النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام سورة سبأ
فضيلة لأهل العلم.
* * *
وقوله تعالى: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ)
فضيلة لأهل العلم، ومدح لمن يعد الاحتجاج بكتاب الله الحق الذي
لا يضاهيه حق، ولا تدانيه حجة.
* * *
قوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى
رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ
إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ
كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ)
(3/685)
نظير ما مضى في سورة المؤمنين في فصل قوله
إخبارا عن قوم نوح:
(إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)
مثله سواء.
* * *
قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ
أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ)
فيه - والله أعلم - ضمير: وقلنا: يا جبال.
(3/686)
قوله: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)
يقال في التفسير: ألانه له بغير نار يعمل به ما شاء.
* * *
وقوله: (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ)
دليل على الاكتساب بعمل اليد، والتثبت في العمل، وتقديره
وإحكامه.
ودليل على إباحة لبس الدروع، والتجارة في السلاح، وأنها لا
تكون
مؤثرة في التوكل، والفِرار من الأجل، وتكون حِرزًا بين
لاَبِسها
وبين ما يتقيه من الطعن والجرح، وجُنة من وصول المكاره إلى
المكان، والتوكل قائم على حاله.
(3/687)
قوله: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ
إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ
مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ)
حجة على المعتزلة والقدرية واضحة.
* * *
وقوله: (وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ
أَذِنَ لَهُ)
رَد على من يكذب بها، ودليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم
-
وغيره يشفع، إذ استثناؤه - تبارك وتعالى - بالإذن في الظاهر
عام لا
خاص.
(3/688)
الجهمية -
* * *
وقوله: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا
قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ)
حجة على المعتزلة والجهمية فيما يجحدون من الكلام.
وينكرون من الصفات. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أنه قال: (إذا تكلم الله بالوحي سمِعَ أهلُ السماء للسماء
صلصلة كجر
السلسلة على الصفا، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم.
قالوا: الحق.
فيقولون: الحق الحق.
(3/689)
وقوله: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا
ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا
يَعْبُدُونَ (40)
(3/690)
نظير ما مضى في سورة طه من جواز المسألة
عما السائل أعلم به من المسؤول.
* * *
قوله: (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا
يُعِيدُ (49)
قال المفسرون: الحق العدل.
(وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)
كان قتادة يجعل (مَا) هاهنا بمعنى الجحد، كأنه يقول: إبليس هو
الباطل، لا يبدي أحدًا ولا يعيده،
(3/691)
كما يبدي الله الخلق ثم يعيده لخلقه، ثم
يبعثه بعد موته. وهو حسن.
وقوله، (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي
وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي)
أي بالقرآن. والله أعلم. وهو حجة على من يحيد في الحجج عنه.
ولا يجعله إماما يأتم به فيها. وقد تقدم قولنا في نسبة الضلال
إلى الإنسان في كثير من فصول هذا الكتاب بما يغني عن إعادته.
(3/692)
سورة الملائكة
* * *
قوله تعالى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ
فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ
بَعْدِهِ)
حجة على المعتزلة والقدرية.
* * *
قوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ
عَدُوًّا)
معرف مَن أغفل عداوته فاغتر بوسواسه واستفزته، وتصورت عنده
في صورة النصح، فهذه الآية تعرفه أن الشيطان عدو للإنسان فلا
يكون
له ناصحا أبدا، بل يوجب عليه اتخاذه عدوا إيجاب فرض. فعلى كل
مسلم أن لايسلك مسلك دعائه، لأنه داع إلى السعير كما قال الله.
وقوله الحق.
(3/693)
قوله: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ
عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ
يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)
حجة على المعتزلة والقدرية.
ذكر أن الله في السماء على العرش.
قوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)
حجة قاطعة لكل لُبسة على مَن يزعم أن الله بنفسه في الأرض.
فكيف يصعد إليه - ويحهم - العمل الصالح وهو مع عامله بزعمهم في
الأرض، بل هو في السماء على العرش بلا مِرية ولا شك، وعلمه بكل
مكان لا يخلو من علمه مكان.
