النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام

سورة الشورى
ذكر الجهمية:
وقوله - تعالى -: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ)
حجة على الجهمية، والمعتزلة في إنكار الصفات - كلها - وما ينكرون من
كينونته في السماء، وحلوله فيها على العرش، وهذا يؤيد
الحديث المرفوع: " وإن له أطيطًا كأطيط الرحل الجديد من الثقل.

(4/86)


جل ربنا، وتبارك من عظيم جليل.

(4/87)


قوله: (وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ)
هو - والله أعلم - خصوص للمؤمنين، إذ محال أن
يستغفروا للكفار، وهو نظير ما مضى، في سورة المؤمن.
القدرية:
* * *
قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ) ، رد على المعتزلة والقدرية، إذ في قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) ، دليل على أنهم لم يجعلهم، وخص بالرحمة من
شاء منهم، والرحمة - لا محالة - سبب الهداية، ومنع الرحمة سبب
الضلالة، لولا ذلك ما كان في الكلام فائدة، عند من تدبره
* * *
قوله: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)
دليل على أن الحق - إن شاء الله - إذا اختلف المختلفون في شيء لم يكن إلا في

(4/88)


واحد، ولولا ذلك لأقره، ولم يجعل حكمه إليه، وفميا جعل حكمه
دليل على أن حكم غيره محرم القول به، ومسكوت عنه، حتى يُعرف ما
حُكم فيه فيتبع.
وحكمه على ثلاثة وجوه:
فمنها: ما أنزل فيه نص كتاب.
ومنها: ما بينه على لسان الرسول، صلى الله عليه وسلم
ومنها: ما ألف علمه قلوب الجماعة، فأيها عرف في المختلف فيه -
من هذه الثلاثة - فهو الحق.
* * *
وقوله: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) ، لا محالة إضمار.
كأنه يأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول ذلك، إذ لو
كان الكلام إخبارا عن نفسه، على نسق ابتداء أوله لكان - والله أعلم -:

(4/89)


" ذلكم الله ربكم "
الشريعة:
* * *
وقوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)
دليل على أن دين هؤلاء - كلهم - وشرائعهم واحد، وما وقع فيه من تغيير
شيء، فهو مثل الناسخ والمنسوخ، في كتابنا، لا أن الشريعة -
بأسرها - متغيرة كلها.
* * *
قوله: (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ)
حجة في إجازة الرجوع من لفظ خبر الغائب، إلى خبر الحاضر.

(4/90)


قوله: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ)
" الهاء " راجعة على "ما"، والشهادة داخلة فيه. وهو حجة على المعتزلة، والقدرية، لذكر المشيئة في الاجتباء، والهداية إلى ما كبر على المشركين.
واستوحشوا من دعائهم إليه، فضادوه، وأفرغوا مجهودهم في
خفضه، وأبى الله إلا رفعه، وإمضاءه، حجة عليهم.
* * *
وقوله تعالى: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ، حجة عليهم، إذ ليست تخلو هذه الكلمة - السابقة -
من أن تكون في اختلافهم، أو في بقائهم عليه إلى الموت الموقت
أجله، وأيهما كان فهو حجة عليهم مسكتة، وسياق الكلام دليل على
أنها سابقة في نفس الاختلاف، لقوله: (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ، وذلك أن
اللَّه - جل جلاله - نهى نوحًا ومن أدخل معه في الوصية عن التفرق
في الدين، وأمرهم بإقامته، فأتمروا لربهم، ولم يفرقوا دينهم، فلما

(4/91)


صار الكتاب في أيدي من بعدهم شكوا فيه، وتدرعوا في
الاختلاف، فأخبر الله أن اختلافهم من القضاء السابق عليهم.
فأي شيء يلتمس بعد هذا البيان - ويحهم - لو أنصفوا، فما بينهم
وبين الوصول إلى فهمه إلا تدرع لباس الجهل، بمعرفة عدله، وقد تخلصوا.
مخاطبة الجهال:
وقوله - تعالى -: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ) ، " اللام " بمعنى " إلى " والله أعلم.
* * *
وقوله: (وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ)
فائدة لمن أراد السلامة في مخاطبة الجهال، فخاطبهم بحق يسلم فيه من دخول
الفساد على دينه، لأن الله جل ثناؤه أَمر رسوله، صلى الله عليه
وسلم، بهذا القول لهم - وهو أعلم - ليكون إيمان رسوله - صلى الله عليه وسلم - بكتاب أنزل على نبيهم أبلغ - عندهم - في
تصديقهم لأنفسهم في إجابته إلى ما يدعوهم

(4/92)


