النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام

سورة الممتحنة
* * *
قوله: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ)
نظير ما مضى - في سورة الحشر - من قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا) ، وبيان أن خلة غير المتقين المؤمنين لا معول عليها، ألا ترى أن الموالين الملقى إليهم بالمودة - في أول هذه السورة - لم يراعوا للمسرِّين إليهم بها، ولم يحاموا عليه من أجلها.
كما ذكره - جل وتعالى - وهو الصادق.
(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) .
دليل على جواز الاقتداء بمن لم يكن فيه الخطأ.
* * *
قوله: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا)
دليل على أن الله - جل وتعالى - قد يفتن الكافرين بما شاء، لولا ذلك ما كان لهذا
الدعاء معنى، فهو رد على المعتزلة والقدرية.
ذكر وداد الختن صهره:
* * *
قوله: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً)

(4/264)


دليل على أن وداد الحنتن صهره من ممدوح الأمور ومرضي الأخلاق، لأن
أبا سفيان بن حرب كان لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، عدوًّا قبل
إسلامه، فلما صاهره - والصهر لممبب للمودة - هذاه الله إلى الإسلام
ليتصل سبب ودادهإ2 (.
وفيه فضيلة لأبب سفيان - رحمه الله - وعظة لمن يشنأ الأصهار من
الأختان، والله أعلم.
ذكر إسلام المرأة قبل الزوج:
* * *
قوله: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)

(4/265)


على أن إسلام المرأة فسخ لنكاحها من زوجها الكافر، وفيه تقوية
قول من قال: إن زوجها وإن أسلم قبل انقضاء العدة فلابد من تجديد
نكاح بينه وبينها، لأن الله ذكر رفع الجناح في نكاحهن - جملة - ولم
يستثن مدخولة بها، من غير مدخولة، فهو الآن حاكم لإحدى
الروايتين من تجديد النبي، صلى الله عليه وسلم، نكاح أبي العاص

(4/266)


بينه وبين زينب، وأنها أثبت من الرواية التي فيها ردها عليه
بالنكاح الأول، فكل امرأة تحت كافر أسلمت - وهي غير مدخول

(4/267)


بها، أو مدخول بها، ثم أسلم زوجها - جدد نكاحها على هذا المعنى.
ومن زعم أن المدخول بها غير محتاجة إلى تجديد النكاح - إذا أسلم
زوجها قبل انقضاء عدتها - فهو يخص عموم الآية الدالة على قطع
العصمة بالنكاح، وخصوص العموم لا يجوز إلا بالنصوص وهي
معدومة ها هنا.
فإن شبه على أحد، وتأول أن الرواية في تجديد النبي، صلى الله عليه
وسلم، نكاح زينب كان من أجل انقضاء عدتها، فقد ادعى على الخبر ما
لم يؤده بتوهمه، وكذب الرواية الأخرى في أنه ردها عليه بالنكاح الأول
بإجماع الأمة، إذ لا خلاف بينهم - وهو من الإجماع المحصل - أن إسلام
الزوج إذا كان بعد انقضاء العدة لم يكن من تجديد النكاح بد، فكيف يحتمل تعارض الروايتين في شيء أحدهما خطأ
بيقين، هذا ما لا يتوجه - أصلاً - ولا يجوز توهمه على ناقل.

(4/268)


فإن قيل: فكيف لم تبحها قبل انقضاء عدتها لغيره من المسلمين بظاهر
الآية، إذ كانت عندك على جميع الأزواج؟.
قيل: لشهادة الكتاب والسنة والإجماع بأن كل مصابة من النساء
باسم النكاح لا تحل لغير مصيبها إلا بعد استبراء يكون من مائه، وإن
كان فيهم من يسميه عدة، ومختلف في كميتها.
فإن قيل: فمتى تحل لغيره - إذا أسلمت - مدخولاً بها؟.
قيل: لما دلت الآية على قطع العصمة، واخترنا - بدليلها - على أن
زوجها -أيضاً - لو أسلم قبل انقضاء عدتها احتاج إلى تجديد نكاح؟.
قلنا: تحل للأزواج بعد حيضة واحدة، لأنها ليست بمطلقة تحتاج إلى
ثلاثة قروء، وإنما هي امرأة منفسخة النكاح بينها وبين زوجها.
ومتلطخة بما تحتاج إلى الاستبراء منه، لئلا يفسد نسب المتزوج بها.
وهو نص حكم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في التلوم (1)
بوطء السبايا الموقوفات، ذوات الأزواج، حيضة في الحائل منهن.
__________
(1) التلوم: هو الانتظار والمكث. انظر لسان العرب (12/ 365) ، وترتيب القاموس
) 4 / 186، مادة " لوم ".