(3/694)
وهذه الآية مع ما فيها من الحجة على هؤلاء
حجة على المرجئة فيما يعرون
الإيمان من العمل الصالح، وهذا القول نفسه لا يرفعه إلا العمل
الصالح
كما ترى، فكيف لا يكون من الإيمان، والقول الذي هو عندهم كمال
الإيمان لا يرفعه إلا العمل.
(3/695)
التماس العز.
* * *
وقوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ
الْعِزَّةُ جَمِيعًا)
دليل على أن التماس العز لايكون إلا بطاعة الله، وأن ملتمس
العز
بغيرها لايزداد إلا ذُلاً.
ومن الناس من يقول: في العز ضمير العلم، كأنه يقول:
مَن كان يريد عِلم العزة. وما قلنا أحسن، والله أعلم.
المعتزلة والقدرية.
* * *
وقوله: (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا
بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ
مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ (11)
حجة على المعتزلة والقدرية خانقة لهم، إذِ الأنثى لا محالة
تحمل من
حلال وحرام فيقال لهم: أرأيتم علمه في أنثى حملت من حرام، أكان
متقدما على الحمل أو حدث بعد الحمل،.
فإن قالوا: حدث بعد الحمل، صرحوا بالكفر ووافقوا من قال: إن
(3/696)
الله لا يعلم الشيء إلا بعد حدوثه، وهذا
كفر بنفسه، إذِ العلم بالشيء
بعد حدوثه يستوي فيه الخلق والخالق، والعالم والجاهل.
وإن قالوا: قبل حدوثه.
قيل لهم: فكيف استطاع طارح النطفة في رحمها ألا يطرحها، وقد
عَلِم الله أنه سيطرحها ويخلق منها خلقًا، بل كان علمها قبل
حملها وقد
أكد ذلك في قوله: إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير.
وفي تفسير قوله: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا
يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ)
وهذا المولود مُعمَّر أو مُنقص عمره قطع لكل لُبسة في أن خلقه
في
كتاب، وإذا كان خلقه في كتاب فلا محالة فعل خلقه في كتاب.
وفاعله غير قادر على الفرار منه، إذ محال أن يقضي الله خَلْقَ
خَلْقٍ في
كتابه فلا يخلقه، أو يستطيع أحد دفعه،
(3/697)
وفي زعمهم أن الزاني قادر على ترك الفعل
الذي حدث منه الخلق إبطال
لحكم الله، واضطهادا له وغلبة عليه، ونسبة إليه إيداع كتابه
كذبا
ومحالا، وما لا يكون ويقدر المخلوق تغييره - جل الله عن ذلك
وعلا
عنه علوا كبيرًا - وهذا من أكبر حججهم فيما يرون، وأفحش شيء
ظاهرًا تشمئز منه أنفس العامة، ومن لا يأوي إلى طائل من علم.
وثاقب من فهمهم فترى الجهلة المردة يستفزونها بقولهم الغث
الفاحش
الهابل اللفظ عندها، أيجمع الله بين الزاني والزانية ثم
يعاقبهما عليه.
فَلِم نهاهم إذاً عنه، وحدهما عليه. فيتعاظمها هذا الكلام، ولا
يدرون
ما تحته مما أخرجناه عليهم في خلق المولود، وما قدمنا ذكره في
الفصول كلها من أن الفحص عن عدله في ذلك وما ضاهاه مشاركة في
الربوبية، وهتك لأستار سره، وخروج من العبودية، ويُنْسِئون ما
أثرناه عليهم من مرض الصغار، وخَول العبيد، وعقوبة من لم يعص
(3/698)
من ولد آدم ولم يشاركه في أكل الشجرة،
وأشباه ذلك مما يجدونه مفرقَا
من هذا الكتاب، ومجموعا في كتابنا المجرد بالرد عليهم.
الجهمية:
* * *
قوله: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا
الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا
الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا
الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا
أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)
حجة على المعتزلة والجهمية، لأنا لا نشك أن الله - جل وتعالى -
ضرب هذه الأمثال للكافر والمؤمن وأن الحي هو المؤمن، والميت
هو الكافر. فإذا كان المسمع هو الله - جل وعلا - ولا يستطيع ذو
سمع
أن يسمع بِسَمعه حتى يُسْمِعه الله، وكلاهما من المؤمن والكافر
ذو سمع.
