النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام

سورة الزمر
* * *
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)
فيه ضمير " يقولون "، أو " قالوا " وما أشبهه، والله أعلم.
* * *
قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
دليل على أن المؤمن هداه الله إلى إيمانه. وهو حجة على المعتزلة في أشياء:

(4/3)


فمنها: ما يزعمون: أن الله - جل جلاله - ليس له في فعل العبد
صنع بمعونة ولا غيرها، وقد أخبر - نصًّا ها هنا - أن الكافر محتاج إلى
هداية الله إيَّاه - والمؤمن به اهتدى.
ومنها: ما يلزمهم في ادعاء العدل - الذي لا يعقلونه - من مطالبة
الكافر بالإيمان، وعقوبته على الكفر، وليس يقدر على ما أمر به إلا بهداية
آمره، كما ترى.
ومنها: يزعمون: أن إخراج أهل الكبائر من النار لا يجوز على الله

(4/4)


من جهة أنه خُلْف، وقد قال - نصًّا ها هنا -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
وقد هدى من الكفار من لا يحُصى. أفليس بينًا
- لمن تدبره - أن الموعَد بالعقوبة، إذا تركت له فهو من تاركه كرم، لا
خلف وأن من قال: لا يهديه من الكفار، والكذابين، إما أن يكون
خصوصًا في قوم بأعيانهم، حتم أن لا يهديهم، لما سبق في قضائه من
شقوتهم، أو يكون بمعنى لا يهديهم طريق الجنة، إذا ماتوا على كفرهم
وكذبهم، كما قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ) .
فهو لمن مات على شركه.
* * *
وقوله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) .
لمن تاب في حياته. وأيهما كان - من هذين المعنيين

(4/5)


- فهو حجة عليهم، إذ توهم معنًى سواهما كفرٌ صراحٌ لا التباس فيه.
* * *
قوله: (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) .
نظير ما مضى من قوله: (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) .
هو حجة فيما نمثله - للمخالفين - في الاحتجاج عليهم.
* * *
قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا)
دليل على أن الله - جل جلاله - خلق ذرية آدم في صلبه، مودعين على
صور الذر، كما روي في الخبر، قبل خلق حواء، لأن " ثم "

(4/6)


حرف يستأنف به الكلام، ويقطع الأول عن الآخر.
* * *
قوله: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)
دليل على أنها منزلة من الجنة. ويؤيده حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الماعزة: " امسحوا رُغامها فإنها من دواب الجنة ".
فإن قيل: أليس قد رُوي عنه في الإبل: " فإنها جنٌّ، من جنٍّ خُلقت ".

(4/7)


قيل: وما في ذاك ما يمنع أن تكون من دواب الجنة، كأن الجن محرمٌ
عليهم دخول الجنة؟! أليس مسلمو الجن يدخلونها،. وما ينكر أن
يكون من الجنِّ من كان في الجنة، فأهبط إلى الأرض، كما أهبط
آدم. أليس إبليس رأس الجن وأصلهم،

(4/8)


وكان في الجنة، فأهبط مع آدم إلى الأرض، قال الله - تبارك
وتعالى -: (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ) ، قال: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) .
* * *
قوله: (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)
آية يتعلق بها المعتزلة والقدرية

(4/9)


ويُغالطون بها العامَّة منّا.
وليس في زوال رضاه عنه ما يحيل أن يكون هو خالقه، فقد خلق
إبليس، وهو رأس الشر، وليس بمرضي عنده، وخلق الدنيا، وهي
بغيضته، يُزَهِّد فيها أولياءه، ويُمتِّع فيها أعداءه. فما يمنع أن
يكون الكفر من خلقه، وهو يبغضه، ولا يرضاه، ولا يرضى
لعباده أن يأخذوا به، كما لا يرضى لهم أن يأخذوا الدنيا، إذ هي
متاع الغرور، و (لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ) في الحياة، كما قال اللَّه تبارك وتعالى.
فإن قيل: فكيف خلق ما لا يرضاه؟.
قيل: ليس علمُ هذا إلى عباده، وما خاطبهم به في كتابه، ولا على

(4/10)


لسان رسوله، صلى الله عليه وسلم.
* * *
قوله: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) .
تقريع لمن يهمل الدعاء في الرخاء، ويفزع إليه في الشدة، وليس ذلك من أخلاق المؤمنين، إذ من أخلاقهم إكثار الدعاء
في الرخاء عُدة للشدة، واستغنامًا لشفاعة الملائكة - إلى ربهم - في
إجابته، فقد رُوي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال لابن عباس:
" تعرَّف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة ".

(4/11)


ورُوي: " أن العبد إذا أكثر الدعاء في الرخاء، ثم نزلت به الشدة فدعا.
قالت الملائكة: صوت معروفٌ، من آدمي كان يكثر الدعاء في الرخاء.
فنزلت به الشدة، فتشفع له إلى الله، وإذا لم يكثر الدعاء، فنزلت به
الشدة، فدعا، قالت الملائكة: صوت مجهول من آدمي لم يدع الله في الرخاء، فنزلت به الشدة فدعا، ولا يشفعون له ".
ومثل هذا في القرآن في مواضع، مثل قوله: (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ، وقوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ، وغير ذلك.
فلا ينبغي للمؤمن أن يستن بالكافر، ولا يفزع إلى الدعاء إلا عند الشدائد.
* * *
وقوله: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ)
دليل على أن أوقات الليل - كلها - في الصلاة

(4/12)


ممدوحة، وأن القانت هو المطيع، لا القائم، وأن الواو وإن كانت
ناسقة باللفظ، فغير موجبة أن تكون ناسقة بالمعنى في كل موضع، ألا
تراه ذكر القيام بعد السجود، فهل يجوز لأحد أن يقدم السجود على
القيام؟.
وهذا رد على من يرى ترتيب أعضاء الوضوء في الغَسل فرضًا.
* * *
وقوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)
مَدَحَ العلماءَ، وذم الجهلاءَ، ودليلٌ على أن التذكر لا يمكن إلا بالعلم.
وفيه حجة لمن قال: العالم - وإن لم يعمل بعلمه -

(4/13)


أفضل من جاهل لا يعمل بالخبر، لأن الله - جل وتعالى - فرض العلم والعمل - معًا -
فمن أطاعه في العلم فقد جاء بشطر الأمر، وبقي عليه الشطر، ويوشك
الشطر الذي أطاع فيه أن يُلحقه بالشطر الآخر، والجاهل مضيعٌ لجميعه.
وغير آخذ عدة العمل، ودليل النجاة.
والخبر المروي: " يُغفر للجاهل سبعون ذنبًا قبل أن يغفر للعالم ذنب
واحد" ليس هو عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وليس
بشيء، لأنَّا لا نعلم الله مدح الجهل في كتابه، ولا على لسان
رسوله، صلى الله عليه وسلم، ولو كان كذلك، لكان الجهل أرفع
درجة من العلم، والجاهل إلى أن يكون عمله الذي يحسبه صالحًا -
غير مقبول منه - أقرب إلى أنْ يغفر له خطيئته، لأنه لا يقيمه بعلم.
ولا يخلصه لربه.
وربما أعدَّ الخطيئة طاعة، والطاعة خطيئة، والإعجاب بعمله أسرع
إليه منه إلى العالم، الذي إذا عمل خيرا شكر من وفَّقه له، وعلم أنه