إليه، وقد آمن بكتب أنبيائهم - قبله - فقال: (وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ)
ولم يقل: " آمنت بما في أيديكم " للتبديل، والتحريف الذي أحدثوه.
قياس:
وقوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ)
دليل على إبطال الرأي، والاستحسان، والقياس، لأن اليهود، والنصارى - الذين نزل فيهم هذا - كانوا يحاجون بما يرونه عند أنفسهم حقًا، وليس يخلو كل ما عدا الكتاب، والسنة، والإجماع - من حجج الناس - من
أحد الثلاثة: من الرأي، والاستحسان، والقياس، وكان محاجة
القوم بأحد هذه الثلاثة، فأخبر الله - نصاً كما ترى - عن دحض
حجتهم عنده، بل فيه أكبر الدليل على إبطالها، فإن القوم حاجوا

(4/93)


أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقديم كتابهم ونبيهم، على
كتاب الصحابة، ونبيهم.
وقد مدح الله القُدْمةَ فى أشياء:
مثل قوله: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ) ، وقال: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ)
وقال: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) .
وذم احتجاج هؤلاء بالقدمة - كما ترى - وحمل الأشكال على الأشكال ممدوح في الرأي، والقياس، والاستحسان، فلو كان حقًّا، لكان أصحاب رسول الله، صلى اللَّه عليه وسلم، محجوجين بقول اليهود، والنصارى، أفليس بيّنًا - عند من شرح الله صدره - أن القدمة ممدوحة حيث مدحها الله، ومذمومة حيثما مدحها غيره، تشبيهًا بما مدحها الله، وقد جعل اللَّه رسوله، صلى الله عليه وسلم، محمدًا أفضل الأنبياء، وهو آخرهم

(4/94)


رسالة، وكلهم أقدم منه فيها.
فلما كانت القدمة ممدوحة في موضع، دون موضع، دل على أن
الأشياء وإن تشاكلت، فهي محتاجة إلى تعبد، يصحبها في
الأحكام، فإن ائتلفت في الأحكام، كما ائتلفت في الأشكال
ائتلفت، وإن لم تأتلف في الأحكام اختلفت.
المعتزلة:
* * *
وقوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا)
حجة على المعتزلة، والقدرية " وذلك أن
الحرث - في اللغة - كناية عن العمل، سُمي به - والله أعلم -
للنماء الذي ينميه من الخير والشر، وكذا قال عبد الله بن عمر - وهو
من أرباب اللغة -: " احرث للدنيا كأنك تعيش أبدا، واحرث للآخرة
كأنك تموت غدًا"، وقد أخبر الله - نصا كما ترى - أنه يزيد كلاًّ
ما يريده، وعطيته لا تخلو من أن تكون خلقًا لحرثه، أو معونة على

(4/95)


فعله، وأيهما كان فهو حجة عليهم واضحة، لا إشكال فيها.
وقد أنبأتهم عن المعنى الذي أرادوه، وأزالوا به القرآن
عن جهته - في سورة الأنعام - في قوله: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ)
أنه خطأ من ثلاث جهات:
فأحدها: رد الفاعل إلى المفعول به.
والثانية: أنه لو كان كذلك - أيضا - ما نفعهم، لأنه إن كان محالاً
على الله أن يخلق شيئًا، أو يقضيه على عباده، فهو محال عليه أن يعطي
أحدًا سؤله فيه، وإن سأل.
والثالث: وإن نفس وصف القوم بإرادة الضلال خطأ، لإعزازه
في العالم، وعدم من يرد من الله ذلك، إنما يستفزهم حرص الدنيا.
فيريدون جمعها - لأنفسهم - بأي وجه اجتمعت لهم من خير، أو شر.
كما قال الله - ها هنا -: (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) ، فقد أخبر الله أنه يؤتيهم حرثها المحروص عليه منهم، لا بمسألتهم إياه ذلك.

(4/96)


قال محمد بن علي - رحمه الله -: وفي قوله: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)
معتبر لمن وفقه الله، في أن القياس، والاستحسان دين لم يأذن الله به، إذ الإذن لا يكون إلا ملفوظًا، لا متوهمًا، ولسنا نجد قائسا، ولا مستحسنًا
آوى في قياسه إلى آية، أو سنة تصرح له إذنًا بالقياس، بل كل ما
يحتجون به من مثل العدل، والقبلهّ، وجزاء الصيد، وتحريم
الحنطة بالحنطة المتفاضلة نصوص في أنفسها، لأنفسها، وحمل

(4/97)


أشباهها - عندهم - عليها توهم، من المتوهمين، لا تصريح به من رب
العالين، فهل جعل التوهم دينًا يحل به، ويحرم ويعقد ويحل إلا مما لم يأذن
اللَّه به عند المنصفين، والمميزين إذا تدبروه.
الرد على الروافضة:
وقوله - تعالى -: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)
دليل على أن في سجايا البشر نبواً عن موعظة من أخذ الدينار
والدرهم، وأن التعفف عنهما كان مرموقًا في الجاهلية الجهلاء بعين

(4/98)


