النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام

سورة الفتح
قوله - عز وجل -: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) .
حجة في أشياء:
أحدها: أن الله - جل جلاله - قد نسب الفتح إليه، وإنما فتحه
بأيديهم، ثم يقال: فتح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مكة.
وفتوحه كلها، فلا يكون كذبًا، ولا إضافة فعله إليه بمؤثر فيما أخبر
اللَّه به عن نفسه، ولا ما أخبر به عن نفسه - منه - بمانع أن تضاف
الفتوح إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورسول الله، صلى
اللَّه عليه، فتحها مع أصحابه، والإخبار بها عنه وحده لأنه الرئيس.
وميسر الفتح - على الرئيس وغيره - ربهم. فهو الآن حجة على
المعتزلة في الأفعال، وعلى المتنطعين من الناسكين في تضييق

(4/155)


الكلام، الذي ينسبون. ما خالف باطنه ظاهر اللفظ إلى، الكذب، وهذا من جهلهم بسعة اللسان، ولايعرفون الكذب المعدود في عداد الآثام.
وفيه دليل على أن اللَّه - جل جلاله - أثاب نييه - صلى الله عليه وسلم - على شيء هو فعله به، فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وكذا يفعل بجميع المؤمنين، يوفقهم للعمل الصالح، وييسره لهم
ويعينهم عليه، ثم يثيبهم جودا منه وفضلاً.
وفيه دليل على أن النبي - صلى الله عليه - في نبوته وجلالته ومنزلته من اللَّه - كان غير مالك لما سبق به قضاء ربه علمه من الوقوع في ذنب يغفر الله له، فمن بعده من أمته أجدر أَن لا يملكوا ذلك من أنفسهم، وقد ألحقهم الله - جل جلاله، بفضله ورأفته - به
فغفر لهم وكفر سيئاتهم فقال: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)
ومنها: أن هداية النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد، النبوة إلى
الصراط المستقيم - لا يكون، إلا زيادة في إيمانه، وهو رد على المرجئة.
ذكر المرجئة:
قوله - تعالى -: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ)

(4/156)


حجة على المرجئة واضحة.
ذكر الاختصار:
وقوله - تعالى -: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) .
أظهر شيئًا دليلاً على الاختصار والإشارة إلى المعنى، لأنك كيف قرأت - بالياء، أو بالتاء - فذلك فيه واضح، وقراءته بالتاء أظرف قراءة، وأكثر القراء عليها.
ذكر الجهمي@ة.
قوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)
حجة على الجهمية والمعتزلة في غير شيء:

(4/157)


فمنه: أن المبايعة فعل واصل من الأتباع المخلوقين إلى الرؤساء
المخلوقين، وقد أخبر الله - نصاً كما ترى - بالبيعة له.
ومنه: أن الله جل جلاله إن لم تكن له يد متصف بها، غير
مخلوقة يعرف صفتها من نفسه، ومستحيل ذلك عليه - بزعمهم -
وقد قال الله: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) فقد لزمهم أن يقولوا: إن
المخلوقين ليست لهم أيدي جسمانية فيخالفوا العيان - مكابرة - وإلا
فلا يتحكموا.
وليت شعري أي شيء نفعهم حيث تأوّلوا في يد الله القوة، والنعمة
والقوة والنعمة يكونان للمخلوقين -أيضاً - فهل يكون ذلك إلا أن
قوة، ونعمة لا يشبه ما للمخلوقين، وكذلك يكون له يد لا تشبه أيدي

(4/158)


المخلوقين، لو أنصفوا.
ذكر الروافضة:
* * *
وقوله: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) ، إلى قوله (يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)
اختلف قتادة، والحسن في القوم.
فقال قتادة: هم هوازن وثقيف دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -

(4/159)


وقال الحسن وغيره: هم فارس والروم، دعاهم أبو بكر إلى
قتالهم، بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ففيه الآن حجة على
الرافضة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وقد سبقنا إلى هذا

(4/160)


عبد العزيز المكي.
ذكر العمل الصالح:
* * *
وقوله: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)
إلى قوله: (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا)
دليل على أن اللَّه - جل جلاله - قد يثيب المؤمن رزقا -
في الدنيا - على العمل الصالح، ولا يحط ذلك من درجة فضله.
ويجعل ذلك من أطيب وجوهه، ألا ترى أن الغنائم أطيب وجوه
الكسب، وأمطر الله على نبيه أيوب حين عافاه، من بلائه جرادًا من
ذهب، لم تبتذله الأيدي.

