النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام

سورة الواقعة
* * *
قوله: (وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)
نظير ما مضى من مثله.
* * *
قوله: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36)
نظير ما مضى في تفضيل الأبكار على الثيب.
بشارة للمؤمنين:
* * *
وقوله: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7)
إلى قوله: (أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)
بشارة للمؤمنين كبيرة، ورد على المعتزلة واضح، لأن الله - جل
جلاله - زمر جميع خلقه ثلاث زمر، وأخبر عن كل زمرة بما هو
فاعل بها ومصيرهم إليه.
فأخبر عن المقربين بما أخبر، فعلم أنه ميزهم عن المؤمنين بفضل
الطاعة وزيادة ما أوتوا، إذ فيهم الأنبياء والصديقون والشهداء.
وأخبر عن أصحاب اليمين بما أخبر فعُلم أنهم دونهم في المنزلة مساوون

(4/211)


لهم في التوحيد، فمن كان مذنبًا موحدا فهو داخل معهم، وأخبر عن
أصحاب الشمال بما أخبر وجعل في صفتهم أنهم (كانوا) (يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) .
فعلم أنهم الكفار - كلهم - عبدة الأوثان، والمنافقون، وأهل الكتاب الذين لايؤمنون باللَّه، ولا باليوم الآخر، وكذا قال - في آخر السورة -: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)
فلم يذكر لهم ثالثًا، وذكر أصحاب الأعراف - في موضع آخر - وذكر نجاتهم،

(4/212)


فهم زُمَرٌ ثلاث لا رابع لهم، أو رابع، لا خامس لهم، فمن الزمرة الخامسة - ليت شعري - التي يخلدها المعتزلة مع
الكفار في النار؟! إذ غير ممكن أن تجعل واحدة من هؤلاء ولا خارج
في قولهم بتة، فقد وضح - بنعمة الله - دحض حجتهم في
الوعيد، بالدليل العتيد في هذا الفصل، وحقت بشارة المؤمنين
المذنبين بالنجاة بنعمة ربهم ورأفته.
رد على المعتزلة والقدرية فيما يرزن أن المقتول ميت بغير أجله:
* * *
وقوله: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60)
حجة عليهم فيما يرون المقتول ميتًا بغير أجله، وهو جهل بين.

(4/213)


قوله: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)
روي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " لا يقولن أحدكم: زرعت.
ولكن ليقل: حرثت " من أجل هذه الآية.
وهذا خبر وإن كان حسن الإسناد فله معارض يشهد له القرآن وهو
قوله - حين أشار بترك تلقيح النخل فحملت شيصًا -: " إن الله لم
يبعثني تاجرًا، ولا زراعًا".

(4/214)


وقال الله: (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ)
فسماهم كما ترى.
وقد دللنا - في غير موضع - على إجازة تسمية الناس بأسامي
اللَّه.
قوله (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)
هو - والله أعلم - الكتاب الذي في السماء

(4/215)


وقد قال المفسرون - فيه - ألوانا، لقوله: (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)
وهذا الذي عندنا ينشر، ويبتذل، وأدل الأشياء على (لَا يَمَسُّهُ) أن يكون خبرًا لا نهيا، لأن أكثر كلام العرب على نصب المضاعف في مواضع الجزم، لخفة الفتح عندهم، وقد رفعوه - أيضًا - إلا أن الفتح أكثر، ورأينا الله أظهر هذا اللفظ في الشرط والجزاء - وهو جزم - فقال: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) ، وقال: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ)
فأشبه أن يكون لما ترك إظهاره - في هذا الموضع - ورفع صار خبرًا
عن الملائكة المطهرين، فهذا أدل وأكثر، ولا أحتم به، لاحتماله
أن يكون نهيا على جواز رفع المضاعف - في موضع الجزم - كقوله
تبارك وتعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا)
اتفق القراء على رفعه، فأحب أن لا يمس القرآن أحد - من

(4/216)


البالغين - إلا طاهرًا بطهارة الصلاة احتياطًا ولا أوجبه إيجابا، لما دللنا
عليه من إمكان الخبر في (لَّا يَمَسُّهُ) وفي " المكنون "، ولاتفاق
أهل الصلاة على إجازة مسه للصبيان، وهم غير متوضئين، ولو
توضأوا قبل يعقلون الوضوء ونيته ما طهروا به، ولو كان
نهيا متحققا لمنع الأطفال من مسه حتى ييلغوا.
وحديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في كتابه إلى عمرو بن
حزم فى ترك مسمه إلا للطاهرين،

(4/217)


مرسل لا يثبت متصلاً. والله أعلم كيف هو.