(4/269)


ولا فرق بين منفسخة نكاحها بالرق، وبين منفسخة نكاحها بالإسلام.
إذ المحصول من الأمرين تحريمها على الزوج الأول بالحادث عليها
من الإسلام والرق.
وكذا نقول في المختلعة، وأم الولد المتوفى عنها سيدها.
وكل من حرمها على زوجها غير الطلاق أنها لا تزيد في العدة على
حيضة ثم تحل بعده إلى أن يخص الكتاب أو السنة أو الإجماع - في
موضع - فسخًا بالأقراء فيسلم له، وإلا فالحيضة استبراء تام في كل
موضع.
والمطلقة -أيضاً - تبرأ بحيضة واحدة من الحبل، إلا أن الحيضتين

(4/270)


الباقيتين تعبد عليها، وتمام أجل خلوها منه، لا من الاستبراء.
وقد رُوّينا عن ابن عباس، والرُّبيّع بنت مُعَوّذ بن عَفْراء أن النبي.
صلى الله عليه وسلم، أمر امرأة ثابت بن قيس بن شَمَّاس - حين
اختلعت منه - بحيضة واحدة.

(4/271)


وحكم به عثمان بن عفان - في خلافته - وأصحاب رسول الله.
صلى الله عليه وسلم، متوافرون، لا نعلم أحدَا عارضه فيه.

(4/272)


وروي عن عمر بن عبد العزيز والحسن وعكرمة والحَكَم: إذا
أسلمت بانت من زوجها من ساعتها، وإن أسلم بعد ذلك فهو
خاطب لا تحل له إلا بنكاح جديد، وهو قول أبي ثور.
قال أبو عبد الله المروزى: هذا أصح الأقاويل في النظر، واللِّه أعلم.

(4/273)


النكاح بغير الصداق:
* * *
وقوله: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)
دليل على أن لا يحل لمسلم وطء كافرة إلا الكتابية المستثناة له في سورة النساء بقوله:
(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) .
قال محمد بن علي: وقوله: (إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) - ها هنا -
وفي قوله: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) .
وفي قوله: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ) ، يدل على أن النكاح بغير صداق غير جائز.
لأن الله - تبارك وتعالى - أباح النكاح في هذه الأمكنة مقرونًا بإيتاء
الأجور، وابتغائه بالمال، وليس في إفراد ذكره في أماكن بمؤثر -

(4/274)


والله أعلم - في المواضع المقرونة بما ذكرنا، بل المفسَّر أحرى أن يحكم
على الجمل.
وقد ذهب قوم إلى أن قوله - تبارك وتعالى -: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) ، دليل على أن النكاح بغير صداق ثابت، واحتجوا من السنة بحديث بَرْوَع.
فأما ما احتجوا به من دليل الآية فليس بملفوظ، إنما هو احتمال.
وما ذكرنا من الآي الثلاث ملفوظ، والملفوظ أقوى من الاحتمال.
مع أنه قد يحتمل - والله أعلم - أن يكون (وقد فرضتم لهن فريضة
محدودة) إذ كان النكاح جائزًا - في السُنة - على نعلين، وعلى القبضة
من الطعام، وسورة من القرآن،

(4/275)


وخاتم حديد وشبهه ما لا تصف له مدركًا بنفسه حتى يتعرف بغيره.
فيكون فرض نصف الصدقات المحدودات للمطلقات بالآية، ونصف
ما نزل بالقيَم والتراضي، أو رده إلى نصف صداق المثل، في
الصداق الفاسد، وفيما لا يوصل إلا على التعديل والتقسيط إلى

(4/276)


نصفه بالإجماع، فيكون أحد ما تحتمل معنى الآية، وإذا احتملت الآية
وجهين، كليهما غير ملفوظ، كان الحكم بأحد الوجهين - في المراد
بها - غير جائز في حق النظر.
والملفوظ في الآي الثلاث، من إيتاء الأجور وابتغاء النكاح بالمال
مقرونًا بإباحته، مستغن بنفسه غير محتاج إلى تقويته بغيره.
وقد يرد الحرف في القرآن على سعة اللسان فلا يحكم له بكل ما احتمل
سياقه، ألا تراه يقول - جل وتعإلى -: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) ، فهل يقول المستدل على جواز
النكاح بغير صداق بقوله: (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) : إن المطلق امرأته بعد مسيسها، أو تسمية صداقها - وإن أوفاها كاملاً - حرج في الطلاق، آثم في إيقاعه، إذ سياق الآية يدل على أن الجناح مرفوع عمن طلق قبل المسيس، أو تسمية فرض، بل نفس

