النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام

سورة التغابن
قوله - عز وجل -: (فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا) .
دليل على أن البشر يخبر به عن الجمع، وهو اسم للجنس.
* * *
قوله: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا)
رد على المعتزلة فيما يزعمون: أن الشيء إذا سمي باسم، ثم سمي به غيره
لزم أن يشبهه بجميع جهاته، وقد سمى الله - جل جلاله - القرآن هاهنا نورًا، كما سمى نفسه نورًا.
ذكر التاكيد:
* * *
وقوله: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)
حجة للتأكيد في الكلام، ورد على من قال: ليس في كلام العرب تأكيد، إذ الأبد

(4/317)


داخل في الخلود، وقد أكده كما ترى، وذكر الذين كفروا وكذبوا
بآياته، ثم قال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) .
ولم يقل أبدًا، فهل يزعم نافي التأكيد - عن كلام العرب - أن أهل النار من الكفار لايؤبدون فيها كما يؤبد أهل الجنة.
أم يرجع عن قوله،. فيعلم أن ذكر الأبد في وعد أهل الجنة تأكيد
لا يضر حذفه في وعيد أهل النار، لإتيان ذكر الخلود عليه، وإن لم يذكر؟.
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) .
رد على المعتزلة والقدرية، لما دللنا عليه - في غير موضع من هذا الكتاب - أن الإذن إطلاق، لا علم، والقتل أكبر المصائب الواردة على المصاب.
ذكر الاحترازات:
* * *
قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) ، دليل على تثبيت الاحترازات، وأنها غير مؤثرة في الإيمان بالمقادير، بل مندوب إليها المرء كما ترى، ومأمور به، وإن كان غير نافعه، وهو يؤيد الحديث المروي عنه، صلى الله عليه وسلم: " اعقلها وتوكل ".

(4/318)


ذكر الصبر على أذى الزوجة:
(وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) .
عزاء لمن بلي بزوجة مؤذية، أو ولد عاق فصبر على أذاهما، وعفا وصفح عن زلاتهما، ومكروه يكون منهما، وفيما وعد الله - جل جلاله - من
الغفران من فعل ذلك ما يهوّن عليه، ويعظّم بشارته إذا احتمل مضض
غوائلهما طمعًا في إنجاز ما وعده الله عليه.
المعتزلة:
* * *
وقوله: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)
تنبيه للمعتزلة والقدرية، لو تأملوه وأنصفوا من أنفسهم فالفلاح

(4/319)


شيء مفعول بهم، وتعقيبه ذلك بفعل مضاف إليهم من إقراض القرض
الحسن، وجعله كليهما في مدح الموصوفين بفعلين مختلفي اللفظ.
متفقي المعنى، وهذا نظير الإضلال الذي يخبر به مرّة عن نفسه أنه
فاعل بهم، ومرة عنهم أنه يفعلونه بأنفسهم.

(4/320)


سورة الطلاق
قوله - تبارك وتعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) ، خصوص - لا محالة - على المدخولات بهن، لزوال العدة عن غير المدخولات بهن، و (إِذَا طَلَّقْتُمُ) معناه - والله
أعلم - إذا أردتم الطلاق، لا إذا فرغتم منه "
* * *
وقوله: (لِعِدَّتِهِنَّ)
دليل على أن المطلقة - حائضًا - لا تعتد في
عدتها بالحيضة التي طلقت فيه، إذ لو كانت في كل حالة طلقت
فيه - دخلت في عدخها من فور الطلاق - ماكان في اشتراطه وقتًا
موصوفًا فائدة.
* * *
قوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ)
دليل

(4/321)


على أن من سكن دارًا جاز أن تضاف إليه - وإن كان ملكها لغيره - ولا
يكون كذبًا، إذ البيوت المضافات إلى الزوجات - في هذه الآية -
ملكها - لا محالة - لأزواجهن، إذ لو كان ملكها لهن ما كان
لأزواجهن سبيل عليهن قبل الطلاق وبعده، لأنهن أحق بأملاكهن ممن
لا ملك له، فإنما خاطب المطلِّقين بفرض سكنى من طلقوا من
الزوجات دون الثلاث، إذ هن في معاني الزوجات - كما كنَّ قبل
الطلاق - من وجوب السكنى والنفقة كما كن إنما حرم منهن
الوطء وما أخذ أخذه من القبل ونظر الشهوة حتى يراجعن.
وفي إيجابه - جل وتعالى - على الأزواج سُكنى من لم يبت أقصى
طلاقها دليل على أن من طُلقت أقصى الطلاق ألا، يفرض لها

(4/322)


سكنى، لأنها خارجة من معاني الزوجات، وغير محبوسة بالعدة
عليه، لزوال المطمع في الرجعة التي قد قطعها أقصى الطلاق.
قال محمد بن علي: وفيما خرج لنا من جواز إضافة البيوت إلى من
مُلْكها لغيره دليل على أن من حلف - من السكان - أن لا يسكن
داره، ولا يدخل دار فلان حنث بالسكنى، ودخول فلان الدار التي
هو فيها بكراء لأنها داره بالتوطن والحلول.
وإن كان مُلْكها لغيره، إلاّ أن تكون له دار يملكها ملك الرقبة
فيقصدها بيمينه، فلا يحنث حينئذ في المكتراة.

(4/323)


ذكر الطلاق ثلاثًا:
* * *
وقوله: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)
دليل على أن من جمع التطليقات الثلاث بكلمة واحدة، وأوقعها
على امرأته في حال واحد واقع عليها، إذ لو كانت لا تقع كما
يزعم الزاعمون - ما خشي أبدًا فوات الرجعة، لأنه لو ردت

(4/324)


الثلاث إلى واحدة كانت الرجعة ممهدة له، ولو أبطلت بأسرها عنه ما
احتاج إليها بتة لبقاء عصمة النكاح على حالها، فما الفائدة - إذًا - في
* * *
قوله: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)
إن كان الأمر لم يخرج من يده بعد.
فهل يشكل على من نصح نفسه - إذا تدبر ما وصفناه - أن الله جل
جلاله لرأفته بعباده دلهم على موضع الحيطة في تفريق الطلاق على
الزوجات، لئلا يفوت - نادمًا على طلاق من تتبعه نفسه بعد
الطلاق - الرجعة الرادة عليه ما أخرجه الطلاق من بين يديه، لا أنه
شرع الطلاق مفرقًا على أنه لا يقع مجتمعا، ولولا قوله: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) ، لاحتمل أن يكون تفريق الطلاق
شرعًا، لا نظرًا وحيطة.
فأما والقصة متممة بهذا فدعوى الشرع الذي لا يقع بغيره وإنكار النظر
والحيطة مما لايعذر به ذو رأي وبصيرة.
فإن شُبّه على أحد بأن الأمر الذي يحدثه الله راجع على المحصَّن - لمن
طلق - بالسُّكنى، فإذا لم تسكن لم تسمح نفسه برد من قد أخرجه خالف
الإجماع، وخرج من العرف والعادة.