(4/218)


سورة الحديد
قوله - عز وجل -: (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)
حجة على القدرية والمعتزلة.
فضيلة أبى بكر رضى الله عنه:
* * *
قوله: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)
دليل على فضيلة أبي بكر - رضي الله عنه - لإنفاقه ماله على رسول
اللَّه، صلى الله عليه وسلم، قبل الفتح، ودليل على أن كل عمل
يُسبق إليه أفضل مما يؤخر، من غير أن نُلحق بالمتأخر تقصيرًا.
ذكر حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في أمر الصدقة:
* * *
قوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)

(4/219)


يؤيد حديت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله -
جل جلاله - يربي صدقة المتصدق كما يربي أحدكم فَلُوَّه، أو فصيله "
ألا ترى أنه ذكر مضاعفتها قبل أجرها، ليكون الأجر على ما رباه
وأعظمه، لا على صغير ما أقرضه، جودًا منه وكرمًا وهو أعلم.
في تسمية الصدقة بالقرض، وإضافتها إلى نفسه، وهي واصلة إلى
غيره "معنيان:

(4/220)


أحدهما: إجازهّ وضع الكلمة موضع غيرها.
والآخر: إفادتنا أن المتقرب إليه بإعطاء الفقير معظم حقه.
فيخرج - الآن منه - أن المتحري مسرة رجل بإرفاد من يحبه مكرمه
بذلك الرفد، ومستوجب من عنده المكافأة علي فعله.
غلبة المذكر على المؤنث:
* * *
قوله: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) دليل على غير شىّء.
فمنه: غلبة المذكر على المؤنث في قوله: (نورهم) ولم يقل: " نورهن ".
ومنه: أن الإخبار بالسعى عن النور توكيد لاستعارة الكلام، وأنه -
لا محالة - في لسان العرب.
والباء في (وَبِأَيْمَانِهِمْ) فى معنى "عن " والله أعلم.

(4/221)


وفي قوله: (بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) - والله أعلم - ضمير كأنه " ويقال لهم: بشراكم اليوم ".
* * *
قوله: (يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ)
دليل على أن القول وإن كان اختبارًا في موضع فغير
مانعة من أن يكون معنى غير الاختبار - أيضا - إذ محال أن يكون
المنافقون اختبروا أنفسهم في الدنيا بنفاقهم، فهو الآن رد على المعتزلة
والقدرية في تأويلهم إياه اختبارًا في كل موضع، وامتناعهم من إجازة غيره عليه، وكذلك قوله: (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) ، إذ قد أخبر بالغرة عن الأماني، ثم أخبر بها عن الغرور وهو الشيطان، وقد أخبر بها في موضع آخر عن الدنيا، وهو قوله: (ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) ، وإذا كان كذلك فغير ممتنع أن يخبر بالإضلال عن نفسه لهم، وإن كان قد أخبر به في الشيطان مرة وعن المضلين
أخرى، فيكون فعل المخلوق أبدًا تبعًا لفعل الخالق، ولا يكون فعل

(4/222)


الخالق تبعًا لفعل المخلوق.
* * *
وقوله: (مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ)
يؤكد جميع ما مضى من إجازة تسمية المخلوق باسم الخالق، إذ قد دل على تسمية الناس به، ثم أجاز - ها هنا - تسمية النار أيضاً به.
المرجئة:
وقوله - تعالى -: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) ، رد على المرجئة إذ المخاطبون الموبخون بهذا
قد كان لهم - لا محالة - حظ في الخشوع قبل استبطائهم وتقريعهم، إذ
لو لم يكن لهم حظ فيه - وإن قل - ما كانوا مؤمنين، فهل ما التمس
منهم إلا زيادة في خشوعهم، الذي بقليله استحقوا اسم الإيمان قبل
أن يطالبوا بكثيره.
* * *
وقوله: (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ) ، دليل على

(4/223)


أن المرء ممنوع من التشبه والاقتداء بمن لا يكون مرضي الفعال، وأنه إن
اقتدى به في فعل بعينه لم يصر بجميع الصفات مثله، فليعتبر المنكر
على من شبه المشمئزين - من دعوة الداعى في الأحكام إلى القرآن -
بالمنافقين والكافرين، وإن لم يكن منافقًا ولا كافرًا بهذا، ليردعه عن
استعظام ما ليس بعظيم من المشَبِّه، بل فعل الممثممئز بالتشبيه
بالقوم عظيم لو عقله، والله يغفر لنا وله.
إهمال الرعاية:
وقوله - تعالى -: (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ)
دليل على أن إهمال الرعاية مخلقة للأذكار في قلوب المؤمنين، وتعاهدها مطرية، والقسوة متولدة من طول الأمل، وإدمان الزلل

(4/224)


ذكر اللهو:
وقوله - تعالى -: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ)
دليل على أن اللعب، واللهو والزينة، وكل ما ذكر معهم مذموم جملة، إلا ما رخص فيه من ملاعبة الرجل امرأته، وجاريته، ولهو النضال، وما ذكر معه، وما استثني - من الزينة - في سووة الأعراف من أخذ الزينة
عند المساجد، وما لم يكن منها سرفًا.

