النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام سورة الصافات
* * *
قوله تعالى: (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)
قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا
نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
حجة على المعتزلة والجهمية، ألا ترى إلى مخاطبة هذا لِقرينه
الذي كان
حريصا على إغوائه في الدنيا بما يقول له: (أَإِذَا مِتْنَا
وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) .
فأعلمه أنه لم ينجُ مما كان يدعوه إليه قرينه، ويزينه له إلا
بنعمة ربه لا
بطاقته واستطاعة نفسه.
المعتزلة.
وقوله تعالى: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ
الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ
(63)
حجة على المعتزلة والقدرية، ومعنى هذه الحجة أن الظالمين لما
ذكرت
(3/727)
شجرة الزقوم في سورة بني إسرائيل في قوله:
(وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) افتتن بذكرها
الظالمون فقالوا: " يزعم محمد أن في النار شجرة، والنار تحرق
الشجر، وتأكله "، وكان نزول بني إسرائيل قبل نزول الصافات،
وكلاهما مكيتان، فقال نصا كما ترى
في هذه السورة: (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ
(63) ،
إذ قولهم لا محالة في الشجرة تكذيب في القرآن ونسبة الرب إلى
النسيان.
وهذا من أكفر الكفر الذي ازدادوه إلى كفرهم، فليعدوا الجعل كيف
شاؤوا في هذا الموضع فإنه حجة عليهم.
(3/728)
وقد دللت إلى الفرق بين الفتنة والفتون بما
يغني عن إعادته في هذا الموضع
التقليد.
* * *
وقوله: (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ
عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
ذم للتقليد كما ترى، ولسنا نريد بهذا القول: أن تقليد العلماء
في
العلم كتقليد هؤلاء آباءهم جميع جهاته، ولكنا ننبه المقلدين أن
من لهى
عن طلب الحجة والفحص عن الأشياء، وبذل الجهد في الاستقصاء في
(3/729)
أمر الدين، وعول على التقليد أداه إلى ما
لا تحمد عاقبته، ولا يرتضى
طريقه، كما أدى هؤلاء حين لهوا عن آيات الرسل، وما أتوهم به
من الحق عن ربهم، فظنوا أن آباءهم أصدق من رسلهم، وأعرف
بمواضع الحجة من أنفسهم.
المعتزلة.
* * *
وقوله: (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ
خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)
حجة على المعتزلة في خلق الأفعال، لأن الله - جل جلاله - لم
يخلق
الصنم صنما منحوتا صورة كما خلق سائر الصور، والقوم لم يعبدوا
ما
نَحتوا منه الصنم كهيئة ما خلقه الله. فكيف يجوز أن يكذب عليهم
إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - مع نبوته وخلته، فيوبخهم على
ما لم
يفعلوا. إذا القوم لم يعبدوا حجرا، ولا خشبا قبل النحت، وإنما
وبخهم على ما فعلوا، وفعلهم في العبادة واقع على صورة الصنم لا
على الشيء الذي نحت منه الصنم، فليس يخلو قوله: (وَمَا
تَعمَلُونَ)
من أن يكون واقعا على نص النحت وهو عمل، أو عليه وعلى غيره
(3/730)
من الأعمال. وعلى ما وقع من هذين فالحجة
ظاهرة عليهم.
(3/731)
وقوله: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى
رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)
حجة عليهم في تبري إبراهيم - صلى الله عليه - من الهداية
والاستهداء من ربه.
المعتزلة:
* * *
وقوله: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ
إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ
مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ
سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
دليل على أن رؤيا الأنبياء حَق، يعلمون به كما يعلمون
بالرسالة.
ويثبت به الحجة على الناس ثبوتها بالرسالة.