(4/277)


هذه الآية أقوى له من التي احتج بها، إذ مع الجناح الذي دل عليه
سياق الكلام، يصفه في طلاق من لم يُسم لها صداق، فلولا أن
النكاح يثبت - بغير تسمية مهر - ما كان لطلاق من ليس بزوجة
وجه يحرج به المطلق، أو لا يحرج.
فإن تجشَّم الاحتجاج بهذه الآية طولب باستعمال جميعها، وإن
اقتصر على الأولى عُورض بما عليه في هذه الآية.
وأما حديث بَرْوَع فمطعون على إسناده عند جماعة، وثابت عند
غيرهم.
الشافعي - رضي الله عنه - ممن يطعن على إسناده، ويجيز النكاح

(4/278)


بغير صداق بدليل الآية التي ذكرناها.
وقد عارضه - مع ذلك - حديثان يقاربانه في النقل لا يمكن براءتهما
من الطعن على طريقتهما.
أحدهما: حديث أبي عبد الله بن محمد بن وهب قال: فى ثنا
إبراهم ابن سعيد الجوهري، قال: دثنا عثمان بن خالد
العثماني، قال: دثنا سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان - هو
ابن عفان - قال: دثنا هشام ابن عروة،

(4/279)


عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا نكاح إلا بولي، وصداق، وشاهدي عدل ".
والآخر: حدثناه الحسين بن إسحاق بن إبراهيم العِجلي، قال: دثنا

(4/280)


أبو أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي، قال: دثنا عبد الرحمن بن قيس -
قال أبو أحمد: هو أبو معاوية الزعفراني - قال: دثنا
نهاس ابن قهم، عن عطاء، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

(4/281)


قال: " لا نكاح إلا بولي، وشاهدين، ومهر ما قل أو كثر".
ورُوِّيناه عن علي بن أبي طالب، حدثناه حمويه بن محمد أبو جعفر
الأصبهاني، قال: دثنا محمد بن مِهْران الجمَّال، قال: دثنا
عيسى بن يونس، عن موسى بن عُبيدة،

(4/282)


عن الأصبغ بن محمد عن علي - رضي الله عنه - قال: " لا نكاح إلا بولي، وشاهدين، وصداق مسمى ".

(4/283)


وقد اختلف عنه، روى سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب.
عن عبد خير، عن علي أنه كان يجعل على المرأة التي لا يفرض لها العدة
ويعطيها الميراث، ولا يعطيها الصداق.
وكذا قول ابن عمر،

(4/284)


وزيد بن ثابت، وابن عباس من رواية ابن جريج، عن عطاء، عنه
خلاف حديثه المرفوع.
قال محمد بن علي: فلما كان سبيل الآية ما ذكرنا عن اعتوار الوجهين
لها، وسبيل الحديث المرفوع ما لحقه من الطعن على النقل، والمعارضة.
لم يجز الحكم بأحدهما دون الآخر، وكان حق النظر، والاحتياط، مع

(4/285)


شهادة الآيات الثلاث لهما بما أودعت من اقتران الشرط أن
لا يحل فرج امرأة - محرمة بيقين - إلا بنكاح يسلم من الاعتراض عليه
بشيء مما ذكرنا، وهو أن يُسمى معه صداق معلوم القدر والعدد، أو
معلوم العين، فإن عقد بغير صداق - بتة - فاللَّه أعلم كيف هو.
وأنا أتهيب أن أقول فيه شيئًا، لما أعرف من إطباق أكثر العلماء على
جوازه.
وحديث بَرْوَع وإن كنا ذكرنا علته، فقد رويناه من طريق الثوري غير
معلول، أخبرنا محمد بن زكريا القرشي، قال: دثنا أبو حذيفة.
دثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم،

(4/286)


عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود أنه أفتى في رجل تزوج
امرأة، فمات عنها، ولم يكن فرض لها شيئًا، ولم يدخل بها.
فسألوه شهرًا، فقال عبد الله: أقول برأي: لها صداق نسائها.
وعليها العدة، ولها الميراث.
فقال معقل بن سنان الأشجعي: قضى رسول الله، صلى اللَّه عليه وسلم، في بَرْوَع بنت واشق - امرأة من بني رؤاس بن
كلاب - بمثل ما قضيت. ففرح بذلك.