المدح، من يزهد فيهما، ويتضع قدر من سارع إلى أخذهما، فأمر اللَّه
رسوله، صلى الله عليه وسلم، أن يبرأ إلى المنذَرين، من أخذ أجر من
أحدهما على ما يدعو إليه من كتاب ربه، ودينه الذي شرعه لعباده.
لتمخض دعوته إلى الله - جل وتعالى - خالصة غير مشوبة بميل
دنيا، تخفض طلابها، والراكنين إليها عن مراتب العز، ودرجات
المقربين، وبذلك أخبر عمن مضى من الرسل - قبله - في سورة
الشعراء، وغيرها - بقوله: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، وعن حبيب النجار حين أمر المبعوثين إليهم برسولين، والتعزيز بثالث (اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) .
* * *
وقوله: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)
كان الحسن البصري - رضي الله عنه -

(4/99)


يقول فيه قولاً لم يواطئه عليه سائر المفسرين، فقال: إلا أن
تودّدوا إلى الله بما يقربكم إليه.
وأما المفسرون سواه، فقالوا: إلا أن تصلوا قرابتي منكم، فلا
تكذبوني ولا تؤذوني.
وقد رُوي عن ابن عباس حديث مرفوع مثل قول الحسن، إلا أن
في إسناده رجلاً مرغوبًا عن الرواية عنه، وهو قزعة بن سويد، روى

(4/100)


عن ابن أبي نَجيح - وقد ذكر بالقدر، ولكنه ثقة في الحديث -
عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي، صلى الله عليه وسلم:
" قل لا أسألكم على ما أتيتكم من البينات، والهدى - إلى آخر الآية - إلا أن توادوا الله، وأن تقربوا إليه بطاعته ".
وقد يحتمل أن يكون قول الحسن، وغيره سواء، لأن حفظ من يحفظ
قرابته من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلا يكذبه، ويصدقه طاعة
اللَّه داخلة في جملة ما يتقرب به إلى الله منها.
وقد رُوي عن ابن عباس، رواية أخرى، مثل ما حكيناه عن

(4/101)


المفسرين، وفيها أن هذا الاستثناء منسوخ بقوله: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) .
وأما الشيعة ففسرته تفسيرًا شنيعًا قبيحًا، يهدم الآية، ويضع من
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
زعموا: أن الاستثناء في الأجر، وقع على حب أهل بيته خصوصية
لهم، إذ مطالبة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إياهم بمودة أهل

(4/102)


بيته على ما يدعوهم إليه طرف من الأجر إذ الأجر كله، ليس كله في
الدينار، والدرهم.
وأهل بيته، صلى الله عليه وسلم، نوعانِ: فمن كان منهم مسلمًا.
عاملاً بطاعة الله فهو أسوة سائر المسلمين، يحُب على ما فيه من الطاعة
لربه. ومن كان منهم كافرًا، لم ينفعه قرابته من رسول الله، صلى اللَّه عليه وسلم، ولا يحب عليها، ومن زعم أن أحدًا ينفعه قرابته من
رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بغير طاعة الله فقد خالف الكتاب
والسنة، قال الله - تبارك وتعالى -: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) ، وقد أوصى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاطمة ابنته

(4/103)


وصفية عمته أن تشتريا أنفسهما من الله، فإنه لا يغني عنهما شيئًا.
وأوصى كافة أهل بيته، فقال: "لا يأتيني الناس - يوم القيامة -
بالطاعات، وتأتوني بالدنيا تحملونها على رقابكم، فإني لا أغني عنكم من
اللَّه شيئًا ". وقال: ((إن أهل بيتي يظنون أنهم أولى الناس بي.
وليس كذلك، إنما أوليائي المتقون ".

(4/104)


ولم يكن أحد أقرب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من أبيه.
وأمه فما نفعهما إذ كانا كافرين، وكان أبو طالب عمه، كما كان
حمزة، والعباس، فشقي دونهما بالكفر، وسعدا بالإسلام.
وعلي - رضي الله عنه - مسلم مطيع، وكان أقرب إليه من أبي بكر.
وعمر، وعثمان، ففضلوا عليه - ثلاثتهم - لزيادة طاعة كانت فيهم
وإن كان علي - أيضا - مطيعًا وصار علي أفضل من سائر من بعدهم.
لزيادة طاعة فيه.
ولو كان بالقرب مع الإسلام أفضل لكان عمه العباس، وابنا علي

(4/105)


الحسن، والحسين أفضل منه، فصار أفضل منهما، ومن عمه
بزيادة طاعة، وإن كان كلهم مطيعًا.
فهذا واضح - عند من شرح الله صدره - أن القربة منه لا تنفع
الكافر، ولا المسلم، إذا لم تساعده طاعته، للَّه جل وتعالى.
فإن قيل: فما معنى قوله: " إني تارك فيكم كتاب الله حبلًا ممدودًا.
وعترتي - أهل بيتي - فانظروا كيف تحفظوني فيهما ".
و" مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك ".