وقوله إخبارًا عن الغلام: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ)
(3/732)
حجة على المعتزلة والقدرية، ألا ترى أن
الغلام كيف استثنى في صبره
عِلْما منه بأنه غير مالك له، وأن الله - جل ئناؤه - هو الذي
يصبره
وكذا قال الله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: (وَاصْبِرْ
وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ) فيسأل الصبر، إنه غير مملوك
ولا مستطاع إلا بالله، وقد
أمر الله به الناس كافة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا) ، أفيجوز لأحد أن يقول:
أمر الله المؤمنين بشيء قد أخبر أنهم لا يستطيعونه إلا به،
وذلك ظلم منه كما يزعمون
- ويلهم - أن المدعي على الله - جل جلاله - بقضاء المعصية على
من
أمره بتركها مجوره. أَوَلا يعتبرون أن الأعمال كلها أسوة الصبر
قد أمر
الله المأمورين بجميعها، وطاقتهم فيها معا طاقة واحدة لا
يقدرون على
شيء منها إلا به، كما لا يقدرون على الصبر إلا به، والله - جل
وتعالى - عادل فيما أمرهم، ومتفضل على من أعانه عليه، وغير
(3/733)
جائز على من حجب عنه المعونة ثم عاقبه على
الجناية، ونسبها إليه
وسماه بها ظالما، ونفسه عادلا، وكل ذلك حكم منتظم وخبر
صادق، وعلم كيفيته وكيفية صدقه محجوب عمن هو عبد ذليل
بالعبودية جاهل بكل ما لم يعلم. ألا ترى إلى قول الملائكة:
(قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا
عَلَّمْتَنَا) ، وهذا علم لم يُعلِّمه اللهُ بشرًا
ولا مَلَكاً، بل ألزم الجميع أن يؤمنوا بعدله عرفوه أم لم
يعرفوه، كما
ألزمهم سائر الفرائض ليكونوا عبيدا مقهورين مؤتمرين غير مقحمين
على
ما لم يطلعوا عليه من سره في قضائه وقدره.
وفيما أخبر عن الغلام أيضاً دليل على الاستثناء مقدما ومؤخرا.
استثناء محسوب لمستثنيه، فهو هاهنا مقدم، وفي قوله:
(لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) مؤخر.
(3/734)
وقوله تعالى: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا
إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) .
دليل على أن كلام الله غير مخلوق.
وفيه دليل على أنه رأى في المنام أنه يقدمه للذبح لا أنه
يذبحه، إذ لو
كان رأى ذبحه ما صدق رؤياه بالتقديم للذبح، فيكون قوله: (أَني
أَذبحكَ) أسوة سائر ما ضاهاه في القرآن على سعة اللسان مثل
قوله:
(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)
، فإنما هو مقاربة الأجل -
وهذا مقاربة الذبح. والله أعلم كيف هو.
(3/735)
وفي قوله: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ
الْمُبِينُ (106)
تأكيد لما قلنا، والبلاء في هذا الموضع الاختبار - والله أعلم
- ونحر
الولد من أشد الاختبار وأثبته، فوجد الخليل وابنه معا سمحين به
متبعين
رضا مختبرهما - جل وعلا -.
قوله: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ (112)
دليل على أن الذبيح إسماعيل، وكان أبو الخطاب قتادة بن دعامة
يوافق من قال: هو إسحاق، ويزعم أن الله جعله نَبيا جزاء
(3/736)
لاستسلامه للذبح.
وليس عندي في هذا معتبر، لأن الغلام المفدا من الذبح قد كان
استحق النبوة بنبوة إبراهيم قبل ابتلائه بالذبح، بل أدل
ما قال: إن الله جعله نبيا لِيُقر عَيَن إبراهيم - صلى الله
عليه - به
جزاء له على ما صبر، وَوَطن نفسه على ذبح إسماعيل - صلى الله
عليه - لأن البشارة بإسحاق كانت بعد أن فدي الغلام بالكبش، فلو
كان المفدى إسحاق لكان: وبشرناه نبيا.
والله أعلم كيف هو مع أن قول الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم
- " يا ابن الذبيحين " وترك إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم
-
(3/737)
يؤيده.
والخبر وإن كان في إسناده بعض المقال فشهرته واستفاضته تؤيده
وقوله في موسى وهارون: (وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ (118) .