(4/287)


قال سفيان: وبه نأخذ.
قال أبو أحمد: فوجهه - عندنا - كون الآية أنه لم يكن فرض لها
شيئًا محدودًا.
ويلزم من قال: إن نهي النبي، صلى الله عليه وسلم، عن

(4/288)


الشِّغار، هو عن العقد، لا عن المهر - أن يبطل النكاح بغير تسمية
مهر - بلا لبسة - إذ ليس هناك شيء يفسده غير تسمية المهر، والله
أعلم.

(4/289)


سورة الصف
قوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) .
دليل على تعبئة الحرب والتظاهر في القتال، وتشبيه الشيء بما ليس من جنسه، إذ البنيان ليس من جنس الروحانيين من البشر، والذي منهم بالبنيان - والله أعلم - توازرهم على القتال، والإزماع على ترك الفرار، لا زوال تحركهم في الصف، إذ معلوم أن المقاتل لابد له من حركة.
وفي ذلك دليل على أن إعداد القائسين هذه الآية، وشكلها من
الآيات ليس بحجة لهم في إطلاق القياس، إذ سبيل القياس - عند
أهله - رد الشيء إلى نظيره، وما يشاكله في شبهه من أكثر جهاته.
وهذا تشبيه شيء بغير نظيره.
وما هو -أيضاً - نظير من البنيان وثبات القدم في الحرب فهو - في
الحقيقة - جمع بين متحرك وساكن، فإن كان القائس يسومنا أن نقر له

(4/290)


بأن مشابه ما في الحنطة من الكيل والقوت والنبات نظير ما في الأرز
والعدس والحمص، كما أن شبه ثبات القدم في الحرب موجود في
البناء المرصوص، الذي لا يزعزعه إلا الهدم، ولا يفرق نظام الصف
إلا الفشل والفرار والهزيمة، فنحن نعترف له به، وإن كان يريد أن الحنطة لا ائتلفت بما ذكرنا من مشابهها مع الأرز والعدس والحمص لم يكن بد من أن يحرم التفاضل فيها، لزمه ألا يبطل نظام صف المقاتلين وثبات أقدامهم في الحرب، لما أشبه ثبات البنيان لم يمكن فيهم الفشل، والهزيمة محال إلا عند تهدم البنيان، فيورد ما ليس في العرف والعادة وجواز تفرق نظام صف القاتلين فارين أو مغلوبين، كما ليس بدًّا - عنده - من أن يكون مشابه الحنطة في شيء يلحق أشباهها في التحريم بها، أو يقول: إن جائزًا على الحنطة التي هي الأصل، والعدس الذي هو الفرع - معًا - أن يزول تحريم
التفاضل فيهما، كما جائز على الصف الذي هو الفرع، والبنيان الذي
هو الأصل زوال المشابه عنهما، بأن يتهدم البنيان، ويتفرق نظام
الصف بالفرار وغيره، فيقع فيما هو أقبح من الأول أو ينصف -

(4/291)


من نفسه - فيقول: إن ائتلاف مشابه الحنطة والأرز لم يصيّر الأرز حنطة.
كما لم يصيِّر مشابه الصف من البنيان الصف بنيانًا، وحكم التحريم غير
المشابه، لأن التحريم لا يدرك عينه في الحنطة، كما يدرك عين الكيل
فيها وفي الأرز، ويدرك ثبات المقاتلين في الحرب وثبات البنيان معًا.
فنفس ادعاء مشابهة التحريم من الحنطة والأرز خطأ ومكابرة قبل أن
يسلكا في التحريم مسلكا واحدًا، وادعاء مشابه ثبات البنيان والصف
صواب في الحكاية.
ولو ادعى مدع أن المقاتلين في الصف ثبتوا من أجل أن البنيان حكمه
أن يثبت، لا أن ثباتهم كان بمعنى آخر، وإنما شبه نفس ثباتهم بالبنيان
لكان حينئذ مساويًا في الخطأ المدَّعَى مشابه التحريم من الحنطة والأرز.
فلما علم بلا إشكال أن ثبات المقاتلين في الصف ليس من أجل
ثبات البنيان في الأس، وإنما ثباتهم في الصف، أو إزماعهم على
المظاهرة يشبه ثبات البنيان علمنا أن التحريم في تفاضل الحنطة لم يقع
من أجل أنها مأكولة مكيلة فيلزمنا حمل الأرز عليه من أجل أنه مأكول
مكيل.