(4/14)


مستعمل، لا عالم بقوته، فالإعجاب بعيد من هذا، والشكر عمل
برأسه، وإذا عمل سيئة عرف وزنها، وطريق الاستغفار منها.
والندم عليها، فتسره حسنته، وتسوؤه سيئته، فيستوجبُ الإيمان.
كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من سرته حسنتة، وساءته سيئته، فهو مؤمن ".
والجاهل لا للخطيئة يعرف وزن ثقلها، وعظم بليتها، ولا للحسنة
يعرف وزنها، بل يرى نفسه مستعليًا بها، ومتكبرًا على القاعدين عنها.
وكل هذا خطايا برؤوسها، فكيف يستويان، ومتى يلتقيان؟!.
فلو قُلب هذا الخبر، وقيل: يُغفر للعالم سبعون ذنبًا، قبل أن يُغفر

(4/15)


للجاهل ذنب واحد، لكان الكتاب والسنة والإجماع ونظر المحصلين
أدل عليه، إن شاء الله.
وعلى العالم - مع ذلك - أن يعرف حق المنعم عليه فيما علمه.
ويصون ما أكرم به من تدنيسه، وسلكه به مسلك الجاهلين، ويحذر
سطوة الله في تضييع شُكره - فعلاً وقولاً - على ما أعطي.
فعليه أن يَنْفِس على ميراث الأنبياء، فلا يخلطه بميراث إبليس.
وأعدائه من الشياطين.
* * *
وقوله: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)
دليل على الإخلاص فرض عليه، وعلى أمته مع أنه قد نص القرآن على أمر الأمة -أيضاً - حيث يقول: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) .
* * *
وقوله: (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)
يحتمل أن تكون اللام فيه بمعنى " الباء "، ويحتمل أن يكون وأمرت بالعبادة المُخْلَصة، لأن أكون أول المسلمين. والله أعلم كيف هو.

(4/16)


وهذا يؤكد أن قوله - في الأعراف، إخبارًا عن موسى -: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) ، أنه أول مؤمني زمانه، إذ محال أن يؤمر النبي.
صلى الله عليه وسلم، أن يكون أول من أسلم، من الخلق - كلهم -
وقد تقدمه بالإسلام من تقدم.
ولكنه أول من يسلم من أمته.
* * *
وقوله: (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) .
هو على طريق التهدد ليس على ما يتأوله المعتزلة والقدرية.
وهو نظير قوله: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) ، وقد أجبناهم عنه.
وجه التأكيد فيه: أن موسى وصف أنه أول المؤمنين، ووصف نبينا محمد، صلى اللَّه عليه وسلم، أنه أول المسلمين فلو كان المراد الأولية بالنسبة للناس جميعا لاقتضى التناقض، إذ كيف يصف نبيا أنه أول المؤمنين جميعًا، ثم في مكان آخر يصف نبيُّا - آخر أنه هو الأول، فما جاء هنا أكد أن المراد بالأولية هناك أولية نسبية، لا مطلقة.

(4/17)


وقوله: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ)
رُوي عن قتادة أنه قال: هم أهلوهم الذين أعدوا لهم في الجنة.
فخسروهم بكفرهم. وما أظنه إلا كما قال.
فقد رُوي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حديث يصدّقه:
" ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار.
فإن مات فدخل النار، ورث أهل الجنة منزله. فذلك قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) ".

(4/18)


وفي بعض أخبار المساءلة في القبر عن النبي، صلى الله عليه وسلم.
أنه قال - في الكافر -: " ثم يفتح له باب من الجنة، فيُقال له: هذا
كان مكانك، لو آمنت بربك. فأمَّا إذ، كفرت به، فإن الله أبدلك
به هذا. فيفتح له باب من النار. ويفتح للمؤمن باب من النار، فيقال
له: هذا مكانك لو كفرت بربك فأمَّا إذ آمنت به، فإن اللَّه أبدلك به هذا، فيفتح له باب إلى الجنة ".

(4/19)


وقوله: (فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)
آية يغلط فيها القائلون بالاستحسان.
فيحتجون بها، وليست لهم، بل هي عليهم، لأنه يستمعون

(4/20)


القول، والقول المسموع لغيرهم.
والاستحسان لهم. فمحال أن يتبعوا أنفسهم في الاستحسان.
ويكون القول المسموع لغيرهم، فيُمدحُوا بغير ما وُصفوا.
والآية - بعد بيان غلطهم - حُجَّةٌ على المقلدين، إذ القول

(4/21)


المسموع لا يخلو من أن يكون قول من يكون قوله حجة، أو قول من
لا يكون قوله حجة.
فلما كان قول من يكون حجة، حسنًا كله، لا تزييف فيه، عُلم
أنه المتبع، دون قول من لا يكون حجة.
وقد لخصناه في كتاب الأصول من " شرح النصوص " ما أغنى
عن إعادته ها هنا.
* * *
وقوله: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ)
نظير ما مضى من قوله: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) في جواز تذكير فعل
المؤنث، لما يدل عليه اسمه.
وهو حجة على المعتزلة، وهو - والله أعلم - مثل قوله: (أَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)

(4/22)


وقوله: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ)
إلى قوله: (فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
حجة على المعتزلة والقدرية.
* * *
وقوله: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ)
دليل على أن الصدق الثاني ليس بعطف على الصدق الأول " لأن " الذي " يخُبر به عن واحد، و " أولئك " عن جميع، ففيه دليل على أن الذي جاء
بالصدق هو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جاء بالقرآن، وهو
صدق، وصدق به أصحابه في حياته، وسائر المؤمنين بعد وفاته.
وكل من صدَّق بالقرآن استحق اسم التقوى، واستوجب ما وُعد -
هؤلاء - المصدِّقون من الثواب، وتكفير السيئات.
* * *
وقوله: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)
دليل على أنه يكفي من

(4/23)


توكل عليه، واعتصم به، ويقيه شر كل محذور - دونه - فاستعلى على كل
متسلط سواهم فليتق المؤمنون بهذا منه، إذا استكفوه، وفوضوا أمورهم
إليه، فلن يُغلب من تولاه، ولن يهُضم من حرسه وكفاه.
* * *
وقوله: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ)
رد على المعتزلة والقدرية. وهو من المواضع التي يحسن فيها حذف هاء المفعول.
* * *
قوله: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)
ردّ على المعتزلة والقدرية فيما يزعمون: أن المقتول ميت بغير أجله.
وقاتله قاطعٌ حياته الموهوبة له من عند ربه.
* * *
قوله: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)
إلى قوله: (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)

(4/24)


دليل على أنهم ليسوا بمؤمنين - لأن المؤمن لا يستهزئ بوعيد ربه، وإنْ اغترَّ بذنبه - وهم اليهود والنصارى، ومن يرى من الكفار أن عمله الذي يتقرب به إلى اللَّه يجُازى عليه بخير، فيبدو له - من ربه - خلافُ ما قدَّر. والله أعلم.
* * *
وقوله: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)
الآية، حجة على المعتزلة في باب الوعيد، وقد بيناه في غير هذا الموضع.