(4/106)


وما أشبه ذلك من الأخبار.
قيل: هي أخبار تدل الناس على فضائلهم، وجليل مناقبهم.
ورسوخ محبتهم في قلوب المؤمنين، وهم عندنا كذلك، وفوق ذلك
بحمد الله ونعمته، ولكنهم غير مرفوعين على من ازدادوا في الطاعة
عليهم، وللناس في الحب، والفضائل درجات في القلوب، على
مقدار ما جعل الله لهم، فلا تؤثر الدرجات بعضها في بعض.
ولكل درجة مقدار في قلب المؤمن، ألا ترى أن حب الله - تبارك
تعالى - فرض على المؤمن، فهو مقدم على كل حب، ثم حبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلوه،

(4/107)


ثم حب من فضّل من أصحابه على أهل بيته، ثم حب أهل بيته راسخ كله، جعله الله في القلوب، لا يؤثر بعضه في بعض.
فإن قيل: فكيف يكون علي دون أبي بكر، وعمر، وعثمان في الفضل، ولا تكون له الخلافة إلا بعدهم، وهو ختنه، وابن عمه؟
قيل: قد دللنا على أن الفضائل مستدركة
بالطاعات، دون القرابات، فقد كان العباس عمه، وهو أقرب منه.
فلم يكن له فيها حظ، وعثمان - قد - كان ختنه، فلم تخلص له
الخلافة إلا بعد أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما وعنه.
فإن قيل: أفليس قد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
لعلي: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي ".
قيل: لا ننكر لعلي أنه كان في الوزارة، والأخوة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كهارون من موسى، وقد كان أبو بكر، وعمر
- أيضاً - وزيريه، يسميان به في عهده، وسماهما علي بعد

(4/108)


موته. والنبوة، والخلافة قبل أن يلي غيره لا حظ له فيهما، لأن رسول
اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان خاتم النبيين، وقد استثني
في الخبر بالنبوة وهارون - صلى الله عليه - كان شريكًا لموسى في النبوة.
فلم تكن لتبطل نبوته بعد موت موسى - صلى الله عليه - لو مات قبله
ولا كانت تتحول خلافته، فيلزمنا أن عليا لما لم يجز أن يكون نبيًّا كان
خليفة، ولو كان هارون خليفة موسى - صلى الله عليه - بعد موته.
ولم يكن نبيًا برأسه، لاحتمل أن يكون علي - مع قول النبي، صلى
اللَّه عليه وسلم، فيه - خليفة بعده، قبل أن يلي غيره، فلما كان
هارون مستغنيًا عن الخلافة بالنبوة، ولا حظ لعلي في النبوة، لم يكن
لاعتلال المعتل بخلافته بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، بهذا
الخبر وجه.
وقد يحتمل أن يكون النبي، صلى الله عليه وسلم، لما خلف عليًّا
- رضي الله عنه - في غزوة تبوك، جعله خليفته على من خلفه إلى وقت

(4/109)


انصرافه، كما جعل موسى - عليه السلام - هارون خليفته على بني
إسرائيل، لما ذهب لميقات ربه، وكذا روي في الخبر أن عليًّا حزن
لذلك، فقال: تخلفني وتذهب؟! فقال: "ألا ترضى أن تكون مني
بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي ".
وفي موت هارون قبل موسى - عليه السلام - أدل دليل أنه أراد
خلافة الحياة، لا خلافة الموت - وقد رُوي: " لا نبي معي "

(4/110)


وخلافة الحياة، خلاف خلافة الممات، وقد استخلف أبا بكر - رضي
الله عنه - على الحج، ثم أرسل عليًا على إثره بسورة براءة، فكان
كل واحد منهما خليفته فيما أسند إليه من الحج، وتبليغ سورة براءة.
فليس في الخبر متعلق للشيعة في خلافة علي، بعد النبي، صلى اللَّه عليه وسلم، إن أنصفوا، ولم يكابروا، ولتخليص هذا موضع غير
هذا الكتاب.
قال محمد بن علي - رضي الله عنه -: فهذا ما دل عليه الكتاب
والسنة من تقدمة الناس بالتقوى والطاعة، بعضهم على بعض. فإذا
جئنا إلى الأنساب لم ننكر أن العرب أفضل من غيرهم، وأن رسول.
اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته أفضل من سائر قبائلها نسبًا.
فللرسول، صلى اللَّه عليه وسلم، فضل الدين، والنسب معًا
والكرامة على الله - جل وتعالى - على جميع الخلق، ولأهل بيته فضل
عليهم في النسب، دون الدين، لما دللنا عليه من أن الدين مفاضل
الناس فيه بالتقوى، لا بالنسب، وكذا سائر العرب، كل من قربت
ولادته من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان أفضل نسبًا ممن
بعدت منه، يفضل الأقرب فالأقرب في النسب على من دونه،