(4/292)


قوله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) .
دليل على أنهم كانوا يجحدون نبوته فيكفرون بها على بصيرة، وكذا كان - عندي - سبيل كل نبي مع قومه، يعرفونه، ثم ينكرونه، لتكون الحجة ألزم لهم، ألا تراه يقول - سبحانه في
محمد، صلى الله عليه وسلم -: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) .
فاستوجبوا اللعنة بجحودهم به بعد العرفة.
* * *
قوله: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) .
حجة على المعتزلة والقدرية، إذ قد أخبر - في كلام واحد - عن زيغهم وإزاغتهم، كما ترى.
* * *
قوله: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) حجة على كل من يسر دينًا بعد دخوله في دين الإسلام.
من أهل الأهواء جميعًا، وقد بيناه في سورة التوبة.
* * *
قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)

(4/293)


دليل على أن التجارة اسم واقع على طلب الأرباح ونماء الأموال، ومحابّ النفوس معًا، وقد لخصناه في سورة البقرة.
* * *
قوله: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) .
إلى (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) .
دليل على أن الطاعة تثمر للمرء محاب الدنيا والآخرة، وأن طلب الأرباح - في الدنيا والآخرة - بالطاعة أسرع إدراكًا لطالبه منه بغيرها.
* * *
قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ) .
حجة واضحة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ لا يشك أحد أن نصر الله إنما هو نصر دينه، ولا يكون نصره إلا بالمعونة على إقامة
أمره ونهيه وعلوهما، والأخذ على يدي من يريد ذله وإهانته، ولا
يكون ذله وإهانته إلا في تضييع أمره ونهيه اللذين قوام الدين بهما.
فأي حجة تلتمس على وجوبها من نصر قوله - عز وجل - في الأمر

(4/294)


بالنصرة، كما ترى (1) .
__________
(1) هكذا العبارة في المخطوط والذي فهمت أن المؤلف يريد أن يقول: فأي حجة تلتمس في وجوبها. من نصر لقول الله حيث أمر بنصره كما ترى.

(4/295)


سورة الجمعة
* * *
قوله: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ) .
من الكلام الذي خوطب الناس بباطنه دون ظاهره -
إذ معناه: أنهم حملوا العمل في التوراة فلم ينتهوا إليه، ونبذوه وراء
ظهورهم، لا أنهم أمروا بحمل المكتوب من التوراة، وهذا دليل على
سعة اللسان، ففيه حجة في ضرب الأمثال، وبيان ضرب الأمثال
مخالف للقياس، إذ لا يشك أحد أن حمل هؤلاء التوراة إذ لم يعملوا
بما فيها يشبه حمل الحمار الكتب لا يعلم ما فيها، فلم يفعلوا ذلك.
من أجل أن الحمار يحمل الكتب، ولا الحمار حمل الكتب من أجل أن
في الناس من يحمل كتابًا لا يعمل بما فيه، كما يزعم القائسون: أن
الحنطة حرم التفاضل فيها لعلة القوت والنبات والكيل، فيحمل كل ما
كان ذلك فيه - في التحريم - عليه، فليس لاستشهادهم بهذه الآية
وجه.
فإن سامونا القول بالقياس، فليدلونا على أن الله - جل جلاله -
حرم التفاضل في الحنطة لما ذكرناه من عللها، لا أنه ابتدأ تحريم ذلك على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - كيف أراد

(4/296)


ولا يجعلوا توهمهم حجة علينا.
المعتزلة:
* * *
وقوله: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
حجة على المعتزلة والقدرية، إذ لو كان كل مبعوث إليه رسولاً، ومدلول على طريق الهداية يقدر بنفسه - أن يهتدي من غير أن يهديه الله ما كان في
ذلك فائدة، ولا كان عليهم عقوبة، وهذا - لا محالة - إخبار عن
قوم حمّلوا التوراة، وبعث إليهم موسى - صلى الله عليه - فهل كان
بقي عليهم بعد بعثة الرسول، وإنزال الكتاب إلا المعونة من الله في
السلك بهم سبيل ما أريد منهم، أفليس بينًا لا إشكال دونه، أن هذا
من العدل الذي نستيقن كونه، ونجهل كيفيته، إذ قد سمى قومًا
محتاجين إلى معونته على الهداية، ظالمين مع منعها منهم، وإخباره عن
نفسه بأنه هو ما نفعهم سبحانه.
* * *
قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)
رد على من يزعم أن المتيمم من الجنابة إذا وجد الماء ليس بفرض عليه أن يغتسل لما يستقبل من الصلاة حتى يجنب

