصية ما يوجب اتفاق صفة الأشخاص لولا جهل الجاهلين.
وتعسف المبتدعين.
المعتزلة.
* * *
وقوله تعالى: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً)

(3/646)


حجة على المعتزلة والقدرية شديدة مسكتة، لذكر إرادة السوء بلفظه.
فإن قالوا: لايريد سوءا، إنما مثل فقال: إن أراد، وهو لا يريد.
قيل له: فما تنكرون على من يقول لكم: والرحمة أيضاً لم يردها ولكنه
مثل، وهذا وذاك جهل. يريد الله بخلقه السوء لا معقب لحكمه، ويريد
بهم الرحمة، وهو متفضل بالسوء بعدله، والرحمة بفضله.
* * *
قوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا)
وحد (هَلُمً) - والله أعلم - على لغة من يوحده في التثنية والجمع.
كما يوحده في الواحد.
قوله: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ) إلى قوله: (وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)

(3/647)


حجة على المرجئة في زيادة الإيمان.
* * *
قوله: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26)
حجة على المعتزلة في باب الأعمال التي يضيفها تارة إلى نفسه، وتارة
إلى عباده، ولا يكون أحدهما مؤثرا في صاحبه من حيث يذهبون إليه، ألا
تراه يقول: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ) ، وقال: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ) ، ثم قال: (فَرِيقًا تَقْتُلُونَ) ، وقد قال في سورة
الأنفال: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)

(3/648)


وقد مضى هذا المعنى في كثير من فصول هذا الكتاب، وفي بعضه كفاية لنقض قولهم.
وإنما تكريرنا إياه على نسق الآيات كما شرطناه ليتبصروه إن وفقوا
لفهم، ويعلموا أن الفعل وإن كان مضافا إلى فاعله من الخلق فغير مانعه أن
يكون محمولا عليه. وعامله بتيسير خالقه له جل جلاله.
ذكر الرافضة.
* * *
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا)
إلى قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) .
حجة على الرافضة فيما ينتقصون أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها
- من جهتين.

(3/649)


إحداهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ بها مع حداثة سِنها.
ْوأمر أن تستشير أبويها فاختارت الله ورسوله قبل استشارتهما.
فاستن بها سائر أزواجه، فسعدت بفضل المبادرة بمثل هذه المنقبة
الجليلة، والله يقول: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) ، وقال:
(لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَن سَن في الإسلام سنة حسنة " فدل الكتاب والسنة على

(3/650)


أن للمباردين إلى الفضائل والقربات فضل على المتبعين.
والثانية: أن الله - جل وتعالى - لم يكذبها فيما اختارت، وعرف
صدقها، فأوجب لها ما وعدها من الأجر العظيم فكيف تنتقص امرأة قد
صدقها الله - جل وتعالى - في إرادتها الله ورسوله والدار الآخرة.
أم أي شيء يضرها مسيرها يوم الجمل، والله - جل وتعالى - قد

(3/651)


ْأوجب لها ما أوجب باختيارها، وكان الله لا محالة عالمًا بأنها ستسير
مسيرها فلم ينزل فيها وحي على رسوله - صلى الله عليه وسلم - يحط
درجتها، هذا مع ما أنزل فيها في سورة النور من الآيات، وأنها
زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنة، نازلة في
الدرجة التي ينزلها معه. إذ محال أن يكون هو في درجة وأزواجه دونه
وإن كان له فضل كرامات من الله مشتهرة معهن
واتخذوا فيه من جهة الفقه دليلاً على أن الرجل إذا خَير امرأته.
فاختارته لم يكن ذلك طلاقا. وقد لخصناه في كتاب الطلاق من شرح
النصوص، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع.
* * *
قوله: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ)
والله أعلم - نساء زمانهن، لأنهن لا يكن أفضل من مريم بنت عمران، فإن مريم إن لم تكن فوقهن فلا تكون دونهن.

(3/652)


نفسبر سورة الأحزاب
* * *
وقوله: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ)
دليل على أن على المرأة احتراز من كل ما دعا إلى شهوتها، والفتنة
عليها.
قوله (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)

(3/653)


حجة في لزوم المرأة بيتها، وترك البراح عنه فيما لا يعنيها.
الاختلاف.
واختلفوا في: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)
فمنهم من قال: هو النياحة.
ومنهم من قال: هي المشية بالتكسير والتغنج.
كانت نساء الجاهلية يمشين كذلك فنهي أزواج النبي - صلى الله عليه
وسلم - عنها، وهذا أشبه. والله أعلم.