(4/25)


وقوله: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54)
دليل على أن استكشاف العذاب، والعقوبات بالمسارعة
في الطاعات، والمسارعة إلى التوبة والندامات.
ويدخل في هذا المعنى ما نُدب إليه الناس من إحداث التوبة، والتقدّم
في الطاعة إذا أرادوا الخروج إلا الاستسقاء، في حين الجدب.
والقحط، وذلك أن منع القطر لا يكون إلا بسخطة، ولا السقيا إلا
برحمة. فإذا قدموا الطاعات، كانوا أقرب إلى الإجابات، وأجدر
برفع العقوبات.
* * *
وقوله: (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)
لا متعلق للمعتزلة فيه، لأنه نظير ما مضى - في سورة الأنعام - من
قوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا)
يعيب احتجاجهم بما لا حجة فيه، لا أنهم يقولون غير الحق.

(4/26)


وقوله: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)
لا متعلق لمن يقول بخلق القرآن لله، إذ قد دللنا على أن القرآن كلام الله، تكلم به، وإذا كان كذلك فهو نعت من نعته ولا يكون نعتُه - وإن سُمي شيئًا - مخلوقًا، لأنه شيء غير مخلوق. مع أنا لم نعلم أن الله خالق كل شيء
إلا بهذا القول، فمحال أن يدخل في الشيء ما عرف به الشيء.
* * *
وقوله: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)
دليل على غير شيء: فمنه: إعمال الفعل

(4/27)


الأول، دون الثاني، والإخبار عنه على التوحيد، وإهمال الثاني على الإشراك، وعلى الإفراد - معًا - بالإخبار عنه، لا بالإشارة إلى المعنى.
وفي ذلك دخول الخلل على اختيارات أبي عبيد - رضي الله عنه -
في القراءات إعمال الفعل الأقرب، دون الأبعد، مثل قوله: (أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى) بالياء، لأنه يلي النعاس، والأمنة قبله.

(4/28)


ومثل قوله: (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) ، لتباعد الشجرة
منه، ومثل قوله: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) ، بالتاء، لمجاورة النخلة له، دون الجذع، ومثل قوله: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ، بالياء، لقرب المني، وبعد

(4/29)


النطفة، وأشباه ذلك، لأن اللغة إذا وردت في القرآن في موضع
فقد - تكاملت الفصاحة فيها، فسواء كانت في موضع أو في
مواضع لا يزيد للمكرر على الموحد في الفصاحة شيئًا، إنما يُغلَّب
الكثرة على القلة، فيختار فيما لم ينزل بها القرآن - وهي متداولة في
الشعر والخطب - من كلام البشر.
فإذا نزل بها القرآن، ذهب موضع اختيار بعضه على بعض، إلا أن
يكون حرف يختلف القراء في نزوله، كيف نزل، فتقول طائفة: نزل كذا. وطائفة: كذا.
فيختار حينئذٍ ما تشهد له الكثرة، والأشهر - من كلام العرب - دون
الآخر.
وقد يجوز أن يكون هذا المعنى حجة لبيت امرئ القيس، حيث
أعمل الفعل الأول في قوله:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة
كفاني ولم أطلب قليل من المال.

(4/30)


بمعنى كفاني قليل من المال، ولم أطلب، كتأويل: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ) ، لئن فعلت كذا كان كذا (وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) ، أوحي مثله والله أعلم.
ومنه: أن المرتد وإن رجع إلى الإسلام فعليه إعادة كل ما سبق له -
قبل الردة - في ظاهر هذه الآية، لأن العمل المحبوط محتاج صاحبه إلى
استئنافه.
وأحسب الكوفيين - حيث قالوا ذلك - تأولوا هذا المعنى، وهو -
كما تأولوه - بينًا في هذه الآية، لولا الآية الأخرى، إذ يقول:

(4/31)


(وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)
فأبان أن المحبط عمله هو الميت على الردة، لا النازع عنها.
وفي قوله: (فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ) - معنًى - دليل واضح لا إشكال فيه أن المرتد تقبل توبته، ولا تبيح الردة دمه، دون الامتناع
من الإقلاع عما أمقل إليه من دين الباطل، إذ لو كانت الردة
تبيح دمه من غير تلوم برجوعه، لم يكن لاشتراطه (فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ)

(4/32)


معنى - لأنه كان يموت على ردته - إذا قُتل بجنايته كل مرتد.
إذ محال أن ترده التوبة إلى الإسلام فيشاط دمه وهو مسلم.
وهذا لا يشبه الحدود، من إفاتة نفس الزاني الحصن بالرجم، وهو
مسلم، لأن الرجم عقوبة عمل معمول فإذا تاب لم يعد عليه عمله غير
معمول، فهو مستوجب عقوبته، حتى يعاقب، والردة ترك عمل، من
قول وفعل، كان حاقنا بها دمه، فلما تركهما أوقعاه في إباحة الدم.
ما دام مقيمًا عليها فإذا أقلع عن حال إباحة دمه، وعاد في حال ما
حقن به حرم أَيضًا، وكان كفره ساعة نهاره ككفر الكافر مدة عمره.
قبل إسلامه، فمحال أن يجب الإسلام كفر مئة عام، ولا يجبُّ كفر
ساعة من نهار.
ومن هِرَاق دم المرتد بردته، ولم يلتفت إلى توبته، اعتمادًا على قول
النبي، صلى الله عليه وسلم: " من بدَّل دينه فاقتلوه "، فقد جهل

(4/33)


كل الجهل، وتأوَّل على الرسول، صلى الله عليه وسلم، بتوهمه ما لم
يقله، وأباح دم مسلم إذا تاب من ردته، إذ لا يقع اسم التبديل إلا
على المصر على الردة، التي أمقل إليها.
فأمّا هراقة دمه، وقد صار بالتوبة مسلمًا، فهو قتل مسلم لا مرتد.
ومنه: ما يدخل على المعتزلة في باب الوعيد من قبول توبة
من أوعد بحبط العمل، واللحوق بالخسارة، إذ محال أن يكون ما
يسمونه خُلْفًا، يكون في الآخرة، ولا يكون فى الدنيا، لأن الدنيا
والآخرة داران، والموعَد واحد.
فهل يجوز لذي عقل أن يزعم: أن زيدًا لو أوعد عمرًا مكروهًا، وله
داران، فعفا عنه، أن يُعدَّ عفوه في إحدى الدارين كرمًا، وفي
الأخرى خُلفًا.
أم يحقِّق ذلك عندهم أن العفو عن المكروه كرم - في كلا الدارين -
والخلف لا يكون إلا في ترك إنجاز الخير.

(4/34)


وقوله: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) .
رد على المعتزلة والجهمية

(4/35)


في القبضة، واليمين، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع.

(4/36)


سورة المؤمن
* * *
قوله تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)
إلى قوله: (وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
دليل على كرامة المؤمن على الله، إذ قد ألهم حملة عرشه
- ومن حوله - الاستغفار له، والدعاء، وما فيه له ولآبائه وأزواجه
وذرياته النجاة.
وفي دعائهم للتائبين المتبعين سبيل الله - بالمغفرة - دليل على ما
قلنا: من أن التائب، وغير التائب محتاج إلى مغفرة الله ورضوانه.
لا ينجيه عمله، دون أن يجود عليه مولاه برحمته.

