تأويل مشكل القرآن باب الحذف والاختصار
من ذلك: أن تحذف المضاف وتقيم المضاف إليه مقامه وتجعل الفعل
له.
كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها
[يوسف: 82] أي سل أهلها.
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: 93] أي حبّه.
والْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [البقرة: 197] أي وقت الحج.
وكقوله: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ
الْمَماتِ-[الإسراء: 75] أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات.
وقوله سبحانه: لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ
وَمَساجِدُ [الحج: 40] فالصلوات لا تهدّم، وإنما أراد بيوت
الصلوات.
قال المفسرون: الصوامع للصّابئين، والبيع للنّصارى، والصلوات:
كنائس اليهود، والمساجد للمسلمين.
وقوله: مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد: 13] أي
أخرجك أهلها.
وقوله: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: 33] أي مكركم
في الليل والنهار.
وقوله: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [التوبة: 19] ؟ أي:
أجعلتم صاحب سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، كمن آمن؟!
ويكون يريد:
أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن بالله وجهاده؟ كما قال:
وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [البقرة: 177] .
قال الهذلي «1» :
__________
(1) البيت من الوافر، وهو للمتنخل الهذلي في شرح أشعار
الهذليين ص 1268، ولسان العرب (حنت) ، وتاج العروس (حنت) ،
(غطط) ، (قطط) ، وللهذلي في تهذيب اللغة 7/ 133، ولسان العرب
(خرص) ، (قطط) ، وبلا نسبة في لسان العرب (نجد) ، وكتاب
الصناعتين ص 136، والمخصص 1/ 66، 10/ 90.
(1/133)
يمشّي بيننا حانوت خمر ... من الخرس
الصّراصرة القطاط
أراد صاحب حانوت خمر، فأقام الحانوت مقامه.
وكذلك قول أبي ذؤيب في صفة الخمر»
:
توصّل بالرّكبان حينا وتولف ال ... جوار ويغشيها الأمان ربابها
اللفظ للخمر والمعنى للخمّار، أي يتوصّل الخمار بالركب ليسير
معهم ويأمن بهم. وكذلك قوله «2» :
أتوها بربح حاولته فأصبحت ... تكفّت قد حلّت وساغ شرابها
يريد: أتوا صاحبها بربح، فأقامها مقامه.
وقال كثير يذكر الأظعان «3» :
حزيت لي بحزم فيدة تحدى ... كاليهوديّ من نطاة الرّقال
أراد كنخل اليهوديّ من خيبر، فأقامه مقامها.
ومثله قوله تعالى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) [العلق: 17] أي:
أهله.
وقال الشاعر «4» :
لهم مجلس صهب السبال أذلّة ... سواسية أحرارها وعبيدها
ومن ذلك أن توقع الفعل على شيئين وهو لأحدهما، وتضمر للآخر
فعله.
كقوله سبحانه: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17)
بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) [الواقعة:
18] .
__________
(1) البيت من الطويل، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار
الهذليين ص 46، ولسان العرب (ربب) ، (وصل) ، ومقاييس اللغة 2/
383، والتنبيه والإيضاح 1/ 80، وتاج العروس (ربب) ، (ألف) ،
(وصل) ، وتهذيب اللغة 15/ 180، وبلا نسبة في المخصص 3/ 78.
(2) البيت من الطويل، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار
الهذليين ص 48، ولسان العرب (كفت) ، وتاج العروس (كفت) .
(3) البيت من الخفيف، وهو لكثير عزة في ديوانه ص 396، وشرح
المفصل 3/ 25، ولسان العرب (رضب) ، و (رقل) ، (نطا) ، وتاج
العروس (رقل) ، (نطا) ، ومعجم البلدان (فيد) ، وصفة جزيرة
العرب للهمداني 1/ 226.
(4) البيت من الطويل، وهو لذي الرمة في ديوانه ص 1235، ولسان
العرب (سوا) ، وأساس البلاغة (جلس) ، وبلا نسبة في لسان العرب
(جلس) ، وتاج العروس (جلس) ، (سوا) .
(1/134)
ثم قال: وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ
(20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ
(22) [الواقعة:
20، 21] والفاكهة واللحم والحور العين لا يطاف بها، وإنما
أراد: ويؤتون بلحم طير.