(4/161)


فالدنيا - المذمومة - وزبرجها هو ما يكتسب من خبيث المكاسب.
ومحظور الوجوه تفاخرًا وتكاثرًا، وذلك من غضب الله على أهله.
ومن إبلائه لهم.
فأما الرزق الحلال، الذي تعقبه الطاعة، ويجعله الله ثوابًا لأهله فهو
عطيته لهم، يستعينون بها على طلب الآخرة - الدائمة - يتعففون بها عن
زيادة المسألة، وبِذلة الوجوه، وإخلاقه بالإلحاف فيها.
* * *
وقوله: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ)
حجة على المعتزلة والقدرية.

(4/162)


المعتزلة:
قوله - تعالى -: (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) .
حجة عليهم فيما سبق من القسمة أن يكونوا أهلها.
وأحق من غيرهم بها وهي " لا إله إلا الله " وكذلك رُوي عن رسول
اللَّه، صلى الله عليه وسلم، وإلا فما الفائدة إذًا في قوله:
(وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) وقد دُعونا ومن كذب بها وأباها دعوة
واحدة.
ذكر الاستثناء فى الإيمان:
* * *
وقوله: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ)

(4/163)


حجة لمن يستثنى في الإيمان، ولا يكون شكًّا منه
وقد سبقنا إلى هذا غير واحد من أهل العلم.
ذكر، الحلق:
* * *
وقوله: (مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ)
ودعا النبي - صلى الله عليه وسلم - للمحلقين ثلاتا، وللمقصرين
واحدة - وكلاهما قائم بمناسك الله، مطيع له فيها - دليل على أن

(4/164)


كل ما صعب من الأعمال كانت أعظم للثواب، وأدق في الأكمال - التي
هي فرائض - ما يكون أكثر ثوابًا، وإن كان جميعها فرضًا.
وفي قوله - تبارك وتعالى في سورة البقرة -: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ، ولم يذكر القصر كالدليل على أن المنسك هو الحلق.
فإن قصر أَجزأ - عنه - كما الفرض في الوضوء غسل الرجلين، فإن
مسح على خفيه أجزأ عنه.
قال محمد بن علي: وقد كره قوم حلق الرؤوس - في غير الموسم
للحج والعمرة - وزعموا: أنه تشبيه بالخوارج، وليس هو

(4/165)


عندي بالبين، لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم ينكر من
الرجل - الذي قام عليه فأمره بالعدل في القسم - حلق رأسه.
إنما أنكر كلامه، وما عرفه من سوء مذهبه، وبعث في طلبه من يقتله (1) لما أنكر منه، لا للحلق.
__________
(1) المأمور أبو بكر، فقد ذكره الهندي في الكنز، ونسبه إلى سعيد بن يحيى الأموي في مغازيه، وفيه ثم دعا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر فقال: اذهب فاقتله، فذهب فلم يجده، فقال: " لو قتلته لرجوت أن يكون أولهم وآخرهم " كنز العمال) 11/318 (رقم (31613) . وفي الصحيحين ما يعارض أن الرسول أمر بقتله، فالمذكور فيهما أنه منع من أراد ذلك به. انظر صحيح البخاري - مع الفتح -
(2 1/ 0 29) حديث (6933) ، صحيح مسلم (2/ 0 74) وما بعدها (باب: ذكر الخوارج وصفاتهم) .

