النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام سورة الحاقة
قوله - تعالى -: (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا
أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) .
وارد - والله أعلم - على الاختصار، كأنه ينبه على عظم ما في
الحاقة من الأهوال، والشدائد لا على نفس الاسم، ويعظه بما فيها
يومئذ.
* * *
قوله: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)
ولم يقل: (بالحاقة) كالدليل على ما قلناه، مما في الحاقة، من
القوارع التي تقرع القلوب بالأهوال العظيمة، وهو أعلم.
* * *
قوله: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ
عَاتِيَةٍ (6) .
أنث فعلها مع ثمود في أول الكلام مقدمه، وذكّر فعلها مؤخره،
كما ترى، فهو دليل على سعة اللسان، وذكر للريح - وهي مؤنثة -
صفتين، ذكَّر إحداهما على اللفظ وهي "الصرصر" وأنث الأخرى وهي
" العاتية " فأي شيء يلتمس بعد هذا، وكيف يضيق المبتدعون عن
هذا اللسان، حتى
(4/391)
يزعموا: أن الجعل ليس له إلا موضع واحد وهو
الخلق، وأن الاسم
إذا وقع على شيء وجب أن يشبهه من جميع جهاته، وإلا أنكروه
بالكلية.
وطلبوا له التأويلات المستنكرة.
ولو تدبروا الأمور بروية مستقيمة، وعقل ناقد، واستعانوا بالله
على
معرفتها، وتبرأوا من الحول والقوة لأنعشهم الله، وبصَّرهم جلي
ما
دق على أفهامهم، ووفقهم، وكشف لهم عما لبسته عليهم بدعتهم.
ودخولهم في الأشياء بأنفسهم، فخذلوا فيها.
* * *
قوله: (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ
أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) .
دليل على أن القوم واقع على الرجال والنساء، وإنما يقع على
الرجال دون
النساء إذا أراده الموقع، لا أنه لا يقع على النساء - بتة -
(4/392)
إذ لا يشك أحد أن عادًا لم تهلك بالريح
العاتية رجالهم دون نسائهم.
وتشبيههم صرعى بأعجاز النخل حجة في تشبيه الروحانيين بغيرهم.
وأن هذا التشبية لا يجوز أن يكون حجة - في القياس، وقد بيناه
في غير
موضع.
* * *
قوله: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي
الْجَارِيَةِ (11) .
أي حملنا من أنتم من نسلهم، ومن كانوا آباءكم، لأن الجارية -
وهي السفينة - لم يحُمل فيها محمد، صلى الله عليه وسلم،
وأصحابه الموجودون عند نزول الآية، وقد حقق ذلك.
* * *
قوله: (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً)
كما قال: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) ، فجعل بعضهم من بعض، الآباء من
الأبناء، والأبناء من الآباء، وكل ذلك على سعة اللسان.
(4/393)
(وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)
"الهاء" راجعة على التذكرة، وجعل للأذن
وعْيًا، والمعروف أنه للقلب، وللأذن السمع، فإما أن يكون بمعنى
شدة استماعها، وإما لأداء الأذن ما تسمع إلى القلب فيعيه
القلب، فأخبر
بالفعل عنها واعية، وإن كان نعتًا لها فهو فعلها، والله أعلم
كيف هو.
* * *
قوله: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ
ثَمَانِيَةٌ (17)
رد على من يزعم من المعتزلة: أن العرش ملكه فكيف يكون ملكه
محمولاً، أم كيف يكون الملائكة خارجين من الملك، فقد بان -
بغير إشكال - أنه
السرير.
* * *
قوله: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ
(18) .
وارد على ما في سجايا البشر من أنه إذا انفرد الأمر له من حيث
يراه الكافر والمؤمن لم يخف المستور، فأما عليه - جل جلاله -
فلا يخفى اليوم،
(4/394)
ولا ذلك اليوم، وهذا كقوله: (يَوْمَ هُمْ
بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ، وقد
بيناه في غير هذا الموضع.
* * *
قوله: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ
هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي
مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) .
دليل على أنه لا يدعو إلى قراءة كتابه إلا وقد محيت منه
سيئاته، وبقيت حسناته فقر بذلك عينه، فعرضه على من يقرؤه.
وهو قرير العين، إذ محال أن يعرض عليهم قراءة سيئاته.
وكتاب المغفورين لهم - بدليل الكتاب والسنة - على لونين:
فمن كان منهم مات تائبًا كانت سيئاته محولة - له - حسنات، فهو
يقرأ، ويعرض على القرأة ما أنجزه الله من تبديل السيئات له
حسنات
بقوله: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا
فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) .
ومن مات منهم غير تائب - والغفران له سابق من ربه - محيت منه.
والله أعلم لتستر عن أعين قرأته، وكذا معنى المغفرة في اللغة
هو ستر
الشيء، ومنه اشتُق المغفر، لأنه يستر الرأس ويقيه من وصول
السلاح
إليه.
(4/395)
ورُوي في الخبر أنه إذا كان عند آخر قنطرة
من قناطر جهنم الذي
منه يضع قدمه في الجنة عرضت سيئاته مفردة عليه في كتاب لا يطلع
عليها غيره، وفيها مكتوب "عبدي لم يمنعني من عرضها إلا حياء
منك.
فادخل الجنة برحمتي، فقد غفرتها لك "، فيدخل الجنة.
* * *
قوله: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ
يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا
حِسَابِيَهْ (26) .
دليل على أن الكافر يحاسب لقوله - في آخر الكلام -: (إِنَّهُ
كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) .
* * *
قوله: (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)
فيه - والله أعلم - إضمار
الموتة، وكذلك قال المفسرون: يا ليتها موتة لا حياة بعدها.
(4/396)
قوله: (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)
.
حجة في إضافة الشيء إلى نعته، ألا ترى أن اليقين صفة للحق،
لأنه في المعنى - والله أعلم - حق يقين، ومثله: (فَأَنْبَتْنَا
بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) ، الحصيد نعت للحب كما
ترى، ومثله كثير.
وفي هذا رد على من يُلحن المحدثين في روايتهم عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - أنه قال: "في الجنين غُرةُ عبدٍ، أو أمةٍ"،
مضافًا.
(4/397)
وأن قولهم ينبغي أن يكون: " في الجنين غُرة
عبدٌ، أو أمةٌ "مرفوعًا
مبدلاً خطأ، لا وجه له.
(4/398)
سورة المعارج
قوله - عز وجل -: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ
إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ) ،
دليل على أن الله - جل جلاله - بنفسه في السماء، لأن " الهاء "
في " إليه " راجعة على الله ذي المعارج، فلو كان معهم في الأرض
- كما يزعمون ويفترون به عليه - ما كان لذكر العروج إليه معنى،
فقد وضح - بلا إشكال - خطأ قولهم، لمن يلبسون عليه من الجهال،
وإن كان غير مشكل على أكثرهم بحمد الله ونعمته.
وفي قوله: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ
(24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)
هو - عندي - الزكاة المفروضة، على ما قال قتادة وغيره من
(4/399)
المفسرين، لأنه لو كان مناولة السائل
والمحروم لكان مجهولاً غير
معلوم، فلا معلوم إلا الزكاة، التي بيّن - جل جلاله - حدها
ووقتها على لسان نبيه، صلى الله عليه وسلم، في أنواع الأموال،
إذ
لا فرق بين ما بينه في كتابه، أو أظهره على لسان رسوله، صلى
الله عليه وسلم. إذ قد أخبر عنه أنه لا ينطق عن الهوى، وإنما
ينطق
فبوحي ينطق.
وليس حديث الشعبي، عن فاطمة بنت قيس: " إن في المال حقًّا
سوى الزكاة "
(4/400)
وتلاوته هذه الآية من جهة النقل بشيء
لإرسال الثقات
إياه، وإنما يصله أبو حمزة من رواته، وأشباهه ممن لا تقوم
بروايتهم حجة.
(4/401)
وحديث أبي هريرة " في الحمل على النجيبة،
وذبح السمينة، واللبن
يوم الورود "
(4/402)
أضعف من حديث أبي حمزة
فحصل من الآية أن الحق المعلوم هي الزكاة المفروضة على ما
بيناه.
وإذا كانت الزكاة.
وفيها أكبر الدليل على أن مال الأيتام لا زكاة فيها، ولا في
أموال
الأصاغر - غير الأيتام - الذين لم تجب عليهم الصلاة، ولم تجر
عليهم
الأقلام بالفرائض المحتومات، التي يستوجب لها تاركوها
العقوبات، ألا
(4/403)
تراه يقول سبحانه: (إِلَّا الْمُصَلِّينَ
(22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) .
فأضاف الأموال إليهم، وجعل الحق المعلوم من مدحهم، فمن لا يديم
إقامة الصلاة لم يكن في ماله حق معلوم وغير معلوم في حكم
الآية.