(3/738)
حجة على المعتزلة.
ذكر القول فى عمل السىء.
* * *
وقوله تعالى: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ
(143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
دليل على أن العمل السييء لا يعدِم ما تقدمه من الصالح، وأن
المرء
يحفظ صالح عمله، وينجو به من المهلكات.
(3/739)
وفيه دليل على أن المسلم وإن عُوقِب
بجنايته لا يخلد بها في العذاب.
وأن الصالي بالخلود في عذاب جنايته هو الكافر دون المسلم، وفي
ذلك
دحض الحجة على المعتزلة في باب الوعيد بَينا لمن تدبره.
* * *
قوله: (فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ
عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ
الْجَحِيمِ (163)
كان الحسن البصري - رحمه الله - يقول: " يعني: يا بني إبليس.
إنكم لن تستطيعوا أن تُضِلوا أحدا إلا مَن كان في علم الله أن
يَصلَى
الجحيم ".
وهو حَسَن من قوله، وبراءة مما رُمي به من القدر، وحجة على من
يحسب أنه منهم.
(3/740)
وقوله: (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ
(165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)
فيها إضمار - والله أعلم - كانت تقول الملائكة: وإنا لنحن
الصافون، لأنه لم يجرِ لهم ذكر قبل هذا إلا في قوله: (أَمْ
خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) ،
إلى قوله: (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ
لَمُحْضَرُونَ (158) .
فيحتمل أن يكون معنى هذا الفصل أن يقول: كيف تكون الملائكة
أولادَ الله، وهم مقرون بأنهم صافون
والمسبحون، يفعلون فِعل العبيد، ولو كانوا أولادا ما كانوا
عبيدا.
فيكون حينئذ كقوله: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)
تكذيبَا لمنِ ادعى له ولدا، وإذا كان ذلك كذلك كان أيضَا حجة
في أن الابن يعتق على الأب إذا مَلَكه، إذ محال أن
(3/741)
يجتمع على نفس واحدة بنوة وعبودة لشخص في
حكم التلاوة.
وكان عكرمة يقول في قوله: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْجِنَّةِ نَسَبًا)
قال: " جعلوا بنات سراة الجِن بنات الله - تبارك وتعالى - ".
فكأنه يقول: كيف تكون بين الجِنة وبين الله نَسَب.
وهم عالمون بانهم محضرون في عذابه، فلو كانوا أبناء صرف عنهم
عذابه.
والله أعلم بكل ما أراد من ذلك.
(3/742)
المعتزلة والقدرية.
* * *
قوله: (وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ
عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ
اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)
حجة على المعتزلة والقدرية، إذ لو كانوا مِن مَالكي أنفسهم.
متصرفين في استطاعتها على نحو ما يذهبون إليه لآمنوا بمجيئهم
ذكر أوليهم فلا يعتبرون أن مَن تمَنى شيئَا لشيء فأعطيه وهو لا
يشك في
الوصول إليه بعد إعطائه مُنَاه، ثم لم يصل إليه أن هناك حِرمان
أقعده
عنه، وَفَوات قَسْم لم يقسم، ولا يجوز صرف كفرهم في هذا الموضع
إلى الجحود، لأن الجاحد لا يتمنى الأماني بل يُصر على العِناد
في
العيان والبلاغ الذي يزيل الريب عما قلناه، وتحقق ما احتباناه
فانتزعناه.
قوله إخبارا عن قوم النار (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا
نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
(27)
ثم قال: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ
وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
(3/743)
فهل بعد معاينة أهوال الموت والحشر
والقيامة والنار ارتياب
يصد المرء عن الإيمان، لولا زوال استطاعة عن شيء لم يُقْسَم
له، ولم
يُمتن به عليه بل حِيل بينه وبين الوصول إليه.
* * *
وقوله: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا
الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)
وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)
حجة عليهم واضحة.
(3/744)
سورة ص
قوله عز وجل: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا)
رذ على من قال: إن الله سبحانه بنفسه في الأرض.
