تأويل مشكل القرآن

باب تأويل الحروف التي ادّعى على القرآن بها الاستحالة وفساد النظم
من ذلك (الحروف المقطّعة) .
قد اختلف المفسرون في الحروف المقطّعة:
فكان بعضهم يجعلها أسماء للسور، تعرف كل سورة بما افتتحت به منها.
وكان بعضهم يجعلها أقساما.
وكان (بعضهم) يجعلها حروفا مأخوذة من صفات الله تعالى، يجتمع بها في المفتتح الواحد صفات كثيرة، كقول ابن عباس: في كهيعص (1) [مريم: 1] : إنّ (الكاف) من كاف، و (الهاء) من هاد، و (الياء) من حكيم، و (العين) من عليم، و (الصاد) من صادق.
وقال الكلبيّ «1» هو: كتاب كاف، هاد، حكيم، عالم، صادق.
ولكل مذهب من هذه المذاهب وجه حسن، ونرجو ألا يكون ما أريد بالحروف خارجا منها، إن شاء الله.
فإن كانت أسماء للسور، فهي أعلام تدل على ما تدل عليه الأسماء من أعيان الأشياء وتفرق بينها. فإذا قال القائل: قرأت المص أو قرأت ص أو ن- دلّ بذاك على ما قرأ، كما تقول: لقيت محمدا وكلمت عبد الله، فهي تدل بالاسمين على
__________
(1) هناك اثنان يلقبان بالكلبي (أو ابن الكلبي) وهما: محمد بن السائب بن بشر بن عمرو بن الحارث، أبو النصر الكوفي النسابة المعروف بابن الكلبي، منسوب إلى كلب بن وبرة، وهي قبيلة كبيرة من قضاعة، المتوفى بالكوفة سنة 146، له «تفسير القرآن» ، (كشف الظنون 6/ 7) .
وابنه أبو المنذر هشام بن أبي النصر محمد بن السائب بن بشر بن عمرو النسابة الكوفي، المعروف بابن الكلبي المتوفى سنة 204 هـ، له العشرات من المصنفات، منها: «آباء النبي صلّى الله عليه وسلم» ، «أسواق العرب» ، «الديباج في أخبار الشعراء» ، «لغات العرب» ، «النسب الكبير» يحتوي كتاب الأنساب، «كتاب التاريخ» ، «كتاب المنافرات» وغيرها الكثير (كشف الظنون 6/ 508- 509) .

(1/182)


العينين، وإن كان قد يقع بعضها مثل «حم» و «الم» لعدة سور- فإنّ الفصل قد يقع بأن تقول: حم السّجدة، والم البقرة، كما يقع الوفاق في الأسماء، فتدل بالإضافات وأسماء الآباء والكنى.
وإن كانت أقساما، فيجوز أن يكون الله، عز وجل، أقسم بالحروف المقطّعة كلّها، واقتصر على ذكر بعضها من ذكر جميعها، فقال: «الم» وهو يريد جميع الحروف المقطعة، كما يقول القائل: تعلمت «اب ت ث» وهو لا يريد تعلم هذه الأربعة الأحرف دون غيرها من الثمانية والعشرين، ولكنّه لما طال أن يذكرها كلّها، اجتزأ بذكر بعضها. ولو قال: تعلمت «حاء طاء صاد» لدلّ أيضا على حروف المعجم، كما دلّ بالقول الأول، إلا أن الناس يدلون بأوائل الأشياء عليها فيقولون: قرأت «الحمد لله» يريدون فاتحة الكتاب فيسمونها بأول حرف منها. هذا الأكثر، وربما دلّو بغير الأول أيضا، أنشدّ الفرّاء «1» :
لما رأيت أنّها في حطّي ... أخذت منها بقرون شمط
يريد (في أبي جاد) فدلّ بحطّي كما دلّ غيره بأبي جاد.
وإنما أقسم الله بحروف المعجم، لشرفها وفضلها، ولأنها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة، ومباني أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأصول كلام الأمم، بها يتعارفون، ويذكرون الله ويوحّدون.
وقد أقسم الله في كتابه بالفجر، والطّور، وبالعصر، وبالتّين، والزّيتون- وهما جبلان ينبتان التين والزيتون، يقال لأحدهما: طور زيتا وللآخر: طور تينا، بالسّريانية، من الأرض المقدسة، فسماها بما ينبتان- وأقسم بالقلم، إعظاما لما يسطرون.
ووقع القسم بها في أكثر السور على القرآن فقال: الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 1، 2] ، كأنه قال: وحروف المعجم، لهو الكتاب لا ريب فيه.
والم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران: 1، 2] ، أي وحروف المعجم لهو الله لا إله إلا هو الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ [آل عمران: 2، 3] .
والمص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الأعراف: 1، 2] ، أي وحروف المعجم، لهو
__________
(1) الرجز لأبي القمقام الأسدي في معاني القرآن للفراء 1/ 369، وتهذيب الألفاظ ص 447، وبلا نسبة في لسان العرب (فنك) ، وتهذيب اللغة 10/ 281، وأساس البلاغة (فنك) ، وتاج العروس (فنك) ، وأمالي القالي 2/ 200، ومجمع البيان 1/ 33، وتفسير الطبري 1/ 68.