(4/225)


قوله: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ)
إلى قوله: (وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ) ، تأكيد لما قلنا، ودليل على أن المرء معذب على ما لم يستثن من ذلك، ومفجوع بها في الدنيا قبل مباشرة العذاب في الآخرة.
وقد مضى جوابنا - في غير موضع، من هذا الكتاب - للقائسين في
أن احتجاجهم على تثبيت القياس بهذه الأمثال، وما ضاهاها في القرآن
بعيد مما يظنون، فأغنى ذلك عن إعادته.
* * *
قوله: (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ)
مقصود به - لا محالة -
قومًا آخرين، ففيه دليل على جواز اختصار الكلام، والإشارة إلى
المعنى.
الوعيد:
* * *
وقوله: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)
نظير ما مضى في سورة آل عمران.

(4/226)


(أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)
حجة على المعتزلة في باب الوعيد - شديدة - لو تأملوها، إذ ما لا يفهمونه من الخُلْف خانق لهم -
في هذا الموضع - فيقال لهم: كيف يجوز عندكم أن يكون الله - جل
جلاله - يخبر عن نفسه بإعداد الجنة للمؤمنين به، وبرسوله - في هذه
الآية - بلا شرط، فيكون فيهم من يذنب ذنبًا - واحدًا - فلا يجعل له
حظًّا فيما أعد لمن آمن به وبرسوله، من أجل ذلك الذنب الواحد.
لأن ذلك الذنب محا الإيمان من صدره، وأنطق بالكفر لسانه!.
فإن قالوا: لا، ولكنه أوعده النار على ذنبه.
قيل لهم: فأوعده إدخال النار وحده أو أوعده مع الإدخال
الخلود؟.
فإن قالوا: أوعده كلاهما، كابروا في الدعوى، وطولبوا بالتلاوة
في ذلك، ولا سبيل لهم إليه.
وإن قالوا: بل أوعده النار، ولم يوعده الخلود.
قيل: فما بالكم تخلدونه - فيها - بعد استيفاء الجزاء على ذنبه.
وأنتم قوم تقودون دليل العقل، وتأخذون أفعال الله بعبيده من أفعال

(4/227)


الخلق بعضهم ببعض في باب العدل والتوحيد وغيره، أفسائغ في
عقولكم - ليت شعري - أن يتواعد رجل عبده بضرب على فعل إن
فعله، فيتقدم بين يدي نهيه يفعل ذلك الفعل، فإن ضربه ثم خلاّه عد
كذبا عليه، وخلفا لوعيده، لتخليته بعد ضريه، ولا يكون -
عندكم - صادقًا، ولا منجبزا وعيده إلا بتتابع الضرب وسرمدته عليه
عمره! كما يزعمون: أن من أدخله الله - بعدله - نار جهنم عقوبة
على خطيئته، ثم أخرجه بعد استيفاء عقوبة خطيئته أنه مخُلف لإيعاده
أَوَ سائغ - في عقولكم - إذا حلف رجل على عبده أن يسجنه، فسجنه يومًا، أو ساعة ثم خلاه أن تكون يمينه باقية عليه حتى
يخلده في السجن،! وأشباه ذلك، أو تتبصرون فتعلمون أن الضرب
إذا وقع بالعبد الموعَد به، وأطلق من السجن - بعد وقوع الحبس
عليه - بر الحالف ووفى الموعِد، وأن الله - جل جلاله - إذا أدخل
المذنب ناره فقد وفى بوعيده، فإذا أخرجه بعد استيفاء جزائه لم يكن
ذلك مؤثرًا في وعيده
فإن قالوا: فقد قال الله - تبارك وتعالى -: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) .
قيل: المعصية قد تكون في الكفر، وتكون في الذنب، إذ معنى
المعصية عصيان من أَمر بشيء، ونَهَى عن شيء، فتعدى أمره ونهيه.
فلما كانت المعصية - المصروفة إلى الذنب غير مبطلة لقوله:

(4/228)


(وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) ، والمعصية المصروفة إلى الكفر مبطلة له، ومتأسية بغيرها من
آيات الوعيد في الكفر، كان صرف العصيان - في هذه الآية - إلى
عصيان الكفر أجدر، مع أن ما قبل هذا الآية وما بعدها دليل على
أنه عصيان الكفر من الكافر، ألا تراه يقول: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
فأخبر عن إكبار القوم دعوة الرسول وما كادوا يفعلون به، ثم أخبر عما أمر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من القول في عدم مجير يجيره من الله إن لم يبلغ رسالاته، ونسق عليه بـ (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)
وحققه وأزال عنه كل لبسة بقوله: (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
فأخبر أن