(4/111)


وأفضل الدين طريق واحد، وهو التقوى.
ذكر المال:
وقوله - تعالى -: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
دليل على أن كثرة المال سبب لفساد الدين إلا، من عصمه الله - عز وجل - لم يجعله فتنة عليه، فهو معصوم مخصوص بالكرامة، كمن كان غنيُّا من أصحاب رسول اللَّه، صلى الله عليه وسلم، ومن لم يعصمه فكثرة المال له مهلك.
* * *
وقوله: (وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ)
دليل على أن لا سبيل إلى
الازدياد في الرزق بالحيل، والمكاسب، لأن الله وعد الأرزاق.
وضمنها بقوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)
فرزق كل عبد مجموع عنده، ينزل عليه بمقدار ما يصلح له، وهذا وإن كان
كذلك، فلا متعلق - فيه - لمن يفضل الفقر على الغنى، ولا لمن
يحرم المكاسب من الصوفية، لأن الآية وإن كانت خروجها عامًّا

(4/112)


في المخرج، فقد دخلها الخصوص بمن كثر ماله من أصحاب رسول
اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فلم يفسده، ولا بغى فيه، وكان ماله
- وإن كثر - داخلاً في القدر الذي ينزله الله بمشيئته، فكيف يمكن
أن يفضل الفقر على الغنى - جملة - وقد كانت لرسول الله، صلى
اللَّه عليه وسلم، أحوال في المال، كثر عنده في وقت، وقل في
غيره، فهل يجوز لأحد أن يقول: إن رسول الله، صلى الله عليه
وسلم، حين قلَّ ماله كان أفضل منه حين كثر، أم يجوز أن يقول: إن
درجته في الفضل حين أفاء الله عليه قرى عربية اتضعت، هذا والله
عظيم لمن توهمه، فكيف لمن قاله؟! . بل المال محنة واختبار لأهله،

(4/113)


فمن أطاع الله فيه نفعه، ومن عصاه فيه ضره، ولا يقال: الغني أفضل
من الفقير، ولا الفقر أفضل من الغنى، إلا أن الأغلب أن فتنة المال أكثر من
فتنة الفقر، وللفقر -أيضاً - فتنة.
وأما ما عليه الصوفية الحرمين للكسب، فإن الله - جل وعلا - لا
تضمّن الأرزاق، وقدّر تنزيلها، لم يَعد أحدا في كتابه أنه يوصله إليه بغير
واسطة سبب، بل خلق المكاسب، وأباحها لخلقه، فقال: (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) ، وجعل رزق نبيه، صلى اللَّه عليه وسلم، تحت ظل رمحه، يصل إليه بقتال العدو، فالغنائم، والتجارات، وأعمال اليد - كلها - مكاسب، ودل في

(4/114)


كتابه، وعلى لسان نبيه، صلى الله عليه وسلم
على وجوب التجارات، وعلى ما يحل منها، ويحرم، فلو كانت
أسباب الرزق محرمة لكانت هذه الأشياء: من أبواب الربا.
والغرر، وبيوع الجاهلية لا تخص دون سائرها بالتحريم، ولكان
تحريم المكاسب جملة قد حظر جميع التصرف وهذا قول عظيم، خبيث
يؤدي إلى الإباحة - لمن ميزه - ويسوي بين أملاك
المسلمين، وأهل الحرب، إذ لابد لمن يقول: بتحريم المكاسب من

(4/115)


أكل، وشرب، ولباس، فإذا لم يميز وجوهه، ورأى ما يصل إليه من
الوجوه - كلها - مباحًا فقد دخل في هذه التسوية، وأباح أخذ الأموال
بالسرقة، والغصوب، والاقتدارات، كما يبيح أموال أهل الحرب
سواء، وهذا سوء مقال، وأجدره بالمحال، وأردّهُ للقرآن - كله -
مثل قوله: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) ، وقال: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) و (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا) ، فمن حرم الكسب - وهو مجوف محتاج إلى الأكل، والشرب ولا يسل ولا يتعرض إذ، المسألة، والتعرض معًا
كسب - فقد قال بالإباحة، عند من تدبر قوله.
ذكر المعتزلة:
* * *
وقوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)

(4/116)