ومثله قوله: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ [يونس:
71] أي: وادعوا شركاءكم، وكذلك هو في مصحف عبد الله.
قال الشاعر «1» :
تراه كأنّ الله يجدع أنفه ... وعينيه إن مولاه ثاب له وفر
أي يجدع أنفه، ويفقأ عينيه.
وأنشد الفراء «2» :
علفتها تبنا وماء باردا ... حتى شتت همّالة عيناها
أي علفتها تبنا، وسقيتها ماء باردا.
وقال آخر «3» :
إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزجّجن الحواجب والعيونا
__________
(1) البيت من الطويل، وهو لخالد بن الطيفان في الحيوان 6/ 40،
والمؤتلف والمختلف ص 149، وله أو للزبرقان بن بدر في الأشباه
والنظائر 2/ 108، والدرر 6/ 81، والمقاصد النحوية 4/ 171، وبلا
نسبة في أمالي المرتضى 2/ 259، 375، والإنصاف 2/ 515، والخصائص
2/ 431، وكتاب الصناعتين ص 181، ولسان العرب (جدع) ، ومجالس
ثعلب 2/ 464، وهمع الهوامع 2/ 130.
(2) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (زجج) ، (قلد) ، (علف) ،
والأشباه والنظائر 2/ 108، 7/ 233، وأمالي المرتضى 2/ 259،
والإنصاف 2/ 612، وأوضح المسالك 2/ 245، والخصائص 2/ 431،
والدرر 6/ 79، وشرح الأشموني 1/ 226، وشرح التصريح 1/ 346،
وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 1147، وشرح شذور الذهب ص 312،
وشرح شواهد المغني 1/ 58، 2/ 929، وشرح ابن عقيل ص 305، ومغني
اللبيب 2/ 632، والمقاصد النحوية 3/ 101، وهمع الهوامع 2/ 130،
وتاج العروس (علف) . [.....]
(3) البيت من الوافر، وهو للراعي النميري في ديوانه ص 269،
والدرر 3/ 158، وشرح شواهد المغني 2/ 775، ولسان العرب (زجج) ،
والمقاصد النحوية 3/ 91، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر/ 212،
7/ 233، والإنصاف 2/ 610، وأوضح المسالك 2/ 432، وتذكرة النحاة
ص 617، وحاشية يس 1/ 432، والخصائص 2/ 432، والدرر 6/ 80، وشرح
الأشموني 1/ 226، وشرح التصريح 1/ 346، وشرح شذور الذهب ص 313،
وشرح ابن عقيل ص 504، وشرح عمدة الحافظ ص 635، وكتاب الصناعتين
ص 182، ولسان العرب (رغب) ، ومغني اللبيب 1/ 357، وهمع الهوامع
1/ 222، 2/ 130.
(1/135)
والعيون لا تزجّج، وإنما أراد: وزجّجن
الحواجب، وكحّلن العيون. وقال الآخر «1» :
ورأيت زوجك في الوغى ... متقلّدا سيفا ورمحا
أي متقلدا سيفا، وحاملا رمحا.
ومن ذلك: أن يأتي بالكلام مبنيّا على أنّ له جوابا، فيحذف
الجواب اختصارا لعلم المخاطب به.
كقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ
أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى
بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً [الرعد: 31] أراد: لكان هذا
القرآن، فحذف.
وكذلك قوله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) [النور:
20] أراد: لعذّبكم فحذف.
قال الشاعر «2» :
فأقسم لو شيء أتانا رسوله ... سواك، ولكن لم نجد لك مدفعا
أي لرددناه.
وقال الله عز وجلّ: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ
وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) [آل عمران: 113] . فذكر أمّة واحدة
ولم يذكر بعدها أخرى.
وسواء تأتي للمعادلة بين اثنين فما زاد.
وقال: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً
[الزمر: 9] ولم يذكر ضدّ هذا، لأن
__________
(1) يروى صدر البيت بلفظ:
يا ليت زوجك قد غدا والبيت من مجزوء الكامل، وهو بلا نسبة في
الأشباه والنظائر 2/ 108، 6/ 238، وأمالي المرتضى 1/ 54،
والإنصاف 2/ 612، وخزانة الأدب 2/ 231، 3/ 142، 9/ 142،
والخصائص 2/ 431، وشرح شواهد الإيضاح ص 182، وشرح المفصل 2/
50، ولسان العرب (رغب) ، (زجج) ، (مسح) ، (قلد) ، (جدع) ،
(جمع) ، (هدى) ، والمقتضب 2/ 51، ومعاني القرآن للفراء 1/ 121،
ومجاز القرآن 2/ 68، ومجمع البيان 1/ 111، وتفسير البحر المحيط
2/ 464، 6/ 485، وتفسير الطبري 1/ 47، والكامل 1/ 218، 402.