(4/166)


وقوله - في آخر الحديث -: " سيماهم التحليق " لا يفيد نكيرًا - في
نفس الحلق - إذ لو كان الحلق بذاته منكرًا، أو مصيِّرًا فاعله خارجيًّا.
لأبيح به دماء أهله، كما أباح رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
دم ذلك الرجل، ومن كان من ضئضئه، ولو كان الحلق منكرًا
بنفسه ما جعله الله - جل وعلا - في مناسك الحج والعمرة.
وأنطق لسان رسوله، صلى الله عليه وسلم، بالدعاء بالرحمة لهم
ثلاثًا، ولو كان الحلق مباحًا في الحج، محظورًا في غيره، لكان
القصر -أيضاً - مثله، ولكان محظورا في الموسم وغيره " لأنه من
سنة النساء، فكان لا يجوز التشبه بهن، لأن رسول الله، صلى اللَّه

(4/167)


عليه وسلم، قد لعن المتشبهين من الرجال والنساء.
وقد أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، كعب بن عجرة أن يحلق
رأسه، للأذى - وهو محرم - ولم يكن حلقه ذلك حلق النسك في
وقته بعد ذبح الهدي، فهلا قال - له -: خذ شعرك بالمقص، أو
بالمقراضين حتى يكون أوان حلقك.
وقد روَى سفيان بن عقبة - أخو قبيصة بن عقبة - عن أخيه، عن

(4/168)


سفيان الثوري، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن
حجر، قال: قدمت على النبي، صلى الله عليه وسلم، ولي
شعر، فقال:، (ذباب، ذباب " فذهبت فحلقته، ثم عدت إليه.
فقال له: " لم أعنك، - وهذا حسن.
وكان الحسن، والحسين، وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -
يحلقون رؤوسهم في غير أيام الموسم.

(4/169)


وسئل عنه الحسن البصري في الأمصار، فقال: حسن، والله جميل.
فمعنى قوله، صلى الله عليه وسلم: " سيماهم التحليق " سيما من
كان خارجيًّا، لا سائر الناس.
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)
إلى اَخر السورة، رد على الرافضة، ومن ينتقص أصحاب رسول الله.
صلى الله عليه وسلم، لأن الله - جل ثناؤه - وصفهم بهذه الصفة.
وصفًا عامًّا، فكل من صحبه، وكان معه بعد الإسلام فقد استحقها.
وصار من أهلها، ووجب على الناس إعظامهم، وتبجيلهم، والرحمة

(4/170)


عليهم، وترك التنقص لجميعهم، وإن فَضَّل بعضهم على بعض، بما
فضلهم الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، ورحمهم أجمعين - ونعلم
أن من تنقصهم فهو ملعون، مخالف للَّه في وصفهم، وحاق به لعنة
رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله، صلى الله عليه
وسلم: " لا تسبوا أصحابي، من سبهم فعليه لعنة الله ".

(4/171)


سورة الحجرات
حجة على من ييتغي مع القرآن في السنة سواها:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
حجة على من يبتغي مع القرآن.، والسنة سواهما.
ويلتمس الحجة في غيرهما، ولا يحرم القول بغيرهما أو بالإجماع
الذي عليه دلاهما (1) .
فضيلة أبي بكر الصديق رضىِ الله عنه:
* * *
قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
__________
(1) هكذا رسمت في المخطوط (دلاهما) ولعله يريد: أو بالإجماع الذي دل عليه القرآن والسنة.

(4/172)


وقد صح أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، جعل على نفسه عند نزوله أن أن لا يكلم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلا كأخي السرار. فاستوجب
التقوى، والمغفرة، والأجر العظيم، فسبق الجميع إلى هذه المنقبة
الجليلة، وهو رد على من تنقصه.
ذكر توقير الإمام:
* * *
قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)
دليل على أن على الناس - وإن تواضع لهم إمامهم وغض لهم جناحه - أن يوقروه، ولا ينزلوه من أنفسهم منزلة بعضهم من بعض، وأن ينتظروه

(4/173)


لحوائجهم - وإن رفع حجابه - حتى يخرج إليهم.
ذكر قبول خبر العدل:
* * *
قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
دليل على قبول خبر العدل، وقد سبقنا إلى هذا الدليل، ولكنا كرهنا أن نعري موضعه.
ذكر المعتزلة:
* * *
قوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ)
حجة على المعتزلة، والقدرية واضحة.
فإن زعموا: أن تحبيبه إليهم مدحه، وتكريهه إليهم ذمه.
قيل: قد يمدح الشيء، بغاية المدح ولا يحب، ويذم بغاية الذم ولا
يكره، لأن الحب، والكراهة فعلان من أفعال القلب ينبو عما يكره،