(4/325)


فأما مخالفته الإجماع: فهو أن سكنى المطلقة واحدة فرض على الزوج ليس
بمخير فيه.
فمن زعم أن الأمر - الذي يحدثه الله - راجع على المحصن بالسكنى
فقد خيره، وأزال عنه فرضها، وعليه مع مخالفته الإجماع خلاف قول
رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: " إنما السكنى
والنفقة لمن كانت له على امرأته رجعة ".
وأما خروجه من العرف والعادة فهي المشاهدة في العالم أنهم يسمحون
برد امرأةٍ بعد تزويجها، ودخول الزوج الثاني بها -، فضلاً عن النظر في
خروجها من البيت بعد الطلاق، ومن أحدث الله له رغبة في امرأة -
يجد السبيل إلى ردها - لم يفكر في خروجها من بيته.
فإذا كان هذا المعنى لا يجوز توهمه - لإحاطة الخلل به كما ترى، وما
ذكرناه يُنكر - بقي الأمر الذي يحدثه الله عطلاً ليس له شيء يرجع عليه.
إذ ليس معنى ثالث يرد عليه - بتة - ملفوظًا ولا متوهمًا.

(4/326)


ومن نسب الله - جل جلاله - إلى أنه ينزل في كتابه حشوًا، أو مبتَّرًا، أو محُالاً افترى عليه، وكفى مؤونة الاشتغال به تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
وليس ما اجتبأناه - من هذا - بمؤثر في ذبيحة السارق، وما شاكلها، لما دللنا عليه أن النظر والحيطة ليس كالشرع، وقد لخصناه في
تمامه في كتاب الطلاق من " شرح النصوص " فأغنى عن إعادته في هذا
الموضع.
الرجعة بغير شهود:
* * *
وقوله: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) .
دليل على أشياء:
فمنها: جواز السماحة في الكلام، على مذهب العرب فيه وترك

(4/327)


التنطع بما يحسبه جهال المتنسكين كذبا، فإن بلوغ الأجل - في هذا
الموضع - هو مقاربة خلوه، لا خلوه، إذ لو كان خلوّه ما أمكنه الإمساك بالرجعة، ولا احتاج إلى تزويجها، ولا يقال للمتزوج ممسك.
ومنها: إبطال الرجعة بغير شهود، وتوهين من جعل الجماع
رجعة - مع الإرادة - إذ محال أن يشهد على المجامعة، وقد أمر اللَّه بالإشهاد على الإمساك والفراق، كما ترى.
ومنها: أن الإشهاد في الطلاق فرض، لا يجوز تركه، وكيف

(4/328)


يجوز تركه وهو سبب إطلاق المرأة في التزويج بغيره؟!.
أرأيت لو جحدها الطلاق - ولا بينة للمرأة عليه - أليس كان يحلف
وترد إليه حرامًا في الباطن،، وترك الإشهاد أعان عليه.
والعجب ممن لا يدري الإشهاد في الرجعة والطلاق فرضًا - مع
الأمر به نصًا متلوًا - ويرى الشهود في النكاح فرضًا، ولا تلاوة فيه.
ولا أعرف عذر من يترك آية من كتاب الله، فيها حكم بين بأمر
مفصح، ثم لا يأوي - فيه - إلى مثلها، أو سنة ثابتة، أو إجماع من
الأمة تمهد له صنيعة، والله المستعان.
ومنها: أن " الفراق " لفظ لا يعد بنفسه تصريحًا، بل هو أسوة
الكنايات في من لم يبنها الطلاق، لجعل الله - جل وعلا - إيّاه من ألفاظ

(4/329)


الإخراج، لأن ألفاظ البينونة كما قال في السراح - بعد البينونة
بالطلاق - (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) .
فجعلهما معًا من ألفاظ الإخراج لمن أبانها الطلاق، فليس لإعدادهما في عداد
التصريح وجه لمن تدبرهما، ولا يكون لفظ التصريح إلا الطلاق وحده.
تفسير:
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) .
يؤكد أن المطلق ثلاثًا بكلمة واحدة، وإن عد -أيضاً - عاصيًا أشد ما قيل فيه أن الطلاق يقع عليه، وقد فاته المخرج بالرجعة.
وكذلك حدثني عبد الله بن الصباح الأصبهاني، قال: دثنا إسحاق
بن أبي، إسرائيل، قال: دثنا

(4/330)


حماد بن زيد، عن أيوب، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد.
قال. كنت جالسًا إلى عبد الله بن عباس، فجاءه رجل فقال: إني
طلقت امرأتي ثلاثًا، فسكت عنه حتى ظننا أنه سيردها عليه، ثم
قال: يعمد أحدكم فيعمد الحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس.
وقد أنزل الله - تبارك وتعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ " في قبل عدتهن ") (1) ، وإنك لم تفعل وإن
__________
(1) قوله: " في قبل عدتهن " هذه قراءة عبد الله بن عباس، فقد نقل ذلك عنه سفيان بن عيينة، وعبد الرزاق الصنعاني والطبري. انظر تفسير سفيان ص (336) ، والمصنف (6/ 303) ، وتفسير الطبري (28/ 84) .

(4/331)


الله - تبارك وتعالى - قال، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) .
وإنك لم تتق الله فما أرى لك مخرجًا، عصيت ربك وبانت منك امرأتك ".
فهذا ابن عباس - المعتمد على حديثه في الطلاق الثلاث من رواية
طاووس عنه - يقول هذا القول بالإسناد الصحيح، ويدل على
أن الخرج إنما هو لمن لم يجمع الثلاث، ويدل على أنه وإن عصى
فطلاقه واقع، ولا مخرج لحديث طاووس إلا ما بيَّنَّاه في كتاب الطلاق
" من شرح النصوص ".

(4/332)


وليس قول من فسر (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) ، من كل أمر
ضاق على الناس بدافع ما قلناه، لأن رجوع المرأة بالرجعة - بعد
الواحدة والثنتين - من الفسحة على المطلق، بعد ما أخرجها بالطلاق.
وداخل في الأمر الضيق على الناس.
* * *
قوله: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ) ، دليل واضح على أن الأقراء الحيض، لذكره المحيض -
بلفظه - وجعله الأشهر الثلاث عوضًا منه.
بلوغ النساء:
* * *
وقوله تعالى: (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) .
دليل على أن للنساء - أيضًا - بلوغًا سوى الحيض،

(4/333)


إذا بلغته قبل إدراك الحيض وجبت عليهن به الفرائض، لأن العدة
فرض على النساء لا يجوز إيجابه إلا على من يجري عليه القلم -
منهن - ولا تكون العدة أوكد من الصلاة والزكاة وسائر الأعمال
المفروضة عليهن.
وحد هذا البلوغ من النساء - عندي، بدليل القرآن - هو السن الذي
تطيق فيه الجماع، وتلد في مثله، ألا ترى أنه قال: (إِنِ ارْتَبْتُمْ) ، ولا يكون الارتياب إلا بعد الدخول ممن يمكن أن تحمل وذلك تسع سنين، التي دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعائشة رضي الله عنها،

(4/334)