(4/229)


المتكاثرين المتظاهرين، ومن كاد يتلبد من الجن والإنس على تكذيب
الرسول الداعي إلى الله، وعلى رد ما جاء به يكونون - بعد رؤية
جهنم، ودخولها وما أوعدوا من الخلود فيها - بلا أنصار، ولا عدد
يتكثرون بهم كما تكثروا وتلبدوا على التظافر به والتظاهر عليه، فلم
ينفعهم ذلك، وأبى الله إلا إمضاء ما أرسل به رسوله، فهذا واضح
لا إشكال فيه.
قال محمد بن علي - رحمه الله -: ولا أرى الشراة إلا أَعْذر
في مقالتهم منهم - وإن كانوا متساوين في باب الخطأ - لأن أولئك
خلطوا في أصل تسمية المذنب بالكافر، وإعداد الذنب كفرًا، ثم قادوا

(4/230)


مذهبهم في الخلود والشهادة على الكافر عندهم.
وهؤلاء لم يسموه كافرًا، بل سموه فاسقا، ثم أوجبوا باسم الفسوق
الخلود، فجمعوا على أنفسهم الغلط من وجوه عدة.
فأحدها: أن الفسوق - في اللغة - التوثب، ولذلك سميت
الفأرة فويسقة، لأنها قفازة، قال الله - تبارك وتعالى - في
إبليس -: (فَفَسَقَ عَنَ أَمرِ رَبِّه) ، أي وثب بين يدي أمره.
وخلفه وراء ظهره، فإذا كان الفسق هو التوثب على الأمر والنهي.
وكان الأمر والنهي مشتملين على أشياء: منها ما يكون كفرًا مثل
دعوى الولد والزوجة والقول بالأنداد وأشباه ذلك، ومنها ما يكون
ذنبًا مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر وما ضاهاها، لم يجز إلا أن يكون
الفاسق - في النوعين معًا - يسمى باسم واحد مسلوكًا به طريقًا

(4/231)


واحدًا، أو مسمى باسمين مختلفين مسلوكًا به طريقين، فإن كان
لاتفاقهم معنى على تغليط الشراة حقيقة في التسمية ولم يكونوا به
متزينين فقولهم في الخلود غلط - بغير إشكال - إذ محال أن يكون
الكفر فعلاً لا نظير له من الذنوب فعل، وجزاؤه الخلود، ثم يكون
ضده من الفعل إذا فعل يكون - أيضاً - جزاؤه الخلود، وإن كانوا
مجامعين لهم في أصل المقالة ومتزينين بما نحلوه من الاسم فقد
نافقوا في الكلام، واستهدفوا لخصومهم في الإلزام -
والثانية: أنهم يخطئون مقالتنا فيما نصف به ربنا - جل وعلا -
بأنه عدل في تعذيب مق قضى عليه الخطيئة، ويعدونه جورًا - منا - ولا
يخطئون أنفسهم في إيجاب الخلود على من أخطأ خطيئة واحدة - في
عمره - لم يتب منها، وأطاع وبه سائر عمره، ولا يسمونه كافرًا.
ويسلكون به مسلك الكافر، ويعدونه عدلاً.
والثالثة: أنهم يفرقون - في عقوبة هذا المجرم - بين الدنيا

(4/232)


والآخرة، فيزعمون أن المتفسق بأفعال الذنوب لا يقتل ولا يستتاب - كأهل
الحرب والردة - ويستوجب الخلود، والمتفسق بأفعال الكفر يقتل
ويستوجب الخلود ويرث ويورتّ، والكافر لا يرث ولا يورث ومحرم
ماله. ويحل مال الكافر الذي جزأؤه الخلود.
والرابع: أن نفس ما يحتجون به من قوله - سبحانه وتعالى -:
(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) .
موضوع في غير موضعه، وذلك أن أبتداء الآية - التي هذا فيها - نازل في قوم كانوا يلمزون أنفسهم، ويتنابزون بالألقاب، فيقول الرجل الآخر: يا
كافر، يا فاسق يلقبه بذلك، ولايسميه باسمه، فأخبر الله - جل
جلاله - أن المسمى بالفسوق بعد الإيمان مبدل اسمه بما لا يشاكله
فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ)
أي بئس الاختيار

(4/233)