(4/174)


وينطوي على ما يحب، وربما كان ما ينبو عنه ممدوحًا عند غيره، وما يحبه
مكروهًا عند غيره، ولو كان كذلك لكان - والله أعلم - " ولكن اللَّه مدح الإيمان وحسنه، وقبح الكفر وذمه " ولا يكون حبَّب إلا حمل
القلب عليه، ولا كرَّه إلا باعد منه القلب.
فإذا كان المؤمن محببًا إليه الإيمان، وهو لا يقدر على المسابقة إليه إلا
بتحبيب ربِّه إياه إليه، ولا يقدر على ترك الفسوق، والعصيان إلا
بتكريهه إياه إليه، وقد خص بهذا المؤمن دون الكافر، علمنا أن
الذي أقعد الكافر عما نهض به المؤمن عدم ما جاد الله به على المؤمن
من هذين المعنيين من التحبيب والتكريه، ولا يخلو من أن يكون قادرًا
على الإتيان بالإيمان، واجتناب الفسوق والعصيان
باستطاعته، أو لا يقدر إلا بما ذكره الله من التحبيب والتكريه، فإن
كان قادرًا - كما يزعمون - فلا معنى للاعتداد عليه بما لا منة فيه.
وجل الله عن ذلك، بل يقول - فى آخر السورة -: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) .
وإن لم يكن قادرًا عليه إلا بهما فقد علمنا أن الكافر - أيضاً - لم يقدر عليه لما حُرِمَ منهما.
فالمؤمن هاد بتوفيق الله، والكافر ضال بخذلان الله إياه، فليلتزموه

(4/175)


إذ لا ثالث لهما.
تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق:
* * *
وقوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)
إضمار الجميع راجع على جمع الطائفتين، لأن الطائفة تكون واحدا
وجمعًا، وهو في هذا الموضع جمع
وفي تسميته إياهم بالمؤمنين - مع الاقتتال - دليل على أن قول النبي
صلى الله عليه وسلم: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " هو أن
يقاتله مستحلاًّ لقتاله، فأما إذا قاتله مذنبًا، أو متأولاً، فليس ذلك
بكفر، لأن الله - جل وتعالى - لم يزل اسم الإيمان عن الباغية
وغيرها، ثم قال: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) على لفظ ثأثيثها، لأنها مؤنثة اللفظ.
ثم أكد الإيمان - لهم - بقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)

(4/176)


وهو رد على الرافضة خانق لهم، فيما يكفرون مقاتلىِ علي
- رضي الله عنه وعنهم - وعلى الشراة (1) فيما يعدون الذنوب كفرا
، وقد سمى الله كلًّا مؤمنا كما ترى.
تحريم تسمية المؤمن بما يكره.:
* * *
وقوله: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ)
يؤيد - والله أعلم - بعضكم
بعضًا، (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) ، دليل على تحريم تسمية المؤمن
بكل ما يكره من فسق، أو كفر، أو غيره، إذ دعاء من ليس
بفاسق فاسقا بهتان ولمُزة، ودعاء من تفسق بدنب تعيير، واستطالة
__________
(1) " الشراة " هم الخوارج، وإنما سمو بذلك لقولهم: " شرينا أنفسنا في طاعة الله، أي بعناها بالجنة ". انظر مقالات الإسلاميين، ص (- 128) ، وتاريخ الفردق الإسلامية ص (264 - 265) .