فإن قيل: أفلا تكون "الواو" في (والذين) قاطعة نعت المصلين،
ومستأنفة ذكر غيرهم؟.
قيل: لا يجوز ذلك، لأنا إن جعلنا الواو قاطعة لذكر المصلين
ومستأنفة لغيرهم، لزمنا أن نوجب الزكاة على أموال الكفار،
فنخرج
من قول أهل الصلاة.
والواو لا تكون للاستئناف في كل موضع، بل قد تكون ناسقة
ببعض الصفات على بعض ألا ترى أنك لو قلت: قدمت على زيد
مكرم الزوار، ومنزل الأضياف، وحامل الأثقال كانت الواو في
" منزل" و "حامل " ناسقتين بتمام نعت زيد المكرم الزوار على ما
تقدم من
ذكره، ولم تكن مستأنفة بهذا النعت لغيره، قال الله - تبارك
(4/404)
وتعالى -: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ
حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا
تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ
آبَائِكَ) .
كما يزعم هذا الزاعم أن لو كان (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ
حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)
ليس من نعت المصلين لكان (إلا المصلين الذين هم على صلاتهم
دائمون الذين في أموالهم حق معلوم) بلا واو، لأن الواو عنده
مستأنفة في كل
موضع، فهل يقول: إن قوله: (إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ) ،
استأنفت
الواو بإله غير إله إبراهيم، فكيف؟! ، أو ليس قد بان له - بغير
إشكال - أن الواو نسقت بإله الآباء على إله إبراهيم، وهو إله
واحد.
وأن الواو في هذا الباب يكون كونها وحذفها غير مغير من معنى
الصفات شيئًا، وكذلك نقول، والله أعلم كيف هو.
* * *
قوله: (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) .
دليل على أن الزكاة تجعل فى صنف
واحد وصنفين فتجزىء، وليس نُحتِّم أن، تجعل في الثمانية
(4/405)
الأصناف كلها وقد لخصنا ذلك في سورة براءة،
وسورة بني إسرائيل فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
* * *
قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا
عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) .
خصوص - وهو أعلم - لأن المسميات بالتحريم في سورة النساء حرَّم
فروجهن بالوطء المنسوب إلى الحلال، لا باسم النكاح، فلو جاز أن
تشكل
تحريم الأختين من ملك اليمين جاز أن تشكل العمة، والخالة،
(4/406)
والأخت من النسب، والرضاع منه، بل جاز أن
تشكل الأمهات.
والبنات ولا أعرف للاشتباه في هذا وجهًا، ولا الروايات فيها
إلا معلولة، أو أوهامًا من الراوين.
(4/407)
وقد ذكرناه في سورة النساء بأشرح من هذا،
فليس تحل ملك
اليمين إلا ماعدا المسميات هناك - فقط - دونهن.
و@ي قوله: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْعَادُونَ (7) .
دليل على تحريم الاستمناء، وأحسب الشافعي - رضي الله عنه أيضاً
- قد
ذكره في بعض كتبه.
وفيما ذكر - جل وتعالى - من هذه الخصال كلها من عند قوله:
(فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) .
إلى آخر السورة دليل على أن المؤمن لا يسلك مسلكهم، ولا يؤخذ
به طريقهم، ولا يرهقهم ذلك ولا هوان، إذ لو ساواهم المؤمنون -
في هذه النعوت أو في بعضها - ما كانت عقوبة لهم، وذلك بشارة
للمؤمنين كبيرة.
(4/408)
سورة نوح
قوله - تعالى، إخبارًا عن نوح عليه السلام -: (إِنَّ أَجَلَ
اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(4) .
حجة على المعتزلة والقدرية فيما يزعمون: أن المقتول ميت، بغير
أجله، فالأجل المؤجل من الموت لا تقدم فيه، ولا تأخر.
فإن قيل: فما معنى قول النبي، صلى الله عليه وسلم: " صلة الرحم
تزيد في الأجل "؟.
قيل: معناه تزيد في الأجل الذي أجل بغير صله الرحم، كأنّه قد
سبق في القضاء أن يوهب لواصلي الأرحام عُمُرًا يكون زيادة في
(4/409)
أعمارهم، كما سبق فيه أنه يهب آدم لداود -
عليهما السلام - أربعين
عامًا، من عمره، تكون زيادة في عمر داود، ونقصانًا من عمر
آدم عليهما السلام.
وهو مثل قوله، صلى الله عليه وسلم: " أرأيت ما نعمله من
الأعمال، أهو في أمر قد فرغ منه، " قيل له: يا رسول الله، ففيم
العمل؟! ، قال " اعملوا فكل ميسر لما خلق له ".
(4/410)
فكان القضاء بموهبة آدم لداود كان سابقًا
فتيسَّر لما خلق له فزيد في
عمره.
وقد رُوي: " أن الزنا ينقص من العمر"، فهو على ما ذكرناه.
(4/411)
من تقدم القضاء به، وهذا معنى قول الله -
عز وجل -: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ
مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ) ، فيزاد فيه فضيلة
الرحم، وينقص منه بالزنا، كما أداه الخبر، وبما شاء الله من
الأعمال، التي لم يؤدها الخبر، وكذا قال ابن عباس - رضي الله
عنه - حين سُئل عن قول: النبي، صلى الله عليه وسلم: " الدعاء
يرد القضاء " فقال: هو من القضاء أن يرد الدعاء القضاء ".
(4/412)
فكل هذه الأشياء منتظمة مؤتلفة، غير
مختلفهّ، لا تشكل على أفهام
العلماء بالله، وبأمره ومنهاه سبحانه.
فإن قيل: فما معنى قول النبى، صلى الله عليه وسلم، حين أخبر
عن ربه في قاتل النفس: " إن عبدي بادرني بنفسه، فحرمت عليه
الجنة "، وقوله - عليه السلام للسائل حين ألقى إليه
التمرة -: " خذها لو لم تأتها لأتتك ".
(4/413)
قيل: معناه أن الله - تبارك وتعالى - قضى
أجل الموت، وقضى
مبلغ الرزق، وحده، ومقداره، فيحرص قاتل النفس على ما
يتزين له من قتلها، فيرى أنها لا تموت إن لم يقتلها، وينسى
الأجل
المقدور فيقحم على السبب الذي جعل لموته، ويقحم طالب الرزق على
السبب الذي قضى له ويرى لشدة حرصه وجشعه أنه مدركه بسعيه.
فأعلمه النبي، صلى الله عليه وسلم، أن ليس إتيانه الذي ساق
إليه
التمرة، ولكن ساقها إليه ما سبق له من تقدير ربه، وجعله إيّاها
من
وهكذا قاتل نفسه قدّر أن يبادر أجله، ولم يعلم أن فعله بنفسه
ليس
هو الذي أماتها، وإنما أماتها أجله. مكتوب عليه من فعله بنفسه.
فحُرمت عليه الجنة، لتقديره الغلط، وظنه بما قام له من فرض
(4/414)
التزيين أنه يغلب ربه بتعجيل ما أخره،
ومعرفة كيفية العدل في هذا مغيب
عنا منفرد بعلمه ربنا.
* * *
قوله: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا
وَنَهَارًا (5) .
دليل على أن اسم القوم واقع على الرجال والنساء، وأنه لا يفرد
به الرجال إلا بإرادته ذلك وإضماره، لا أنه اسم لا يقع إلا على
الرجال فقط، لإحاطة أن نوحًا دعا الرجال والنساء إلى دينه، وقد
لخصناه في غير هذا الموضع.
(يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) .
ذكَّر المدرار - والله أعلم - لأن السماء في هذا الموضع اسم
للمطر، لا للسقف المرفوع، وذلك سائر في كلام العرب قال الشاعر:
إذا سقط السماء بأرض قوم
رعيناه وإن كانوا غضابا
(4/415)
فهو بين أن السماء اسم للمطر، وأحسبه سمىِ
به لأنه من السماء
ينزل، أو لأنه عالٍ ينزل إلى سافل، والله أعلم.
* * *
قوله: (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ) .
دليل على استنزال الرزق، وتكثير الأولاد بالعمل الصالح، لأن
نوحا وعد قومه على الاستغفار إمدادًا بالأموال والبنين.
وذكر أن رجلاً كان ميناثًا لا يلد له ذكور فلزم الاستغفار
متأولاً لهذه
الآية، محتسبًا ما وُعد أهل الاستغفار فيها، فأذكر بعد ذلك.
* * *
قوله: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا) .
كان بعض أهل النظر يذهب إلى أن القمر نور في إحداهن، وهي سماء
الدنيا، ليس في جميعهن، ويجعل ذلك حجة لقوله، حيث جعل الأيام
المعدودات.