ذكر أن المؤمن يكون مسخرًا وإن كان موفقًا.
(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ
بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً
كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)
رد على مَن قال: إن المؤمن لا يكون مسخرا، إنما يكون موفقا
والمؤمن وإن كان موفقا فليست تمتنع اللغة أن يكون مسخرا للخير،
ألا
ترى أن الجبال والطير مسخران في هذه الآية للتسبيح مع داود -
صلى
الله عليه - والتسبيح طاعة،
(3/746)
فلذلك (1) قوله: (وَسَخَّرَ لَكُمُ
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ
مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ) .
وهم دائبون في طاعة، يسيرون في الفلك ليلا ونهارًا.
فالسخرة: اسم موضوع لحمل الإنسان على شيء مكره. فمن
أُكره على الخير، أو على الشر فهو مسخر، أي محمول عليه وإن لم
يشتهيه..
والتسبيح يقع على الصلاة وعلى التنزيه معا، فقد يجوز أن يكون
داود
(3/747)
- صلى الله عليه وسلم - كان مع تنزيهه لله
عن السوء يصلي
الضحى، والطير والجبال ساعدون على التنزيه دون الصلاة، وذلك
أنه رُوي عن ابن عباس أنه قال: " كنت أَمرُّ بهذه الآية:
(بِالعشي والإشراق) فلا أدري ما الإشراق، حتى حدثتني أم هانئ
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صَلى يوم الفتح الضحى ثماني
ركعات. وقال: " هذه صلاة الإشراق "
(3/748)
وقوله: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ
إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى
دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ)
اسم الخصم واقع على الواحد والجماعة، فقد يحتمل أن يكون
تسور عليه من أكثر من مَلَكين، وخاطبه ملكان، لأنه قال: (إِذْ
تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ) ، و (إِذْ دَخَلُوا) ، ثم قال:
(خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ)
، و (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ) ، ويقال: إنهما كانا
(3/749)
جبريل وميكائيل - صلى الله عليهما - لأن
الله آخى بينهما في
ْالسماء، ويحققه قوله: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ) .
وفي قوله: (تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ
وَاحِدَةٌ)
دليل واضح غير مشكل على إباحة المعاريض، فإنها غير معدودة في
عداد الكذب.
(3/750)
وقد قيل: إن النعجة ليست بكناية عن المرأة
بل نفس المرأة تُسمى
نعجة كما قال عنترة
يا شاة ما قنص بمن حلت له
حرمت عليَّ وليتها لم تحرم
وهذا وإن كان كذلك فليس يمنع من أن يكون الخطاب حجة في جواز
المعاريض، لأن الملَكَين لم يكن لهما نعاج النساء، وَلاَ نعاج
الغنم.
وقد قال مخاطبَا له، (وَلىَ) كما قال، ولم يكن لهما في
الحقيقة.
ولكنهما أرادا تنبيه داود - صلى الله عليه - على خطيئة
فانتبهوا لها.
(وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
(3/751)
وفي قوله: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ
الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ)
دليل على أن العرب وإن سمتِ النساء بالنعاج، فهي في هذا الموضع
نعاج الغنم، لأن الخلطاء لا يكونون في النساء إنما يكونون في
الغنم.
وفي قولهما له: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ)
دليل على أن الخصوم إذا خاطبوا الحاكم بمثله، وقالوا: اعدل في
حكمك، ولا تجر علينا لم يكن ذلك منهما سوء أدب، ولا يجاز
للحاكم أن يحد عليهما ولا يعاقبهما.
فإن قيل: أفليس قد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على
الرجل
الذي قام عليه وهو يقسم قسما فأمره بالعدل،
(3/752)
قيل: إنما أنكر عليه قوله: " فإنك لم تعدل
". ولو قال له: اعدل
وسكت ما أنكر عليه، لأن الأمر بالعدل بترك الحيف أمر بالمعروف
وكلام
حق.