(4/37)


(رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ)
دليل على أنه في السماء، على العرش، لأن " ذو " نعت، ولا يكون إلا نعت حلوله، واستوائه عليه، وكذا قال في سورة البروج: (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) ، فهو نعت.
* * *
قوله: (لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ)
خطاب للعباد، على ما في سجيَّة عقولهم من أن البارز أحضر لعين الرقيب، والجليل في الحقيقة

(4/38)


لا يخفى عليه شيء من أمور عباده، بارزين وغير بارزين، ولا يسترهم
عنه ستر ولا حجاب. فإن قيل: أفليس قد قال النبي، صلى الله عليه
وسلم، في حديث يَعلى حين أمر المغتسل بالاستتار في الخلوة -: "
فالله أحق أن في يستحيا منه "؟.

(4/39)


قيل: إنما ذلك إفراغ طاقة العبد في عبادته - بينه وبين خالقه - لا
أنه يستتر به عنه، كما يستتر من عبيده، وتوهم ذلك كفر ممن توهمه.
وقد استعبد الله عباده بغسل أعضاء الوضوء، من غير نجاسة عليها
تزال بالماء، والاستتار له عبادة، كما الوضوء بالماء عبادة، وكرمي
الجمار، وأشباهه، فهي عبادة، لا لمعنى فيها بل، لغيرها، وكذا
* * *
قوله: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) وقد كان - أبدًا - الملك له وحده.
ومن كان له من الملوك في الدنيا عبيده، هو ملّكهم وأعطاهم، ولكنه
قاله على ما في سجايا العقول، كأنه يخبرهم - والله أعلم - بأن الذل
في القيامة شاملٌ كل من كان يتعزَّز - في الدنيا - ويتملك
على غيره، فصار - يوم القيامة - في مثل درجة من كان يتملك
عليه، واستويا معًا.
فأما عنده - جل وتعالى - فكان ذله في جميع الأوقات واحدًا، والملك
له دونه، وهو عبد من عبيده.

(4/40)


قوله: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) .
خصوص - والله أعلم - لقوله في سورة النمل: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) .
فإن قيل: أليس قد قال - عز وجل -: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
وهذا يدل على أنهم يفزعون، قيل: ليس ذلك - في ظاهر الأخبار - الذي حملهم على التبرؤ من العلم الفزع.
وقد وُضع عنّا تفتيش ذلك، ولا يُعلم شيء - بلفظه في القرآن - نسخه.
وقد حقق الخصوص في قوله: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ)
قولُه: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)
والظالمون هم الكافرون، في

(4/41)


هذا الموضع، والله أعلم.
وليس قول من قال: من هول السؤال طاشت عقولهم، فلم يدروا
ما أجيبوا - قول نبي، ولا صحابي، ولا تابعي، يضيق خلافه (1) .
والله أعلم بذلك، كيف هو.
* * *
قوله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ)
إلى قوله: (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)
دليل على أن اعتبار المأمور به العباد ليس ما يذهب إليه القائسون
__________
(1) بل هو مروي عن بعض الصحابة والتابعين، فأخرجه سفيان الثوري في تفسيره ص (105) عن مجاهد، ومن طريق سفيان هذا أخرجه عبد الرزاق في تفسير القرآن (1/ 1 0 2) عن مجاهد -أيضاً - وأخرجه الطبري في تفسيره (7/ 81 - 82) عن الحسن البصري ومجاهد والسدي. وأورده أبو جعفر النحاس في معاني القرآن (2/ 381) عن مجاهد. وأورده السيوطي في الدر (2/ 344 - 345) عن ابن عباس.
وهو الذي أجاب به الإمام أحمد في كتابه الرد على الجهمية والزنادقة ص) 94) .
واختار الطبري التفسير الآخر المروي عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة أنه قال: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا. انظر تفسيره (82/7) . قال ابن كثير: ولا شك أنه قول حسن، وهو من باب التأدب مع الرب جل جلاله. انظر تفسيره (2/ 115) .

(4/42)


من أنه من حمل الأشكال على الأشكال، وإلحاق الأشباه بالأشباه في
التحليل والتحريم، إنما هو لادِّكار كل امرئ في نفسه، بما يوصل
اللَّه حظه من الخوف، والخشية اللذين ينجو بهما من عذاب الله.
وكذا قوله - في سورة الحشر: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
ألا ترى إلى إخباره - في أول السورة - عن إخراج الذين كفروا من
ديارهم، وما ظنوا من منع حصونهم من سطوة ربهم، وعذابه.
وإخراب بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين.
فليت شعري! ما الاعتبار الذي يكون قياسا من المعتبرين، إذا
تدبروا ما فعل الله بالمخرَجين! أكثر من أن لا يعملوا - فيما
خوطبوا - بأعمالهم، فيحق عليهم ما حق على أولئك.
ولو لم يكن من الحجة - - على من أعدَّ الاعتبار قياسًا في هذا - إلا نفس
ما فيه إذا تدبره، لكفى، أليس أشباه الشخصية، والإنسانية،

(4/44)


والسعي، والحركة، وما أخذ أخذها قائمًا بينهم وبين المخرَجين من
ديارهم قبل حدث الأحداث التي استوجبوا بها العقوبات، فلم تحق
عليهم عقوبة إلا بشيء يحدث على الأشخاص التي هي
أشباه وأشكال، كما كان الشبه بين الحنطة والأرُز، فإنما في نحو ما
يذهب إليه القوم، من أنهما قوتان مكيلان حادثان من نبات الأرض.
فَلَمْ نوجب تحريم التفاضل في نفس الحنطة - التي هي الأصل - حتى
حدث عليها العبادةُ، فألحق بها تحريم التفاضل، ولو كانت
الأشباه تحدث بها العبادات لأحدث على الحنطة قبل التعبد ما أحدثه
التعبد.
فزعم القائسون: أن حدوثه في الحنطة أحدث في الأرز - أيضاً -
بما كان فيه من متقدّم شبه الحنطة.
وهم - مع ذلك - يحتجون بـ (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) .
فهلا قالوا: إن وفاق شبه أشخاص المعتبرِين بالمخرَجين من ديارهم أحدث

(4/45)


عليهم ما أحدث على المخرَجين، قبل إحداث أعمال يستوجبون بها عقوبة
الجليل، كما يزعمون: أن التحريم حدث في الأرز بلا تعبد حدث
عليه - بلفظه - كما حدث على الحنطة بلفظها. وأحسبهم - غفر اللَّه لنا ولهم - يقدرون في رادي القياس أنهم ينفون الشبه عن الحنطة
والأرز، وهم لا ينفون مقدار ما ذهبوا إليه من أنهما مأكولان مكيلان
من نبات الأرض، وإن نفوا بقية أشباههما.
ولكنهم يقولون: إن شبه الأرز من شبه الحنطة محتاج إلى حدوث تعبد
عليه يحرمه، كما حدث على الحنطة فحرمها.
* * *
وقوله: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) ، و (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) ، و (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
كله حجة على المعتزلة والقدرية، والمسرف:

(4/46)