أيام التشريق، فلم يلزمه أن يبيح النحر في جميعها، اعتمادًا
على أن
(4/416)
الله جعل القمر نوراً في بعض السموات - وهو
فى اللفظ فيهن -
لا فيها. وليس هو عندي كذلك، إذ ممكن أن لكوّن القمر يضيء
بوجهه الذي إلى السماء جميع أهل السموات لصفائهن، بقدرة الله -
تبارك وتعالى - فيكون نورًا في جميعهن ليس في إحداهن)
وليس في جعله الأيام المعدودات أيام التشريق ما يلزمه أن يبيح
النحر
فى جميعهن، لعدم جرى النحر وذكره في الأيام المعدودات، وإنما
أمر
الله - سبحانه - أن يذكّر فيها
فإن كان النحر الذي هو في يوم العاشر من ذي الحجة يجوز عند قوم
-
بضرب من التأويل في هذه الأيام - فليس ذلك لأن الأيام سميت
بالمعدودات حتى يلزمه أن يجيز، النحر في جميعها، ولكن أجازوه -
والله أعلم - لأنها بقايا أيام مناسك الحج لرمي الجمار
والبيتوتة بمنى.
فلما كان النحر منسكًا من مناسك الحج ففات وقته أجيز في الأيام
المنسوبة إليه، والمجعولة من تمام مناسكه.
ويحيى - عندنا - فى ذلك سنة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(4/417)
صحيحة الإسناد أنه أجاز الذبح في جميع أيام
التشريق، فاستغنينا بها
عن التأويل في إجازة ذلك.
فإن قال: لم يرد هذا الناظر ما ذهبت إليه بل تتحجج عليه، إنما
أراد إبطال قول من يُلزمه النحر ثلاثة أيام، في كل يوم نحرًا
جديدًا كان
ذلك أبعد من الصواب، لأن ابتداء النحر ليس هو في أول يوم من
الأيام
المعدودات حتى يلزمه أن يحدد النحر في كل يوم بالاسم، وإنما
ابتداؤه
في يوم الحج الأكبر، الذي ليس من الأيام المعدودات في شيء،
والأيام
(4/418)
المعدودات بعده قد فصل بينهما الليل بلا
شك.
فلا أعرف لذكره ذلك معنى في هذا الموضع، ولا أرى فيه فائدة -
بتة - أكثر من أنه تأوّل على (فِيهنَّ نورًا) ما يمكن - وغير
مستنكر -
أن يكون ضد قوله، وخلاف تأويله، والله يغفر لنا ولقائله.
* * *
قوله: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) .
أبلغ حجة في التوسع في الكلام، الذي يدل سياقه على معناه، وأرد
شيء لقول المتنطعين من المتنسكين، لإحاطة العلم بأنه - سبحانه
- لم ينبتنا من الأرض كهيئة النجم والشجر، وإنما أراد - وهو
أعلم - أنا من نسل من خلقه من التراب المجعول طينًا، والتراب
من الأرض، فكأنا نبتنا منه نباتًا.
فأين تحذلق المتحذلقين، وتضيّق المضيقين على المتوسعين في
ألفاظ
الكلام، المقتصرين فيه على الإشارات إلى المعاني المفهومة
بالألفاظ
المختصرة؟!
فإن قيل: أفلا يكون هذا ذريعة إلى إباحة القياس؟.
قيل: إن كان القياس عند مستعمليه فهم الشيء نفسه، باختصار
اللفظ في ذكره، فهذا - لعمري - ذريعة إليه، ومبيح القول به.
(4/419)
وإن كان القياس عند أهله حمل الشيء على
نظيره، وسالك شبه
المسكوت عنه مسلك المذكور باسمه فهذا بعيد منه، إذ لو كان هذا
مثله
وجب أن يكون جميع الروحانيين من الطير والهوام، وسائر الدبيب.
والحشرات نابتًا من الأرض كما كان آدم وذريته نابتين منه،
بمعنى أنهم
مخلوقون منها.
ولو فهم القوم عن دافعي القياس قولهم لعلموا أنهم لا ينكرون
فهم
خفي الخطاب بفصيح الكلام، وأن الذي يمتنعون منه إنما هو إنشاء
العلل
في الملفوظ، ليحملوا عليها غير الملفوظ.
فأمّا العلة الدالة عليها لفظ النص وسياقه، فلا يتمانعوها، إذ
هي
ودليل الشيء على نفسه، وفهم ما يدق على غير أهل اللسان بالجليل
عند
أهل اللسان.
وقد بينا في سورة آل عمران في فصل قوله: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى
عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) ، وهو
أكثر اشتباهًا من هذا الفصل.
وفي فصول كثيرة على نسق السور ما لو فهموه لأغناهم عن كثير من
توهمهم، وأنبأهم عما يشكل عليهم مما ليس بمشكل عند من شرح
الله صدره، ولم يكابر عقله.
وهم يضربون عن تبصره صفحًا اقتداء بمن لا يفهمون فهمه،
(4/420)
ولا يسلك في السبيل إلى إباحة القياس
مسلكهم، ويجوز عليه من السهو -
فيه - ما يجوز في المسائل الذي يوصلون ترك الاقتداء به دون
وضوح
الحجة لهم.
والنبات مصدر خارج على غير قياس المصادر المشاكلة له، إذ لو
كان
خارجًا على شكله لكان - والله أعلم - "إنباتًا"، لا"نباتًا".
ومن النحويين من قال: إنه خارج على ضمير " فعل " كأنه: والله
أنبتكم من الأرض فنبتم نباتًا، وهو أعلم سبحانه كيف هو.
* * *
قوله: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19)
لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
دليل على أن ما اختاره أبو عبيد - من إعمال الفعل المتلاصق
بالاسم.
وإن كان وجها حسنًا، فإعمال المتباعد عنه -أيضاً - حسن، وأن
ليس
واحد منهما مختارًا على صاحبه، إذ كلاهما وارد في القرآن.
ولا يجوز أن يكون بعض القرآن أفصح من بعض، لأنه كله كلام الله
-
(4/421)
جل وتعالى - ألا تراه ردّ السلوك إلى
الأرض، ولم يرده إلى البساط
المتلاصق به.
* * *
قوله: (لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا
وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) .
دليل على أن في كلام العرب تأكيدًا، كما ذكرناه في غير موضع من
هذا الكتاب، إذ ليس يخلو الود والسواع ويغوث ويعوق والنسر من
أن يكونوا تفسيرًا للآلهة المجملة، أو يكونوا غيرها.
فإن كانو تفسيرًا لها فقد أكد الكلام بـ (وَلَا تَذَرُنَّ)
الثاني. وإن
كانوا غيرها فقد أكد الكلام بها نفسها.
وإنما صرفها كلها، ولم يصرف يغوث، ويعوق، لأن هذين على
لفظ الأفعال المستقبلة، والأسماء الأعجمية.
قوله - إخبارًا عن دعاء نوح عليه السلام -: (وَلَا تَزِدِ
الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) .
حجة على المعتزلة والقدرية، من أجل أن نوحًا - عليه السلام -
لا يجوز عليه أن يدعو بالباطل، ولا الله - تبارك وتعالى -
يُسأل باطلاً، وقد سأله كما ترى أن يزيد الظالمين ضلالاً، فدل
على أن الكفر فيهم، والزائد بدعائه معا من،
(4/422)
عند ربه، ومعرفة كيفيته متفرد به - جل
جلاله - بعلمه.
* * *
قوله: (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا)
دليل على أن اسم الخطيئة واقع على الكفر، ومعناها أنها ضد
الصواب، فمن خالف
اللَّه - سبحانه وتعالى - في الإيمان الذي آمن به، أو واقع ما
نهى عنه
من كفر، أو معصية فهو مخطئ غير مصيب، وإنما تختلف عقوبة
الفعلين فقط.
فليس لتعلق المعتزلة في باب الوعيد باسم خطيئة ذكر في عقوبتها
خلود وجه، لو أنصفوا من أنفسهم، وتدبروا الأمور بحقائقها، ولو
ميزوا تناقض قولهم، وقلة النظر إلى ذلك، في باب العدل، لعلموا
أن جمع الخلود على من عصى الله - جل جلاله - عمره، ومن عصاه
يومه الذي مات فيه بغير توبة بعيد من العدل، الذي يدعون
معرفته.
فضلاً عمن كفر به عمره، فيجمع بينه وبين من آمن به دهره.
ولئن كان هذا - عندهم - غير ثالم في العدل، وثلم في جمع القضاء
والعقوبة على عبد، مع عظم ذاك، وخفة هذا، ألا يزول العجب ممن
يتعجب من مكابرتهم، أو فرط جنونهم - أكبر - نعوذ بالله من
(4/423)
الضلالة.
* * *
قوله: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ
الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ
يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا
(27) .