ممهِّد للمؤمن - مَنْ طيَّب نفسه - من احتمال المصائب.
إذا علم أنها مكفرة لسيئاته، وموجبة له عفو ربه. وفيه تنبيه للقدرية.
والمعتزلة - فيما احتججنا عليهم - من مرض الصغار، والمجانين.
الذين يصيبهم المؤلمة بلا اكتساب شيء، كان منهم، كما دل
اللَّه - جل جلاله، في هذه الآية - من خاطبه من العقلاء
المميزين، أن مصائبهم تصيبهم باكتساب أيديهم، فليس لفرقهم بينها
وبين مصيبة النار معنى، إذ كليهما تعد مصائب، لما فيها من الآلام
على الأجسام، ألا ترى أن النار لم تكن مصيبة على إبراهيم، صلى اللَّه
عليه وسلم، بل نعمة فما بالهم - ويحهم - يفرقون بين الألمين.
والمصيبتين بما لا فرق فيه. فإن كان تصور الجور عندهم في تعذيب
من أجرم بقضاء الله لأنه معذب من لا ذنب له - عندهم - فهذا
الطفل، والمجنون يعذب في الظاهر، ولا ذنب له. وإن كان تصور
الجور فيه - عندهم - من غير هذه الجهة فليدلوا عليه، لنجيبهم
عنه، ولا سبيل لهم إليه.
ذكر الآثام:
* * *
وقوله: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)

(4/117)


دليل على أشياء:
فمنها: أن في الآثام صغيرًا، وكبيرًا، وأن اجتناب الكبير يكفر
الصغير، ويؤيده قوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) .
ومنها: أن العفو عن المسيء، وغفران سيئاته ممدوح عند الله، مرضي لديه.
ومنها: إجازة الصلة، وزيادة التأكيد في الكلام، وأنهما غير
حاطين من درجة الفصاحة، لأن " ما " صلة، و " هم " زيادة تأكيد.
ذكر التشاور:
وقوله - تعالى -: (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) ، دليل على
أن التشاور طاعة للَّه، واقتراب إليه، إذ قد جعله - جل وتعالى - في
جملة ما مدح به القوم، وكل شيء حمله الاستجابة له، والصلاة،

(4/118)


والنفقة، وكذلك الانتصار بعد الظلم ممدوح، إذا أراد به المنتصر إعزاز
دين الله، لقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) .
فإذا انتصر المظلوم لنفسه فانتصاره مباح، وعفوه أفضل، لقوله:
(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)
إلى قوله: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) .
وقد يدخل في قوله: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)
إباحة حبس المغصوب عن غاصبه بقدر ما غصب، إذا قدر
عليه، وقد بينته في سورة المائدة.
* * *
وقوله: (إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)
دليل على أن إدخال
" اللام " في خبر " إن "، وإسقاطه جائز فصيح، ألا ترى أنه قد
أسقطها في سورة لقمان، عند الإخبار عنه في وصية ابنه (إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)

(4/119)


وأثبتها ها هنا.
ذكر المعتزلة:
ودوله - تعالى -: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) .
حجة على المعتزلة والقدرية في الإخبار بالإضلال عن نفسه لهم، ونفى السبيل
بذلك عنهم، وأمرهم على إثر ذلك بالاستجابة، فهل ذلك - ويحهم -
إلا نص قولنا، وضد قولهم، ومعرفة كيفيته عنا مغيب، وهو عدل
لا ريب فيه، وإن جهلناه.
ذكر أن القرآن كلام الله:
* * *
وقوله: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ)
دليل على أن الله متكلم وإذا كان متكلمًا، والقرآن كلامه، فقد ثبت أنه غير مخلوق.
وليس للقوم متعلق في ذكر الحجاب، لأنه يعني بذلك في الدنيا.
وهو مثل الرؤية الزائلة في الدنيا، والكائنة في الآخرة.

(4/120)


ذكر تأييد الاحتجاج بالقرآن:
قوله - عز وجل -: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا)
إلى قوله: (مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) ، دليل على تأييد الاحتجاج بالقرآن.
وأن الهداية لا تكون إلا به، أو بما يدل - هو - عليه.
وفيه حجة على القائسين، والمستحسنين، إذا كان رسول رب
العالمين لم يعلم قبل تعلُّم، فالقائس، والمستحسن أولى أن لا يعلم قبل
تعلم، إذ القياس، والاستحسان ليسا بمنصوصين في القرآن
بألفاظهما، ولا بلفظ متفق على تأويله فيتعلما، فكيف يكونان حجة
على الخلق وقد أخبر الله أن الهداية في القرآن المتعلَّم.
ذكر الستن:
وقوله - تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ)
حجة في قبول السنن، وزوال الارتياب في أن قول الرسول - كله - حق من عند الله، وهاد إلى سبيل الله.