علمنا أن المؤمن سَمِع بتوفيق الله الموعظة فوعيها سمعه،
وأوصلها إلى قلبه
بمشيئته في نجاته، والكافر صَمَّ عنها بخذلان الله، وزوال
توفيقه عنه
فلم تعيها أذنه، ولم يقبلها قلبه لخلوه من مشيئة الله في
المؤمن، ودخوله
في إضلاله.
(3/699)
ذكر العلم.
* * *
وقوله: (كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ)
دليل على أن الخشية لا تثبت لأهلها إلا بالعلم، والعلم لا
يتكامل
لأهله إلا بالفكر في خلق الله، والإيمان بجميل صُنعه وقدرته
المحيطة
بخلقه، لأنه - جل وعلا - ابتدأ الآية فقال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ
ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا)
وذكر الطرائق والغرائب، والناس والأنعام واختلاف ألوانها، ثم
قال: (كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ) ، فدل على أن
العلماء لهم فيما ذكره معتبر وفكر، وتولد خشية مِن قادر هذا
فعله
وصنعه.
الجمع بين الغائب والحاضر في الخبر الواحد.
(3/700)
وقوله: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ
مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا)
من أوضح الدليل على إجازة الجمع بين لفظ الغائب والحاضر في
الخبر
الواحد. ألا تراه قال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ)
ثم قال: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ) ، ولم يقل: فاخرج به.
ذكر تلاوة القزان.
* * *
وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ
وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)
إلى قوله: (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
دليل على أن تلاوة القرآن عبادة برأسها، يثاب التالي عليها.
(3/701)
وقد ذكر الله الربانيين بتعليم الكتاب
ودراسته، فجعل الدراسة مدحًا
لهم، فدل على أنها عبادة في صلاة وغير صلاة.
وقد حوى الآية من الفائدة أيضاً أن نفقة السر والعلانية معا
ممدوحة
وأن طاعة تسمى تجارة، وفي إجازة ذلك دليل على أن التجارة في
الشرى والبيع أيضًا سميت كذلك، لأنها تنمي المال، وتسوق
المنافع
والأرباح، فليس لإبطال الشرى والبيع إذ خليا من إعمال اللفظ
بهما
عند العقد معنى إذا وقع ما باع وأخذ ما اشترى بعد أن يعرف من
نهُي
في نفس الدفع والأخذ ولا يضره من خلو لفظ الشرى والبيع.
(3/702)
وقد بيناه في سورة البقرة.
ذكر أن الله يزيد كل عامل على أجرة.
* * *
قوله تعالى: (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ)
دليل على أن الله - جل جلاله - يزيد كل عامل على أجره، لأنه
ذو فضل، فالعامل فائز بفضلين.
أحدهما: بالفضل الأول جعل الحسنة عشرة.
والفضل الثاني: ما يزيد على العشرة.
(3/703)
ولا يجوز أن تكون الزيادة مصروفة إلى
التسعة، لأن ذلك إنجاز وعد في
* * *
قوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)
، فعشر أمثال العمل
أجره، والزيادة تكون بعد الأجر، وكذا قال: (مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ
أَضْعَافًا كَثِيرَةً) ، وقال: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ
أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ
حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) ، وقال:
(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ
(10)
(3/704)
بشارة لهذه الأمّة.
* * *
وقوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ
بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا)
بشارة كبيرة لهذه الأمة، إذ قد وُعِدوا على اختلاف أحوالهم من
الظلم، والقصد، والمسابقة معا بالجنة.
(3/705)
وكان قتادة والحسن يقولان: " الظالم لنفسه
هو المنافق " ولا أدري
(3/706)
ما وجهه، فإن المنافق لا حَظ له في الجنة،
ولا يكون مصطفى، والله
جل وعلا - بدأ الآية بذكر المصطفين، ثم قال: (فمنهم) فالهاء
والميم راجعتان على المصطفين لا محالة، والثلاثة الأنواع كلهم
مصطفون
في حكم الآية، وظاهر التلاوة، وقد قال: (جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَهَا)
فكيف يكون الظالم مع هذا منافقًا.