رد على المعتزلة والقدرية شديد لو تدبروه، وذلك أن نوحًا - مع
نبوته - جمع في دعائه بين إضلالهم للعباد، وإيلادهم الفجار
والكفار
فلم ينكره عليه ربه، ثم أنزله على نبينا، صلى الله عليه وسلم،
في
كتابه، كما ترى مدحًا للداعي، وذمَّا للمدعو عليه، وأخبر -
نصّا
بغير تفسير، ولا تأويل - أن المولود يلد فاجرًا كافرًا، قبل أن
يكتسبهما كبيرًا بسييء عمله.
فإن قيل: لم يرد أنهم يلدون كذلك قبل الاكتساب، إنما أراد أنهم
يبلغون فيكتسبون.
قيل: ليس هذا في التلاوة، ولو كان فيها أيضاً لما نفعهم، لأن
من
أخبر الله - جل جلاله - عنه بأنه يكتسب الفجور والكفر بعد
البلوغ.
لا يقدر على اجتنابهما، وقد سوّى في الخطاب بينه وبين من لم
يخبر ذلك
عنه، وأمره أن يجتنبهما، كما أمر غيره باجتنابهما.
فإن زعموا: أنه قادر على اجتنابهما إن شاء، أفليس
(4/424)
إذا اجتنبها لم يكن فاجرًا ولا فاسقًا؟.
فإن قال: نعم. ولابد من نعم، نسب ربه - جل جلاله - إلى
الكذب في قوله، والجهل بما يكون من فعل عبده، وكان ما يلحقه
من الكفر في مقالته أكثر مما أردناه من مناقضته، وكفينا مؤنة
الاشتغال
وإن قال: لا يقدر على اجتنابهما، بعد إخبار الله عنه بهما -
قيل له: أوَ خاطبه - مع ذلك - باجتناجهما، أو لم يخاطبه، وترك
سدى؟.
فإن قال: لم يخاطبه. كابر في قوله، وخرج من قول، متبعيه
ومخالفيه، وكافة البشر، ولن يقوله إن شاء الله.
وإن قال: بل خاطبه كما خاطب غيره، رجع إلى ما أنكره
واستخف ما استكبره، واستسهل ما استوعره، واستراح من
محالاته، وعرف ضلال نفسه، وكافة أصحابه، ولن يجد من ذلك
مخلصًا، وعلم أن نسبة الإضلال إلى من لا يقدر على حفظه نفسه
غير
مؤثر في قضائه، بشقوته وشقوة غيره، ولا ملحق بربه - سبحانه -
جورًا تصوره هو من عدل لم يحط بمعرفته، ولا جاز أن يكون شريكه
في كنه وصفه "
ومثل هذا المولود الذي قتله الخضر - صلى الله عليه - وإخبار
الكفر
(4/425)
عنه بلفظه، قبل بلوغ حينه واكتسابه بعمله،
وقد ذكرناه في
موضعه.
وقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " إن الله تبارك وتعالى
خلق يحى بن زكريا - عليه السلام - في بطن أمه مؤمنًا، وخلق
فرعون
في بطن أمه كافرًا ".
* * *
قوله: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ
بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) ،
بشارة لكل مؤمن ومؤمنة يكون إلى يوم القيامة، لأن نوحًا - عليه
السلام - نبي، ودعاؤه مستقيم.
(4/426)
سورة الجن
وقوله - جل جلاله -: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ
نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا
عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) .
حجة لمن يدعو في الحجج، إليه، إذ كان هاديًا إلى الرشد على
الحقيقة، فلا أعرف عذر من ينحرف فيها عنه، بعد مدح الله - جل
جلاله - الإنس
والجن بالدعاء، وذمه المنحرفين عنه، وقد لخصناه في كتابنا
المؤلف في
"شرح النصوص "فأغنى ذلك عن إعادته.
* * *
قوله: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ
صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) .
دليل على أن العرب تسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة، إذ
الجد في هذا الموضع العظمة والجلال، وفي غيره البخت وأبو الأب.
وفيه - أيضاً - رد على المعتزلة فيما يزعمون: أن الشيء إذا سمي
به
شيء لم يعد به إلى غيره، وقد لخصنا خطأه عليهم في غير موضع.
ومثله قوله: (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ
يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) ،
(4/427)
و"الأحد" اسم من أسماء الله تبارك وتعالى.
وفيه - أيضا - حجة على تسمية المخلوقين بأسماء الخالق عز وجل.
* * *
قوله: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ
حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)
دليل على سعه اللسان، لأن الحرس جمع، وجعل الشديد في نعته، على
لفظ
الواحد، ولم يقل: أشدادً
فأما أن يكون - والله أعلم - على اللفظ، لأن لفظ الحرس
لفظ الواحد، وإن كان جمعًا، وأما أن يكون رُدَّ على الحارس، أي
كل
حارس من الحرس شديد.
وكذلك (شُهُبًا) دليل على السعة، لأن الشهب جمع شهاب.
والشهاب النار، لقوله - إخبارًا عن موسى -: (إِذْ قَالَ مُوسَى
لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ
أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ) .
فأما أن يكون شبه لنا ضوء الكواكب وحرها بالنار، إذ جعله اسمًا
لها
وللنار معًا، وأيهما كان فالسعهّ فيه بينة.
(4/428)
قوله: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ
أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ
رَشَدًا (10) ، حجة على المعتزلة والقدرية، لإخبار الله - جل
جلاله -
عن الجن بإرادته الشر بمن في الأرض، كإرادته بهم الرشد، ولم
ينكره من قولهم، ولا نسبهم إلى الكذب عليه فيه، بل أنزله في
جملة
القرآن العجب على رسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ
يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) .
هو - لامحالة - عصيان الكفر، لا عصيان الذنب، فمن شبه عليه من
المعتزلة، وتعلق بظاهر لفظ العصيان نبهه عليه قوله: (حَتَّى
إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ
نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) .
لأن المسلم - عاصيًا كان أو غير عاص - لم ينسب قط رسول الله،
صلى الله عليه وسلم إلى أنه لا ناصر له، ولا كثرة عدد تغلب
بهم، وإنما كان ينسبه إلى ذلك الكفار، ويرون أنه مغلوب لقلة
عدده، وأنصاره، وكانوا يعصونه.
ولا يطيعونه، ويتربصون به ريب المنون، وكانت معصيتهم للرسول
معصية لله - تبارك وتعالى - فأنزل الله هذه الآية فيهم، وأخبر
أنهم إذا
(4/429)
أفضوا إلى الخلود في النار عرفوا أنهم
كانوا هم الأقلين عددًا وأنصارًا.
إلا الرسول، صلى الله عليه وسلم، وهو بين.
* * *
قوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ
أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) .
رد على من يزعم من الشيعة أن الإمام يعلم الغيب وهذا من كبار
حماقاتهم، وقد أخبر الله - جل جلاله - أنه لا يظهر عليه إلا من
ارتضاه رسولاً، والإمام ليس برسول.
مع أن دعوتهم لهذا الإمام - نفسه، أيضاً - حماقة، لأن إمامًا
لم يسعد به من قد مات من منتظريه، لا يسعد به مدركوه، وليس
بشيء
إذ كل إمام أقامه الله - جل جلاله - في زمان من الأزمنة سعد به
الجميع، لا بعضهم دون بعض، إلا من شق عصاه.
والإمام المستور ليس بإمام، إنما الإمام الظاهر الآمر الناهي،
قوي
في أمره ونهيه أم ضَعُف.
* * *
قوله: (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ رَصَدًا (27) ،
(4/430)
أشد ما يكون من الاختصار، إذ نصب " الرصد "
لابد من اختصار ضمير يكون فيه، كأنه - والله أعلم - " فإنه
يسلك من بين يديه ومن خلفه
ملائكة يكونون رصدًا له " فينصب على ضمير خبر يكونون، أو يكون
نصبه حالاً، كأنه ملائكة رصدًا له.
وقد يجوز - والله أعلم - أن يكون المراد به أن الله جل جلاله
يسلك
من بين يديه ومن خلفه بالرصد من الملائكة، كما تقول: سلك الرجل
الطريق، وسلك به غيره، فيكون نصب الرصد بانتزاع الخافض.
(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ) .
فعلمه بذلك - سبحانه - ليس بمحدث في وقت تبليغ رسالة الرسل، بل
علمه قديم أزلي بالأشياء كلها، قبل كونها بتكوينه لها، وهو في
هذا على سعه
اللسان، أي يراهم مبلغين للرسالة، سامعين لربهم، مطيعين.
(4/431)
سورة المزمل
قوله - تعالى -: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا
يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)
دليل على أن من لم يؤمن بالقيامة فهو كافر.
* * *
وقوله: (يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا)
يحتمل أن يجعلهم شيبًا بطوله.