في تسمية المؤمن بالفسوق بعد ما سُمي بالإيمان، لا أن اسم الإيمان
زائل عنه بفسوقه الذي ليس بكفر.
فإن عارضنا معارض من المرجئة فزعم: أن ما احتججنا على المعتزلة
في هذا الفصل حجة له في تجريد الإيمان معرىً من العمل، إذ ليس في
* * *
قوله: (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)
عمل - فقد غلط كل
الغلط، لأن الله - جل جلاله - ذكر الإيمان جملة به وبرسله، ولم يذكر
إيمانًا، فالجملة جامعة للقول - معًا - بما دللنا عليه في السور قبل هذا
الفصل، ولو كان - أيضاً - ذكر قولا ما كان لهم حجة إذ من قولنا:
إن المؤمن ببعض أجزاء الإيمان قد يدخل الجنة بعفو الله، بل بمثقال
خردلة مع الشهادة، وليس في دخوله النار قبل دخوله الجنة - بعد
إخراجه منها - ما يكسر قولنا في تجزئة الإيمان وتسمية العمل به.
وكذا قولنا في حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " من قال
لا إله إلا الله فله الجنة، وإن زنا، وإن سرق "، أي يدخل الجنة

(4/234)


بعد ما يخرج من النار، فتكون الجنة داره أبدًا، إذ ليس في هذا
الحديث: " من قال لا إله إلا الله لم يدخل النار " إنما هو " فله
الجنة " والجنة له في أي وقت دخلها، فتأويلنا في هذا أحسن من
تأويل من قال: كان هذا قبل نزول الفرائض، لأنه وإن كان
حسنًا فلا يدرك إلا بخبر، وقولنا مطوي في نفس الكلام، لمن ميزه.
* * *
قوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)

(4/235)


حجة على القدرية والمعتزلة واضحة - إذ قد أخبر نصًّا يإيداع المصائب كتابه السابق قبل وقوعها، والهاء في (نَبْرَأَهَا) لا تخلو من أن تكون راجعة
على الأنفس، أو على الأرض، فإن كانت على الأرض فالأنفس
مخلوقة بعدها، وإن كانت على الأنفس فمصائبها مكتوبهّ علمها قبل
خلقها، وهي على كل الأحوال قبل الأنفس،

(4/236)


ولا يتمانع ذو الحجا - من أهل اللغة - أن المعاصي أكبر المصائب والجنايات من جانبها، والمجني عليه مصيبة واصلة إليه من كتب إليه فعل يفعله، أو يفعل به، فلابد من كونه.
ذكر الطب:
وقوله - تعالى -: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)
حجة في أصل الطب، والمتوصل إلى الشفاء بواسطة
من العلاجات بالأدوية، لأن المنافع وإن كانت راجعة على السلاح
والأدوات وأَثمان الحديد فالَخبَث من منافعه، وهو خارج منه.
حدثنا العِجلي، دثنا أحمد بن عيسى بن اللخمي، دثنا

(4/237)


إسماعيل بن مسلمة بن قعنب، قال: حدثني سلم بن قتيبة، عن
مسلمة بن قعنب، قال: دخلت عليه فقال لي: اشرب من
شراب كان فيه اللبن يجعل فيه خبث الحديث وأخلاط معه، فقال:
اشرب، حدثني ابن عون،

(4/238)


عن ابن سيرين، قال: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)
وأرجو أن يكون هذا منه ".
ومثل ذلك قوله - إخبارًا عن النحل -: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) ، هو دليل على إباحة التداوي مع ما
جاء عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الأمر بالتداوي لونًا
لونًا.
المعتزلة:
* * *
وقوله: (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) .
* * *
وقوله: (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
في أشباه لهما رد على المعتزلة فيما يجعلون الفسق درجة بين درجتين من الإيمان
والكفر، إذ الفسق في جميع هذه الأمكنة كفر لا شك فيه، لما دل عليه سياق الكلام.

(4/239)


ذكر الرعايات:
* * *
وقوله: (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)
دليل على تثبيت الرعايات، وعلى أن البدعة من العمل الصالح وما يقرّب إلى الله - جل وتعالى - ويكون فيها منافع الخلق غير مذمومة، إذ لو كانت ما
ذموا على تضييع الرعاية في المحافظة عليها، ويؤيد هذا الابتداع حديث
رسول، الله صلى الله عليه وسلم: " من سن في الإسلام سنة
حسنة، فعمل بها بعده، كان له، أجرها وأجر من عمل بها ".
ولا شك أن هذه سنة مأذونة في إحداثها، لا سنةً متبعة لغير من
سنها، وقد وعد عليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من
الأجر ما وعد، أو ليس عمر - رضي الله عنه - سن قيام شهر
رمضان في جماعة، وعثمان - رضي الله عنه - الأذان الأول يوم الجمعة

(4/240)


وكانا داخلين في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
من سنَّ في الإسلام سنَّةً حسنةً ".
فإن قال: فما معنى قوله، صلى الله عليه وسلم: " كل محدثة
بدعة، وكل بدعة ضلالة " وإياكم ومحدثات الأمور " وأشباه ذلك.
قيل: قد يجوز أن يكون في محدثات لا تؤدي إلى القريات، مثل حلق
الرأس في العقوبات، واتباع العرائس بالنيران عند الزفاف، وما أخذ أخذه، والله أعلم.