(4/297)


ثانية، معتلاًّ بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر:
" إذا وجدت الماء فأمسسه جلدك، فإنه خير.
فيقال: إن كان قوله: " فإنه خير " يدل على أنه اختيار، لا فرض.
فقل إذا: إن السعي إلى الذكر - عند الأذان - وترك البيع اختيار لا
فرض، لقوله: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) ،

(4/298)


فإن سوّى بينهما وقال: هذا -أيضاً - اختيار لا فرض، قابل الأمة
بالخلاف، إذ لا نعلم أحدًا يعده خلافًا يشك في أن إتيان الجمعة.
وترك البيع فرض، لا اختيار.
وإن قال: لا يدل هذا على الاختيار.
قيل له: ولا ذاك يدل، إنما معناه - والله أعلم - أن غسلك بعد
وجود الماء خير من أن تبقى بعد زوال رخصة التيمم، على حال لا تكون
لك صلاة مستقبلة، وكذاك هو ها هنا: إن طاعتكم للَّه - جل وتعالى -
في ترك البيع، وإتيان الجمعة خير لكم من معصيته في ترك الجمعة.
والاشتغال بالبيع، والله أعلم.
وهذا، وإن كان بذكر الخير قد تشاكلا، فإنهما في المعنى قد اختلفا
بما تقدمهما من الكلام، إذ المتَيَمَّم قد شهد له بالطهارة، وأقيم
مقام الوضوء، عشر من سنين، وأدّى فرضه - فيه - فصار ذكر الخير له
فضيلة بيقين، والساعي إلى الجمعة، وترك البيع - حينئذ - إن لم يسع.
ولم يترك البيع كان عاصيًا فصار ذكر الخير له فريضة بيقين.
ترك لفظ الظاهر:
* * *
وقوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)

(4/299)


من المواضع التي يترك فيها لفظ الظاهر، لقيام الدليل على أنه
وإن كان من ألفاظ الأمر فهو إطلاق بعد حظر، ومثل هذا قوله: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) ، هو إباحة بعد حظر، لا أعلم في ذلك خلافًا
يعتمد، وهو كذلك، والله أعلم.
وكذلك قوله: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) -
والله أعلم - حض على سبيل الفلاح، وبلوغه بكثرة ذكره، لا أن
حد الكثير مفروض بلوغه، لقيام الدليل على إعواز معرفة حد غير
محدود، فكلما أكثر المرء ذكر الله، كان أزيد لفلاحه، وأجدر
لنجاحه، وأقرب إلى النجاة من عذاب ربه، ولا تلحق به المعصية إلا
في وقت لا يذكره - بتة - ولا يحذر نظره عند معصية أو الاهتمام
ببليّة، وهذا غير ممكن فيمن يقيم الصلوات الخمس، ويؤذن.
ويتلو القرآن، ويشكر الله - جل وتعالى - على النعم الظاهرة
والباطنة، وهذا كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) ، وكقوله: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)
والله أعلم.

(4/300)


قوله: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) .
دليل على أن الخطبة تخطب من قيام، والهاء في (إليها) راجعة على
التجارة، أو على الفعلة السيئة في الانفضاض عن ذكر الله، وترك
رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
(قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ) .
نظير ما مضى في سورة المائدة من قوله: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ)

(4/301)


سورة المنافقين
ذكر الزنديق:
* * *
قوله: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) إلى قوله: (فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) .
حجة على من قال: الزنديق لا يستتاب، ولا تقبل توبته، بل يقتل إذا عرفت زندقته، ألا ترى إلى إخبار الله - تبارك وتعالى - عن المنافقين بإضمار الكذب، وخلاف الطوية لما يعلنون به من شهادة الحق، وجعل الأيمان جنة ليسلموا من

(4/302)