ويحتمل بأهواله وأفزاعه، وأنواع شره المستطير، التي تشيب
النواصي، على المبالغة، والله أعلم -
(4/432)
قوله: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ)
ذكر السماء - والله أعلم - على اللفظ
و (به) قد يحتمل أن تكون الباء فيه بمعنى "في " كما قال:
(إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) ، والله أعلم.
* * *
قوله: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ)
يجوز أن تكون " الهاء "
(4/433)
راجعة على الموعظة، أو على السورة، وإن
كانت كلها مواعظ.
ويجوز أن تكون لتأنيث التذكرة نفسها، كما تقول: هذه جارية.
والله أعلم.
قوله: فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ)
ليس بناقض لما ذكرناه فى سورة بعد
سورة من تبع مشيئة العباد لمشيئة الله جل جلاله.
* * *
قوله: (إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا)
أي إلى طاعة يتقرب بها إلى ربه.
فيأمن بها من أفزاع القيامة، وأهوالها، والله أعلم
* * *
قوله: (هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا)
دخلت (هُوَ) في الكلام، ولم تغير الإعراب، لأن ما تقدمه من
الفعل أقوى منها، فعمل فى الإعراب دون هو، ومثله في القرآن
موجود، مثل قوله: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) ،
وأشباهه، مع أني أحسب
(4/434)
أنهم قد استعملوها أيضاً.
(4/435)
سورة المدثر
* * *
قوله: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ
يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ
يَسِيرٍ (10) .
بشارة للمؤمنين كبيرة، إذ لا يكون على الكافرين غير يسير، إلا
وهو على المؤمنين يسير، والله أعلم.
ولو كان عليهما - معًا - عسيرًا ما كان للمؤمنين عليهم فضل،
ولا
كان في الكلام فائدة.
فمن يسره تقصير طوله - في أعينهم - واستظلالهم في ظل عرش
ربهم يوم لا ظل إلاّ ظلُّه، إذ ليس يخلو مؤمن - إن شاء الله -
من فيض
عينيه إذا ذكر الله خاليًا، وربما كان ذلك في عمره ما لا يحصي
عدده غير
ربه، فهذا أعم ما في السبع الخصال التي ذكرها رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - أن الله - تبارك وتعالى - يظل أصحابها في
ظله، يوم لا ظل إلا ظله.
فيسعد بها - إن شاء الله - جميعهم، ويشارك كثير منهم في الستة
(4/436)
المذكورة معه من وفقه له ربه.
والسبع: " إمام عادل، وشاب نشأ بعبادة الله، ورجل ذكر اللَّه
خاليًا ففاضت عيناه، ورجل كان قلبه معلقًا بالمسجد إذا خرج منه
حتى
يعود إليه، ورجل دعته امرأة ذات نسب وجمال فقال: إني أخاف
الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تصدق به
يمينه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا ".
* * *
قوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) .
من المواضع التي يحسن فيها حذف هاء المفعول، لأنه لم يقل: "
خلقته ".
* * *
قوله: (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا
إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ
الْبَشَرِ (25) .
قد أزال كل لبسة عن أن القرآن كلام الله، غير مخلوق.
واللفظ به غير مخلوق، لتواعده الوليد بن المغيرة فيما نسبه إلى
قول
(4/437)
البشر، وإذا لم يكن قول البشر، فلا يكون
إلا قول الخالق، وإن تلاه
البشر -أيضاً - فلا يكون قوله، بل يكون قول من بدأ به، وهو
اللَّه جل جلاله.
فلم يصر بتلاوة جبريل على رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
مخلوقًا، وجبريل مخلوق، ولا بتلاوة رسول الله، صلى الله عليه
وسلم، على أصحابه مخلوقاً، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم.
مخلوق، ولا بتلاوة التالين إلى يوم القيامة، وإن كان التالون
له مخلوقينْ.
وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " إن أفواهكم طرق
للقرآن، فطهروها بالسواك " والأفواه مخلوقة، وهي تؤديه،
(4/438)
فلا يصير مخلوقا.
وقد قال: طرق للقرآن - كما ترى - ولم يقل: لحكاية القرآن.
فالقرآن لا يكون لفظًا للعباد، ولا حكاية لهم عن غيرهم أبدًا
لأنه
ذلك الكلام بعينه الذي تكلم الله جل جلاله، كيف احتمل، وكيف
أدي.
ولا أدري كيف اشتبه هذا على اللفظية، والقائلين بالحكاية، ولو
أنعموا الرويّة باتقاء وخشية، ونصحوا أنفسهم،
(4/439)
ولم يعتبوا عقولهم لعلموا: أن كل كلام
ابتدأ به متكلم، ولفظ به
لافظ، لا يقدر أحد غيره أن يتكلم به، ولا يلفظ به أبدًا، لأن
الذي
يحتمله من نطق غيره، ويؤديه إلى الأسماع هو كلام المبتدي به -
لا
محالة - لا كلامه، إذ محال أن يكون كلام واحد لمتكَلِّمَين،
ولفظ
واحد للافظين في حال واحدة، ولا في حالين -أيضاً - إن ظن
ظان أنه يمكن في حالين، لأنه لا يكون إلا حالاً واحدة، إذ حال
الكلام واحد بالسبق إليه.
والحال الثانية: تكون للأداء والإخبار، وكلاهما غير كلام
المبتدي
. وكلام المبتدي واحد حين ابتدأ، وحين أخبر عنه وأدي.
فإن كان هذا الإخبار والأداء عن كلام غير القرآن من كلام
البشر.
كان -أيضاً - كلام ذلك البشر، لأن كلام المخبر والمؤدي إخبار
وأداء وإن كان الأداء والإخبار عن القرآن، الذي هو
(4/440)
كلام الخالق فهو كلامه، وهو غير مخلوق، وإن
كان يؤديه مخلوق، ويخبر
به مخلوق، فتفهمه وإن دق عليك، فإنك تجده كذلك، إن شاء الله.
* * *
قوله: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ)
حجة على المعتزلة والقدرية، في الإضلال والمشيئة - منه - فيه
الذين لا يؤمنون بهما بتة، ويخالفون نص القرآن فيه، ويتابعون
أهل الكفر فيه.
فقد روي أن عمر بن الخطاب كان يخطب، وعنده جاثليق (1) يترجم
له، فلما قال عمر: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي
له، نفض الجاثليق جبته كهيئة المنكر لقول عمر.
فقال عمر: ما يقول، فسكتوا عنه ثلاث مرات، كل ذلك ينفض
جبته.
فقال عمر: ما يقول، قالوا: يا أمير المؤمنين: يزعم أن الله لا
يضل أحدًا.
فقال عمر: كذبت يا عدو الله، بل الله خلقك، وهوأضلك، ثم
يدخلك النار - إن شاء الله - أما والله لولا ولث (2) عقد لك
لضربت
__________
(1) الجاثليق: فسره ابن عباس أنه عظيم عظماء النصارى. انظر
كتاب القدر لابن وهب ص (114) .
(2) في المخطوط " ولت، والتصحيح من المصادر التي أوردت الأثر،
مثل كتاب السنة (2/ 423) ، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/
659) . والولث: بقية العهد -
(4/441)
عنقك. إن الله - تبارك وتعالى - خلق أهل
الجنة وما هم عاملون.
وخلق أهل النار وما هم عاملون، فقال: هؤلاء لهذه، وهؤلاء لهذه.
فتفرق الناس وهم لا يختلفون في القدر.
* * *
وقوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) .
دليل على أن الإسفار هو يعقب طلوعه إذا وضح، وأن الإسفار بصلاة
الصبح يكون حينئذ، لا تركه إلى امتحاق النجوم، مضاهاة
النصرانية، كما روي عن
(4/442)
رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وأن قوله: " أسفروا بصلاة الصبح، فإنه أعظم للأجر ".
هو هذا الإسفار، وهكذا قال أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -
حين سُئل عن الإسفار ماهو، فقال: هو أن يصبح فلا يشك في
طلوعه.
(4/443)
وهو كما قال، لأنه يبدو عند ابتداء طلوعه
خفيًّا لا يتبينه كل أحد.
فإذا وضح عرفه الجميع.
* * *
قوله: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ
يَتَأَخَّرَ (37) .
وكل ما في القرآن من مثل هذه المشيئة، فهي على ما بينته في غير
موضع، أن مشيئتهم تبع لمشيئة الله - جل وتعالى - لقوله سبحانه:
(وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) .
فمن زعم: أن مشيئته غالبة مشيئة الله فقد كفر بيقين، فصح أن
مشيئة العباد تبع لمشيئة الله - عز وجل - إذ لا ثالث له
* * *
قوله: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا
أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40)
عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) .
يقال - في التفسير -: إنهم ولدان المسلمين فى هذا الموضع، لا
يحاسبون، لأنهم لم يعملوا معصية ارتهنوا بها.