والمنافق مخذول لا مصطفى، وموعده النار بل أسفل دركها.
وهذه الآية من أكبر الحجة على المعتزلة في باب الوعيد، وعلى
الشراة في باب إعدادهم الذنوب كفرًا.
فأما على المعتزلة ففي إدخال الظالم نفسه الجنة مع المقتصد
والسابق
بالخيرات بإذن الله.
وفي نفس إذن الله حجة عليهم أيضًا، لأن الإذن إطلاق لا علم.
قد دللنا في غير هذا الموضع.
(3/707)
والظالم نفسه في هذه الآية هو لمن تدبره:
الذي يموت بغير توبة، لأنه
لو كان تاب لكان مع المقتصدين والسابقين لا محالة، إذا التوبة
حاطة
للذنوب، ومبدلها حسنات والله - جل وتعالى - فَرَق المصطفين في
الآية ثلاث فِرق، فلا يجوز أن نردهم إلى فريقين، والتائب راجع
بتوبة
إلى أحدهما زائل عنه اسم الظلمة لنفسه لا محالة، فالظالم في
حكم
الآية هو الميت بغير توبة، وليس بمستنكر أن يظلم المصطفى نفسه
لجواز الذنوب عليه فكل مذنب ظالم نفسه، فالمصطفى يكون مذنبا
ولا
يكون منافقا.
فنحن الآن نسامح المعتزلة في أن هذا الظالم الداخل في جملة
المصطفين
يمكن أن لا يدخل الجنة حتى يجازى بظلمه نفسه، وأرجو أن لايفعل
الله
به؛ أليس قد وُعِدَ الجنة بعد ذلك مع المقتصدين والسابقين.
فكيف يخلد إذاً المذنبون مع الكافرين في النار على زعمهم،
والله قد
وعدهم الجنة دون الكافرين.
فهذا واضح لا إشكال فيه إن وقفوا لفهمه، وأضربوا عن اللجاج
(3/708)
والعناد والمكابرة.
وأما الحجة على الشراة، فإنهم يعدون صغير الذنب وكبيره كفرا.
فلو كان المصطفى لما ظلم نفسه كفر لما دخل الجنة أبدا، تاب أو
لم
يتب، لأنهم لا يرون التوبة ولايقولون بها. وقد روي عن عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه - أنه تلا على المنبر هذه الآية ثم قال:
سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (سابقنا سابق.
ومقتصدنا ناجٍ، وظالمنا مغفور له ".
وفي هذا إبطال قول من قال: الظالم هو المنافق.
(3/709)
وقول الله - جل وتعالى -: (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ)
يشيد حديث عمر هذا.
* * *
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا
يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ
عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)
يؤكد ما قلناه، ويُثِبهم عن خطأ قولهم، لأنهم لا يسمون المذنب
وإن مات بغير توبة كافرا، والله جعل الخلود في النار للكفار
كما
ترى.
وقال: (كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)
ولم يقل: كل مذنب،
(3/711)
فليت شعري مَن المغفور والمتفضل عليه إذاً،
وما معنى تسمية الله نفسه
غفورا وعفوا إذا كان الكافر يخلد في النار، والمذنب الميت بغير
توبة
يخلد، والتائب محسن لا سبيل عليه مبدل سيئاته حسنات لا يدخل
النار
عندهم بَتة، ولا يقع عليه اسم العفو عنه، ولا المغفرة له، إذا
المغفرة
لا تكون إلا لذنب وجناية، والعفو لا يكون إلا عنها، والتائب قد
لقي
الله بريئَا منها، نقيا مِن رسمهما، قد طهرته التوبة وأعادتهما
به
حسنات، يستوجب عليهما الكرامات. وليس هناك بزعمهم من إذا
دخل النار خرج منها بعفوه ومغفرته، أو لا يدخلها وإنِ استوجبها
بتفضله ورحمته، ورأفته وإحسانه، فأرى على زعمهم قد بطل كثير من
أسامي الله، وعادت عَواري - ويلهم - لا فائدة فيها مثل العفو
والغفور، والرحيم والرءوف، والمحسن، وهذا خروج من
(3/712)
الإسلام، ودخول فى الكفر، فلو تدبروه
باتقاء وخشية، وإضراب عن
العصبية، ونصرة الباطل، والمحاماة عن الأنفة من الرجوع إلى
الحق.