المشرك، في أكثر آي القرآن.
وما ذكر من المتكبر الجبار نظير ما مضى من جواز تسمية المخلوق
بأسامي الخالق.
* * *
وقوله: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ) ، الآية حجة على المعتزلة من جهتين:
إحداهما: لا يزعمون: أنه ليس - بنفسه - في السماء، وهذا المعنى من
قول فرعون، وفرعون كافر قد قطع كل ريب أنه - لا محالة - في
السماء، إذ محال أن يقول فرعون إلا بعد أن سمع موسى - عليه

(4/47)


السلام - يدعوه إلى من هو في السماء، وقد ذكرناه في سورة
القصص أيضاً عند إخباره عن فرعون (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) .
والثانية: ما ذكر من التزيين لفرعون سوء عمله، فإن كان أراد به
هو الذي زين له كما قال: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ) ، فهو ما يريدون، وإن أراد أن الشيطان زين له
كقوله: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ)
فقد دللنا على أنه تبع للَّه في ذلك، إذ لا يجوز أن يكون الله - جل جلاله - تبعًا له.
(وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38)

(4/48)


حجة على المعتزلة والقدرية، لو تدبروها
وأنصفوا من أنفسهم، وذلك أن هذه اللفظة - بعينها - قد أخبر بها عن
فرعون قبل هذا بقليل، وهو (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) .
ولسنا نشك في أن قوله خلاف قول المؤمن، إذ قوله غرور وظن، وقول المؤمن علم وحقيقة، فنظرنا في هذا العلم والحقيقة، فإذا هما هداية بيان، التي ينسبونها إلى الرحمن، في قوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) ، إذ محال أن يقدر
مؤمن آل فرعون من هداية قومه، على ما لم يقدر عليه رسول الله.
صلى الله عليه وسلم، من هداية قريش وهداية عمه، حيث يقول اللَّه - تبارك وتعالى -: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) ، فعلمنا - بذلك - أن كل هداية منسوبة إلى البشر فهداية
بيان وتبصر، وما كانت منسوبة إلى الله فهو على وجهين: تجوز أن
تكون دعاءً وبيانًا، وتجوز أن تكون إرإدة وإجباراً، فأيهم دل عليه
سياق الكلام كان الحكم له فيها.
فلما قال: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى)

(4/49)


عُلم أنها هداية دعاء وبيان، إذ محال أن تكون هداية
إجبار وإرادة، إذ لو كانت كذلك ما استطاعوا أن يغلبوا إرادته.
ويقهروا إجباره بالعتو عن أمره، وعقر ناقته، ولما قال: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)
عُلم أنه هداية إجبار وإرادة اضطرار المهدي إلى ما أريد منه، إذ محال أن يقول: إنك لا تبين لمن أحببت، أو لا تدعو من أحببت، وهو يعلم - جل وتعالى
- أنه قد بين لأبي طالب ودعاه، ولكنه لا يقدر على حمله عليها.
واضطراره إليها، وأن الذي يفعل هذا هو الله - جل وتعالى - فقال:
إنك لا تقدر على أن تنجي أبا طالب بهداية إجبار، ولكني أفعل أنا هذا
بمن أشاء. ولا يشك أحد أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أراد من
عمه أن يكون كذلك فلم يقدر عليه، فلو ميز القوم، وأضربوا عن

(4/50)


اللجاج، وتبصّروا الأشياء برويَّة وعقل لأبصروا - بعون الله -
طريق الرشد، وعلموا أن إضافة الأفعال إلى فاعليها ليست بمانعة
من أن يكون مقضيًّا بها عليهم، ولا القضاء بمؤثر في عدل الله على
بريته، وأنه غير مستحيل أن يعلم من علم عدله ما يجهله خلقه، وأن
التصور في عقولهم من لوح الجور - في جمع القضاء والعقاب على
نفس واحدة - كلوح استحالة كينونة الرب فيها بلا أول - ولا بدو.
فهل يجيزون لأنفسهم أن يأخذوا ذلك من شبه خلقه، كما يأخذون
معرفة عدله من عدل خلقه، فيزعموا: أنه لمَّا كان محالاً -
في عقولهم - أن يكون مالك من الآدميين إذا أجبر عبده على فعل
شيء، ثم عاقبه عليه، كان ظالمًا له، لم يجز أن ينسب إلى الله أنه
يضطر أحدًا من عبيده إلى فعل بعينه - في القضاء السابق عليه - ثم
يعاقبه على فعله، وأنه إن فعل كان جائرًا. كان - أيضاً - محالاً أن
يكون حي موجودًا في الأزل بلا أول، إذ ليس ذلك بممكن في
الخلق، بل هو محال أن يكون خَلْق قبل يُكَوَّن، ويخُلَّق.
فلا يجيزون على الله - جل الله - إلا ما يقبله عقولهم، ويسهل
عندها كونه، ولا تنبو عنه.
وما الفرق بين من يأخذ شبه عدل الخالق، من شبه عدل المخلوق،

(4/51)


وبين من يأخذ ما مثلناه من شبه خلقه، وكلاهما مُقحِم على ما ليس
له، وعاد طوره فيما لم يجعل إليه، ولا خوطب بتعريفه. فلما كان
ممكنًا - عند المؤمنين الموحدين - أن يكون الله أزليًّا بلا أول، ودائمًا
بلاِ آخر منقطع، ويكون أوّل كل شيء وآخره، كما قال: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) .
وإن نَبَتْ عقول المرتابين عنه، ولم يجدوا شبهه في الخلق، كان - أيضاً - ممكنًا عندها أن يكون الله - جل جلاله - يجمع على نفس واحدة قضاء بشيء، وعقوبة عليه، ويكون عدلاً، وإن نبت عقول المرتابين عنه، ولم
يجدوا شبهه في عدل الخلق.
فليت شعري! لِمَ يسمونا المشبهة؟! لأن قلنا: إن للَّه سمعًا،

(4/52)


وبصرًا، ويدين مبسوطتين ينفق كيف يشاء، وهم يأبون أن يجيزوا على
اللَّه شيئًا إلا ما وجدوا شبهه في المخلوق، ولم ينب عنه العقل
المخلوق.
* * *
وقوله: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)
الآية حجة في غير شيء:
فمنه: أن هذا العرض قبل الحشر، إذ هم بعد الحشر، إذا دخلوها

(4/53)


دائمين - فيها - معذبين بسرمد العذاب، (لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا)
فإنما العرض بالغدو، والعشي على من ليس دائمًا فيها، وقد أكد ذلك قوله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) .
فهذا عذاب سوى العرض، وفي محل غير محل العرض.
ومنه: أن للعذاب درجات في الشدة والخفة، فقد يجوز أن يكون أشد
للكافر، وأخفه لمن يلي من المسلمين المذنبين بدخولها.
ورُوي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " ما أحسن من
محسن كافر، أو مسلم إلا أثابه الله " قلنا: يا رسول اللَّه: ما إثابة الكافر.
قال: "إن كان قد وصل رحمًا، أو تصدق بصدقة، أو عمل حسنة أثابه
اللَّه، وإثابته إياه المال والولد، وأشباه ذلك " قال: قلنا: ما
إثابته في الآخرة، قال: " عذاب دون عذاب " وقرأ (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) .