(4/444)
فإن قيل: فإذا كان هكذا، فما معنى قول
النبي، صلى الله عليه
وسلم، حين قالت له عائشة - في طفل أتي به ليصلي عليه -:
عصفور من عصافير الجنة لم يعمل خطيئة. فقال: " أو
غير ذلك يا عائشة، إن الله - تبارك وتعالى - خلق للجنة أهلا.
بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم، مدمن عليهم، لايزاد فيهم ولا
ينقص منهم إلى يوم القيامة".
(4/445)
قيل: القرآن - والله أعلم - ذكرهم على
الظاهر الأعم، والنبي.
صلى الله عليه وسلم، أجاب عائشة على الباطن الأخص، حين أشارت
إلى طفل بعينه، وشهدت له بالجنة، فأعلمها - عليه السلام - أن
الإشارة إلى شخص بعينه لا تجوز، لأنه لا يدرى كيف كتب عند
الله، وفي أي القبضتين خرج.
وهذا كما يقال: المقتول في سبيل الله شهيد، فإذا قُتل شخص
بعينه
لم يجز أن يشهد عليه بالشهادة، كما قال عمر بن الخطاب - رضي
اللَّه عنه - في حديث أبي العجفاء السلمي: والأخرى تقولونها في
مغازيكم، قتل فلان شهيدًا، ولعله قد أوقر ركابه ذهبًا وفضة -
يريد الغلول - فلا تقولوا: فلان شهيد، ولكن قولوا كما قال رسول
الله، صلى الله عليه وسلم: " من قتل في سبيل الله، فهو شهيد".
(4/446)
وكحديث مِدْعم مولى رسول الله، صلى الله
عليه وسلم، حين
جاءه سهم غرب في بعض مغازي رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
فقتله. فقال الناس: هنيئًا له الجنة. فقال النبي، صلى الله
عليه
وسلم: " كلا إن الشملة التي أخذها من الغنائم - لم تصبها
المقاسم - لتشتعل عليه نارًا " فلما سمعوا ذلك جاء رجل بشراك.
وشراكين إلى رسول الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(4/447)
" شراك من نار، وشراكان من نار".
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن قتل مِدْعم، وإن كان ظاهره شهادة
فباطنها غيرها، للغلول الذي تقدّمه، فلم يصر من أجلة في جملة
الشهداء. والأخبار في هذا المعنى كثيرة.
* * *
قوله: (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ
نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) .
دليل على توكيد حرمة المسكين، حين قرن تضييعه بترك الصلاة،
وخوض
الخائضين، وتكذيب بيوم الدين، وكما قال - تبارك وتعالى، في
سورة الحاقة -: (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ
(34) .
وكقوله: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى
طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) .
فقد أكده - سبحانه - هذا التأكيد، والناس في غفلة عنه، فقصارهم
(4/448)
تضييع حقوقهم، والتهاون بإطعامهم، ونسيانهم
بالكلية، وربما.
زبروهم (1) ، وطردوهم، وانتهروهم، فماذا عسى يكون
وزن هؤلاء عند ربهم؟! ، وما يكون حالهم في معادهم؟!.
* * *
قوله: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) .
دليل على أن هناك شفعاء يشفعون غير محمد، صلى الله عليه وسلم،
فيشفعون، إذ لا يزيل منفعة الشفاعة عن قوم، إلا وهناك من ينتفع
بها.
* * *
قوله: (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا
أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ
الْمَغْفِرَةِ (56) .
مثل قوله: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا
تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ، نظير ما مضى من
أشباهه، في أن مشيئة العبد تبع لمشيئة الله، وأن مشيئته - جل
وتعالى - متقدمة على مشيئته، لولا ذلك ما استطاع العبد فعل
شيء، ولا كانت مشيئة في شيء.
__________
(1) الزبر: هو الزجر والمنع. انظر لسان العرب (6/ 11) ، ومختار
الصحاح ص (203) ، مادة " زبر ".
(4/449)
سورة القيامة
* * *
قوله: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ
يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) .
رد على من يقول بالدهر، وقدم العالم، ومن يقول: إن المعتاد من
مجاري الليل والنهار والشمس والقمر لا يتغير، وقد أخبر الله -
تعالى، نصاً، كما ترى - أن الشمس والقمر يجمع بينهما، وفي
الجمع بينهما ذهاب المعتاد من
مجاريهما، فإن كان مؤمنًا بالقرآن، فالقرآن قد نقض قوله، وإن
لم
يؤمن تلي عليه، فإن قبله ورجع عن قوله، وأقر بالقيامة، وقيام
الساعة، وإلا استُتيب فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
ولا يقر على هذا القول، لأنه ليس من أهل الجزية، فتؤخذ منه
ويخلى
بينه وبين مذهبه، واعتقاده.
* * *
قوله: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) .
من العلماء بالقرآن من قال: يريد بل للإنسان من نفسه عليها
بصيرة. كأنه يذهب به إلى الاعتبار بما يراه منها، ومن أحوالها،
كما قال: وَفِئ أَنفُسِكم أَفَلاَ تبصرون) ، يقول أهل،
التفسير:
(4/450)
إنه سبيل الغائط والبول، يجعلهما الإنسان
عبرة يعتبر بها، فيعلم
أنه مدبر مملوك، وأن مالكه الذي أدخل الطعام والشراب في جحر
واحد، وأخرجهما من جحرين مختلفين، مميزًا بينهما، مبقيًا
نفعهما، هو القادر على كل شيء، وهو الرب الذي يفعل ما يشاء.
فيوطن نفسه على طاعته، ويجتنب مساخطه، فإنه في قبضته لا يقدر
على الفرار منه.
وقد يجوز أن يكون على ظاهره، فيكون بل الإنسان بنفسه بصير
فتدخل فيه "الهاء" على التأكيد والمبالغة، كما قالوا: رجل
علامة
ونسابة، ويكون (عَلى) بمعنى"الباء" كما بدل العرب حروف
الصفات بعضها من بعض، والله أعلم كيف هو.
* * *
قوله: (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) .
أي ولو أسبل ستوره عند
(4/451)
خلوته بالمعاصي.
وأهل اليمن يسمون الستور المعاذير، واحدها معذار.
* * *
قوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) .
دليل إلى الإشارة إلى المعنى، وإن لم يجر لفظه في أول الكلام،
لأن "الهاء" في (به) راجعة على القرآن، ولم يذكر قبلها،
فاستغنى بما دل عليه آخر
الكلام، إذ يقول: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)
.
وهو من المواضع التي يبين آخر اللفظ فيه عن أوله، وهو مع ذلك
من أدل دليل على أن القرآن المسموع من لسان العباد كلام الله
غير مخلوق، ولم يصر لفظًا ولا حكاية، وأنه القرآن المحض الذي
تكلم الله به، وليس للعباد به
لفظ أصلاً، إنما حملوه حملاً، وأدوه أداء، كما يحمله الكاتب
بكتابته
من غير أن يكون له فيه ممازجة لفظ، وهو بين لا ينبغي أن يدق
على
فهم من أقر بأنه كلام الله غير مخلوق، فيشك في اللفظ والحكاية.
لأنه ليس للتالي، ولا للكاتب، ولا للحافظ، ولا للسامع صنع في
اللفظ، ولا في الحكاية، ومن شك فيهما وقدر أن له لفظًا فيه إذا
أدّاه، ويصير بأدائه حكاية فقد رجع عن قوله: إنه كلام الله غير
(4/452)
مخلوق، واستوى مع من يقول بخلقه، وكفر
كفرًا صراحًا لأن اللفظ
لا يكون من لافظين في حال واحدة، ولا الكلام يكون حكاية
ومحكيًّا من
واحد في حال واحدة، إذ لابد من عدم أحدهما بوجود الآخر.
فلما كان المتكلم لا يقدر على ابتداء كلام قد سبق إليه، فيكون
هو -
أيضًا - مبتدئًا به، كما كان الأول مبتدئًا به، فتلا القرآن
الذي
ابتدأ الله بالتكلم به كان الكلام لله وحده، وكان هو الموجود.
وكلام التالي الذي يظن الظان أنه كلامه عدمًا بيقين، إذ لا
يجوز أن
يكون كلام الله عدمًا - وهو كلامه - بأداء مخلوق بالله، والآية
ليست
بكلام، وقد أيَّس الله الناس جميعًا أن يأتوا بمثل هذا القرآن،
فقال:
(4/453)
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ
وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
ظَهِيرًا (88) .
أفليس من يظن على أن يقدر على اللفظ بالقرآن فقد زعم أنه من
أتى بمثله وحده من غير تظاهر، وكذب الله -
جل جلاله - في قوله، واستحق القتل.
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ
(23) .