(2) البيت من الطويل، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص 424،
وخزانة الأدب 10/ 84، 85، وبلا نسبة في خزانة الأدب 4/ 144،
10/ 117، وشرح المفصل 9/ 7، 94، وكتاب الصناعتين ص 182، ولسان
العرب (وحد) .
(1/136)
في قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] دليلا على ما أراد.
وقال الشاعر «1» :
أراك فما أدري أهمّ هممته ... وذو الهمّ قدما خاشع متضائل
ولم يأت بالأمر الآخر.
وقال أبو ذؤيب «2» :
عصيت إليها القلب إنّي لأمره ... سميع، فما أدري أرشد طلابها؟
أراد: أرشد هو أم غيّ؟ فحذف.
ومن ذلك: حذف الكلمة والكلمتين.
كقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ
أَكَفَرْتُمْ. [آل عمران: 106] والمعنى فيقال لهم:
أكفرتم؟ وقوله: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا
رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا
[السجدة: 12] والمعنى يقولون: ربنا أبصرنا.
وقوله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ
الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا [البقرة:
127] .
والمعنى يقولان: ربنا تقبّل منا.
وقال ذو الرّمة يصف حميرا «3» :
فلمّا لبسن اللّيل أو حين نصّبت ... له من خذا آذانها وهو جانح
أراد أو حين أقبل الليل نصّبت. وقال «4» :
__________
(1) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة في كتاب الصناعتين ص 137.
(2) يروى صدر البيت بلفظ:
دعاني إليها القلب لأني لأمره والبيت من الطويل، وهو لأبي ذؤيب
الهذلي في تخليص الشواهد ص 140، وخزانة الأدب 11/ 251، والدرر
6/ 102، وشرح أشعار الهذليين 1/ 43، وشرح عمدة الحافظ ص 655،
وشرح شواهد المغني ص 26، 142، 2/ 672، ومغني اللبيب ص 13، وبلا
نسبة في شرح الأشموني 2/ 371، وهمع الهوامع 2/ 132.
(3) البيت من الطويل، وهو لذي الرمة في ديوانه ص 897، وأدب
الكاتب ص 214، والخصائص 2/ 365، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص
582.
(4) البيت بتمامه:
لعرفانها والعهد ناء وقد بدا ... لذي نهية أن لا إلى أم سالم
والبيت من الطويل، وهو لذي الرمة في ديوانه ص 767، وكتاب
الصناعتين ص 137.
(1/137)
وقد بدا لذي نهية أن لا إلى أمّ سالم أراد:
أن لا سبيل إلى أم سالم.
وقال الله عز وجل: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الإسراء:
23] . أي ووصّى بالوالدين.
وقال النّمر بن تولب «1» :
فإنّ المنبّه من يخشها ... فسوف تصادفه أينما
أراد أينما ذهب.
وقال الله عز وجل: كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي
يَوْمٍ عاصِفٍ [إبراهيم: 18] أراد: في يوم عاصف الرّيح، فحذف،
لأنّ ذكر الرّيح قد تقدّم، فكان فيه دليل.
وقال تعالى: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا
فِي السَّماءِ [العنكبوت: 22] . أراد:
ولا من في السماء بمعجز.
وقال تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ
مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ
وَقَوْمِهِ [النمل: 12] . أراد في تسع آيات إلى هذه الآية، أي
معها. ثم قال: إِلى فِرْعَوْنَ ولم يقل مرسلا ولا مبعوثا، لأن
ذلك معروف.
ومثله: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً [الأعراف: 73] . أي:
أرسلنا.
قال الشاعر «2» :
رأتني بحبليها فصدّت مخافة ... وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق
أراد مقبلا بحبليها.