وشوهد من النساء من حملت فيها.
وفي توقيته - تبارك وتعالى - ثلاثة أشهر مع ذكر الارتياب دليل على
أن الحمل يتبين فيها، ودليل -أيضاً - على أن الآيسة من الحيض قد تحمل، ولا يكون إدرار دم الحيض - من النساء - سببًا للحمل بكل حال، وعونًا عليه، وإن كان الأغلب أنه يكون كذلك.
وقد يحتمل أن يكون هذا السن من النساء بلوغًا في وجوب العدة
عليهن - وحدها - وسائر الفرائض لا تجب عليها إلا بالحيض، لقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقبل صلاة امرأة قد حاضت إلا
بخمار ". فحد النظر أن لا يكون على المطلقة - المظلومة بالدخول
بها في حين لا تطيقه - عدة، لأنها ليست ممن يُرتاب بحملها الذي

(4/335)


، شرطه الله فيها، ولا ممن وجب عليها جميع الفرائض ببلوغ
الحيض، فتكون العدة أحدها، ارتيب، أو لم يرتب.
وكذلك إن مات عنها زوجها في هذا السن، مدخولاً بها، أو غير
مدخول، لأن غير المدخولات بهن، وإن وجبت عليهن عدة الوفاة
فهن اللواتي يعقلن التربص بأنفسهن، ووجب عليهن الفرائض
ببلوغهن، ولا يشك أحد أن العدة على النساء فرض، فمن لم تجب
عليها الفرائض بالبلوغ، ولا دخل بها في حين يجوز أن تحبل فيرتاب
بها لم يكن لموجب العدة عليها حجة يعتمد عليها من كتاب، ولا
سُنة، بل الكتاب والسنة - معًا - يدلان على إسقاطها عمن هذه حاله
من النساء، والله أعلم كيف هو.
ومن المفسرين من قال: إن العشرة ضُمت إلى الأربعة الأشهر في
الوفاة، لأن نفخ الروح في الجنين فيها تكون، فليس يتبين الحبل
على هذا القول في أقل من ثلاثين ومئة يوم، وهذا حكم على مراد

(4/336)


الباري - سبحانه - لا تسمح النفس بقبول إلا باب مأثور عن رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم.
والأثر مدته عشرون ومئة يوم. حدثني أبي قال: دثنا علي بن
حرب قال: دثنا عبد الله بن داود وأبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود قال:

(4/337)


حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق الصدوق " إن أحدكم
يجمع خلقه في بطن أمه أربعين. يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم
يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ".
فكيف يمكن مع هذا الحتم على أن نفخ الروح لا يكون إلا في آخر
يوم من العشر المضمومة إلى الأربعة الأشهر بلا توقيت، وقد جعل الله
جل وتعالى العدة ها هنا - في سورة الطلاق - مع الارتياب بثلاثة
أشهر، والقرآن حق لا ريب فيه، والخبر يقبل من رواته.
ولا يشهد به على الله - سبحانه - كما يشهد عليه بما ورد في القرآن.
فإن عَرف النساء - قبل تحرك الولد - علامة للحبل في ثلاثة أشهر

(4/338)


فقد اتفقت الرواية مع القرآن لثنتين، للحبل علامتان تظهر إحداهما
بما تظهر في ثلاثة أشهر، والأخرى بالتحرك في أربعة أشهر.
وإلا فقد أخبر القرآن عن زوال الارتياب بثلاثة أشهر، وهو الحق
الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والخبر قد يقع فيه
الوهم من الراوي قبل أن يبلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم
وما استوقن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاله فلا وهم فيه
كالقرآن، لقوله - تبارك وتعالى -: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) .
وأيهما كان فتصحيح ما قاله المفسر - في ضم العشر إلى الأربع - لا
يمكن تحققه، وقد اتفق الجميع مع ذلك على أن العدة من الأربعة الأشهر
والعشر واجبة على المتوفى عنها زوجها، وإن لم يكن دخل بها، وليس

(4/339)


هناك بيقين من ينفخ فيه الروح في العشر ولا قبلها.
* * *
قوله: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) .
راجع - والله أعلم - على من مضى من الآيسات من المحيض، واللائي لم
يبلغنه أي إن كن أولات حمل فليس عدتهن الأشهر، ولكنه وضع
الحمل، ففيه - الآن - دليل على أن من جعل عدتهن ثلاثة أشهر هن
من يمكن أن تحمل، لا الأصاغر اللواتي لا يمكن فيهن حمل يرتاب به.
* * *
قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) .
دليل على أن كل عسير من الأمور يتيسَر بالتقوى، حتى عسر تقتير الرزق، وشفاء الداء العسر العلاج، والخلاص من المحبس - من الفكاك من الأسر -
وأشباه ذلك.
* * *
قوله: (ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) .
حجة فى أن القرآن غير مخلوق، لأن الله سماه بالأمر، والأمر لا يكون إلا كلامًا متكلمًا

(4/340)


به وكلام الآمر نعت من نعته، ونعوت الخالق غير مخلوقة، وهو مثل قوله
-: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) .
(أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) ، رد على من لا يقر أن الله - سبحانه بنفسه - في السماء.
ذكر التوبة:
* * *
قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) .
دليل على أن التوبة مع ما تحط من السيئات، تنمي له أجرًا برأسه، وهو
مثل قوله: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) .
وهذه الغنيمة الباردة لمن عقلها وتيقظ لها.
قال محمد بن علي: وقد مضى ذكر الدليل على أن المطلقة ثلاثًا لا سكنى لها، ولا نفقة، عند قوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) .
ثم قال - سبحانه - في الآية الأخرى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ)

(4/341)


فقد شبّه اشتراط النفقة بالحمل عليهن على الناظر فيه، وأراه أن الأمر بالإسكان - هاهنا -
هو للمطلقة ثلاثًا، إذ لو كان غيرها من المطلقات لوجب عليه لها النفقة
حاملاً، وغير حامل، فهو يحتمل هذا، ويحتمل أن يكون الإسكان -
في هذه الآية،أيضاً - لمن طلقت دون ثلاث، ويكون زيادة في البيان
والتأكيد.
واشتراط النفقة بالحمل حقًا من حقوق الولد - الذي في البطن - لا
من حقها. ويكون وجوب النفقة لغير المبتوتة بالإجماع مسلّمًا له.
كما سُلّم له إيقاع طلاق جديد، والإيلاء، والظهار، ووجوب
الميراث، إذ الطلاق إذا قطع عصمة النكاح كان حق النظر أن
لا ينظر فيه إلى العدد، ألا ترى أنها تحل للأزواج بعد انقضاء العدة
بالواحدة، كما تحل بالثلاث، فلو لم تكن العصمة منقطعة كانت
أحكام الزوجات لها قائمة، من أجل ثبوت العصمة ولما حلت

(4/342)