لعلموا أن ليس دون ما قلناه التباس يمنع، وأن دونه من البيان
لمن
أراد الحق مقنع.
فإن قالوا: معنى العفو، أنه يعفو عن المسيء في الدنيا، فلا
يعاجله
بالعقو بة. والغفور لأنه يستره في الدنيا فلا يفضحه. والرحيم
يرحم
الطفل والبهائم، ويرأف بهم. والمحسن يحسن إليهم في
الدنيا.
أفيستحيل على من يفعل هذا في الدنيا بعبيده أن يفعل بهم في
الآخرة
مثله.
فإن قالوا: يستحيل، كفروا وكاشفوا كافة الأمُة بالخلاف
وإن قالوا: يجوز أن يفعل ذلك بهم في الآخرة كما فعل بهم في
الدنيا.
قيل لهم: فمن ْالذي يغفر له في الآخرة، أو يعفو عنه أو يرحمه.
وأهل الجنة فلا، أغناهم بنعيمه عنها، وأهل الكبائر مع الكفرة
مخلدون
لاَ حَظ لهم بزعمهمْ، وأصحاب الأعراف ليسوا من هؤلاء ولا
أولئك، إذ ليسوا في جَنة وَلاَ نار، وليس هناك فرقة جانية
محتاجة إلى المغفرة والعفو.
هل تكون - ويلكم - إلا أصحاب الكبائر
(3/713)
والمذنبين الميتين بغير توبة، الذين
ظلمتموهم، وافتريتم على الله فيهم.
فخلدتموهم مع الكفار مِن عَبدَة الأوثان والمتخذين مع الله، إذ
كان أهل
الجنة بجنتهم مستغنين، والكفار بخلودهم في النار آيسين، وأصحاب
الأعراف في الجنة طامعين، ومن النار فرقين.
فإن قالوا هم أصحاب الأعراف.
(3/714)
قيل لهم: أليسوا هم مذنبون، وقد زعمتم أن
المذنب يخلد في النار
مع المجرم من الكفار.
فإن قالوا: يخلد أصحاب الكبائر، ويغفر لأصحاب الصغائر.
تحكموا تحكما ثانيا، وطولبوا بإقامة الدليل عليه، فإن احتجوا
بقوله:
(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ
عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا
(31) .
قيل: هؤلاء قوم لا يدخلون النار بَتة، لأن سيئاتهم تكفر عنهم
بمصائب الدنيا، فيلقون الله ولا خطيئة عليهم، وأصحاب الكبائر
(3/715)
مع الله - جل وعلا - في منزلتين، إما أن
يجود عليهم فلا يدخلون النار
بَتة لقوله: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ (53) ، ولقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ
يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) .
وإما أن يدخلهم النار ثم ينجيهم لقوله: (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا
(71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ
الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
(3/716)
على ما بيناه ولخصناه في سورة مريم.
ثم إنهم لو طولبوا بتسمية الكبائر ما وفوا بها حق الوفاء، لحجج
الكتاب والسنة والإجماع. إذ كل ما نهى الله - جل وعلا - عنه
كبير، وإن كان عند جانيه صغيراً.
(3/717)
سورة يس
المعتزلة.
* * *
وقوله تعالى: (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ
فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
حجة على المعتزلة والقدرية، وهو القول الذي قال - والله أعلم
-:
(وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) .
وقال على إثره ما أزال 1451/ أ، به كل ريب، وكشف كل لُبسة
فقال:
(إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى
الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا
فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) .
أفليس
(3/718)
قد أخبر نصا أنه حال بينهم وبين الإيمان
والجَنة بهذه الموانع التي ذكرها.
وهل ترك متعلقا للقوم بعد هذا لولا جهلهم ومكابرتهم.