نص بلا تأويل أنها تنظر إلى ربها نظر العين - لا محالة - ومن
قال: إنها منتظرة تنتظر الثواب فليس بخلاف، لما دل عليه القرآن
إذ لا ثواب أجل من انتظاره رؤية الرب - سبحانه - لأنه غايه
الطالبين، وأمتع تمتع المتمتعين، ولولا خذلان الجهمية ما
أنكروا ذلك، ولو لم يكن فيه قرآن يتلى، ولا
أخبار عن الرسول التي تروى برواية الصادقين الأعلام المشهورين.
(4/454)
وهو موضوع بشرحه في ردنا على الباهلي،
والدوري وابن أبي يعقوب.
* * *
قوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ
يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) .
الظن فيها بمعنى العلم، وهو كلمة من الأضداد، قد ذكرناها في
غير هذا
الموضع، وهكذا (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) .
أي وعلم، والله أعلم.
* * *
قوله: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) .
يؤيد أن ترك الصلاة كفر.
إذ قرنه - جل جلاله - مع تكذيب الرسل، وترك تصديقهم.
* * *
قوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) .
فيه خصوص، إذ آدم، وحواء، وعيسى - عليهم السلام - خارجون
من الإمناء.
(4/455)
سورة هل أتى
قوله - تعالى -: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ
الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) .
يذهب ناس إلى أن (هَل) بمعنى"قد" أتى على الإنسان.
وليس هو عندي كذلك، بل هو - والله أعلم - على ظاهره
(هَل) إذ محال أن يأتي الحين على الشيء العدم، إنما يأتي الحين
على
الشيء الموجود، فكأنه قال - والله أعلم -: هل أتى على الإنسان
منذ خلق فصار إنسانًا حين من الدهر لم يذكر في جملة المخلوقين،
أو لم
يذكر بخير، أو بشر، أو بتهديد، أو بتبشير، أو بتعديد النعم
عليه، أو بتخويف مما وراءه من أهوال القيامة، والنار، وما أشبه
ذلك ولا أدري كيف اضطر من جعله بمعنى "قد" فخرج عن
(4/456)
العرف، مع بيانه ووضوحه، وقلة تشابهه.
* * *
قوله: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ
نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) حجة على
الجهمية شديدة خانقة، ألا تراه كيف أخبر
عن تجعيله الأمشاج المبتلى سميعًا بصيرًا، ووصفه - به - بما
وصف به نفسه من السمع والبصر، إذ يقول: (وَكَانَ اللَّهُ
سَمِيعًا بَصِيرًا) .
فسوى بين الصفتين، ولم يخالف بين اللفظين فأخبر
ذلك، لأن الله سميع بسمع وبصر غير مخلوقين، يعرف صفتهما
من نفسه كهيئة ما هما له سبحانه.
(4/457)
ولا نقول نحن بكيفيتهما من غير أن
نتجاهلهما، فنزيل عنهما
الحقائق ونأخذ بهما طريق المجازات، فندخل في التعطيل، لأن من
نفى عن الله جل جلاله - حقائق وصفه، أو حقائق فعله فقد عطله.
ومن عطله، فقد كفر وحل دمه. وإن لم يثبت وأخذ بالسميع
والبصير إلى معنى الإدراك خوفًا من التشبيه لم يسلم من التشبيه
بل
تعجل الخسران في ترك لفظين نازلين في كتابه، ورد اسمين له -
سبحانه - إلى اسم واحد، وهو "المدرك ".
وكيف يسلم من التشبيه؟! أليس للمخلوق - أيضاً - إدراك لأشياء.
وإن لم يدرك جميعها، كما يدرك الله جميعها؟! ، كما له أن علمًا
بأشياء، وإن لم يحس بجميعها، كما يعلم الله جميعها فهو يسمى
عالمًا
وعليمًا، ويسمى الله عالمًا وعليمًا، فلا يكون تشبيهًا كما
يظنه
الجهمي المخدوع، لأن علم المخلوق الذي سُمي به عالمًا وعليمًا
مستفاد
متعلم، وعلمه - سبحانه - أزلي صفة من صفاته غير متعلم ولا
مستفاد، كذلك سمع المخلوق مصنوع فان، وبصره مثله يفنيهما الله
إذا شاء، ثم يعيدهما إذا أحياه كما ابتدأهما بقدرته، وكذلك
بصره.
(4/458)
وسمع الله وبصره كائنان أزليتان فيه بلا
إحداث محدث، ولا صنع
صانع، حقيقيا غير مجازين، معروفان عند نفسه، معروف حقيقتهما
عنده، معروف عندنا حقيقتهما بغير معنى الإدراك، بل بمعنى
السمع والبصر، مسكوت عن كيفيتهما، كهيئة ما هما عنده سبحانه.
* * *
قوله: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ
وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) .
دليل على أن المؤمن وإن دخل النار بعصيانه وجرمه وأحرق في
النار بقدر جنايته لم يغل، ولم يجعل في السلاسل حتى يعتقه الله
برحمته، ويذر الكافرين في
السلاسل، والأغلال، والسعير الذي يستعر عليهم، كلما نَضَّجَ له
جلدًا استعر على الجلد الذي يبدل له، خالدًا مخلدًا.
* * *
وقوله: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) .
دليل على أن "الباء" إذا دخلت مقحمة - في الكلمة على سعة
اللسان - لم يغير من المعنى شيئًا.
(4/459)
وفيه حجة لمن يقول: إن قوله: (وَامْسَحُوا
بِرُءُوسِكُمْ) .
لم يغير من مسح جميع الرأس شيئًا، كما قال في التيمم:
(فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ) فلم يغير من مسح جميع الوجه
شيئًا.
وإن قول القائل: إن دخولها في مسح الرأس للتبعيض إغفال.
(4/460)
قوله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى
حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)
دليل على أن إطعام الأسير يؤجر المطعم عليه، وهو مرضي أخلاقه،
وإن كان الأسير كافرًا لأن الله - تبارك وتعالى - قرنه بإطعام
اليتيم والمسكين كما
ترى، وجعله مدحًا لفاعله، فليس لأحد أن يتنطع فيقول: لا أطعمه.
ولا أحسن إليه، لأنه معونة على كفره، لأن الله - تبارك وتعالى
- قد
أعد له في الآخرة عذابًا على خلوده في النار، إن مات على كفره،
ما
هو كاف من إجاعته في الدنيا، ألا ترى إلى الخليل إبراهيم - صلى
اللَّه عليه - حين دعا للبلد الحرام فقال: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ
مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ) .
قال الرب - عز وجل -: (وَمَنْ كَفَرَ)
(4/461)
أي ومن كفر فأنا أرزقهم.
* * *
وقوله: (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا
قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ) الآية.
دليل على أن من خافه في الدنيا، وأخذ أهبته من طاعة ربه،
أمَّنَه من
أهواله، ووقاه أفزاعه، وكذا قال في سورة النمل: (مَنْ جَاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ
يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) .
ويقال: إن الحسنة - في هذا الموضع - لا إله إلا الله، والسيئة
الشرك.
(4/462)
قوله: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً
وَحَرِيرًا (12) ، إلى قوله: (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا
تَذْلِيلًا (14)
قال بعض المفسرين: بما صبروا عن الدنيا جملة، فدخل
فيه كل مصيبة شديدة ورزية، بفقد مال وموت حميم، وقريب، ونسيب
وصديق، ومضض الفقر والأوجاع والأمراض، وخوف العدو، وجور
السلطان، وأشباه ذلك، إذا جرع غصصه، وصبر على آلامه، وسلم
فيها لحكم ربه، وعلم أنه منظور له بذلك، ومجعول كفارات لذنوبه.
ورافع له في درجاته، ومسلوك به سبيل أنبيائه ورسله، وأوليائه.
والصالحين من عباده، هان عليه - عندها - ما هو فيه، وأيقن
بثواب
ربه، ولم يكره بالازدياد منه.
وقد قال رسول الله صلى، الله عليه وسلم: " ليودنَّ أهل العافية
في
الدنيا - يوم القيامة - أن جلودهم قرضت بالمقاريض، بما يرون من
ثواب أهل البلاء".
(4/463)
وقال: "إن الله - تبارك وتعالى - ليتعاهد
وليه بالبلاء كما تتعاهد الوالدة ولدها بالخير".
وسئل - عليه السلام - أي الناس أشد بلاء، قال: "الأنبياء، ثم
الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه " أو قال: " على قدر
دينه، فإن كان صلب الدين على حسب ذلك، وإن كان رخو الدين
فعلى حسب ذلك، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي في الأسواق
وما عليه خطيئة".
(4/464)
وقال: " إذا أحب الله قومًا ابتلاهم، فمن
رضي فله الرضى، ومن
سخط فله السخط ". مع أشباه لهذا.
وإذا كان كذلك استوجب - برحمته - ما وعده في هذه الآية، إلى
* * *
قوله: (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا) .