القتل، فكيف يجوز إذا أظهر بلسانه ما هو عَلَم لحقن الدماء وزوال القتل
عن فساد الطوية، مع تخلية الله، وتخلية رسول الله، صلى الله عليه
وسلم، بين المنافقين وسوء طواياهم، وحقن دمائهم بظاهر القول.
أترى معرفة الحاكم بطوايا المعروفين بالزندقة، إذا تابوا - بظاهر
القول -. أكثر من معرفة الله - جل وتعالى - بطوايا المنافقين؟!.
قد يمكن - لا محالة - أن يكون المعروف بالزندقة قد استوى باطنه
مع ظاهره من حيث قد خفي على الحاكم الذي لا يقدر أن يظهر على
الطوايا، كما يظهر عالم الخفيات على سرائر خلقه، فإذا كان من
لا شك في كفره - ممن يشهد الله بكذبه من المنافقين - قبل منه ظاهره
ولم يقتل، فالمعروف بالزندقة إذا أظهر القول بالتوبة، مع إمكان انتقال
حاله، وعدم ظهور الحاكم على سره أحرى أن يقبل قوله، ولا يشاط
دمه، فهذا واضح لا إشكال فيه.
ولولا أن النبي، صلى الله عليه وسلم، عذر المخطئ من
المجتهدين، ووعده عليه أجرًا واحدًا لكان مشيط دم المعروف

(4/303)


بالزندقة - بعد توبته - لا عذر له مع ظهور هذه الحجة، وزوال التشابه
عنها من كل جهة.
وقد أخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من المسجد ناسًا
منهم، حين أنزل الله - جل وتعالى -: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ) ، ولم يقتلهم.
الزكاة:
* * *
وقوله: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا)
دليل على أن المرء ممنوع من ماله عند حضور أجله، وغير مسلط على إنفاذ إرادته فيه، كهيئة ما كان في

(4/304)


صحته، وأن لا سبيل له على أكثر من ثلثه الذي أباح الله له على لسان
رسوله، صلى الله عليه وسلم.
ودليل - واضح - على أن ما فرط فيه من إخراج زكاته لا يجاوز ثلثه
إن أوصى به، ويلقى الله ببقيته، إذ النفقة في القرآن هي الزكاة
المفروضة، فلو قدر على إخراجها بعد ندامته، بعد دنو منيته، أو
الوصية بها من رأس ماله، ما كان في مسألة تأخيره إلى أجل قريب

(4/305)


يَصَّدق فيه فائدة، ولكان ممهدًا له تلافي تفريطه - إذا شاء - قبل
خروج روحه، فهذا بين لمن تدبره.
فإن قيل: أفلا تكون الزكاة أسوة الديون المقدمة على الميراث مع
الوصية؟.
قيل: إن الزكاة وإن كان وجوبها كوجوب الدين فلا يقع عليها - في
اللغة - اسم دين " لأن الدين ما يستدان، والزكاة الواجبة عليه - في
ماله - لم تصر في يد الفقراء قط، ثم أخذها منهم فيكون مستدينًا أو
غاصبًا، إنما هي شيء اؤتمن المسلم عليها، يخرجها من أمواله بحد
معلوم، وحول كامل، ولا مالك لها بعينه إلا بعد وصولها إليه،

(4/306)


كما يكون للديون والمظالم أرباب بأعيانهم، فإذا فرط في
إخراجها - بعد مضي الحول - فهو خائن بحبسها، ظالم فيما بينه وبين
ربه، فإذا أداها قبل حظر ماله عليه فذاك، وإلا لم يكن له سبيل
على مال وارثه، المجعول له بعد موته، إلا الثلث المؤقت له.
والمسلط عليه دون سائره.
فإن قيل: فما تقول في الحجة الواجبة، أهي من رأس المال، أم من
الثلث؟.
قيل: بل من الثلث كالزكاة، لا يختلفان في هذا المعنى بل الحجة أضعف من الزكاة، لأن الزكاة في المال - وحده - والحجة على بدنه وماله، ألا ترى أن كثيرًا من أهل العلم والمفسرين جعلوا الاستطاعة إلى الحج في الصحة، لا في الزاد والراحلة، لأن الخبر

(4/307)


في الزاد والراحلة واهي، الإسناد، فإذا كان الأمر كذلك. فهي
في الثلث إن بلغت، وإلا لقي الله - جل وتعالى - بوزرها، إن شاء
عذبه، وإن شاء عفا عنه.
فإن قيل: أفليس النبي، صلى الله عليه وسلم، سماها دينًا، حين

(4/308)


قال للخثعمية: " فدين الله أحق " فَلِمَ لا تحجعها مقدمة على الميراث

(4/309)