(4/121)


سورة الزخرف
الإقرار ببعض الحق:
* * *
قوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) ، وكذلك قوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) .
دليل على أن الإنسان لا يكون بإقراره ببعض الحق مؤمنًا
حتى يقر بجميعه، وأن الكفر ببعض الحق كفر بجميعه، ألا ترى أن
القوم قالوا حقًّا، لم ينفعهم الإقرار به، وقد ردوا غيره.
ثبوت الأسباب:
وقوله - تعالى: (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا) ، وأمثاله في القرآن، دليل على ثبوت الأسباب، وأنها غير
مؤثرة في توكل المتوكلين، ولا في قدرة الخالق، وهو نظير ما مضى
- في سورة الكهف - من قوله: (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ)
ألا ترى أن الله - جل جلاله، لا محالة - قادر على إنشار الأرض بغير مطر، فأنشرها بالمطر.
* * *
وقوله: (كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ)
يحتمل معنيين:

(4/123)


أحدهما: أن يكون إخبارًا عن قدرته على إحياء الأموات، كإحياء
الأرض بالنبات.
والآخر: أن يكون مثل الحديث المروي: " إن اللَّه - جل ثناؤه -
إذا أراد أن يحيي خلقه يوم القيامة أمطر عليهم من السماء مطرًا، فينبتون به
نباتًا، بقدرته ".
ذكر حط درجات النساء، عن درجات الرجال
قوله - تعالى -: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) ، دليل على حط درجات النساء، عن درجات الرجال.
وبيان تفضيل الرجال عليهن، وأن الآباء مندوبون إلى تحلية
بتاتهم، لأنهن لا يقدرن على النشوء فيه - صغارًا - إلا وقد حلين

(4/124)


بما ينشون عليه، وأن الرجال لا يجوز لهم المَحلي بحلي النساء، تشبهًا
بهن لأن ذلك أمارة نقص المرأة، وأن المرأة إذا كان لها حق تطالب به
وكلت رجلاً يطالب لها، إذا هي غير مبينة في خصومتها.
الرد على الجهمية:
قوله - تعالى -: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)
دليل على غير شيء:
فأوله: رد على الجهمية - (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا) - في باب الجعل الذي لا يعدونه إلا خلقًا، ليتطرقوا إلى
خلق القرآن، وهم لا يستطيعون أن يجعلوا " الجعل " ها هنا
خلقًا، إذ محال أن يكون الكفار خلقوا الملائكة إناثًا، إنما افتروا
على الله، وادعوا عليه دعوى باطل، وكفر.

(4/125)


والثاني: أن الحكم على الغيب محظور على كل أحد، بغير عيان.
ولا خبر صادق.
والثالث: تقريع للشهود أن لايشهدوا على شيء يسألون عنه إلا بعد
تيقنه، والتثبت فيه.
وقوله - تعالى -: (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ) ، نظير ما مضى - في سورة الأنعام - من قوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) ، والجواب فيهما واحد.
* * *
وقوله: (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ)
نظير ما مضى - في سورة المائدة - من قوله: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ) ، إذ لم يكن فيما كان عليه آباؤهم شيء من الهداية، بتة.
وقد تأكدت حجة الشافعي - بها - جدًّا، وضعفت حجة

(4/126)


ذكر الحسد:
وقوله تعالى -: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) ، دليل على أن تعظيم الأغنياء، والمتريسين بالثراء قديم في
أطباع من لم يعصمه الله بالإيمان ويبصّره رشده، ألا ترى المساكين كيف
ظنوا أن من كان - عندهم - عظيمًا رئيسًا أحق بالنبوة من محمد، صلى
اللَّه عليه وسلم، فأخبرهم الله أن النبوة رحمة منه على من ينبيه، ليست
هي بأيديهم، فيقسموها لمن أحبوا، إنما أخبر عن قسمته، ورفع فى درجة
بعضهم على بعض، فقال: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) .
وفي ذلك تقريع شديد، وغلظة للحاسد أن لا يحسد من فضله الله في المعيشة عليه، لأن في حسده تسخط قضاء ربه - وقد رضاه بقسمته - والازدراء بنعمة الله عليه.

(4/127)


المعتزلة:
وقوله - تعالى -: (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) ، حجة على المعتزلة، والقدرية لمن تدبره.
بشارة لمن صرف عنه متاع الدنيا:
* * *
قوله: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)
إلى (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) ، دليل على تزييف الدنيا، وزبرجها - كله - وتعزية لمن قدر رزقه، ولم يوسع عليه، وبشارة لمن صرف عنه متاع الدنيا، وليس فى هذا نقض لما مضى في قوله: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) ، لأن الغنى قد يشترك فيه المؤمن والكافر، والدين
مخصوص به المؤمن دون الكافر، والجنة جزاؤه، والنار جزاء الكافر.
فالمؤمن يستعين بغناه على طلب الجنة، والكافر يستكثر به الإصرار،

(4/128)


وهو مملو به، ليزدادوا إثمًا، والمؤمن منظور له، ليزدادوا جزاء
حسنًا، والله أعلم.
الإشارة:
وقوله - تعالى -: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)
حجة في أشياء:
فمنها: جواز الإخبار بلفظ الحاضر عن لفظ الغائب.
ومنها: رد على المعتزلة والقدرية في تقييض الشيطان للعاشي
عن ذكر الرحمن، وتصييره قرينه.
ومنها: أن إثباءهم بإضافة الصدود إلى المقَيَّضين ما يجلى عماهم - في
جهلهم - بإضافة الفعل إلى الفاعلين، وإخبارهم به غير مؤثر في فعل اللَّه