وقال عز وجل: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا
وُجُوهَكُمْ [الإسراء: 7] . أراد:
__________
(1) البيت من المتقارب، وهو للنمر بن تولب في ديوانه ص 378،
وأدب الكاتب ص 214، وشرح التصريح 2/ 252، والمعاني الكبير ص
1264، والمقاصد النحوية 1/ 575، ومختارات ابن الشجري 1/ 16،
والاقتضاب ص 363، وبلا نسبة في رصف المباني ص 72، 125.
(2) يروى البيت بلفظ:
رأتني بنسعيها فردّت مخافتي ... إلى الصدر روعاء الفؤاد فروق
والبيت من الطويل، وهو لحميد بن ثور في ديوانه ص 35، ولسان
العرب (نسع) ، (فرق) ، (با) ، وتهذيب اللغة 15/ 614، وتاج
العروس (نسع) ، (فرق) ، وبلا نسبة في لسان العرب (نطح) ، (حبل)
، وتهذيب اللغة 5/ 80، وأساس البلاغة (روع) .
(1/138)
يعثناهم ليسوءوا وجوهكم، فحذفها، لأنه قال
قبل: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ
عِباداً لَنا [الإسراء: 5] . فاكتفى بالأول من الثاني، إذ كان
يدل عليه.
وكذلك قوله: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق: 17]
. فاكتفى بذكر الثاني من الأول.
وقد يشكل الكلام ويغمض بالاختصار والإضمار.
كقوله: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً
فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ
فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) [فاطر: 8] . والمعنى: أفمن زيّن
له سوء عمله فرآه حسنا، ذهبت نفسك حسرة عليه؟! فلا تذهب نفسك
عليهم حسرات فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
وكقوله سبحانه: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ
فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) [النمل: 10، 11] لم يقع
الاستثناء من المرسلين، وإنما وقع من معنى مضمر في الكلام،
كأنه قال: لا يخاف لديّ المرسلون، بل غيرهم الخائف، إلا من ظلم
ثم تاب فإنه لا يخاف.
وهذا قول الفراء، وهو يبعد: لأن العرب إنما تحذف من الكلام ما
يدل عليه ما يظهر، وليس في ظاهر هذا الكلام- على هذا التأويل-
دليل على باطنه.
قال أبو محمد: والذي عندي فيه، والله أعلم، أنّ موسى عليه
السلام، لما خاف الثعبان وولّى ولم يعقّب، قال الله عز وجل: يا
مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ
[النمل: 10] وعلم أن موسى مستشعر خيفة أخرى من ذنبه في الرّجل
الّذي وكزه فقضى عليه، فقال: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ
حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ [النمل: 11] أي توبة وندما، فإنه يخاف،
وإني غفور رحيم.
وبعض النحويين يحمل (إلّا من ظلم) بمعنى: ولا من ظلم، كقوله:
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة: 150] . على مذهب من تأول
هذا في (إلّا) : كقوله في سورة الأنفال، بعد وصف المؤمنين:
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الأنفال:
5] . ولم يشبّه قصة المؤمنين بإخراج الله إيّاه، ولكن الكلام
مردود إلى معنى في أول السورة ومحمول عليه، وذلك: أن النبي
صلّى الله عليه وسلم، رأى يوم بدر قلّة المسلمين وكراهة كثير
منهم للقتال، فنفّل كلّ امرئ منهم ما أصاب، وجعل لكل من قتل
قتيلا كذا، ولمن أتى بأسير كذا، فكره ذلك قوم فتنازعوا
واختلفوا وحاجّوا النبي، صلّى الله عليه وسلم، وجادلوه، فأنزل
الله سبحانه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ
لِلَّهِ وَالرَّسُولِ: يجعلها لمن
(1/139)
يشاء فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ
بَيْنِكُمْ. أي فرّقوها بينكم على السواء وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فيما بعد إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال: 1]
، ووصف المؤمنين ثم قال: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ
بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
لَكارِهُونَ (5) [الأنفال: 5] يزيد: أن كراهتهم لما فعلته في
الغنائم ككراهتهم للخروج معك، كأنه قال: هذا من كراهيتهم كما
أخرجك وإيّاهم ربّك وهم كارهون.
ومن تتبع هذا من كلام العرب وأشعارها وجده كثيرا.
قال الشاعر «1» :
فلا تدفنوني إنّ دفني محرّم ... عليكم، ولكن خامري أمّ عامر
يريد: لا تدفنوني ولكن دعوني للتي يقال لها إذا صيدت: خامري
أمّ عامر، يعني الضّبع، لتأكلني.