للأزواج، ولا احتاجت إلى العدة، ولا الزوج إلى الرجعة، فدل أن هذه
الأشياء قائمة بينها وبين زوجها بالإجماع الذي لا تعقل علته، إذ العلة
المعقولة انفساخ النكاح بالتطليقة الواحدة، وهذه أحكام كانت قائمة بينها
وبين زوجها قبل إحداث الطلاق، فلما حصل الإجماع على فسخ النكاح
، بالتطليقة الواحدة، كما ينفسخ بالطلاق الثلاث مفرقًا، وغير
مفرق، عندنا وعند من يراه والوطء محرم دون إحداث الرجعة
بكلام، أو جماع يقصد به الرجعة عند من يراه، وإباحتها للأزواج
بترك الرجعة عُلم أن النفقة لا تفرض لمن ليست بزوجة، كما
تفرض لها وهي زوجة، فلما أوجب لها السكنى القرآن، وأوجب لها
النفقة الإجماع - مع ما ذكر من السكنى، - سُلّم لهما.
وكانت المبتوتة بالثلاث زائلاً كل ذلك عنها إذ محال أن يزول الإيلاء
والظهار والميراث، ويبقى لها السكنى والنفقة، وليس فيه قرآن يسلم
له، ولا سنة، ولا إجماع يترك عندهما، كما ترك عند الأولى.
وليس توهم المتوهم أن اشتراط الله النفقة بالحمل - بعد ذكر الإسكان - إنما هو في المبتوتات بالثلاث دون غيرهن، ومحال أن يكون نزول الآية بعد اتفاق الأمة على إيجاب النفقة لغيرهن، وكيف

(4/343)


تتفق الأمة على فرع شرع قبل أن يفرض أصله؟! ، هذا ما لا وجه
وإيجاب النفقة بالحمل ممكن أن يكون من حق الولد الواجب نفقته على
الآباء، ويحُبس عليه قسمة الميراث، فهذا الاحتمال أبين مما ذكرناه في
الآية الأولى.
من قوله: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بيُوتِهِنَّ) ، والله أعلم كيف هو.

(4/344)


القياس:
قال محمد بن علي: ولو لم يكن من الدليل على بطلان القياس إلا
إجماع الأمة على إبقاء أحكام بين زوجين قد قطع الطلاق عصمة نكاحهما
لكفى، فعلى أي علة وقع هذا الحكم - ليت شعري - والعلة المسماة
بالنكاح الذي كانت الأحكام تجب بها زائلة بالطلاق الذي يحلها
للأزواج، ويقطع ميراثها بعد انقضاء العدة. لو حدث الموت بعده.
ففي هذا أكبر معتبر لمن اعتبر أن الأحكام لا تقع معللة، إنما تقع
تعبدًا محضًا لا شوب فيه، وعلى المحكوم عليه اتباعها، وترك البحث

(4/345)


عن عِلَلِها، فضلاً عن أن يحمل عليها أشباهها عنده.
ذكر وجوب نفقة الولد:
* * *
قوله: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) .
حجة في وجوب نفقة الولد، وفي أن الأمَّ لا تحرم الأجرة وجد الأب متطوعة، من الأجنبيات، أو لم يجد، لأن الله - جل وتعالى - أمر بإيتاء
أجورهن أمرًا عامًا، وهو يعلم أن في الآباء من يجد متطوعة -
مغنى - مع عموم الآية بالأمر.
وفيها -أيضاً - دليل على أن ما لا يمكن تعريته من المجهول، ولا يضبط بالتسمية في الإجارات جائزة.
* * *
وقوله: (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) .
دليل على أن الأم إذا أرادت الإجحاف بالأب في إغلاء أجرة الرضاع، كان للأب دفعه إلى أجنبية، ولم يجبر الأب على أكثر من أجرة مثلها في إرضاعها.

(4/346)


وقوله: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) .
دليل على أن التقتير في الإنفاق - مع السعة - على الأنفس والعيال مذموم، ولا نعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا الخلفاء بعده قتروا على أنفسهم مع السعة، وكانوا كما قال الله - سبحانه وتعالى في هذه الآية -.
(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) .
وفي (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) .
دليل على أن نفس المال يسمى رزقًا، لا أن اسم الرزق لا يقع إلا على ما استهلك بالأكل، واللباس، وما أشبههما.
* * *
قوله: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
دليل على أن من وجب عليه نفقة قوم فلم يقدر على تمامها
لم يلزمه الإقحام على ما لا يحل له، ووجب عليه الاقتصار على ما أوتي
من الرزق، وعلى من يمون الصبر معه على انتقال حاله من العسر

(4/347)


إلى اليسر الذي وعده الله في هذ" الآية، ولو جعل هذا المعنى جاعل حجة
في ترك التفرقة يين المعسر بنفقة أمرأته وجد فيها متفسحا - والله
أعلم - إذ سبيل من أعسر بجميع الكفاية، ومن أعسر ببعضها
واحد لإحاطة العلم بأن ما لابد منه من حد محدود لم يغن بعضه
عن جميعه.
الكافر يحاسب يوم القيامة:
* * *
قوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ)
إلى قوله: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) .
دليل على إجازة تأخير المعنى إلى آخر الكلام، والإشارة إليه في أوله، إذ العتو من القرية، وما ذكر من شأنها كله مقصود به أهلها الذين رجحت " الهاء والميم " عليهم في (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ) ، وفيه دليل على أن الكافر يحاسب.

(4/348)


قوله: (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا)
حجة في استعارة الكلام من المخلوقين، ووضعه موضع غيره إذا دل عليه لفظه، إذ أصل الذوق إنما هو بالفم، فلما أراد الإخبار عن وجود مضض العذاب، وسوء العاقبة، به أخبر، والقرآن نازل بلغة العرب، واذا كان الجليل - سبحانه - يفعل ذلك والكلام غير معوز عنده، ونسبة الضيق -
عنه - إليه كفر ممن توهمه فالمضطر إليه من البشر أحرى أن
يستعمله، ومثله قوله في سورة المائدة: (وَبَالَ أَمْرِهِ)

(4/349)


قوله: (قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا) .
حجة في أن الله - سبحانه وتعالى - بنفسه في السماء، أو، هو رد على من ينكره.
* * *
وقوله: (رسولاً)
إضمار - والله أعلم - كأنه قال: (أنزل اللَّه إليكم ذكرًا وأرسل رسولاً) ، لأن الذكر هو القرآن، والله أعلم.
وفي قوله: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)
دليل على جواز التأكيد في لغة العرب، لأن " الخلود " مغن عن " الأبد " ودال عليه، فقوله: (أَبَدًا) تأكيد من غير إشكال.
* * *
قوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) .
المثل - والله أعلم - راجع على العدد، لا على الصورة، وفيه دليل على أن الأرض قد توضع موضع الجمع،

(4/350)


إذ لم يقل - سبحانه - (ومن الأرضين) ثم يجمع بعد ذلك على
لفظ الجمع أيضاً.
في قوله: (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) ، دليل على أن الأرضين طباق
مثل السموات، وأن بين كل أرض وأرض خلق مستعبدون، ومنزول
عليهم الأمر، والأمر في هذا الموضع والله أعلم، إخبار عن
كلامه - جل وعلا - في كل ما ينزله مما يتعبدهم به من أمر ونهي.
كما قال: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) ، فكان أمره القرآن.