(4/241)


قوله: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
حجة على المعتزلة والقدرية.

(4/244)


سورة المجادلة
* * *
وقوله تعالى: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ)
حجة في أشياء:
فمنها: أن الظهار لا يكون إلا بالأم " إذ في (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) دليل أنهم كانوا يظاهرون بالأمهات، وإذا كان ذلك تفسير الظهار المجمل، فغير ذلك لا يكون ظهارًا، وإن لفظ به، إلا أن تتفق الأمة على ذات محرم - غير الأم - ويجعلون بها ظهارً، فيُسَلَّم لهم.
فإن قيل: أفليس قد رُوي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، سمع
رجلاً يقول لامرأته: يا أخية، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أختك هي؟ قال: لا. فكرهه.

(4/245)


قيل: هو حديث يرسله أبو تميمة عنه، لا نعلم أحدًا ذكر فيه
أبا سعيد الخدري غير عبد الله بن عصمة، وليس بمشهور في
أصحاب حماد، ولا ممن يقبل حديثه إذا انفرد به، مع أنه لو كان

(4/246)


ثابتًا لكان تأكيدًا لما قلناه: من أنه لا يكون به ظهار، وإن كره القول
ومنها: أن الظهار من الأمة والحرة واحد لشمول اسم النساء
لهما - معًا - وهو مذكور بشرحه في كتاب الظهار من شرح النصوص.
ومنها: تأكيد ميراث ولد الملاعَنة، وولد الزنا، لشمول اسم
الأمومة لمن ولد بهما، وهو نظير قوله: (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) .
* * *
قوله: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا)

(4/247)


دليل على أن التحريم لا يكون طلاقًا من حيث
لا إشكال فيه - لمن تدبره - إذ لو كان الحرام طلاقًا - بوجه من الوجوه -
ما جاز وطء المظاهر منها بعد الكفارة، لأن الطلاق حل لا تعقده
الكفارة، والبينونة لا تعود وصلاً بها، والمحرمة بالظهار إن لم تكن
أغلظ تحريمًا من المحرمة بغير الظهار فهي مثلها، فكيف يجوز إبانة
تحريم امرأة عن زوجها بالطلاق، وهو إنما حرمها كتحريم المظاهر
المؤكد تحريمه بالظهار.
* * *
قوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا)
موضح - والله أعلم - أن المراد
في (يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) هو إرادة العود إلى الوطء الذي حظره
بالظهار على نفسه، إذ لو كان حبسها - بعد القول مدة يمكنه تحريمها

(4/248)


فيها بالطلاق ولا يطلقها - موجب عليه الكفارة ما كان لتقديمها على
المسيس@ معنى عند من تدبره ولوجبت الكفارة على من يحبسها
بعد القول بالظهار ساعة ثم يطلقها ثلاثًا، والمسيس قد حرمه عليه
الطلاق، فكيف يعود لما قال بعد الطلاق، أم كيف تجب عليه
الكفارة، وهو لا يمكنه المسيس، والكفارة - لا محالة - محللة له في
حكم التلاوة، وإذا كان ذلك كدلك كان مجاز الآية - والله أعلم - أن
تكون اللام في (لما) بمنزلهّ " إلى " كأنه ثم يعودون إلى ما منعوه
بتحريم الظهار من الوطء فيريدون فعله، أو يكون
(لما) بمعنى " فيما " على هذا التأويل، إذ اللغة محتملة له، والله أعلم كيف هو.
وقال قتادة وطاووس - جميعا - في قوله: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) هو الوطء.

(4/249)


وروي عن الزهري في الرقبة فقال: يجزئ - ها هنا - الطفل.
وروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، من حديث معمر، عن عكرمة، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لما سألته المرأة عن ذلك، فقال: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه " قاله ثلاثًا.