وقال عنترة «2» :
هل تبلغنّي دارها شدنيّة ... لعنت بمحروم الشّراب مصرّم
يريد: دعي عليها بأن يحرم ضرعها أن يدرّ فيه لبن، فاستجيب
للداعي، فلم تحمل ولم ترضع.
ومثله قول الآخر «3» :
__________
(1) يروى البيت بلفظ:
لا تقبروني إن قبري محرم ... عليكم ولكن أبشري أم عامر
والبيت من الطويل، وهو للشنفرى في ديوانه ص 48، ولسان العرب
(عمر) ، ومقاييس اللغة 2/ 217، وتاج العروس (عمر) ، والأغاني
21/ 205، وأمالي المرتضى 2/ 73، والبرصان والعرجان ص 166، 311،
وتمثال الأمثال 1/ 340، وجمهرة الأمثال 2/ 305، والحماسة
البصرية 1/ 94، وخزانة الأدب 3/ 347، وديوان المفضليات ص 197،
وذيل الأمالي ص 36، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي 2/ 24، وشرح
ديوان الحماسة للمرزوقي 2/ 487، والشعر والشعراء 1/ 86،
والصاحبي في فقه اللغة ص 234، وكتاب الصناعتين ص 183، وتفسير
البحر المحيط 2/ 377، ومجمع البيان 1/ 74، والحيوان 6/ 450،
والطرائف الأدبية ص 36.
(2) البيت من الكامل، وهو في ديوان عنترة ص 199، وخزانة الأدب
5/ 369، ولسان العرب (صرم) ، (لعن) ، وكتاب الجيم 3/ 216،
وأساس البلاغة (صرم) ، وشرح القصائد العشر ص 183، وأمالي
المرتضى 3/ 158.
(3) قبله:
تخدي بها كل خنوف فاسج والرجز بلا نسبة في لسان العرب (فسج) ،
وتهذيب اللغة 10/ 596.
(1/140)
ملعونة بعقر أو خادج أي: دعي عليها أن لا
تحمل، وإن حملت: أن تلقي ولدها لغير تمام، فإذا لم تحمل الناقة
ولم ترضع كان أقوى لها.
ومن أمثال العرب: (عسى الغوير أبؤسا) «1» أي: أن يأتينا من قبل
الغوير بأس ومكروه. والغوير: ماء، ويقال: هو تصغير غار.
ومثله قوله سبحانه: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ [الأعراف:
32] .
أي هي للذين آمنوا- يعني في الدنيا- مشتركة، وفي الآخرة خالصة.
ومنه قوله: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ
أَوْلِياءَهُ [آل عمران: 175] . أي يخوّفكم بأوليائه، كما قال
سبحانه: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ [الكهف: 2]
أي لينذركم ببأس شديد.
وقوله: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ
[طه: 108] أي لا عوج لهم عنه.
وقوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
جَمِيعاً [فاطر: 10] . أي يعلم أنّ العزّة لمن هي.
وقوله: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ [الذاريات: 57] أي ما
أريد أن يرزقوا أنفسهم. وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ
[الذاريات: 57] أي ما أريد أن يطعموا أحدا من خلقي.
وأصل هذا: أن البشر عباد الله وعياله فمن أطعم عيال رجل
ورزقهم، فقد رزقه وأطعمه، إذ كان رزقهم عليه.
ومنه قوله سبحانه: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ
الْخَبْءَ [النمل: 25] أراد: ألا يا هؤلاء اسجدوا لله.
وقال الشاعر «2» :
يا دار سلمى يا اسلمي ثم اسلمي
__________
(1) انظر المثل في جمهرة أمثال العرب ص 143، ومجمع الأمثال 1/
477، ولسان العرب (غور) .
(2) يليه:
بسمسم وعن يمين سمسم والرجز للعجاج في ديوانه 1/ 442، والأشباه
والنظائر 2/ 145، والإنصاف 1/ 102، وجمهرة اللغة ص 204، 649،
والخصائص 2/ 196، ولسان العرب (سمسم) ، وتاج العروس (سمم) ،
ولرؤبة في ملحق ديوانه ص 183، وبلا نسبة في الخصائص 2/ 279،
ولسان العرب (علم) . [.....]