(4/351)


وفيه - مع الأمر - نهي وإرشاد وندب إلى كل خير، وقصص الأنبياء
وغير ذلك، لا الأمر وحده.
وفيه دليل -أيضاً - على أنه سبحانه في السماء بنفسه، والأمر ينزل
منه إلى الأرضين، لولا ذلك ما كان " للفظ " التنزيل معنى.
* * *
قوله: (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)
زوال كل لبسة من أنه في السماء، وعلمه محيط بالأشياء، ولو كان كما يقول الجهلة
لكان - والله أعلم - ((وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ) فقط من غير أن
يكون فيه (عِلْمًا) ، وهذا قد فسر كل محيط في القرآن ليس معه العلم.
وهو أعلم.

(4/352)


سورة التحريم
قوله - تبارك وتعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) .
يقال: إنه نزل في عسل حرمه على نفسه ألاَّ يشربه.
ويقال: بل نزل في تحريمه مارية

(4/353)


أم إبراهيم.
والذي يشبه - عندي، والله أعلم - أن يكون في تحريم مارية إذ

(4/354)


ليس في تركه صلى الله عليه وسلم شرب عسل - حرمه عند من كان من
أزواجه، أو جاريته - ما يبتغي به مرضات سائرهن، ولا ما يزول به
غيرتهن، إذا دخل عليها ووطيها بعد أن لا يشرب عندها عسلاً، بل أشبه
شيء أن يقلن له - عليه السلام -: نجد منك ريح المغافير، طمعا في
تزييف من شرب عندها ذلك العسل، ليزهد فيها فيحرمها، لا ليترك
شرب العسل عندها.
ومما يزيده تاكيدًا أن العسل داخل في جملة الطيبات، التي نهى الله عن
تحريمها في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) .
نزلت في رجل حرم اللحم

(4/355)


على نفسه فعمه الله - جل جلاله - هو وسائر المؤمنين بالنهي عن
تحريم ما حللَّه من الطيبات لهم.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم أجل المؤمنين قد دخل في هذا النهي
مع أمته، والمائدة آخر ما نزل من القرآن، فلو كانت آية المتحرّم نازلة في
العسل لقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل - والله أعلم -: حلل
يمينك في تحريم اللحم، ولما سكت عنه حين سأله منتظرًا للوحي حتى نزل.
وما أحل الله في سورة المتحرّم، كلمة جامعة يدخل فيها العسل
واللحم، وغيرها من المأكول والمشروب، بمنصوص على لفظ
العسل فيحتاج - عند من يأبى القياس - إلى نص مجُدّد في تحريم

(4/356)


اللحم، مع أن قوله: (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) .
دليل واضح في أنه الجارية، لا العسل.
فإن قيل: لو كان كما ذكرت لكان: لم تحرم من أحل الله لك، ولم
يكن (مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) ، إذ لفظ "من " يخبر بها عن الحيوان، ولفظ " ما "
يخبر بها عن غير الحيوان.
قيل له: فقد قال الله - تبارك وتعالى -: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ، فدخل فيه الحيوان وغيره، وأخبر بلفظ "ما" عنهم، كما
أخبر بلفظ "من " في قوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) .
بل المفسرون على تسبيح الحيوان مجمعون، وفي غير الحيوان مختلفون.

(4/357)


ولو لم يكن لنا في الجمع بين "ما" و"من " إلا في هذا الموضع هذا الشاهد -
أيضا - "لأمكن أن تكون "ما" واقعا على تحريم الوطء، فلا يكون لمن
يقصر عن سعة لسان العرب متعلق بما بيناه من قوله.
فلنا الآن أدلة في ذلك:
منها: أن كل حلف - وإن كان بغير الله، جل جلاله - يسمى
يمينًا، لقوله: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) .
ولم تكن يمينه صلى الله عليه وسلم بالله جل وتعالى.
ومنها: أن المباح من فرج الأمة - الذي أباحه ملكها - حَرُم بلفظ
التحريم حتى تحلله الكفارة، كما حَرُمَ فرج الحرة المباح بعقد النكاح

(4/358)


بلفظ الظهار حتى تحلله الكفارة، إلا أن كفارة الظهار أغلظ من كفارة
التحريم في الأمة، لأن تلك مذكورة، وهذه مبهمة، فهي بردها إلى
* * *
قوله: (ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ) - لاتفاق اللفظين من
الأيمان - أحق من ردها إلى لفظ الظهار، أو لفظ الموعظة في
قوله: (ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) ، أو لفظ الحدود في قوله: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) ، بعد ذكر الكفارة في الظهار، فيكون على اللافظ بتحريم فرج أحل الله له من أمَة، أو حرة كفارة يمين، يخير فيها من إطعام، أو كسوة، أو تحرير رقبة.
وعلى اللافظ بالظهار عتق رقبة - لا غير - إن وجدها، وصيام
شهرين إن لم يجدها، وإطعام ستين مسكينًا إن لم يستطع صيامهما.
ليحمل كل على شرط الله - جل جلاله - فيه.

(4/359)


وليس لإسقاط الكفارة عن محرم الحرة - وإن لم يجعل قوله طلاقًا -
معنى مع قوله: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) ، وقوله على إثره: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) .
وهي مما أحل الله لنا، وإذا كانت مما أحل الله لنا فسواء كانت حرة، أو أمة لا يكون إيجاب الكفارة فيها إلا بالنص، لا بالقياس.
وليس لقول من جعل (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) ، ابتداء لا ردًّا على ما قبله - مع تكفير النبي صلى الله عليه وسلم، قوله هذا - معنى، إذ لو كان ابتداء كما زعم ما كفر النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه.

(4/360)


فقولنا - الآن - فى إبطال الكنايات مستقيم، لا نجعل التحريم في
الحرة طلاقًا، ولا في الأمة عتقًا، غير أنا نجعله مانعا للوطء
حتى يحلله قائله بالكفارة، التي فرضها الله لنا، وأحكام الزوجة
قائمة مع زوجها، وأحكام الأمة مع سيدها كما كان، غير الوطء
وحده.
ومنها: أن محرم غير الزوجة والأمة من المأكول والمشروب لا كفارة
عليه إذ حصلت الكفارة على محرم الزوجات والإماء في هذه
الآية، وقد بان ذلك في سورة المائدة، حتى نهى - سبحانه - عن
تحريم الطيبات ولم يفرض فيه تحلة كما فرضه في سورة التحريم.
لنزولها بعدها، وهي وإن نزلت بعدها فليس يتبين أنها ناسخة لما
قبلها، فتسقط بها الكفارة عن محرم الفروج المحللة الطيبة بالملك
والنكاح، إذ لو جاز أن يقال ذلك ما كان على من حرم زوجته
بالظهار - أيضا - كفارة، والإجماع محصل في وجوبها عليه فكان تحريم

(4/361)


الفروج مخصوصًا بها، وموضوعًا عن غيرها من المأكول والمشروب، وما أشبههما، والله أعلم كيف هو.
وما يزيد ما قلناه تأكيدًا من أن فرض تحلة الأيمان راجع على ما قبله
وليس بمبتدأ ذكره المغفرة - سبحانه - على إثر التحريم، ِ كما ذكره
على إثر التحريم بالظهار فقال - ها هنا -: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) ، وقال - هناك -:
(وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) .
فدل على أنه جعل الكفارة بعد المغفرة للقولين زيادة في ستر ما غفره
من تحريم المحلل ليمحو بها المنكر من لفظ "الظهار" و "التحريم " والله
أعلم.
قوله (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا)
إلى قوله: (وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)
ذكر فى هذا "السر" تفسيران:
أحدهما: أنه ما أسره النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حفصة من

(4/362)


تحريم جاريته مارية، فأخبرت به عائشة، وهذا يروى عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه، وعنهما.
والآخر: أنه أسر إليها بأن أباك وأباها يليان بعدي
وهذا يروى عن حبيب بن أبي ثابت.