(4/54)


فإن كان محفوظًا فلا متكلم فيه، وعلينا التسليم له، والإقرار على
أنفسنا بالجهل، وإن لم يكن محفوظًا، فلإثابته في الدنيا بالمال.
والولد، وأشباه ذلك نظير من سنة ثابتة، وهو أسوة رزقه وعافيته.
وصرف كثير من المكاره عنه.
وأما إثابته في الآخرة فالقرآن شاهد بخلافه، وقد دللنا عليه في غير
موضع من هذا الكتاب، مثل قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ) الآية. وقوله: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) .
وفي قوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) .
والكافر لا كلم له طيب يصعد إليه، فكيف يصعد عمله، أو يكون له وزن في الآخرة؟!.

(4/55)


ويشبه أن لا يكون محفوظًا، لأنه رواه عامر بن مدرك، عن عتبة
بن يقظان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن
عبد الله بن مسعود.
وعامر بن مدرك، وعتبة بن يقظان ليسا من الثبت بمحل يعارض
بروايتهما القرآن.
وفيما دل عليه عرضُ آل فرعون على النَّار غدوًّا وعشيّا ما يعارض ما
ذكرناه في غير موضع من هذا الكتاب من أن الميت لا يشعر - بعد

(4/56)


المساءلة - بعد طول المكث في البرزخ، حتى يبعثه الله، ودللنا عليه
في التلاوة - نصَّا - في الكافر والمسلم، ورُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنقل

(4/57)


الثقات ما يؤيده من عرض مقاعد أهل القبور عليهم - إيَّاها -
بكرة وعشية، فقد يحتمل أن يكون هذا العرض بقية من المساءلة تمتد
عليه، وطائفة من عذاب القبر تطول عليه بكرة واحدة وعشية واحدة.
ثم يخمد فلا يشعر إلى الحشر بشيء، كما دللنا عليه.
فإن قيل: وكيف يكون ذلك وفي الموتى من يموت عشية يوم قد
مضت بكرته، أو يموت ليلاً قد مضت البكرة والعشية معًا؟.
قيل: نفس هذا دليل على أنه لا يؤخذ في العرض عليه من فور
دفنه، فإذا عرض عليه غدوة يوم، وعشية الثاني فقد ارتفعت غدوة
وعشية، واستغرق الاحتمال، وزال التعارض. فإن قيل: أفليس
قد رُوي: " أنه تُعرض عليهم مقاعدهم غدوة وعشية، ما دامت الدنيا ".

(4/59)


قيل: لم يأت بهذه اللفظة إلا قَبيصة عن سفيان، ومالك
أثبت، رَوى عن نافع، عن ابن عمر فلم يذكرها، وقبيصة
وإن كان من الأثبات، فقد أغفل الحفظ في غير شيء،

(4/60)


وأخطأ في كثير مما يواطأ عليه حفظ غيره، فلا يعارض بزيادة زادها
القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه.
* * *
وقوله: (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) .
يحتمل أن يكون الدعاء حتمًا، يعصي التارك بتركه.
ويحتمل أن يكون ندبًا، ندب الخلق إليه، وكذلك قوله: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) ، فدل قوله - قبل هذه الآية -: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، على أنه حثهم عليه، إشفاقًا
عليهم، ليصل إليهم نفع إجابته. فمن استكبر عن دعائه كفر، ومن
كسل عنه كان مغبون الحظ، فإنه الخير الذي لا يعتاض منه.
* * *
قوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ)
إلى قوله: (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى) ، حجة على المعتزلة والقدرية، فيما يزعمون: أن المقتول ميت بغير أجله، ومقطوع عليه حياته.
* * *
وقوله: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ)

(4/61)


حجة عليهم في إعدادهم الإذن علمًا.
وإنكارهم أن يكون إطلاقًا، فكيف كانت الرسل تقدر أن تأتي
بالآيات بغير إطلاق منه، أكانوا - وَيْلَهم - شركاء معه في
القدرة،، فإذا كان الإذن لا يجوز أن يكون - ها هنا - إلا إطلاقًا.
ولا يجوز أن يكون علمًا، فإعدادهم إياه علمًا - في قوله: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) - تحكم، ومع التحكم
جهل باللغة، وأن الإيذان هو العلم، لا الإذن، تقول: آذنت
فلانًا بكذا، أي أعلمته، قال الله - تبارك وتعالى -: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) ، في قراءة من قرأ بالمد، أي

(4/62)


اعلموا، ومن قرأ (فأذنوا) فهو الإطلاق، أي أطلقوا الحرب.
وتكون الباء مقحمة، وقوله: (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي إعلام، ومنه سُمي الأذان أذانًا، لأنه يعلم الناس بالصلاة، فأما الإذن بالقصر فهو الإطلاق، لا شك فيه.
* * *
وقوله: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) - إلى آخر السورة - نظير ما مضى في سورة الأنعام،

(4/63)


وذكر إيمان فرعون لما أدركه الغرق، وقد شرحناه هناك، فأغنى عن
إعادته ها هنا.

(4/64)


سورة فصلت (السجدة)
قوله - تعالى -: (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ) ، قاطع
للارتياب بأن قوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) ، وما أشبهه - في القرآن - هو إنكار عليهم أن لا يحتجوا بما لا حجة لهم فيه، وزجر عن مزاحمته في سره، ألا ترى
أنهم قالوا: ما أخبر به عنهم - جل وعلا في سورة الأنعام، حيث يقول: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) ، وقوله: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) .
فهل وجه إنكار شيء قالوه موافقًا لما قال إلا على ما قلناه، لو أنصفوا من أنفسهم.

(4/65)


وقوله: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)
يؤكد ما قلناه: من أن مانع الزكاة يكفر.
وسمعت محمد بن عبد الغفار، يحدث عن أبي عمرو الضرير،

(4/66)


قال: سألت عبد الله بن المبارك، عن قوله: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)
قال: لا يقرون بها. قلت: عمن.
قال: عن سعيد، عن قتادة.
فلا أدري ما وجه قوله: أن يؤتون - في اللغة -: هو يقرون
والإقرار غير الإعطاء، وقد يجوز أن يكون تأول قوله: (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)
فقال: من كان كافرًا بالآخرة لم يقر بالزكاة.
وقد أخبر الله عن أهل الكتاب - الذين أمر بأخذ الجزية منهم - أنهم
لا يؤمنون باليوم الآخر، فقال: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، وهم يقرون بالزكاة، ويخرجونها - من أموالهم - عن كل ألف درهم درهمًا، وعن كل ألف دينار دينارًا.
كما كان في شريعة موسى - صلى الله عليه - ويتصدقون على أهل

(4/67)


دينهم، والله - جل وعلا - قد سماهم كفارًا بالآخرة، فلا يجوز ترك
ظاهر الإيتاء - الذي هو الإعطاء - باحتمال لا طائل فيه من حجة.
ومن كفر بترك إيتائها فسواء ضم إلى كفره كفرًا غيره، أو لم يضم، وقتال
أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في قتالهم، وهم متمسكون بسائر
شرائع الإسلام دليل على كفرهم، وهو من الإجماع المحصّل، الذي
نسميه إجماع الأعصار، وهو حجة.
* * *
وقوله: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً)
حجة على المعتزلة والجهمية فيما يزعمون: أن كل ما وُصف به المخلوق لم يجز أن يوصف به الخالق، من أجل التشبيه، وهذا نص القرآن ينكر على