(4/177)


عليه، وتعرض لمعافاته، وابتلاء الداعي بمثله، وفي النصيحة له.
وإسرار الموعظة له مندوحة عن التنادي بما يعرف منه.
وقد فتن الناس أحاديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن
جده: " أَترِعون عن ذكر الفاجر "، وليس في أخبار بهز ما
يعارض به نص القرآن في تحريم الغيبة - جملة - في هذه السورة،

(4/178)


(وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) ، والمؤمن - باقتراف الذنوب - لايزول عنه اسم الأخُوَّة
للمؤمنين، فكيف يسلم المغتاب من أكل لحم من اغتابه من
المذنبين والمطيعين، وكلاهما إخوة في الدين، وذنب المذنب على
نفسه، ومعاملته فيه مع ربه، وحقوق أخوَّةِ الإسلام قائمة - على
أخيه - لم يزلها ظلمه لنفسه.
وحديث بهز هذا، رواه الجارود بن يزيد، وهو كذاب.
وروى معناه، أو قريبًا منه الأنصاري.

(4/179)


والأنصاري، وإن كان في عداد المحدثين المحتملين فلا يثبت بروايته - إذا
انفرد - حجة، وسيما إذا روى عن بهز، وأحاديثه - فى أنفسها -
غير قوية، وقد حرم - مع ذلك - أذى المؤمن جملة وقد وُعد عليه الإثم
المبين في قوله: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) .
وفي قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " من آذى مسلمًا فقد آذاني، ومن أذاني فقد آذى الله ".
وقال - تبارك وتعالى، في أذاه وأذى رسوله -: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)
فكل أذى يلحق المذنب المعلن بذنوبه غير إقامة الحد فيما يوجب عليه ما
اكتسبه - والتغبير عليه ساعة

(4/180)


يطهره من ذكر عرض، وغيبة، وتنديد - فمدخل عندي مؤذية فيما
أخبر الله جل وتعالى عنه في آية المؤمنين، والمؤمنات بنص القرآن.
ومخوف أن يدخله في آية الله، والرسول، بدليل قول رسول الله - عز وجل - الذي ذكرناه، وحديث العلاء - عن أبيه عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث سُئل عن الغيبة، فقال: " ذكرك أخاك بما يكره قيل: يا رسول اللَّه: أرأيت إن كان في أخي ما أقول، قال: " إن كان فيه ما تقول فقد أغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " أصح، وأشد
موافقة للقرآن من حديث بهز،

(4/181)


وحديث معاذ مرسل لا يقوم به حجة فيا روى: " ثلائة ليست لهم في الغيبة حرمة "
وهو مع إرساله ضعيف الرجال.
فأرى حق المسلم على المسلم واجبًا على جميع جهاته مطيعًا.
وعاصيًا، لا يغتابه، ولا يعيره، ولايشمئز من رؤيته، ولايدع إجابته
إذا دعاه في وقت لا يحضر معصية، ولايعلن منكرًا، ويشمته إذا
عطس، ويعوده إذا مرض، ويشهده إذا قبض كغيره سواء، ما لم
يحُدث بدعة تخرجه إلى الكفر، فتزول أخُوَّةُ الإسلام بها، ولا يدع
نصيحته في السر، وموعظته بالرفق، إذ ليس فيما أحدثه نساكُ

(4/182)


زماننا - من الهجران، والإقصاء، والجفوة، والتنديد والغيبة - كتاب
ولا سنة ثابتة، ولا إجماع محصل، ولا يثبت ببنيات الطريق حجة.
وقد ذكرنا في سورة بني إسرائيل - عند قوله: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) - ما يغني عن إعادته في هذا الموضع.
فمن جانب أخاه الذنب في أفعاله، وأنكرها عليه عند رؤيته، وحال
بينه وبينها، إذا قدر عليه من ظلم يهم به، أو خمر يريد شربها فيريقها.
أو ملهاة يبصرها فيكسرها، فليس عليه أكثر من ذلك، وحقوق أخيه.
وتحريم عرضه - في سائر ذلك - قائمة عليه بالحجج التي قدمنا
ذكرها.
* * *
قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى)
يعدها كثير من الناس خصوصًا من أجل آدم وعيسى، صلى الله عليهما. وقد يحتمل

(4/183)