(4/363)


فإن كان السر كما فسره حبيب فهو يثبت خلافتهما من القرآن
كما بينها (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ) .
لأبي بكر. وأن كان ما فسره عمر، رحمة الله عليه، ففي تلك لأبي بكر -
رضي الله عنه - كفاية من القرآن، مع ما فيه من السنن، ولعمر
باستخلاف أبي بكر إياه، مع ما ذكر فيه -أيضاً - من سنن قد
حواها كتابنا "المجرد في الرد على المخالفين بالأخبار".
* * *
قوله: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) .
دليل على أن إفشاء السر ذنب من مفشيه، لولا ذلك ما دُلتا - والله أعلم - على التوبة منه، وهما وإن كانتا أفشتا سر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعد ما أمرتا بالتحفظ به، وكتمانه، وطاعته فرض في حال وندب في

(4/364)


أخرى، لا يشاركه فيهما أحد من أمته، فمن دونه صلى الله عليه وسلم
أيضًا من المؤمنين إذا ائتمن إنسانًا بوضع سره عنده فخانه بإفشائه عليه
فهو لا محالة آثم " إذ لو لم يكن آثماً إلا بإبدائه لكفاه عما سواه.
* * *
قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ)
بعد ذكر التظاهر دليل واضح أن
المولى هو الناصر، لا المالك، إذ لو كان مالكًا لما شاركه فيه
جبريل، وصالح المؤمنين، فهو - الآن - رد على الرافضة فيما
يحملون عليه قول النبي صلى الله عليه زسلم: "من كنت مولاه فعلي
مولاه) ، أنها ولاية النصرة، لا ولاية التمليك، وهذا من

(4/365)


حماقات الرافضة التي لا تشكل على عالم، ولا جاهل، فلم ابتاع إذًا -
ليت شعري - الجواري والمماليك بالأثمان الغالية إن كان على زعمهم
مالكهم، ومالك ساداتهم،!.
بل لم أصدق حرائره إن كن بالملك جواريه،، أم لم فعله رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قبله الذي ورث الولاية عنه، واستحقا
به؟!.
إن هذا لأقبح مقال، وأجدره بطرق المحال، نعوذ بالله من الضلال.
ويقال: إن صالح المؤمنين هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خاصة.
ويقال: هو أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما.

(4/366)


وهو في القرآن موحد، وقد يجوز أن يكون اللفظ موحدًا والإشارة
إلى أكثر منه، على سعة اللسان، كما ذكرناه في غير موضع من
هذا الكتاب والله أعلم كيف هو.
قوله (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ)
إلي قوله (وَأَبْكَارًا) ، دليل على المرجئة فيما يزعمون أن الإيمان لا يزيد
ولا ينقص، إذ لا يشك أحد أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن لا
محالة مسلمات مؤمنات، ولم يكن كوافر، فهل تكن المفضلات عليهن بالإسلام والإيمان إن طلقن يكن خيرًا منهن إلا بزيادة في الإيمان والإسلام، وهو بين لمن أنصف من نفسه، ولم يكابر عقله.
وفي إدخال الثيب مع البكر - في موضع المدح - دليل على أنها
ممدوحة أيضاً، وإن كانت البكر أفضل منها بما بين على لسان النبي
صلى الله عليه وسلم في قوله لجابر

(4/367)


وغيره: " فهلاَّ تزوجت بكرًا، تعضها وتعضك، وتلاعبها وتلاعبك "

(4/368)


وفي قوله: (عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهًا، وأنتق أرحامًا، وأرضى باليسير ".
* * *
قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) ،

(4/369)


دليل على أن تعليم الأهلين، وتأديبهن فرض، وهو اسم جامع
للزوجة، والولد، والإخوة، والأخوات، وغيرهم، إذ لا يقدر
أحد يقي غيره النار - وهو لا يملكها - إلا بما يدله على ما يباعده منها
من العمل الصالح، واجتناب الطالح، وكذا جاء في التفسير -
أيضًا - أنه تعليمهن، وتأديبهن.
وقد أفرد الأهل - في سورة طه - بالأمر بالصلاة والاصطبار
عليها، وهو يؤكد ما قلناه، وقاله المفسرون قبلنا.
ويؤيده حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع.
وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول

(4/370)


عنهم ".
وأخاف أن يكون الفرض أغلب عليه من الندب، إذا ظاهر لفظ
القرآن أمر، والسؤال لا يكون في إهمال الندب، والله أعلم.
* * *
قوله: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) - لا محالة - خصوص " إذ ليس بواقع على جميع الناس، ولا على كل الحجارة.
ويقال: إنها حجارة خلقه الله من كبريت أحمر.

(4/371)


ولو لم يكن من الدليل على سعة اللسان إلا خروج النار - في اللفظ -
مخرج النكرات وهي معرفة، لنعتها بوقود الناس والحجارة، اللذين
لفظهما لفظ معرفة، وإن كان فيهما خصوص.
والإشارة إلى نار بعينها قد جرى ذكرها في كثير من آي القرآن.
والعرب تعرف المشار إليه في كلامها، وإن كان لفظه لفظ نَكِرٍ.
قال الأعشى:
قالت هريرة لما جئت زائرها
ويلي عليك وويلي منك يا رجل
فرفع "رجلا" وهي نكرة مفردة مناداة، لإشارة المرأة إليه.
* * *
قوله: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) .
قد دخل في ظاهر الكلام الصحابة - رضي الله عنهم -

(4/372)


بلا شك، واستوجبوا ما وعدهم الله - جل جلاله - في
الآية، فمن تنقص واحدًا منهم، أو أخرجه مما وعده الله، فقد رد على الله.
وأرجو أن يكون سائر المؤمنين داخلين معهم في ذلك، لأن من آمن
بعده فقد دخل في الاسم معه وإن لم يكن في الرؤية والفضيلة أسوة
الصحابة.
والباء في (وَبِأَيْمَانِهِمْ) هي - والله أعلم - في معنى عن، مثل
قوله في الفرقان: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) ، أي عنه،، إن شاء الله.
قال علقمة ابن عَبَدة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني
بصير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله
فليس له من ودهن نصيب.
أي عن النساء.