(3/753)
وقوله: فإنك لم تعدل للنبي - صلى الله عليه
وسلم - منكر، بل كفر لمن
تعمده. وهذان الملكان خاطبا خليفة الله داود - صلى الله عليه -
وللخصوم بعدهما قدوة بهما، وللحكام قدوة بداود - صلى الله
عليه.
وفي إطباق القراء وهجاء مصاحف الأمصار على: (قَالَ رَبِّ
احْكُمْ بِالْحَقِّ) سوى الضحاك بن مزاحم فإنه قرأ: (قُل رَبي
أحْكَمُ)
(3/754)
قطع من كل لبسة في أن ذلك جائز، لأن الله -
جل جلاله - لا يحكم إلا
بالحق وقد. . . الحكم بالحق كما ترى.
* * *
وقوله: (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ)
الظن بمعنى العلم - والله أعلم - أي علم داود.
والدليل عليه استغفاره وتوبته، لأن بالشك لا يتحقق الذنب.
فللتائبين بعده أن يقتدوا به - صلى الله عليه - في التوبة،
فيستغفروا
خارين بين يدي ربهم في السجود، لأنه أجدر بالغفران لصاحبه إذا
تذلل
بالسجود لخالقه.
* * *
قوله: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي
الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا
تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)
حجة على المعتزلة، ألا تراه - جل جلاله - بعد أن أخبر بالإضلال
(3/755)
عن نفسه، وعن عَدوه الشيطان، أخبر به في
هذا الموضع عن الهوى
وأخبر بعد الهوى عمن له الهوى بأنه يضل هو عن الهوى. فأي شيء
يلتمس أوضح من هذا، وهل يكون كل من أخبر عنه بذلك إلا تَبعا
له، إذ لا يجوز بتة أن يجعل تبعا لهم، فقد بَان كل البيان أن
الضلال
مقضي به على صاحبه أضيف إليه أو إلى غيره.
* * *
قوله: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ
لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)
حجة لمن يجعل القرآن نصب حججه في أحكام إسلامه، وشرائع دينه
وانتزاعاته في جميع علومه، فمن تدبر آياته أدته إلى حقائق
الأحكام.
وتذكر أولي الألباب لا يكون إلا به، وكذا قال: (وَهَذَا
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) ، ولهما أشباه في القرآن.
(3/756)
قو له: (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ
الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ)
دليل على أشياء.
فمنها: أن الولد من هِبة الله لأبيه، فإذا كان صالحا لم يكن
عليه فِتنة.
ومنها: الاستغناء بأجزاء الكلام عن أوله بما يدل عليه سياقه،
لأنه
لم يذكر فوات الذكر له قبل الإخبار عن سليمان بقوله، ومعاقبة
نفسه.
ومنها: الاستغناء بالإشارة إلى المعنى في الأوقات عن اللفظ.
لقوله: (حَتَّى تَوَارَت بِاَلحجَابِ) ولم يجر للشمس ذكر.
(3/757)
ومنها: إجازة التكرير والتأكيد مع ذلك تارة
وتارة (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ)
ومنها: أن الصلاة يقال لها: ذكر كما هي، وفيها أفعال.
ومنها أن هذه الصلاة كانت صلاة العصر، لذكره العشي، وتواري
الشمس بالحجاب بعده.
(3/758)
ومنها: أن النفس تعاقب على اشتغالها
بالدنيا عن الآخرة، إذ فعل
سليمان - عليه السلام - في الجياد عقوبة لنفسه، وحملها على ما
كرهته من
فوات ما أحبته
ونبي الله سليمان - عليه السلام - قدوة مَنِ اقتدى به، وقد
اقتدى به
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حيث خرج إلى أرضِ له، ففاتته
صلاة العصر فتصدق بها. وقيمتها مائة ألف.
ومنها: أن أكل الخيل جائز، إذ لا يجوز على نبي الله سليمان في
(3/759)
منزلته من الله أن يعاقب نفسه تقربا إلى
الله في شيء يعود ظلمه
على بهيمة أو حيوان إلا وتلك البهيمة تمسح بالسوق والأعناق
مجعولة
(3/760)
للمساكين يأكلونها، فتكون زيادة في قربته،
ولا تكون إفاتة نفسها إلا
منفعة لا عبثا وظلما. ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -
قال: " من قتل عصفورًا عبثًا عَجَّ إلى الله - تبارك وتعالى -
فقالت: يا رب
إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني لمنفعة ".