(4/250)


وروي عن قتادة قال: حرمها ثم يريد أن يعود لها يطأها.
* * *
قوله: (فَتَحريرُ رَقَبَةٍ)
إضمار، كأنه - والله أعلم - فعليه تحرير رقبة.
وفي إرساله - جل وتعالى - الرقبة بلا شرط، ولا صفة دليل على أنه
تجزئ الصغيرة والكبيرة، والمسلمة والذمية، والسوداء والبيضاء.
ويجزئ فيها الذكر والأنثى، والسليمة والمعيبة، وأنه من منع إجازة

(4/251)


شيء منها فعليه إقامة البرهان عليه، ولا برهان - في هذا الموضع - عند
من أنصف من القائسين وغيرهم، إلا من النصوص الثلاثة المؤدية إلى
الحقائق، إذ تخصيص العموم، وتفسير الجملة لا يجوز بالمقاييس والأوهام
المظنونة.
فإن قيل: استدللت بإرسالها على جواز كل ما قلته، هلا جعل
الإيمان من شرطها اعتمادًا على ما شرطه الله في كفارة القتل، كما
جعلت شرط الشهود عدولاً في كل مكان، وإن كان شرط العدالة في
بعض الأمكنة دون بعض.
قيل: إنما جعلت ذلك في الشهود بما شرطته من أحد النصوص
الثلاثة، وهو الإجماع، وأطلقت في رقبة الظهار على الإرسال إذ
هو موضع اختلاف، والاختلاف لا يخص به العام ولا تفسر به الجملة.
قال محمد بن علي: وليسى إجازة وطء المظاهِر - إذا عَجَزَ عن الرقبة
الصيام قبل الإطعام - من هذا في شيء وهو عندي إغفال مفرط من

(4/252)


مجيزه، وذلك أن الوطء لما حُظر قبل الكفارة - من تحرير الرقبة - عُلم أن
الكفارة هي المحللة له، والصيام بدل عن الرقبة، والإطعام بدل عن
الصيام، كل واحد بعد عدم الآخر وقصور الطاقة عنه، فليس
بجائز للمظاهِر أن يطأ وإن كفر بالإطعام إلا بعد فراغه منه، والله ولي الصواب.
مراعاة عدد الذنوب:
وقوله - تعالى -: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ) دليل على أن مراعاة عدد الذنوب واجبة، إذ لا يجعل نسيانها في جملة ما يعيبهم به إلا وقد أوجب عليهم حفظها، وهو أعلم.

(4/253)


المعتزلة:
* * *
وقوله: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)
حجة على المعتزلة والقدرية في إخباره عن الشيطان بهما. وزوال ضرره عنه إلا بإذنه.
* * *
قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)
حجة على المعتزلة والجهمية في إخباره عن نفسه بالغفسب، كما ترى..
معنى الإنساء:
(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ) ، الإنساء على معنى
التزيين منه كأنه مقيض لهما جميعًا، ألا تراه يقول في سورة الحشر: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) ، فأخبر بالنسيان عن أنفسهم
مرة، وأخبر ثانية عن الشيطان بأنه أنساهم، وثالثة عن نفسه بأنه

(4/254)


أُنسيَهم، فدل أن جميع ما ذكره عن الشيطان مثل قوله: (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) ، هو تابع لإنساء الله إياهم ذلك، إذ هو الخالق للشيطان المقيِّض له المسلط هذا الشيطان عليهم، ولا يجوز أن يكون الله - جل جلاله - بما أخبر عن نفسه تابعًا له، ولا لهم.
وقد لخصنا ذلك في فصل التزيين، وفصل المشيئة - قبل هذا -
في سورة الأنعام، وغيرها.
* * *
قوله: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)
حجة على المعتزلة والقدرية في الكتاب الذي لا يؤمنون به - أصلاً - ولا يقرون به بتةً.
وفيه دليل على إجازة الرجوع من لفظ الخبر إلى لفظ المواجهة
لقوله: (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) ، ولم يقل: ليغلبن هو ورسله.
* * *
قوله: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) ، إلى آخر الآية، زجر إلى التودد إلى من كان على غير دين الإسلام، والتحبب إليه، والموالاة له، إذ في ذلك ذهاب

(4/255)


العداوة وانغراس المحبة لمن يعادي الله - جل جلاله - ألا ترى أن
اللَّه - جل جلاله - سماهم أعداءه، حيث يقول: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) ، ومثل - هذا - قوله: (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) ، إلى آخر الآية.
ويقال: إنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، حيث كاتب كفار مكة
بمسير النبي، صلى الله عليه وسلم، إليهم.
* * *
قوله: (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ)
حجة على المعتزلة والقدرية في الكتاب.