(1/183)


كتاب أنزل إليك فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [الأعراف: 2] ، ويس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) [يس: 1، 2] .
وص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) [ص: 1] ، وق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) [ق: 1] ، كله أقسام.
وإن كان حروفا مأخوذة من صفات الله، فهذا فنّ من اختصار العرب، وقلّما تفعل العرب شيئا في الكلام المتصل الكثير إلا فعلت مثله في الحرف الواحد المنقطع.
فكما يستعيرون الكلمة فيضعونها مكان الكلمة لتقارب ما بينهما، أو لأنّ إحداهما سبب للأخرى، فيقولون للمطر: سماء، لأنه من السماء ينزل ويقولون للنبات: ندى، لأنه بالندى ينبت، ويقولون: ما به طرق، أي ما به قوّة، وأصل الطّرق: الشحم، فيستعيرونه مكان القوّة، لأنّ القوّة تكون عنه.
كذلك يستعيرون الحرف في الكلمة مكان الحرف فيقولون: «مدهته» بمعنى:
(مدحته) ، لأن (الحاء) و (الهاء) يخرجان جميعا من مخرج واحد.
ويقولون للقبر: جدث وجدف، ويقولون: ثوم وفوم ومغاثير ومغافير لقرب مخرج (الفاء) من (التاء) .
ويقولون: هرقت الماء وأرقته، ولصق ولسق، وسحقت الزعفران وسهكته، وغمار الناس وخمارهم.
في أشباه لهذا كثيرة يبدلون فيها الحرف من الحرف، لتقارب ما بينهما.
وكما يقلبون الكلام ويقدّمون ما سبيله أن يؤخّر، ويؤخرون ما سبيله أن يقدّم، فيقولون»
:
كان الزناء فريضة الرجم أي كان الرجم فريضة الزّنى.
__________
(1) يروى البيت بتمامه:
كانت فريضة ما تقول كما ... أنّ الزناء فريضة الرجم
والبيت من الكامل، وهو للنابغة الجعدي في ديوانه ص 35، ولسان العرب (زنى) ، وبلا نسبة في أمالي المرتضى 1/ 216، والإنصاف 1/ 373، والأضداد للسجستاني ص 152، وتفسير البحر المحيط 6/ 33، ومجمع البيان 1/ 155.