(4/68)


عادٍ ادعاء القوة، ويخبر أن الله أشد قوة منهم، والرد لا يكون إلا
بمثله، فإن كانت قوة عادٍ غير ذاتية فلعمري أن قوة الراد
مثلها، وإن كان قوتهم ذاتية، فما ينكرون - ويلهم - أن تكون قوة
اللَّه أيضا ذاتية، وليس في ادعائها ذاتية ما يوجب أن تكون
نحلوقة، كما هي في عادٍ مخلوقة، لأن الله - جل جلاله - بجميع
صفاته غير مخلوق، وعاد بجميع صفاتها مخلوقة، ولست أدري كيف
يذهب على الجهلة، هذا مع تدقيقهم - عند أنفسهم - وهذا

(4/69)


جلي لا فى دقة فيه، أم كيف يتحكمون في وجوب التغيير على الأشياء -
بأنفسها - قبل أن يحُدث عليها خالقُها حتى يزعموا: أن المخلوق لما
أحدث خلقه، وركب تركيبًا بأعضاء ومفاصل وعروق، استحق اسم
الفناء - حينئذ - وجواز الأسقام والأحداث والتغيير عليه، وهذا قول
الدهرية، ومن يزعم أن الأشياء تدبر ذواتها، ولا يقر بمدبر.
فلو فكر الجهال لأبصروا الدقيقة، التي غلطوا فيها، فأدتهم إلى إنكار
صفات الله الذاتية، وهي ما أثرناه عليهم من موافقتهم الدهرية في هذا
المعنى، ولو فكروا في هذا الخلق المحدث، ولم يوجبوا التغيير عليه.
وراعوا حكم الله عليه بالتغيير والأسقام والفناء، لاستراحوا من
جهلهم، وعلموا أن الأشياء - بأنفسها - لا توجب تغييرًا، ولا
تصرفًا، قبل أن يغيّرها مغيّر، ويصرفها مصرف، وأن الله - جل

(4/70)


جلاله - لما كان جاري الحكم على الكل، ولم يكن أحد يجري عليه
حكمه، أو يقهره بسلطانه استحال أن تكون صفاته الذاتية توجب
تغييرًا من أجل أن غيره من الذاتيين هو أوجب عليهم التغيير، لا أنهم استحقوه بأنفسهم قبل إجراء مجر عليهم، أليس هذا الخلق -
بعينه الذي أوجبت الدهرية عليه تغييرًا بنفسه - إذا أزال الله عنه حكم
التغيير في الجنَّة بقية الأبد على حالة واحدة من زوال التغيير.
والأسقام، والكبر، والهرم، والفناء عنه، ولم يزل عنه اسم
المخلوق، والمصنوع المركب أعضاء، وجوارحًا، وطولاً، وعرضًا
وحدَّا. فما بال هؤلاء الجهلة يخالفون الدهرية في شيء، ويتابعونها
في شيء؟! ، ولا يدرون أن ما أوتوا من إنكار صفاته الذاتية، من
أين أوتوا؟.
فهلاّ يقولون: إن الجنة والنار وأهلها يفنون، وإن من أدخل الجنة
من تافلة الدنيا إليها لا ينفعهم كينونتهم فيها، ولا يزول التغيير.
والأسقام، والأحداث المغيرة، والفناء عنهم، لأنهم مخلوقون،

(4/71)


والمخلوق يوجب خلقه جري هذه الأشياء عليه، وإن لم يجر عليه مجر
ولم يحكم عليه حاكم.
فإن قالوا: إن أهل الجنة والنار لما نشروا أنشئوا إنشاءً غير إنشاء
الأول، الذي أنشئوا عليه في الدنيا، فأنشئوا إنشاء البقاء، فكذلك
زال عنهم التغيير.
قيل: فهل أنشأ الله - جل جلاله - قط - أحدًا إنشاء فناء.
حتى يلزم من ثَبَت له صفات ذاتية إجازة التبعيض، والأجزاء.
والتغيير عليه ما أراهم إلا يكابرون عقولهم.
قال محمد بن علي: ولو لم يزيف القياس في نوازل
الشرائع، ويدل على بطلانه إلا علة هؤلاء القوم، فيما خرجناه
عليهم، لكان جَدِيرًا بأهله رفضه، فإنهم قد ساووهم - فيها -
حذو النعل بالنعل، ألا ترى أن القوم أخذوا جواز التغيير على

(4/72)


الغائب بمشاهدة الحاضر، فألزموه خصومهم، وظنوا أنهم بذلك منزهوه
عما لا يليق به - عندهم - وهكذا فعل القائسون بالنازلة الملحقة بنظيرها.
بل زادوا عليهم - في التحكم - درجة، لأن أولئك ألزموا لحوق الأشياء
بعضها ببعض، ولم يدعوه على الله - جل وتعالى - أنه أمرهم بذلك.
ولا أراده منهم، والقائسون يزعمون: أن الله - جل وتعالى - لما حظر
شيئَا بعينه حظره لعلة فيه، وقد أراد أن تكون كل ما فيه تلك العلة، تجري
مجراه في الحظر، فوافقوا القوم في إلحاق العلل بعضها ببعض، وزادوا
عليهم أنهم ادعوا على اللَّه شيئين:
أحدهما: تحريمه الشيء لعلة، والآخر: إرادته في إجراء الشبه مجراه، فلا أرى جرمهم

(4/73)


إلا، أعظم من جرم أولئك، لأن من أخطأ في رأي ليس كمن نسب
ذلك الرأي إلى الله جل وتعالى.
ولعلهم لم يعلموا أن هذا يلزمهم، فقالوا بما تصوّر لهم حق فيه
عندهم. والله يغفر لنا، ولهم.
* * *
قوله: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ)
دليل على أن في الأيام مشاييم وميامين، وكذا قوله: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) .
وقد يجوز أن يكون اليوم نحسًا عليهم - خاصة - لما أصابهم فيه.
لا أنه جُعل نحسًا في نفسه، والظاهر أنها نحسات، كما قال الله:
(نَحِسَاتٍ) ، ولم يقل: عَلَيهم) .