(4/256)


سورة الحشر
* * *
قوله: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ)
حجة في إخراب بلاد العدو للنكاية.
* * *
قوله: (وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا)
حجة في الكتاب على من ينكر.
* * *
قوله: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا) .
حجة في قطع الشجر المثمر، وغير المثمر في بلاد العدو، ودليل على أن
الناس فيه بالخيار إن شاءوا قطعوا، وإن شاءوا تركوا، والاختيار
القطع كما قطع النبي، صلى الله عليه وسلم، نخل بني النضير،

(4/257)


والآية نازلة - والله أعلم - فيهم.
* * *
قوله: (فَبِإِذْنِ اللَّهِ)
رد على القدرية الذين يجعلون الإذن
بمعنى العلم، إذ لو لم يكن الإذن إطلاقًا ما عُلم أن قطع الشجرة
مباح، أو غير مباح، ألا ترى أن علمه - سبحانه - محيط بالمحظور
والمباح معًا وليس كل ما أحاط بفعله علمه جاز لفاعله فعله، دون
إطلاقه، فقد دل هذا - بغير إشكال - على أن إعداد الإذن علمًا
خطأ، لا يُشك فيه.
قال محمد بن علي: ذكر الله أصحاب نبيه، صلى الله عليه وسلم.
في هذه الآية - على ثلاث فرق، وهو قوله: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ) ، فهذه فرقة.
والثانية قوله: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ) .
والفرقة الثالثة: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ) .

(4/258)


وأثنى على الثلاثة - معًا - مما حوته الآيات الثلاث، فليس يخلو أحد
صاحب النبي، صلى الله عليه وسلم، ولو ساعة واحدة إلا وهو
داخل في أحد الفرق الثلاثة. فهذا - الآن - حجة على كل من سب
واحدًا منهم، أو تنقصه، ودليل على أن من أتى في أصحاب نبيه.
صلى الله عليه وسلم خلاف الجميل أنه راد على الله، وغير راض
لدينه - جل وتعالى - بما رضيه هو له بنص القرآن الذي لا يأتيه
الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، قبل أن يصير إلى ما عليه في
الأخبار من إيجاب اللعنة.
وكان مالك بن أنس يقول: من سب أصحاب رسول الله، صلى اللَّه عليه وسلم، لم يكن له في الفيء والغنيمة نصيب، وهو كما قال.
رحمه الله.
* * *
قوله: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا)
جملة دليل على أن من لم يكن - له - سليم الصدر لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محبًا

(4/259)


لكافتهم، داعيًا لجميعهم فهو مسلوك به غير سبيل الممدوحين، منوط
في طرق المذمومين غير مقبول منه - فيهم - شيء يأوي له.
ومُنحرض باطله.
وفي دعوتهم بأن لا يجعل - جل جلاله - لهم غلاَّ في قلوبهم رد على
المعتزلة والقدرية، إذ محال أن يدعوه بما هو منكر عنده - على زعمهم -
في صفاته فيثني به عليهم، وهو واضح لا لبسة فيه.
قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) إلى (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) .
دليل على أن سجايا المنافقين مجبولة على منافقة أوليائهم وأعدائهم - معًا - فهو الآن تنبيه بيِّن أن الاستنامة إلى ود من ليس يتقي، والمعول على ولايته
ليس من فعل ذوي التحصيل، ولا يغتر به من خليل، ويؤيد هذا
قوله - سبحانه -: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) ، فلو كانت خلتهم في الدنيا مستقيمة لكانوا بها

(4/260)


محسنين - والإحسان لا يعود سيئًا فيضمحل، كما لم تضمحل خلة
المتقين - وكانت في الدنيا والآخرة متصلة لهم غير منقطعة بهم.
تخويف المنافق بالناس:
* * *
وقوله: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ)
حجة لمن يقول: خوف المنافق بالناس، والمؤمن بالله جل وعز.
* * *
قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)
حجة واضحة لمن أراد المبالغة في وصف شيء أن يبالغ فيه كيف أراد، ولا يكون كاذبًا، ولا آثمًا، لأن الله - جل جلاله -
سمى الآخرة بغدٍ كما ترى، وبين نزول الآية وبينها دهر طويل، وقد
اقتدى بهذا المعنى أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال
أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في بعض ما مُدح به عمر -
رضي الله عنه -: وأنى لعمر الشهادة، وهو في جزيرة أضيق من
هذه، وعقد بيده تسعين.

(4/261)


وقال غيره - في بعض مواعظه -: المضمار اليوم والسباق غدًا.
ومثله كثير.
وفي هذا حجة لنا أن الذين روي - في الأخبار - أنهم تكلموا بعد
الموت لم يكونوا - في الحقيقة - أمواتًا فعاشوا، ولكنهم سموا به

(4/262)


لمقاربتهم منه، ودخولهم في غشية تشبهه وأن ما رأوه من الجنة والنار.
وقالوه فشيء رأوه في الغشية، كما يُرى في المنام.
وليس للقائلين بالرجعة فيها متعلق، لأنه إذا جاز أن يسمي اللَّه الساعة - التي تكون بعد دهر طويل - بغدٍ جاز أن يُسمى بالموت
ما يكون فيه يومه، بل في ساعته.

(4/263)