(3/654)


قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ)
دليل على أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهن داخلات في
أهل البيت.
ذكر النكاح بلا شهود.
* * *
وقوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا)

(3/655)


دليل على أن النكاح إذا عقده الولي بلا شهود واقع عند الله، وحلال
الوطء به قبل الإشهاد، لأن المراد في شهود النكاح الاحتراز من الحد
عند التجاحد، لا أنه باطل عند الله.
ألا ترى أن الله - جل جلاله - زوج زينب من رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - بلا شهود من البشر، وَلا ذكر أنه يشهد ملائكته.
وفيه دليل على أن أولياء النساء وكلاء الله في تزويجهن، لأنهن إماؤه
فإذا ولي الإنكاح هو - جل وعز - لم يكن لوكلائه معه وِلاية. ألا ترى أن
زينب لم يزوجها أولياؤها من المخلوقين، وكانت تفخر بذلك على أزواج
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: " زوجكن أولياؤكن.
وزوجني رب العرش ".

(3/656)


المتبنى.
* * *
قوله: (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا)
دليل على أن الحلائل يحرمن إذا كُن تحت أبناء الأصلاب وأن
المتبنى - وإن سمي ابنا - فنساؤه حِل لمتبنيه، وفي هذا تأكيد لما
قلناه في سورة النساء من أن حليلة السبط حرام على الجد، لأنه ابنه

(3/657)


وإن كان منحطًا بدرجة، لأن معنى قوله: (الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ)
وَلَدْتموه لا مَن تبنيتموه. والله أعلم.
ذكر أن نبي كل أبو قومه.
* * *
قوله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ)
أي لم يلد زيدا حيث يتبناه، فيكون أباه بالنسب لا أنه
ليس له حظ في أبوته التي هي لسائر المؤمنين، فإن كل نبي أبو قومه.
وكان ابن عباس وغيره يقرأ: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) - وهو أب لهم -
وكذا تأويل قوله: (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)

(3/658)


عندهم يذهبون به إلى أنه عنى نساء قومه، لا بناته.
لأنه أبوهن.
كرامة المؤمن.
* * *
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) .
دليل على كرامة المؤمنين على الله، أنه حيث أشركهم في صلاته
على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ثم خَصَّ نبيه - صلى الله عليه وسلم -

(3/659)


بأن أمر المؤمنين بالصلاة عليه، ولم يأمر بعضهم بالصلاة على بعض.
وجعله في تشهد الصلاة على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وضمه
إليها آله.
فاختلف الناس في آله:
فمنهم مَن قال: آله كل تقي من أمته. وفيه حديث مرفوع

(3/660)


ومنهم مَن قال: هم آل علي، وآل عباس، وآل جعفر.

(3/661)


وفي ذلك إباحة الصلاة على كل مؤمن، وأنه ليس يضيق على من صلى
عليه إذا ذكره، لأنه وإن لم يكن مأمورا به كما أمر في النبي - صلى الله
عليه وسلم - فلم يفعل منكرا. بل فعل ما نزل به القرآن. ولعل
حديث ابن عباس: " لا ينبغي الصلاة مِن أحد على أحد إلا على النبي
- صلى الله عليه وسلم - " وَهْمٌ من الراوي.

(3/662)


ذكرالطلاق النكاح.
* * *
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ)
دليل على أن لا طلاق قبل نكاح، وأن من طلق قبل النكاح فليس
بطلاق. وهذا إذا قال لها: إذا تزوجتك فأنت طالق. ولو كان
قال لها: إذا تزوجتك فدخلت دار زيد فأنت طالق، طلقت إذا

(3/663)


تزوجها بدخول دار زيد، لأن الطلاق حينئذ واقع بعد النكاح بصفة عقدها
على نفسه، فوقعت الصفة والمرأة في ملكه.
فأكثر ما فيه أنه وصف صفة مجهولة الوقت، وهكذا تكون يمين
بصفة، ولا فرق عندي بين من يبتدئ بهذه اليمين والمرأة في ملكه.
وبين من يبتد بها وليست له بملك العقد، اليمين على صفة يقع
الطلاق بها لا على الطلاق نفسه، وقد يجوز أن يكون كلاهما سواء فلا
يقع بواحد منهما طلاق، والله أعلم كيف هو.
ذكر العدة.
* * *
قوله: (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا)
دليل على أن للمطلق تحصين المدخول بها إلى انقضاء عدتها، لإضافة
العدة إليهم، فعدة المطلقات الآن على ثلاثة معاني، تعبد واستبراء، وحق المطلق في التحصين. وعدة الوفاة بعد الدخول كذلك.
فإن كانت قبل الدخول خلا منها مُضِي الاستبراء، وبقي التعبد
والتحصين، لئلا يلحق بالميت عارُ رِيبةٍ إن حدثت.