(4/74)


قوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ)
قد مضى قولنا فيه - في سورة الأعراف، وحم المؤمن - بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
* * *
قوله: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ)
حجة على المعتزلة والقدرية، إذ قد أخبر -
نصًّا - أن من زين لهم من قرنائهم سيىء أعمالهم، هو المقيِّض
لهم، ولا يخلو القول الذي حق عليهم من أن يكون سابقًا فيهم
قبل العمل، أو عقوبة للعمل الذي زينه لهم قرناؤهم، وإذا كان هو
مقيض قرنائهم، فأيهما كان فالحجة عليهم به ظاهرة.
وقوله - تعالى إخبارًا عن الملائكة المنزلين على المستقيمين، بعد قول
الحق، والإقرار بربوبية الرب -: (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)

(4/75)


دليل على أن نزولهم عليهم - في الدنيا - عند
الموت، يبشرونهم بما لهم عند الله، ليزول حزنهم، ويأمنوا عذاب
ربهم، ويخرجوا من الدنيا طيبة أنفسهم بالموت، وفي ذلك - والله
أعلم - تصديق الخبر المروي في تأويل: " من أحب لقاء الله، أحب
الله لقاءه " فإن من نزلت عليه ملائكة الرحمة - عند الموت -
فبشروه، وأمَّنوه هان عليه الموت - المكره إلى النفوس - فأحب لقاء الله.
وفي اشتراطه - جل وتعالى - نزول الملائكة بالبشارة، على هؤلاء
دليل على أنهم لمن خالف سبيلهم ملائكة عذاب، يبشرونهم بسخط
اللَّه، وما يسخن أعينهم من دخول الجحيم، والخلود في أنواع
عذابه، فيكره لقاء الله، ويكره الله لقاءه.
قوله - تعالى -: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
دليل على إشفاق الله - تبارك وتعالى - على

(4/76)


المؤمن، إذ قد دله على ما يأمن به غوائل عدوه، ودليل على أنه ندب
إلى الإحسان إلى المسيء، لتأتلف الأمة، ولا تفترق، ولا تتباغض.
وأيد هذا الخبر المرفوع: " جُبلت القلوب على حب من أحسن إليها ".
ألا ترى أن العدو يعود بالإحسان إليه صديقًا، بل وليًّا حميمًا.
ويقال: إنه السَّلام يدفع ببذله - في العالم - شرهم. والإحسان
إلى المسيء درجة الأنبياء، والأولياء، وقد أوصى الله به، كما ترى،

(4/77)


فهو الخير الذي لا يعتاض منه، وقد بين الله ذلك في قوله: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) .
فلا ينبغي للمرء أن يؤثر هواه على فوات ما أوصاه به مولاه.
وذُكر عن بعض الماضين أن الدفع بالإحسان منسوخ، فإن كان
كما قال، فهو منسوخ في الكفار بآية السيف، وليس بمنسوخ في
المؤمنين، إذ المنسوخ ينسخ بضده عند الجميع، فهل يجوز
لأحد أن يقول: نسخ الله الدفع بالذي هو أحسن، بالدفع الذي هو
أقبح، إذ كان النسخ يزيل المنسوخ ويجيء بغيره، هذا والله عظيم
سماعُه، فكيف انتحاله، والقول به؟!.

(4/78)


وقوله: (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)
رد على الجهمية والمعتزلة، ومن ينفي المكان، والحد عن الله - جل الله - ويزعم: أنه ليس بنفسه في السماء وحدها دون

(4/79)


الأرض، وقد قال كما ترى (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) وهم الملائكة، لا يشك أحد أنهم في السماء، وإذا كانوا عنده، فهو - جل وتعالى - فيها بحد يعرفه من نفسه، وإن عجز خلقه عن كنهه.
وقد لخصناه في كتاب " الرد على الباهلي "، ودللنا على خطأ قوله

(4/80)


في تأويل عند ما يغني عن إعادته في هذا الموضع.
* * *
قوله: (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) ، آية يحتج بها الجهلة في تثبيت المشيئة للشائين من خلق اللَّه، وقد دللنا على أن مشيئتهم تبع لمشيئته، فلا يؤثر إضافته إليهم
في القضاء السابق عليهم. ومعنى (مَا شِئْتُمْ) وعيد ليس بتخيير إذ
لو كان تخييرًا ما عوقبوا عليه، بل أثيبوا، ونحن لا نقول: إن
حركة العاملين في الأعمال، هي حركة اللَّه، بل هي حركاتهم
التي أعطاهم الله، وفرض عليهم أن لا يعملوها إلا في الطاعة، فهي
منسوبة إليهم، وللًه - جل وتعالى - فيهم مقدمات أحكام.
وعلوم، ليس لهم أن يحتجوا بها عليه، كما لم يكن لمن شَوَّه خلقه.
وسوَّد لونه، وأعمى بصره، وأقعده من جوارحه أن يحتج به عليه.
كيف لم يخلقه صحيحًا، سويّا، أبيض اللون، حسن الوجه، وقد
سوى بينه وبين الصحيح، في مطالبته بما فرض عليه، وكذلك سوى
بين الفقير والغني - فيها - فلم يكن لأحد أن يحتج إليه، ويطالبه
بإخلاف أحكامه فيهم، ولا يعذر - نفسه - في التقصير في بعض ما

(4/81)


فرض عليه، لأن فضل غيره في الخلق، والصورة الحسنة، وثراء
المال، وعلو المرتبة في السلطان، والجاه، والصحة، وعافية البدن
عليه، لأنها أحكام هو أعلم بها منهم، وإذا كان أعلم بأحكامه.
وليس لأحد منازعته - فيها - ولا اشتراك في علومها، فهو أعلم
بعدله، لا ينازع فيه، ولا يشارك في علمه، ولا يؤخذ كيفيته من
عدل الخليقة، بعضهم على بعض.
وقوله. (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ)
، لا متعلق للجهلة فيه، إنما هو - والله أعلم - ولو أنزلناه بلغة العجم لما فهمته العرب، ولقالوا: كيف يأتينا رسول عربي
بقرآن لا نفهمه، وهو عربي اللسان، يكلمنا به بلسان العجم؟!.
* * *
قوله: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى)
الآية حجة في أشياء:
فمنها: أن الهدى في القرآن، من التمسها في غيره، أو في غير ما أمر به ضل.

(4/82)


ومنها: أنه يستشفى به بالنشر، والتعليق، من أجل أن اسم
التمائم لا يقع عليه، لأن التمائم هي: ما كانت بغير لغة العربية.
من كلام لا يعرف، والقرآن شفاء، كيفما استشفي به، بالقراءة
على العليل، أو بكتبه، وسقيه، والإفاضة عليه، أو تعليقه
في الصحف، على بعض بدنه، لا ينكره إلا جاهل بمعنى

(4/83)


التمائم، المنهي عنها. ولما كانت النُّشر تكتب من القرآن، وذكر
اللِّه، وتكتب من غيره كان قوله: " النشر من السحر، والنشر من عمل
الشيطان " مصروفًا إلى ذلك، لا إلى القرآن، وذكر الرحمن.
ومنها: الرد على المعتزلة والقدرية، لذكر الوقر في آذان الكفار.
وتحويل القرآن - الذي هو هدى للمؤمنين - عمى عليهم.
* * *
وقوله: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ)
حجة عليهم.

(4/84)


وقوله: (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ)
حجة عليهم، وقد شرحناه في سورة الملائكة.
الصبر عند الشدائد:
* * *
وقوله: (لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)
دليل على أن المرء، إن يصبر عند المصائب، ولا ييئس
من رحمة ربه، ولا يلهيه مس المصيبة عن الذكر، والشكر، فإن
المصائب - وإن كانت تمض فهي - كفارات، وعاقبتها كرامات.
ومن صفة المؤمن أن يكون شكورًا عند الشدائد، والرخاء، فما من
شدة إلا وفوقها شدة، فإذا بلي بأدونها، كان عليه الشكر في صرف
أرفعها، والمعافاة منها، فمن جعل موضع الشكر القنوط واليأس.
قل تبصره، وساء تخيره.

(4/85)