أن يكون المقصود بها أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، لأن آدم.
صلى الله عليه، ميت، وعيسى - عليه السلام - مرفوع فلا يكون
خصوصًا، من جهة ما ذهبوا إليه، بل تكون عمومًا فيمن نزل فيها
من الأمة، ونبيها، صلى الله عليه وسلم.
خصوص:
* * *
وقوله: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا)
خصوص لا محالة - لقوله: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)
إلى قوله: (سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ) .
ذكر الإيمان:
قوله - تعالى -: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) ، ليس بخلاف لما قلنا:
في سورة البقرة، وجمعنا بين الإيمان والإسلام، إذ ليس بين الأمة
خلاف أن أحدًا لا يثبت له إسلام منفرد، يكون به من أهل الدين،

(4/184)


ويمتاز به عن الكفر دون الإيمان، والله - جل وتعالى يقول نصا -:
(وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)
فدل على أنهم استتروا بما حقنوا به دماءهم، وأموالهم، ولم يكونوا مؤمنين، ولا نفعهم ذلك يوم الدين.
ذكر المرجئة والجهاد:
قوده - تعالى -: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)

(4/185)


حجة على المرجئة واضحة، إذ هم مقرون بأن من لم يكن له صدق الإيمان
فليس بمؤمن، وقد جعل الله الجهاد من صدق الإيمان كما ترى.
فإن قيل: فكيف يكون من لم يجاهد صادقًا في إيمانه، إن كان الجهاد جزءا من أجزائه؟.
قيل: قال الله - تبارك وتعالى -: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) و (إِلَّا وُسْعَهَا)

(4/186)


فمن لم يطق الجهاد بالنفس، والمال.
وآمن به، ورآه حقا وأحبه فهو من أهله، وليس عليه غيره، والجهاد -
مع ذلك فرض على الكفاية، والإيمان يزيد وينقص، فمن جاهد
بنفسه، وماله كان أفضل درجة، وأزيد إيمانًا ممن قعد عنه بالعذر
والرخصة، فكلاهما مؤمن، وبعضهما أزيد فيه من بعض، وكل
بمقدار جزئه صادق فيه، قال الله - تبارك وتعالى -: (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) ،
وهذا بعد ما عذر أولي الضرر - في أول الآية

(4/187)


فقال: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) .

(4/188)


سورة ق
حجة في الاستدلال بالشاهد على الغائب وبالخلق على الخالق:
* * *
قوله: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)
إلى قوله: (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)
حجة بالاستدلال بالشاهد على الغائب - من قدرة الرب - وبالخلق على
الخالق من صنعه.
* * *
وقوله: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)
دليل على جواز إضافة الشيء إلى نفسه
جواز الخبر عن الاثنين بلفظ الواحد:
* * *
وقوله: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)
حجة في أشياء:
فمنها: ما دل على توحيد الفعل المتقدم على الأسماء.
ومنها: اختصار الكلام،

(4/189)


والإشارة إلى المعنى.
ومنها جواز الإخبار عن الاثنين بلفظ الواحد، كأنه - واللَّه أعلم - كل واحد منهما قعيد.
تسمية المخلوقين باسم الخالق:
* * *
قوله: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
حجة في تسمية المخلوقين باسم الخالق، وزوال النكير عنه، وهو تأييد لما أجزناه من تسمية الناس بالسيد.
واختلفوا في خصوص اللفظ وعمومه

(4/190)


فقال عكرمة: من قوله. وعن ابن عباس ما يؤجر عليه، ويؤزر
وقال قتادة والحسن: هو كل شيء.

(4/191)


وفي هذا -أيضاً - حجة في اختزال الحرف من الكلمة، والإرادة
تمامها، كأنه - والله أعلم - إلا لديه رقيب عتيد يكتب ما قال.
مانع الزكاة:
* * *
وقوله: (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)
ضمير الاثنين - والله أعلم - راجع على السائق، والشهيد.
* * *
وقوله: (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ)
وعيد شديد على مانع الزكاة، ومؤيد ما
قلنا: من أن مانعها يُكفَّر، بدليل قوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)

(4/192)


قوله: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28)
حجة على من يتأول " عند " - على مستنكره التأويل - فما عسى أن يقول: في (لَدَيّ) هاهنا، وليس هناك ثواب يكون به قريبًا منه.