(1/184)


ويقولون «1» :
كأنّ لون أرضه سماؤه يريدون: كأن لون سمائه من غبرتها لون أرضه.
ويقولون: اعرض الناقة على الحوض، يريدون اعرض الحوض على الناقة.
وكذلك يقدمون الحرف في الكلمة وسبيله التأخير، ويؤخرون الحرف وسبيله التقديم، فيقولون: جذب وجبذ، وبئر عميقة ومعيقة، وأحجمت عن الأمر وأجحمت، وبتلت الشيء، أي قطعته وبلّته، وما أطيبه وما أيطبه. ورجل أغرل وأرغل، وأعتقاه الأمر واعتقاء، واعتام واعتمى، في أشباه لهذا كثيرة.
وكما يزيدون في الكلام الكلمة والمعنى طرحها، كقول الشاعر «2» :
فما ألوم البيض ألا تسخرا يريد: أن تسخر.
ويزيدون إذ، واللام، والكاف، والباء، وأشباه لهذا مما ذكرناه في باب المجاز- كذلك يزيدون في الكلمة الحرف، كما قال المفضّل العبدي «3» :
وبعضهم على بعض حنيق أي حنق.
__________
(1) قبله: وبلد مغبرّة أرجاؤه والرجز لرؤبة في ديوانه ص 3، والأشباه والنظائر 2/ 296، وخزانة الأدب 6/ 458، وشرح التصريح 2/ 339، وشرح شواهد المغني 2/ 971، ولسان العرب (عمى) ، ومعاهد التنصيص 1/ 178، ومغني اللبيب 2/ 695، والمقاصد النحوية 4/ 557، وتاج العروس (كبد) ، (عمى) ، وبلا نسبة في أمالي المرتضى 1/ 216، والإنصاف 1/ 377، وأوضح المسالك 4/ 342، وجواهر الأدب ص 164، وسر صناعة الإعراب 2/ 636، 637، وشرح شذور الذهب ص 414، وشرح المفصل 2/ 118، والصاحبي في فقه اللغة ص 202.
(2) يليه: لما رأين الشمط القفندرا والرجز لأبي النجم في تاج العروس (قفدر) ، والخصائص 2/ 283، وبلا نسبة في لسان العرب (قفندر) ، وجمهرة اللغة ص 1147، 1185، والمخصص 2/ 175، والأزهية ص 154، والجنى الداني ص 303، والمحتسب 1/ 181، والمقتضب 1/ 47.
(3) صدر البيت: تلاقينا بغينة ذي طريف والبيت من الوافر، وهو للمفضل النكري في لسان العرب (حنق) ، والأصمعيات ص 200، وبلا نسبة في لسان العرب (حنق) ، (سخن) ، وجمهرة اللغة ص 561، 1081، والمخصص 13/ 126.

(1/185)


وقال الآخر «1» :
أقول إذ خرّت على الكلكل أراد: الكلكل.
وأنشد الفرّاء «2» :
إنّ شكلي وإنّ شكلك شتّى ... فالزمي الخصّ واخفضي تبيضضّى
فزاد ضادا، في أشباه لهذا كثيرة.
وكما يحذفون من الكلام البعض إذا كان فيما أبقوا دليل على ما ألقوا فيقولون:
والله أفعل ذاك، يريدون: لا أفعل. ويقولون: أتانا فلان عند مغيب الشمس، أو حين.
أي حين كادت تغيب.
وقال ذو الرّمة يذكر حميرا «3» :
فلمّا لبسن الليل أو حين نصّبت ... له من خذا آذانها وهو جانح
أراد: وحين أقبل الليل.
وقال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى [الرعد: 31] ، أراد لكان هذا القرآن، فحذف.
وكذلك يحذفون من الكلمة الحرف والشّطر والأكثر، ويبقون البعض والشطر والحرف، يوحون به ويومئون. يقولون: «لم يك» ، فيحذفون النون مع حذفهم الواو لاجتماع الساكنين. ويقولون: «لم أبل» يريدون: لم أبال. ويقولون: ولاك افعل كذا، يريدون: ولكن، قال الشاعر «4» :
__________
(1) يليه: يا ناقتا ما جلت من مجال والرجز بلا نسبة في الإنصاف ص 25، والجنى الداني ص 178، ورصف المباني ص 12، وشرح الأشموني 2/ 485، ولسان العرب (كلل) ، والمحتسب 1/ 166، وتهذيب اللغة 15/ 665، وجمهرة اللغة ص 222، وتاج العروس (كلل) ، (باب الألف اللينة) وتفسير الطبري 1/ 70، والصاحبي في فقه اللغة ص 193، والموشح ص 94، وتفسير البحر المحيط 3/ 150.
(2) البيت من الخفيف، وهو بلا نسبة في لسان العرب (جدب) ، (بيض) ، (خفض) ، (حوا) ، وديوان الأدب 2/ 166، وتاج العروس (بيض) ، وتفسير الطبري 1/ 70، وأمالي ابن الشجري 17/ 190.
(3) البيت من الطويل، وهو في ديوان ذي الرمة ص 897، وأدب الكاتب ص 214، والخصائص 2/ 365، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 582.
(4) صدر البيت: فلست بآتيه ولا أستطيعه