(4/129)


بهم ما فعل من حتم قضائه.
ومنها: الاختصار، والاستغناء بالإشارة، وإجراء من يجري الجمع
بعد توحيده - في اللفظ - ألا تراه يقول: (نُقَيِّضْ لَهُ)
ثم قال: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) ، فعلم أن " من " يعش جمع لا واحد، وإن كان في اللفظ موحدًا وعُرف بالإشارة إلى المعنى أن الصادين هم
القرناء، والعاشيين هم المصدودون، الظانون ظنًّا قد أخطؤه في
الهداية، ثم قال: (حَتَّى إِذَا جَاءَنَا) ، فرجع إلى لفظ " من "، لأنها موحدة في الظاهر.
ومنهم من قرأ: (جآءانا) على لفظ الاثنين، يريد الكافر

(4/130)


العاشي عن ذكر ربه، وقرينه، والتوحيد غير زائل - في سياق الكلام
- في كلا القراءتين، ثم قال: (وَلَن يَنفَعَكُمُ) فرد إلى الجمع -
كما ترى، سبحانه - وأشرك في العذاب الكافرين، والعاشين بعد ما
أخبر عنهم بالظلم معًا، ولم يُفرد به الصاد، دون العاشي.
أفلا يعتبرون - ويحهم - أن الفاعل يجُازى بفعله، وإن كان محمولاً
عليه، كما حمَل المقيضون المصدودين على الظلم، ثم اشتركا في
العذاب، وأُخذا بالجناية معًا.
فهلا اقتصر على عذاب الحامل دون المحمول على ما لا يقدر الحيدة
عنه؟.
وما الفرق - ويحهم - بين من يحمله القضاء على فعل، وبين من
يحمله قرين مُقيَّض لذلك الشيء، وكلاهما من عند الله، هل بقي
في ذلك إلا التسليم لحكمه، والرضا بقضائه، والتبرئ عن علم
معرفة العدل فيه، كما يعرفه العادل - في ذلك، جل جلاله - من
نفسه.
* * *
قوله: (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40)

(4/131)


حجة عليهم واضحة.
وقوله - تعالى -: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
حجة في قبول خبر الواحد - الصادق - إذ قد دللنا على أن

(4/132)


أمارات النبوة دليل على صدقهم، والحجة واجبة بإخبارهم، لا بأماراتهم.
وقد اختلف المفسرون في هذا السؤال:
فمنهم: من قال: أمره - جل وتعالى - ليلة المعراج أن يسل من أراه
من الرسل في السماء.
ومنهم من قال: أمره بسؤال أهل، التوراة والإنجيل
ليخبروه، وإخبارهم إياه كإخبار الرسل، لأنهم عنهم أخذوا.

(4/133)


وفي هذا دليل على أن خبر المعيوب عليه في دينه - إذا عُرف بالصدق -
مقبول، وإن أنكر حاله، إذ المراد من المُخبِر صدقه، لا غيره.
وليس إلمام المذنبين - المعروفين بالصدق - بالذنوب، والمتأوّلين أمورًا
بأكثر من كفر الكافرين.
وقد يحتمل أن يكون أُمر بسؤال من أسلم، منهم عبد الله بن سلام

(4/134)


وغيره، وليس ذلك في الآية.
* * *
وقوله: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا)
نظير ما مضى - في سورة الأعراف - من قوله: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا) .
* * *
وقوله: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ)
حجة على الجهمية
فيما ينفون عنه من كل صفة يشاركه فيها خلقه إذ قد أخبر عن نفسه
- جل وتعالى - أنهم قد أغضبوه كما ترى.

(4/135)


سورة الدخان
* * *
قوله: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)
دليل على أنه كان في الدنيا، لأن السماء مطوية يوم القيامة.
وكان الحسن يقول: إنه يوم القيامة، ويرسله عن أبي سعيد الخدري، ولا أعرف وجهه.
والقول - عندنا - فيه قول ابن مسعود، لما دل عليه القرآن.

(4/136)


(فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ)
دليل على أن في الناس من يبكيان عليه، إذ لا يخُصُّ أولئك بذلك، ويجُعل عقوبة لهم إلا وغيرهم مكرم به.

(4/137)


(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
حجة في تسمية المخلوق باسم الخالق، ورفع الحرج فيه، ودليل على أن تقريع المعذب بما أداه إلى عذابه جائز، لأنه زيادة في غمه.
وكان بعض أهل التفسير يقول: هو على طريق الاستهزاء، لأن أبا
جهل كان يزعم - في الدنيا - أنه أعز الناس، وأكرمهم، فعُرِّف في
النار أنه أذل، وأحقر مما قال.

(4/138)