(3/761)
ونهى عن صبر البهائم.
(3/762)
وأن تتخذ شيئا فيه الروح غرضَا، لأن الله -
جل جلاله - لم يبح قتل
الروحانيين من غير الناس إلا ما ذبح لمأكلة مما أباح لحَمه، أو
كان مؤذيا
فيقتل مثل الحية، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور، وأشباه ذلك
مما أباح قتله في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه
وسلم -،
(3/763)
فكل هذا دليل على أن سليمان - صلى الله
عليه - وإن عاقب نفسه بقتل
جياده فلم يقتلها إلا لمنفعة المساكين ومأكلهم.
ومنها: أن المذبوح إذا أبين رأسه جاز أكله، ولم يكن مكروها في
الذبائح، لأنه روي أن سليمان - عليه السلام - ضرب أعناقها
بعدما عقر سُوقها.
(3/764)
ومعنى عَقْر السُوق - والله أعلم - كمعنى
الإشعار في البدن في
شريعتنا ليدل بها على أنها مجعولة شعائر تذبح لله، فكأنه مسح
سوقها
ليدل بها على أنها مجعولة لله.
* * *
قوله: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا
تَحْنَثْ)
دليل على جواز ضرب النساء فيما دعا إلى صلاحهن وأدبهن.
وأوبهن إلى الله - جل وتعالى - لأن امرأة أيوب - صلى الله عليه
-
كان لقنها إبليس شيئا تُشير به على أيوب، وأريها أن شفاءه من
بلائه
في ذلك، فكان قبولها ذلك منه، ومشورتها به على أيوب معصية.
فحلف أن يضربها عليه مائة جلدة. وفي هذا تأكيد قول أهل الشام
(3/765)
فيما رأوا التعزير مائة.
وقد أباح الله ضرب الناشز في كتابه، ونشوزها معصية.
فللزوج أن يضربها على كل ما كان معصية منها، وأذى عليه.
فأما ما آذاه مما ليس بمعصية منها فليس له أن يضربها، بل
ينهاها
بلسانه نهيا، ولا يفضي إلى الضرب.
(3/766)
وفي براءة أيوب - صلى الله عليه، - من
يمينه وبِرّه فيها بإعمال
الضِغث مرة واحدة دليل واضح، وحجة لمنِ يقول: الأيمان على
الأسماء
ليس على المعاني، لإحاطة العلم بأن ممُاسة شماريخ الضِغث لا
يؤلم
المضروب كما يؤلمه تفريق عدد الضرب عليه. وأيوب - عليه السلام
-
لا محالة حين حلف عليها قَصد لضرب مفرقٍ يُعدُّ عدَّا واحدًا
بعد
آخر. إذ محال أن يكون عَرَف الضِغث قبل أن يأمره الله به، وكذا
ضَرْب النبي - صلى الله عليه وسلم - الزاني النّضْو الخلق
بِعثكال النخل ضربة واحدة بما فيه مائة شمراخ، وقد أمر الله
بجلد
(3/767)
مائة، فهو يؤكد هذا.
وكان وكيع بن الجراح يفتي فيمن حلف أن يضرب رجلا ضربة
بالسيف أن يضربه بعرضه، فيخرج به من يمينه، وقصد الحالف
(3/768)
لم يكن للعرض، فهذا حجة له، لأن اسم الضرب
في الظاهر شامل لما كان
بالعرض والحد، فيخرج من هذا أن الحالف على ترك لبس ما غزلته
امرأته، إذا باعه واشترى بثمنه غيره فلبسه لم يحنث. وما ضاهى
هذا
من أيمان الحالفين.
* * *
وقوله: (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ
(46)
حجة على المعتزلة والقدرية.
(3/769)
|