(1/141)
ومن الاختصار: القسم بلا جواب إذا كان في
الكلام بعده ما يدلّ على الجواب.
كقوله: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ
جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ
عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا [ق: 1، 3] نبعث. ثم قالوا: ذلِكَ
رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: 3] أي: لا يكون.
وكذا قوله عز وجل: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ
نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ
سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) [النازعات: 1، 5] .
ثم قال: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) [النازعات: 6] . ولم
يأت الجواب لعلم السامع به، إذ كان فيما تأخّر من قوله دليل
عليه، كأنّه قال: والنّازعات وكذا وكذا، لتبعثنّ، فقالوا:
أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) [النازعات: 11] نبعث؟!.
ومن الاختصار قوله: إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ
لِيَبْلُغَ فاهُ [الرعد: 14] أراد: كباسط كفيه إلى الماء ليقبض
عليه فيبلّغه فاه.
قال ضابىء «1» :
فإنّي وإياكم وشوقا إليكم ... كقابض ماء لم تسقه أنامله
و (العرب) تقول لمن تعاطى ما لا يجد منه شيئا: هو كالقابض على
الماء.
ومنه: أن تحذف (لا) من الكلام والمعنى إثباتها.
كقوله سبحانه: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ [يوسف:
85] أي لا تزال تذكر يوسف.
وهي تحذف مع اليمين كثيرا.
قال الشاعر «2» :
__________
(1) البيت من الطويل، وهو لضابىء بن الحارث البرجمي في لسان
العرب (وسق) ، ومقاييس اللغة 6/ 109، وتاج العروس (وسق) ، وبلا
نسبة في تهذيب اللغة 9/ 236، وأساس البلاغة (وسق) .
(2) البيت من الطويل، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص 32، وخزانة
الأدب 9/ 238، 239، 10/ 43، 44، 45، والخصائص 2/ 284، والدرر
4/ 212، وشرح أبيات سيبويه 1/ 220، وشرح التصريح 1/ 185، وشرح
شواهد المغني 1/ 341، وشرح المفصل 7/ 110، 8/ 37، 9/ 104
والكتاب 3/ 504، ولسان العرب (يمن) ، واللمع ص 259، والمقاصد
النحوية 2/ 13، وبلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 232، وخزانة
الأدب 10/ 93، 94، وشرح الأشموني 1/ 110، ومغني اللبيب 2/ 637،
والمقتضب 2/ 362، وهمع الهوامع 2/ 38.
(1/142)
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو ضربوا
رأسي لديك وأوصالي
وقال آخر «1» :
فلا وأبي دهماء زالت عزيزة ... على قومها ما فتّل الزّند قادح
ومنه قوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء:
176] ، أي: لئلا تضلوا. وإِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر: 41] ، أي: لئلا تزولا.
وقوله: كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمالُكُمْ [الحجرات: 2] ، أي: لا تحبط أعمالكم.
ومن الاختصار أن تضمر لغير مذكور.
كقوله جل وعز: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] يعني:
الشمس، ولم يذكرها قبل ذلك.
وقوله: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما
تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: 45] ، يريد: على
الأرض.
وقال: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) [العاديات: 4] ، يعني:
بالوادي.
وقال: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ [القصص: 10] ، أي بموسى: أنه
ابنها.
وقال: وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها (3) [الشمس: 3] ، يعني:
الدنيا أو الأرض.
وكذلك قوله: وَلا يَخافُ عُقْباها (15) [الشمس: 15] ، أي: عقبى
هذه الفعلة.
وقال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) [القدر:
1] ، يعني: القرآن. فكنى في أوّل السّورة.
قال حميد بن ثور في أوّل قصيدة «2» :
__________
(1) روى البيت بلفظ:
لعمر أبي الدهماء زالت عزيزة ... على أهلها ما فتل الزند قادح
والبيت من الطويل، وهو لتميم بن مقبل في ملحق ديوانه ص 358،
وبلا نسبة في تذكرة النحاة ص 287، وخزانة الأدب 9/ 237، 239،
243، 10/ 100، 101، والدرر 6/ 217، وشرح شواهد المغني ص 820،
ومغني اللبيب ص 393، والمقرب 1/ 94، وهمع الهوامع 2/ 156.