ثم أكدهم بتأكيدِ ثانِ فقال: وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)
.
الإيمان.
* * *
وقوله تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ
مُبِينٍ (12) .
حجة عليهم، إذا الإيمان والكفر، والخير والشر شيء كله، فإذا
كان محصى في كتابه قبل الفعل، فهل يجري الفعل - ويحهم - إلا
عليه.
ذكر الشهيد.
وفي قوله: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي
يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُكْرَمِينَ (27)
(3/719)
دليل على أن الشهيد يدخل الجنة قبل يوم
القيامة لأنه حي يتكلم كما
ترى، ومثل هذا قوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ
رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ
مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا
بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ (170) .
فإن قال قائل: فَمَالَك قلت في سورة الملائكة عند قوله:
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى
عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) ، إذ ناقضت المعتزلة في باب الوعيد
والتائب مستغن بتوبته عن العفو والمغفرة، والله تعالى يقول
في حبيب النجار كما ترى إخبارا عنه، وقد مات محسنا شهيدا،
(3/720)
قيل: إنما قلته هناك على وجه المناقضة،
ليتبين للقوم خطأ مذهبهم
في الوعيد، إذ هم يَرون العقوبات والكرامات معا باكتساب العبيد
محضا
لا يشوبه تفضل على محسن، وَلا قضاء على مجرم، فأريتهم على قياد
مذهبهم ما هدم بنيانهم الذي بنوه في الوعيد، وفي هذا معا على
الباطل، ليكونوا على يقين من كسر قولهم، وفساد نحلتهم، فأما
نحن فلا ننكر أن الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين
محتاجون إلى فضل
رحمة الله لا ينجي أحدا منهم عمله إلا أن يتغمدهم الله بفضله
ورحمته، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكيف
تنجيهم أعمالهم ويدخلون الجنة بها وحدها، وهي لو قِيست بنعمة
واحدة من نِعم الله عليهم في الدنيا ما وَفت، فكيف بجميع نعمه
(3/721)
وما لا يحصى منها، وكل محتاج إلى مغفرته
وتفضله، وإن حسن عمله.
فإن قيل: فما معنى قوله: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا
أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) .
وقوله في غير موضع: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .
قيل: هذا زيادة فضل منه عز وجل، وتثنية كرم وجود أن يشكر
(3/722)
لهم ما أنهضهم إليه، ويثني عليهم بما وفقه
لهم، ويسره عليهم حتى
فعلوه.
ألا تراه يقول: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ
وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا
يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ
مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ
صَالِحٌ) .
وقد قال: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ
وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) فأثنى عليهم بفعل حقيقته منه،
وبقوته وعونه فأضاف إليهم في حال، وكتب لهم به عملاً صالحًا،
وكل هذا رد على المعتزلة والقدرية في أن الفعل وإن نسب إلى
فاعله فحقيقته من عند خالقه، وما يثيب المحسن عليه فضل، وما
يعاقب المسيء عدل. ولم، وكيف، منقطعان في الحالين معًا، إذ ليس
للعبد أن يعترض على
خالقه في أحكامه، والخالق يفعل ما لا يبلغه علم عبيده، وعليهم
التسليم به على ما تصرفت أحكامه في أفهامهم، وعقولهم الناقصة
ولذلك - والله أعلم - قال: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ
لِحُكْمِهِ) .
* * *
وقوله: (وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ
أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)
(الهاء) - والله أعلم - راجعة على جنس الثمر.
(3/723)
(وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ)
أي ما غرسوا وزرعوا - والله أعلم - ومنهم من يجعل (ما) فيما
عملته أيديهم جحدا، بمعنى أنهم لم يعملوه في الحقيقة هم.
وإن باشروه بأيديهم، بل الله عامله إذ هو مخرجه من العدم إلى
الوجود
ويحتجون بالآية التي بعدها: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا
خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا) .
* * *
وقوله: (أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)
وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا
يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ
أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)
نظير ما مضى في سورة الأنعام عند قوله: (وَمِنَ الْأَنْعَامِ
حَمُولَةً وَفَرْشًا) .
(3/724)
|