(4/193)


قوله: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
مما قلنا إنه لا يجوز استعمال ظاهره بتة، لأن الله - جل جلاله، لا محالة - أعلم من جهنم بما يقول لها، قد قال كما ترى، فكيف يجوز أن يحمل:
(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) ، وما أشبهه.
فيرد به عامة القرآن، وممكن فيه على ما خرّجناه أن يكون تبعًا لما
خالفه، ولا يمكن أن يجعل ما خالفه تبعًا له، لما دللنا عليه من إحالة
جعل مشيئته تبعًا لمشيئة خلقه، وظهور الكفر فيه، وغير
محال أن تجعل مشيئتهم تبعًا لمشيئته، والقرآن نازل بلغة العرب.
ومعروف في كلامها أن يعد الملك بعض أهل مملكته وعدًا، فإذا
أنجزه، قال - له -: هل وفيت لك بما وعدتك، وهو يعلم أنه قد
وفى له، فلا يستفهمه لجهله بصنيعه به.
وبلية القوم من إضاعة النصيحة، وإهمال التقوى، واتباع ما تشابه
من كتاب الله، وبذلك وصفهم - جل وتعالى - فقال: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) الآية.
فلما كان من حكمه - جل جلاله - أن يملأ جهنم من الجنة والناس

(4/194)


أجمعين فملأها، فقال لها - وهو أعلم -: (هَلِ امْتَلَأْتِ)
وقد علم ما جعل فيها، وكيف لا يعلم، وهو أدخلهم إيّاها سبحانه؟!
وفيه دليل -أيضاً - على أن القرآن غير مخلوق، لأن الله - جل
وتعالى - كل كلامه غير مخلوق، ما قد تكلم به، وما يتكلم به يوم
القيامة، فكيف يجوز أن يكون (هَلِ امْتَلَأْتِ) مخلوقاً - الآن - لو
جاز أن يكون - أيضاً - مخلوقاً كلامه، ومعاذ الله، وهو لم يقله بعد.
* * *
قوله: (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)
دليل على أن قراءة يحيى بن يعمر، وإن انفرد بها على الأمر أحسن تأويلاً، من قراءة من قرأها على الخبر، لأن هل لا تكاد تلي إلا المواجهة، فكيف تترك "هل "

(4/195)


مفردة بالإخبار عن قوم نقَّبوا، ولو كان كذلك، لكان - والله أعلم -
فنقَّبوا في البلاد فلم يجدوا محيصًا، فلما قال: (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ)
دل على أن قوله: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا)
كلام تامّ كما قال: (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا)
ثم ابتدأ - وهو أعلم - بالأمر لكفار قريش بأن ينقبوا في البلاد، هل ينجيهم من الهلاك، على معنى التهدد، والله ولي الصواب.

(4/196)


سورة الذاريات
قوله - إخبارًا عن المرسلين -: (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)
دليل على أن الله - جل جلاله - بنفسه في السماء، لأن الحجارة لا
محالة أمطرت من السماء، وقد قال: (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) .
وفيه -أيضاً - بطلان قول المتأولين في: (عِنْدَ) .
ذكر الإيمان:
* * *
وقوله: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)
دليل على أن الإيمان، والإسلام وإن فرق بهما اسما
فهو يجمعهما معنى وفيه رد على المرجئة.
* * *
وقوله: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)
دليل على أن سائر الرياح تلقح الأشجار، وتودعها الثمار، بإذن الجبار.
فكانت تلك وحدها عقيمًا، أثيرت للعذاب، لا لمنافع العباد في

(4/197)


أشجارهم وزروعهم.
* * *
قوله: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ)
حجة للجهمية - فيما يرون - ولا متعلق لهم فيها، لأن اليد التي ينكرونها جمعها " أيدي "
فإن كان هاهنا تلك فهي عليهم لا لهم، وإن كانت بمعنى
القوة فهي لا لنا ولا لهم، بل لنا في القوة حجة عليهم لا لهم.
وقد بينا في غير هذا الموضع.
* * *
وقوله: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
آية غليظة على من لا ينتفع بالموعظة، لما يخُشى عليه من النفاق، إذا زالت عنه منافع المواعظ.

(4/198)