يقال في (وَذُلِّلَتْ) : أدنيت حتى يتناولوها بالقطف قيامًا،
(4/465)
وقعودًا، ونيامًا، وعلى كل حال، تتطامن لهم
الشجرة حتى
يتناولوا ثمارها بلا تعب، ولا نصب، فإذا فرغوا من تناولها
استعلت
فعادت كما كانت، هذه سبيلهم أبد الأبد.
وقد قيل في: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا) : إنهم صبروا عن
الشهوات. والشهوات - أيضا - من الدنيا في تركها مضض.
وشدة على النفوس، فهو موافق لما قلناه.
* * *
قوله: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ
وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ
قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) .
يقال: قدروها على مقدار ريهم.
وفيه دليل على أنهم عوضوا من تركهم إدارة المحّرم
(4/466)
عليهم من خمر الدنيا في أقداح الزجاج،
بأواني الفضة، التي هي في
صفاء الفضة، وبياض المرجان من خمر الجنة، التي (لَا
يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)
أي لا تنزف عقولهم بالسكر، ولا أموالهم التي كانوا يجعلونها -
في الدنيا - أثمانًا للأعناب المعصورة، ومنقودة فيها نفسها،
وشربه فيما أعان على شربها، ومجعوله في الملك، وأثمان
المغنيات، وأجدادهن، وعطاياهن، وعطايا غيرهن ممن يجري مجراهن
في ملاذ النفوس، وشهوات القلب.
فصار الداخلون إلى الجنة في أمن من كل ذلك، يغرف الخمر من.
أنهار الجنة الجارية فيها بلا ثمن، والاستمتاع بما يحبرون في
رياضها.
بلا حذر، ولا عطية، رغدًا كيف شاءوا، ومتى شاءوا، كما قال -
تبارك وتعالى -: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) .
(4/467)
قال: السماع في الجنة.
وقد قيل في قوله: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي
شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) .
إنه ضرب الأوتار تصوّت بالتسبيح والتقديس بنغم لم يسمع الخلائق
بمثلها.
وقيل في الشغل: إنه افتضاض العذارى.
وهو عندي هذا وهذا، يلهون تارة بالسماع وأصوات الأوتار، وتارة
بافتضاض العذارى، وكذا قال - في سورة أخرى: - (يَتَنَازَعُونَ
فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ
مَكْنُونٌ (24) .
أي بكأس الخمر - والله أعلم - فلا يكون فيها لغو أهل الدنيا
وأباطيلهم.
(4/468)
وهَدْر القول الذي يؤثم قائله ومستمعه،
والنظر إلى المدير، وتمني
المعصية معه، فعرضوا في الإدارة عليهم في الجنة - لما تجنبوا
في الدنيا
مثله - بغلمان يديرونها، ويطوفون بها عليهم، من غير إثم يلحقهم
بالنظر إليهم، لما نزع من صدورهم من الغل في تمني الباطل.
واستغنائهم بالحور العين، وافتضاض الأبكار.
* * *
قوله: (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا
زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)
.
دليل على أن لذع الألسنة في الخمر مدح لها، ولذة لشاربها،
ولذلك مدحها بمزاج الزنجبيل على ما في سجايا البشر، غير أنه
حرمها بجميع صفاتها في الدنيا، فعوض - سبحانه - من تركها في
الدنيا بما هو فيها لذة من اللذع، وأزال عنها السكر الذي هو
فيها عيب.
يقال: إنها تمزج لأصحاب اليمين، ويشربها المقربون صرفًا.
ويقال: السلسبيل، هو الحديد الجرية. ولها مزاج آخر
(4/469)
وهو الكافور، ولكنه - والله أعلم - ذكر
الكافور لطيبه، لا لمرارته.
إذ ليس في الجنة مرارة تكدر شيئًا من أطعمتها، وأشربتها.
ذكر الله هذه الكأس في أول السورة للأبرار يشربونها هكذا
ممزوجة
لهم بالكافور، جزاء على وفائهم بالنذر، وخوفهم يومًا كان شره
مستطيرًا.
* * *
قوله: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا
رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) .
يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون وصفهم بصفاء الألوان.
ورطوبة الأبدان، وذهاب الأدناس، كما يوصف اللؤلؤ الرطب
المكنون عن الغبار وغيره، ليبقى صفاؤه، ولا يذهب ماؤه
فيكون الولدان - في حسبان الناظر إليهم - أبدًا كذلك.
والوجه الآخر: أن يكون وصفهم بالنفاسة، وغلاء الأثمان لو كانوا
في الدنيا، كما يغلوا النفيس فيكثر ثمنه، ويعز أشباهه.
* * *
وقوله: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) .
حجة على المعتزلة
(4/470)
والقدرية، لنفي المشيئة عنهم قبل مشيئته،
وكذلك: (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ) .
(4/471)
سورة المرسلات
قوله - عز وجل -: (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ
نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) .
هو - والله أعلم - إهلاكهم بعقوبة الذنب، لا إهلاك الموت الذي
يسوى
كل فيه، والدليل عليه قوله: (كَذَلِكَ نَفْعَلُ
بِالْمُجْرِمِينَ (18) .
فجعله خصوصًا لهم، لأن إهلاك الموت الذي ليس بعقوبة الذنب،
يشترك فيه النبيون والمرسلون، والملائكة المقربون، والصالحون
والطالحون، وهو
قوله: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) .
وهو - والله أعلم - تقريع للآخرين أن لايعملوا بأعمالهم، ولا
يسيروا بسيرتهم، فيستوجبوا مثل إهلاكهم.
* * *
قوله: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20)
خطاب لمن كان في زمن
الوحي إلى يوم القيامة، وإن كان من قبلهم -أيضاً - مخلوقًا من
هذا
الماء، إلا آدم، وحواء، وعيسى - عليهم السلام - فإنهم لم
يخلقوا.
وهو خصوص خارج عن العموم.
* * *
قوله: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
وتكراره، دليل على إجازة التأكيد
(4/472)
في الكلام، ورد على من نفاه.
* * *
قوله: (انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)
على لفظ الأمر، كأنه -
والله أعلم - يقال لهم: ذلك يوم القيامة.
وهو حجة في إجازة الضمير، واختصار الكلام، والتحري بفهم
سامعه عن إظهاره.
* * *
قوله: (انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا
ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31)
يقال إن الكفار إذا اشتد عليهم لهب النيران ذكروا الظل
الذي كانوا يستظلون به في الدنيا، فرفعت لهم أصنامهم
التي كانوا يعبدونها، وجعل لها ظل في أعينهم، فقيل لهم:
انطلقوا
إلى ظل أصنامكم فاستظلوا بها، فإذا مروا إليه كان حر ذلك الظل
أشد عليهم مما فروا منه، فلم يقهم من اللهب.
والظل واللهب مذكران، فقوله: (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ
كَالْقَصْرِ (32) .
كأنه رجع إلى ذكر النار التي هي مؤنثة، أو إلى جهنم.
(4/473)
قوله: (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35)
يحتمل - والله أعلم - أن لا ينطقوا بالاعتذار، لأنه لا يؤذن
لهم فيه، وإن نطقوا بغيره.
وقد قيل: إنه مقام في اليوم، ووقت لا ينطقون فيه بشيء، ثم
ينطقون في مقام آخر بالتسايل والخصومات.
* * *
قوله: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) .
أي بالقرآن، والله أعلم.
وهو - إن شاء الله - كقوله: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ
الْحَدِيثِ) ،
(4/474)
سماه حديثًا، لأنه يتلى فيه الأنباء
والقصص، والمواعظ، وغير ذلك، لا أنه أحدثه إحداث الخلق، كما
يزعم الجهلة من الجهمية.
ولا يعلمون أن من لم يكن له عهد بشيء، ثم عهده كان ذلك المعهود
حديثًا عنده، لا أنه كان عدمًا فخلق.
والعجب أنهم لا يقولون، ولا يؤمنون بشيء يخرج عن فطن
العقول، ثم يزعمون أن القرآن كلام مخلوق، فكيف يأمر وينهى
الكلام بكلام، إنما يأمر وينهى المتكلم بكلامه، افعل ولا تفعل.
ولكن من شاء أن يجنن نفسه جننها، نعوذ بالله من العمى بعد
البصيرة.
والذي يزيل الريب عن الحديث أنه لا يكون بمعنى المخلوق
والمصنوع في كل موضع.
قوله عز وجل في سورة الجاثية -: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ
اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) ، فسمى نفسه وآياته - معًا
- حديثًا.
فهل بقي بعد هذا لهم مقال يتعلقون به، - ويلهم - لو تبصروا،
ولم يجهلوا، أو يتجاهلوا.
(4/475)
سورة النبأ
قوله عز وجل: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)
رد على المعتزلة والقدرية، لأنه مجمع الأشياء فدخل فيه الخير
والشر، والإيمان والكفر، وصارت متقدمة على الأفعال فخرجت
الأفعال عليها، ولم
يمكن المحيص عنها.
(4/476)
|