(2) البيت من الطويل، وهو لحميد بن ثور في ديوانه ص 73، ولسان
العرب (نضج) ، ومجمل اللغة (نضج) ، وديوان الأدب 2/ 344،
وللحطيئة في ملحق ديوانه ص 252، ولسان العرب (نضج) ، وبلا نسبة
في مقاييس اللغة 3/ 330، ومجمل اللغة 3/ 234.
(1/143)
وصهباء منها كالسّفينة نضّجت ... به الحمل
حتّى زاد شهرا عديدها
أراد: وصهباء من الإبل.
وقال حاتم «1» :
أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها
الصّدر
يعني النفس.
وقال لبيد «2» :
حتى إذا ألقت يدا في كافر ... وأجنّ عورات الثّغور ظلامها
يعني الشمس بدأت في المغيب.
وقال طرفة «3» :
ألا ليتني أفديك منها وأفتدي يعني: من الفلاة.
وأنشد الفرّاء «4» :
إذا نهي السّفيه جرى إليه ... وخالف، والسّفيه إلى خلاف
__________
(1) البيت من الطويل، وهو لحاتم الطائي في ديوانه ص 199،
والأغاني 17/ 295، وجمهرة اللغة ص 1034، 1133، وخزانة الأدب 4/
212، والدرر 1/ 215، والشعر والشعراء 1/ 252، والصاحبي في فقه
اللغة ص 261، ولسان العرب (قرن) ، وأساس البلاغة (حشر) ، وبلا
نسبة في لسان العرب (حشرج) ، وهمع الهوامع 1/ 65.
(2) البيت من الكامل، وهو للبيد في ديوانه ص 316، ولسان العرب
(كفر) ، (يدي) ، وتاج العروس (كفر) ، وكتاب الجيم 3/ 168، وبلا
نسبة في مقاييس اللغة 5/ 191، ومجمل اللغة 4/ 236.
(3) صدر البيت:
على مثلها أمضي إذا قال صاحبي والبيت من الطويل، وهو لطرفة بن
العبد في ديوانه ص 29، والدرر 2/ 269، وبلا نسبة في الإنصاف 1/
96.
(4) البيت من الوافر، وهو لأبي قيس بن الأسلت الأنصاري في
إعراب القرآن ص 902، والأشباه والنظائر 5/ 179، وأمالي المرتضى
1/ 203، والإنصاف 1/ 140، وخزانة الأدب 3/ 364، 4/ 226، 227،
228، والخصائص 3/ 49، والدرر 1/ 216، وشرح ديوان الحماسة
للمرزوقي ص 244، ومجالس ثعلب ص 75، والمحتسب 1/ 170، 2/ 370،
وهمع الهوامع 1/ 65، ومعاني القرآن للفراء 1/ 104، وأمالي ابن
الشجري 1/ 273، والعمدة 2/ 263، ومجمع البيان 1 100، وتفسير
الطبري 2/ 323، 3/ 128، 4/ 152.
(1/144)
أراد: جرى إلى السّفه.
وقال الله عز وجل في أول سورة الرحمن: فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) [الرحمن: 13] ، ولم يذكر قبل ذلك
إلا الإنسان، ثم خاطب الجانّ معه لأنّه ذكرهم بعد، وقال:
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) [الرحمن: 15] .
قال الفراء: ومثله قول المثقّب العبدي «1» :
فما أدري إذا يمّمت أرضا ... أريد الخير: أيّهما يليني؟
أالخير الّذي أنا أبتغيه؟ ... أم الشرّ الّذي هو يبتغيني؟
فكنى عن الشر وقرنه في الكتابة بالخير قبل أن يذكره، ثم أتى به
بعد ذلك.
ومن ذلك حذف الصفات.
كقول الله سبحانه: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ
يُخْسِرُونَ (3) [المطففين: 3] أي: كالوا لهم أو وزنوا لهم.
وقوله: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [الأعراف:
155] . أي اختار منهم.
وقال العجّاج «2» :
تحت الذي اختار له الله الشّجر أي اختار له من الشجر:
وكقوله: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ [الحج:
41] أي: مكنّا لهم. والعرب تقول:
عددتك مائة، أي عددت لك، وأستغفر الله ذنبي.