(4/373)


سورة الملك
قوله - تبارك وتعالى -: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) ، دليل على أن ترقب الموت أكبر مواعظ الله - جل
جلاله - وأجدر بالمعونة على العمل الصالح، إذ ترقبه مقصر للأمل.
ومهوّن مضض المصائب، وتجرع مرارات الفقر إذا ترك، وتزهد في
شهوات النفس إذا اتصل.
* * *
قوله: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ)
دليل على أن العرب
تسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، ألا ترى أن الله - جل
وتعالى - سمى الكواكب ها هنا بمصابيح وفي الفرقان، (سِرَاجًا)
في قوله - تبارك وتعالى -: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا) ، ويحتمل أن يكون السراج الشمس، وفي الصافات
" شهابًا " في قوله: (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) .

(4/374)


فإن كان جعلها أسماء كلها خواص فهو ما قلناه، وإن كان سماها
"شهابًا" و "مصابيح " بضوئها ونورها وشعاعها فهو أدل على سعة اللسان.
والله أعلم كيف هو.
* * *
قوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا)
ذكر (ذَلُولًا) - والله أعلم - على لفظ (اَلأرضَ) وإن كانت مؤنثة.
* * *
قوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) .
حجة في السعي والحركة في طلب الرزق والتماسه بالمكاسب في الأسفار، والحضر، لاتفاق المسلمين - جميعًا - على أن القاعد ليس بفرض عليه أن يقوم فيمشي في مناكب الأرض، فلا يكون المشي في مناكبها، والأكل من رزقة - إن شاء الله - إلا على هذا المعنى.
وقد يجوز أن يكون ذكّرهم نعمته عليهم بتذليل الأرض لهم.
وتمهيدها ليمشوا في مناكبها، ويأكلوا من رزقه فيها، والله أعلم كيف
هو.

(4/375)


قوله: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ)
إلى قوله (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) .
حجة على المعتزلة فيما يزعمون: أنه - جل بنفسه في السماء، وعلمه في الأرض.
* * *
قوله: (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا) .
زوال كل لبسة وريب، يرتابون به - أنه كما قلناه -
في السماء على العرش، وعلمه في الأرض محيط بها.
وقد لخصناه في كتاب "الرد على الباهلي ".
قوله (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) .
" إِلَى " - في هذا الموضع جار مجرى الصلات، والطير جمع لا محالة لقوله (وَيَقْبِضنَ)
وقوله (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ)
حجة على المعتزلة فى باب الاستطاعة؛ إذ قد أخبر بإمساكهن عن نفسه، ولم يقل يستمسكن

(4/376)


بالذي جعله في استطاعتهن من سلطان الطيران بالأجنحة والقبض والبسط
بهن، كما جعل للناس سلطان الحركات، والأعمال بالجوارح التي في
أدوات الأفعال، وهم لايستطيعونها إلا به سبحانه.
* * *
قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا) .
دليل على إقامة المجاز مقام الحقائق - في اللفظ، لأن الإصباح في الروحانيين، وقد

(4/377)


جعل للماء إصباحًا كما ترى، وفي جواز ذلك إنباء عن سعة اللسان.
ورد على المتنطعين من المنتسبين إلى التنسك - بغير علم - العادّين ما ضاهى
هذا النمط من كلام المخلوقين في عداد الكذب، وإلحاق الحرج بقائله.
والغور - والله أعلم - مكانه غائر، خرج على سعة اللسان.
والمعنى: أنة يبعد قعره، حتى لا تناله الدلاء، كذلك قال
المفسرون، يذكّر نِعَمه في الماء المعين الذي تناله أيدي الناس.
وأفواه مواشيهم وبهائمهم بلا مشقة، له الحمد والشكر، تبارك تعالى.

(4/379)


سورة ن
قوله - تعالى -: (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)
"الباء " - والله أعلم - مقحمة على سعة اللسان.
* * *
قوله: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)
دليل على أن من أكثر الأيمان هان على الرحمن، واتضعت مرتبته عند الناس.
قوله: (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
دليل على أن في كلام العرب
استعارة، ووضع الكلمهَ موضع غيرها، فالخرطوم للسباع أخبر به عن
الناس كما ترى، وقد يخبرون بما للناس عن السباع، قال زهير:

(4/380)


له لبد أظفاره لم تقلم
فأخبر عن مخاليب الأسد بالأظفار التي هي للناس، وكل هذا دليل
على سعة اللسان، فمن زاحم في لسانها قبل أن يعرف هذا من
كلامها - وسائر ما ذكرناه من لطيف إشارتها - ركب خطة عظيمة.
وأخاف أن يخوض النار خوضًا، وهو لا يعلم.
* * *
قوله: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ)
إلى قوله: (كَالصَّرِيمِ) .
دليل على أن الشيء يسمى باسم غيره، وإن لم يشبهه بجميع
صفاته، ألا ترى أن الله - جل جلاله - قد جمع بين جنة الدنيا التي هي
بستان وبين جنة الآخرة بالاسم، وهما لا يجتمعان في جميع صفاتهما.
وهذا رد على المعتزلة فيما يزعمون: أن الله - جل جلاله - لا يجوز أن
يوصف بشيء مما يقع اسمه موافقًا لاسم ما في المخلوق، وأغفلوا مثل
هذا وأشباهه، وما هو أعظم من هذا وهو الجمع بين أسمائه -
سبحانه - وأسماء خلقه مثل: "الملك " و"الجبار" و"العزيز" و"العظيم "
و"الكريم " وما ضاهاها، فلم يوجب ذلك أن يساوي خلقه في جميع
صفاته، ولا على خلقه أدط يساووه في جميع صفاتهم، وإذا كان

(4/381)


هذا غير ضيِّق في الاسم وجب ألاَّ يضيق فيما وقع عليه الاسم، لولا
الجهل المفرط والعناد الشديد.
وفي معاقبة تاركي الاستثناء - في هذه الآية - عظة شديدة، وتنبيه
لمن يرسل كلامه ولا يقيده بالاستثناء، الذي هو سبب النجاح
والظفر بالحاجة، ومخرج من المآثم، ومؤمّن درك العقوبة.
وقد زجر الله نبيه، صلى الله عليه وسلم، وأدبه، وعلمه أن لا
يقول لفعل شيء هو فاعله إلا مقرونًا بالاستثناء، وكذلك بسائر
الأنبياء فعل - إن شاء الله - وعاقبهم على تركه.
فقد روي أن سليمان بن داود - صلى الله عليه - قال: لأطوفنّ
الليلة على مائة امرأة، تحمل كل واحدة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله.
ولم يستثن، فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة، حملت بشق غلام. فقال
نبينا، صلى الله عليه وسلم: " لوكان استثنى، لكان كما قال ".