(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) ؟.
قيل له: إن في حديث الخثعمية معاني تمنع من سلك الحجة - في
ذلك - مسلك ديون العباد.
فمنها: أن الخثعمية لا تخلو من أن تكون حاجة عن أبيها بمالها، أو
بمال أبيها، أو بأمره، أو بغير أمره.
فإن كانت حجة عنه بمالها فهي متطوعة، وإن كان بماله فإنما عمل
عنه عملاً وجب عليه في حين أمره جائز في ماله، إذ لم يحضره الموت
الذي يحجر مالَه.
وظاهر ما يدل عليه الحديث أنها كانت متطوعة عنه " إذ لفظ الحديث
أنها قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده - في الحج -
أدركت أبي شيخًا كبيرًا، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، فهل ترى أن

(4/310)


أحج عنه؟.
ولو كانت قالت - أيضاً -: " بماله "، ما كان فيه شيء، لما دللنا
عليه من أنه في حين يكون مسلطًا على جميع ماله.
ومنها: أن تفسير السبيل بزاد وراحلة لم يثبت في الأصل حتى
نصرف إدراك فريضة الله - له - إلى الزاد والراحلة.
وليس في قولها: " لا يستطيع أن يثبت على الراحلة " ما يجُعل به
الراحلة من سبيل الحج، لأن الناس قد يركبون رواحلهم في أسفارهم
إلى الحج وغيره، مستطيعين، وغير مستطيعين.
وقد صرحت في الحديث لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، بأنه
لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، فلا أدري كيف وجه الحديث في هذا
الشيخ، مع ذهاب طاقته، وفقد صحته، وضعف الدليل على أن
الاستطاعة هي الزاد والراحلة، أكثر من أنه فرط في صحته فقضت عنه ابنته ما عجز عنه بعد فقدها.
ومنها: أن المرأة مختلف في أداء فرضها - في حجة الإسلام - عن
نفسها بغير محرم، فكيف عن غيرها؟.

(4/311)


فإن كانت حاجّة عنه بغير أمر قاطع من أبيها لها فحجها عنه تطوّع -
بغير شك - وما كان من الأسفار تطوعًا لم يجز خروجها فيه بغير محرم.
لقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: " لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه
واليوم الآخر أن تسافر سفرًا "
غير مؤقت في حديث ابن عباس ومؤقت - في حديث غيره - بيوم وليلة، وبثلاثة أيام

(4/312)


" إلا مع ذي محرم منها " وسيما الشابة.
وفي الحديث أن الخثعمية كانت شابة، يصرف النبي، صلى الله عليه وسلم، وجه الفضل بن عباس عنها.
وإن كان بأمر قاطع من أبيها فلا يجوز لها أن تطيعه فيما هو معصية
عليها من خروجها بغير محرم.
وإذا كان محرمها لا يجبر - بإجماع الأمة - على الخروج معها وهي
حاجة عن نفسها، لم يجبر عليه إذا حجت عن غيرها.
فالحاجة عن أبيها لا تقدر أن تخرج عنه سالمة من العصيان، إلا في
حين يتطوع محرمها بالخروج معها، وهذا يقل.
ولو ذهب ذاهب إلى توهين هذا الحديث، ونفيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما اعتوره من هذا المعنى، وقال بقول من قال: لا يحج أحد عن أحد، أوجد مساغًا فيه.

(4/313)


مع أنه قد رُوي عن أبي هريرة أن رجلاً قال: يارسول الله عليّ حجة
الإسلام، وعليّ دين، فقال: " اقض دينك ". ففرق بين الدين
والحج.
حدثناه عبد الله بن الصباح، قال: دثنا داود بن رشيد، قال:
دثنا الوليد بن مسلم، عن أبي عبد الله - مولى بني أمية - عن أبي
حازم، وسعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -

(4/314)


وليس جهلنا برواية أبي عبد الله بأكبر تأثيرًا في حديثه، مما وهّن
حديث الخثعمية من المعاني.
وأبو عبد الله وإن لم يكن ظاهر العدالة - في المحدثين - فقد اتفق
الجميع على معنى روايته من أن الدين يقدم على نفقة الحج في حياة
الحاج، ولا نعرف مدونًا عن أحدٍ رأي الحجة الواجبة من رأس المال
مضاربة بها مع ديون البشر.
ولجواز حج الإنسان عن غيره - بعد الموت - ولمنع المرأة من الحج
بغير محرم موضع غير هذا، وهو كتابنا المؤلف في " شرح النصوص "
ولحج العبد معًا، فهذه المعاني في حديث الخثعمية بينة واضحة.
فإن صرف حديثها إلى أن تخبر من يحج عن أبيها - على سعة اللسان -

(4/315)


ولا تحج بنفسها -: لم يدخل الحديث وهن، وأرجو أن يكون كذلك، لأن إسناده صحيح.

(4/316)