قال الشاعر «3» :
__________
(1) البيتان من الوافر، وهما للمثقب العبدي في ديوانه ص 212،
213، وخزانة الأدب 6/ 37، 11/ 80، وشرح اختيارات المفضل ص
1267، وشرح شواهد الشافية ص 188 (البيت الثاني فقط) ، وشرح
شواهد المغني 1/ 191، 192، والشعر والشعراء 1/ 403، ولسان
العرب (أنم) ، والبيت الثاني للمثقب العبدي أو لسحيم بن وثيل
أو لأبي زبيد الطائي في المقاصد النحوية 1/ 192، والبيت الأول
بلا نسبة في تخليص الشواهد 145، وخزانة الأدب 6/ 37.
(2) الرجز للعجاج في ديوانه 1/ 8- 10، ولسان العرب (ثبت) (شبر)
، وكتاب العين 8/ 402، وبلا نسبة في لسان العرب (خير) ، وتاج
العروس (خير) ، وتهذيب اللغة 7/ 547.
(3) البيت من البسيط، وهو بلا نسبة في أدب الكاتب ص 524،
والأشباه والنظائر 4/ 16، وأوضح المسالك 2/ 283، وتخليص
الشواهد ص 405، وخزانة الأدب 3/ 111، 9/ 124، والدرر 5/
(1/145)
أستغفر الله ذنبا لست محصيه ... ربّ العباد
إليه الوجه والعمل
وشبعت خبزا ولحما، وشربت ورويت ماء ولبنا وتعرّضت معروفك،
ونزلتك ونأيتك، وبتّ القوم، وغاليت السلعة، وثويت البصرة
وسرقتك مالا، وسعيت القوم، واستجبتك.
قال الشاعر «1» :
وداع دعا يا من يجيب إلي النّدى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقوله جل وعزّ: إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا [الإسراء: 34]
. أي: مسؤولا عنه.
قال أبو عبيدة: يقال: (لتسألنّ عهدي) أي عن عهدي.
ومن الاختصار قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ
أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) [النساء: 44] . أراد: يشترون
الضلالة بالهدى، فحذف (الهدى) أي يستبدلون هذا بهذا.
ومثله: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى
[البقرة: 16] .
ومن الاختصار قوله: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108)
[البقرة: 108] . أي: أبقينا له ذكرا حسنا في الآخرين، كأنه
قال: تركنا عليه ثناء حسنا، فحذف الثناء الحسن لعلم المخاطب
بما أراد.
ومن الاختصار قوله: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ
إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:
166] . لأنه لما أنزل عليه: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما
أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:
163] قال المشركون: ما نشهد لك بهذا، فمن يشهد لك به؟ فترك ذكر
قولهم
__________
186، وشرح أبيات سيبويه 1/ 420، وشرح التصريح 1/ 394، وشرح
شذور الذهب ص 479، وشرح المفصل 7/ 63، 8/ 51، والصاحبي في فقه
اللغة ص 181، والكتاب 1/ 37، ولسان العرب (غفر) ، والمقاصد
النحوية 3/ 226، والمقتضب 2/ 321، وهمع الهوامع 2/ 82، وأمالي
المرتضى 3/ 47، ومعاني القرآن للفراء 1/ 233، وتفسير الطبري 1/
56، 2/ 82، وتفسير البحر المحيط 1/ 361.
(1) البيت من الطويل، وهو لكعب بن سعد الغنوي في الأصمعيات ص
96، ولسان العرب (جوب) ، والتنبيه والإيضاح 1/ 55، وجمهرة
أشعار العرب ص 705، وتاج العروس (جوب) ، وأمالي القالي 2/ 151،
ومجاز القرآن 1/ 27، 2/ 107، والاقتضاب ص 459، وشرح شواهد
المغني ص 239، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 11/ 219، وأمالي
المرتضى 3/ 60، وتفسير الطبري 1/ 109، وتفسير البحر المحيط 2/
47، ومجمع البيان 1/ 278.
(1/146)
وأنزل: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما
أَنْزَلَ إِلَيْكَ [النساء: 166] . يدلك على هذا أن (لكن) إنما
تجيء بعد نفي لشيء فيوجب ذلك الشيء بها.
ومن الاختصار قوله: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي
الْأَرْضِ [المائدة: 31] . أراد:
فبعث الله غرابا يبحث التراب على غراب ميّت ليواريه،
لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ [المائدة: 31] .
ومنه قوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
يُسارِعُونَ فِيهِمْ [المائدة: 52] أي في مرضاتهم.
(1/147)
|