(4/382)


قوله: (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)
نظير قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا) ، إذ ليس للجنة فعل في الإصباح، وإنما هو على سعة اللسان.
* * *
قوله: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) .
دليل على أن الشيء المتقرب به إلى الله - جل الله -
فرضًا كان، أوندبًا إذا فرط فيه تلوفي فنفع، إذ تسبيح القوم بعد
وقته - الذي كان موضعه - نفعهم تداركه.
ودليل على أن المذنب الظالم لنفسه محتاج - مع ربه - إلى الاعتراف
بذنبه، وسوء صنيعه بلسانه، وإن كان نادمًا عليه بقلبه، وكذا كان
نبينا - صلى الله عليه - يقول في دعاء الاستفتاح: "ظلمت نفسي.
واعترفت بذنبى".

(4/383)


فكان هذا الاعتراف من تمام التوبة، وتحقيق الاستكانة، والتواضع.
، وكان بعض أهل العلم يزعم: أن التسبيح يوضع موضع
الاستثناء فيقع، ويحتج بهذه الآية، لأن القوم عيبوا بترك
الاستثناء، فنبههم عليه أوسطهم، بلفظ "التسبيح " كما ترى فقالوا
هم -: (قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا) ، ولم يقولوا: (إن شاء اللَّه) .
وهو - لعمري - محتمل لما قال، غير أني لا أعرف أحدًا من الفقهاء
ذكره، والله أعلم كيف هو.
فإن احتج محتج بأن الاستثناء ينفع بعد قطع المستثنى فيه، والأخذ في
غيره، فقد أغفل عندي، لأن تداركه في هذا الموضع مخرج - إن
شاء الله - من المأثم، لا أنه يرد شيئًا أخرجه المتكلم بلسانه فيصير غير
مقول إلا مع الاستثناء.

(4/384)


وقد أخبرنا بالحجة في هذا الفصل، وأخبرنا عن خلله في سورة
الكهف، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع.
* * *
قوله: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) .
حجة على المعتزلة والجهمية في باب "الجعل " الذي يعدونه
خلقًا في جميع الأماكن، فإن أعدوه هاهنا خلقًا كان أبلغ حجة عليهم.
إذ يعترفون - بألسنتهم - أنه لا يخلق المسلم كالمجرم، فمن خولف بينه
وبين غيره في الخلق لم يستطع أن يكون مثله في العقل، لأن الخلق
هاهنا واقع على ما وقع عليه الاسم، والاسم لم يقع على الصورة.
إنما وقع على ما سُمي الشخصان به مسلمًا ومجرمًا.
وإن أعدوه غير خلق - وهو القول في هذا الوضع - رجعوا عن
إعدادهم إياه خلقًا في كل موضع.
وفي قوله: (أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) ، دليل على أن لا
تكون الحجة إلا مقروءة مسطرة، ولا تكون مخترعة متوهمة، إذ لا
يكون المدروس إلا المسطور، لا المشبه بالمسطور، والله أعلم.
* * *
قوله: (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40)
حجة في تصحيح الكفالة،

(4/385)


وقد احتج بها الفقهاء قبلنا.
* * *
قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) .
يتأوّله الجهمية والمعتزلة، وكثير من أهل اللغة على الشدة، والأمر العظيم.
ونحن لا ندفع أن الساق - في اللغة - قد يقع على الشدة، غير أن
ما وقع على الشدة، لا يحيل أن يقع على غيرها، وهو عندنا في هذا
الموضع واقع على النور، كذلك روي عن رسول، الله صلى الله عليه
وسلم، أنه قال في قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) قال: " عن نور
عظيم فيخرون له سجدًا ".

(4/386)


فهذا هو القول، ولا يكون هذا النور إلا نور الله - جل وعز - لأن
السجود لا يصلح إلا له، ولا يدعى الخلق إلا إليه.
وقد ذكرناه بأتم من هذا في كتاب " الرد على الباهلي ".
وقد حقق ذلك قوله: (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)

(4/387)


أنهم دعوا إلى السجود له - في دار الدنيا فامتنعوا، بما سبق في قضائه عليهم أنهم لا يفعلونه، فلم يستطيعوه في الدنيا، ولا في الآخرة. وهذا حجة ثابتة عليهم في باب " الاستطاعة "، ألا ترى أنه قد أخبر - نصًّا - عنهم أنهم لا يستطيعون السجود، لما يدعون إليه في الآخرة، واستطاعه غيرهم ممن سبقت لهم منه الرحمة، فاستطاعوه في الدنيا والآخرة.
* * *
قوله: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) .
حجة عليهم خانقة، لأن الاستدراج - في اللغة - هو كالخديعة.
كأنه يفعل بهم الشيء الذي يحسبونه خيرًا، وهو في الحقيقة ضده.
فقد أخبر الله - جل جلاله، كما ترى - أنه سيستدرجهم من حيث
لا يعلمون، ويملي لهم، وقد حقق ذلك بقوله: (كَيْدِي مَتِينٌ) ، فهل بقي بعد هذا ارتياب، لو أنصفوا من أنفسهم.
وسلموا مقاليد معرفة هذا العدل إلى ربهم، وأقروا على أنفسهم بجهلهم.

(4/388)


قوله: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) .
دليل على أن مواعظ آخذ نيل الدنيا زائلة عن القلوب، غير نافعة للموعوظين، وقد بينا في سورة"عسق " فأغنى عن تلخيصه في هذا الموضع.
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ) .
دليل على أن في أحكام الله على عباده محيرًا، تنبو عنه النفوس، ولا تهش لها العقول، فيحتاج النبي صلى الله عليه وسلم، في جلالته، ومعرفته، بالله -
جل جلاله - أن يصبر عليها، ويحمل نفسه على تجرع مرارتها، ولا يستبطىء النصرعلى أعدائه، فتضيق نفسُه من ذلك.
وفي إمهال الله - جل جلاله - الظالمين المفسدين في الأرض.
المؤذين أنبياءه، وأولياءه، وهم مستوجبون للعقوبة في أول قدم منهم
دليل على أنهم قد ضرب لهم في قضائه مدة ينتهون إليها، لا يتقدمون
عنها، ولا يتأخرون، فهو يستدرج أعداءه بأذى أوليائه مدة،

(4/389)


لا يعجل الولي ذوق جزائه الحسنى، ولا العدو ذوق جزائه السيئ -
مقدمين كانا في الدنيا، أومؤخرين في الآخرة - وكل هذا من العدل
الذي لا يُعرف وجهه، وهو حجة على المعتزلة والقدرية.
وفي قوله - هاهنا في صاحب الحوت - وهو يونس عليه السلام -
: (لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) ،
وإضافة كل ذلك إلى نفسه سبحانه، وقوله - في موضع آخر -: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) .
أكبر الدليل أن لا يؤثر بعض ذلك في بعض، وإن لم يكن التسبيح الذي
كان به من أهله ممدوح به إلا من إنعام الله -أيضاً - عليه، من غير
مرية ولا شك، وما بقي بيننا وبين القوم إلا تبصر ما أثرناه عليهم على
نسق الآيات، ولن يستطيعوه بأنفسهم حتى يوفقهم له خالقهم.
وهذا - أيضا - حجة عليهم.

(4/390)