(3/664)


ذكر المتعة.
* * *
وقوله: (فَمَتعُوهُنَّ)
منسوخة بآية البقرة، ومقتصر بها إذا طلقت على نصف الصداق
دون المتعة، وكذا قال ابن عمر، وابن عباس، وسعيد بن المسيب.

(3/665)


وقوله: (وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
يؤكد قول من قال: لا يكون السراح من ألفاظ التصريح، لأن الله
قال: (وَسَرِّحُوهُنَّ) بعدما أبانها الطلاق.
والتسريح في هذا الموضع إخراجها، لا إيقاع الطلاق عليها.

(3/666)


وقوله: (قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ)
نظير ما مضى في سورة النحل والعنكبوت من جواز الخروج من تمام
قصة قبل الفراغ منها، ثم الرجوع إلى إتمامها.
ألا ترى أنه بدأ القصة بـ (إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ) إلى أن حال بين
تمامها: (قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ) ثم رجع إلى مخاطبته
فقال: (لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) .
فرق بين النبي، صلى الله عليه وسلم، وبين أُمته في الموهوبة.
قوله: وكان بعض التابعين يذهب أن قوله: (قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ)
فرق بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أُمته في الموهوبة حلت
له بغير ولي ولا صَداق، ولم تحل لأمُته امرأة إلا بولي وصداق. وأحسبه
قتادة.

(3/667)


فإن كان كذلك فهو تأكيد لإبطال نكاح الثيب بغير ولي.
وأما قوله: " ولا صداق ". فقد قال به غيره أيضا.
وأكثر أهل العلم على أنه ينعقد بغير تسمية مهر. فإن توافقا قبل
الدخول على شيء، وإلا كان لها صداق مثلها بعد الدخول، وفي
القرآن دليل على جوازه وهو موضوع في كتاب الطلاق من شرح
النصوص.

(3/668)


وقد يجوز أن يكون قوله: " ولا صداق " عنى أن الفروج لا توطأ بغير
صداق إلا وَطْءَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الموهوبة.
* * *
قوله: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ)
كان الحسن وقتادة يقولان: " هو إباحة للنبي - صلى الله عليه وسلم
- أن لايقسم لنسائه، ويقولان في قوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) أي لا يحزن إذا علمن أنك

(3/669)


تفعل ذلك بهن برخصة الله لك فيهن.
ومفارقة الحسن سائر القراء في كسر الألف في: (إِن وَهبَت) .
وفتحه لها.
كذلك - إن شاء الله - لا يكون ذلك في امرأة واحدة، ولا ترجع:
(تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ) على الموهوبات، ويكون لغيرهن من أزواجه من غير القسم.
ولا أحسب قتادة قرأه إلا كذلك أيضاً، لمتابعته له في هذا المعنى، بل
قد روي عنه أن الموهوبة نزلت في ميمونة بنت الحارث، خالة ابن عباس

(3/670)


ولا أدري ما وجه هذا من قولهما.
فقد أجمع المسلمون إلا ما حكينا عنه، واتفقت الروايات على أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة تزويجا، إنما اختلفت في
أنه تزوجها حلالاً أو محرماً

(3/671)


وروي أنه جعل أمرها بيد العباس فزوجها منه.
وأما القَسْم، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطاف به
محمولاً على نسائه في مرضه حتى حللنه. فلو كان الله عز وجل -
قد رخص له في ترك القَسْم لما احتاج إلى تحليلهن، وكان لا يشق

(3/672)


على نفسه، ويكون عند من أحب منهن.
وقد روي أن قوله: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا)
نزل في سَودة حيث صالحها النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يكون يومها لعائشة - رضي الله عنها -

(3/673)


ولا يطلقها.
فلو لم يكن لها حق في القَسْم ما كان لصلحه إياها معنى،

(3/674)


ولا استحال أن يصلح على غير حق، وكان رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يقرع بين نسائه إذا سافر، ولا تخرج امرأة معه بغير قرعة.
فلو كان مأذونا له في ترك القَسْم لما احتاج إلى هذا، ولكان سَهم القُرعة إذا
خرج لامرأةٍ لا يوجب لها شيئا، ولكان تخيير أم سلمة حين تزوج بها في

(3/675)


التسبيع عندها وعندهن، أو التثليث والدوران بعده - لا وَجه له.
فكل هذا يدل على خلاف ما قالا - رضي الله عنهما - ويوجب أن
يكون قوله: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ)
في الموهوبات على ما قرأت القراءة من كسر، وتكون قرة عَين المرجاة، وزوال الحزن عنها في المتروكات من الواهبات، لا في ترك القَسْم للمتزوجات.
* * *
وقوله: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ)
دليل على أن الاستثناء واقع في ملك اليمين على الإناث دون الذكور.
لابتداء الكلام بذكر النساء ثم الاستئناء منهن بهن. وهذا وإن كان في
إجماع الأُمة محصلاً - والذكران من مُلْك اليمين معدود وطؤهم في

(3/676)


عداد الفاحشة - كان دليل القرآن معه أقمع لفتنة المفتونين، وأعلى لحجة
المعصومين على المرتابين، ومثل هذا قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) .
الكلام مبتدأ بذكر النساء، والاستثناء واقع من ملك
اليمين عليهن، فكذلك قوله في سورة المؤمنين، والسائل مثله
لا يشك فيه إلا مفتون، مفترى على الله جل وتعالى.
* * *
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ)
دليل على أن التحين بطعام من لم يُدعَ إليه منهي عنه، وقد أكد

(3/677)


الحديث المروي وصححه: " من دخل إلى طعام لم يُدع إليه دخل سارقا.
وخرج مغيراً "، أو " دخل فاسقا، وأكل حراماً ".

(3/678)


ذكر مُلكِ يمين المرأة.
* * *
وقوله تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ) .
إلى قوله: (وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ)
دليل على أن ملك يمين المرأة محرمها، إذ قد جعله - جل وتعالى - في
جملة من لا تستتر عنه، ويدخل عليها بغير إذن.
وملك اليمين في هذا الموضع جامع الذكور والإناث، فيكون عَبْد
المرأة في ذلك مثل أبيها وأخيها، وأمَتها مثل نسائها.
ذكر مَنِ انتقص واحدا من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم

(3/679)


وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)
إلى قوله: (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
دليل على أن مَنِ انتقص عَلِئا أو عائشة أو واحدَا من أصحاب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو ذكرهم بغير الجميل
فهو ملعون، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا محالة يؤذيه
ذلك، وما آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آذى الله جل
وتعالى.
وأن من آذى سائرهم من المؤمنين ظالما لهم فقدِ احتملوا بهتانا وإثما
مبينا كما قال جل وعز.

(3/680)


فيمن حلف على اجتناب مجاورة رجل.
* * *
وقوله تعالى: (ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)
دليل على أن المجاورة واقعة على البلدة كلها، فمن حلف على
اجتناب مجاورة رجل وَلا نِية له، حنث إذا جاوره في بلدة، وإنِ
اجتنب محلته إلا أن تكون له نِية فيحمل عليها، لأن وقوع المجاورة
على جميع البلدة لا يمنع من وقوعه على بعضها إذا قصد الحالف له.

(3/681)


النظر إلى العووات عند الحاجة.
* * *
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا) .
دليل على أن النظر إلى العورات مباح عند الحاجة إلى إمضاء أحكام الله
مثل هذا، أو مثل النظر إلى مُؤْتَزر السبي ليقتل مَن أنبت منهم، وعند
الشهادة على الزنا،

(3/682)


ونظر النساء إلى عذرة الجواري، لأن الله - جل جلاله - لم يكن
ليكشف نبيه موسى - صلى الله عليه - لمن آذاه من بني إسرائيل إلا ليقفوا
على براءته، ولا يكونوا ملعونين في تلك النظرة الواحدة إلى
المبرأ بها، وَلا موسى - صلى الله عليه - يكون مضيعا فرض الاستتار
بالمعنى الذي بَرِئ به عند القوم مما رموه به، وكان بعيدا منه وجيهَا
عند خالقه.

(3/683)


الصدق والطاعة.
* * *
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)
دليل على أن خير الدنيا والاَخرة جامعا يستنزل بالتقوى، والصدق
والطاعة لله - جل وتعالى - وهو نظير قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ، وقوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)

(3/684)