(1/186)


ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل ويحذفون في الترخيم، فيقولون: يا صاح، يريدون: يا صاحب، ويا حار، يريدون: يا حارث.
وقرأ بعض المتقدمين: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الزخرف: 77] ، أي يا مالك.
وقال الله تعالى: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ [النمل: 25] ، أي ألا يا هؤلاء اسجدوا لله.
ويقولون: عم صباحا، أي أنعم.
وقال الفرّاء في قولهم: سترى: إنما أرادوا: سوف ترى، فحذفوا الواو والفاء.
وكذلك أمثالها.
كقولك: سيكون كذا، وسيفعل كذا، تأويلها عنده: سوف يكون، وسوف يفعل.
وفي قوله: بينا، إنما هو بينما.
وقال في الآن: إنما هو أصله الأوان، كما قالوا: الراح والرّياح للخمر، قال لبيد «1» :
درس المنا بمتالع فأبان أراد: المنازل، فقطع.
__________
والبيت من الطويل، وهو للنجاشي الحارثي في ديوانه ص 111، والأزهية ص 296، وخزانة الأدب 10/ 418، 419، وشرح أبيات سيبويه 1/ 195، وشرح التصريح 1/ 196، وشرح شواهد المغني 2/ 701، والكتاب 1/ 27، والمصنف 2/ 229، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 133، 361، والإنصاف 2/ 684، وأوضح المسالك 1/ 671، وتخليص الشواهد ص 269، والجنى الداني ص 592، وخزانة الأدب 5/ 265، ورصف المباني ص 277، 360، وسر صناعة الإعراب 2/ 440، وشرح الأشموني 1/ 136، وشرح المفصل 9/ 142، واللامات ص 159، ولسان العرب (لكن) ، ومغني اللبيب 1/ 291، وهمع الهوامع 2/ 156، وتاج العروس (لكن) . [.....]
(1) عجز البيت:
فتقادمت بالحبس فالسوبان والبيت من الكامل، وهو للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 138، والدرر 6/ 208، وسمط اللآلي ص 13، وشرح التصريح 2/ 180، وشرح شواهد الشافية ص 397، ولسان العرب (تلع) ، (أبن) ، والمقاصد النحوية 4/ 246، وتاج العروس (تلع) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 44، وشرح الأشموني 2/ 460، وهمع الهوامع 2/ 156، وكتاب العين 1/ 173.

(1/187)


وقال الطّرمّاح يذكر بقرا «1» :
تتّقي الشّمس بمدريّة ... كالحماليج بأيدي التّلام
المدريّة: القرون هاهنا.
والحماليج: منافيخ الصّاغة شبّه قرونها بها إذا نفخ فيها.
والتّلام: أراد التّلاميذ، يعني غلمان الصاغة فقطع.
وقال أبو دؤاد «2» :
فكأنّما تذكي سنابكها الحبا أراد الحباحب.
وقال الآخر «3» :
أناس ينال الماء قبل شفاههم ... لهم واردات الغرض شمّ الأرانب
أراد: الغرضوف.
وقال الآخر «4» :
__________
(1) البيت من المديد، وهو للطرماح في ديوانه ص 399، وتهذيب اللغة 14/ 295، ولسان العرب (تلم) ، والمعاني الكبير ص 764، 791، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 1/ 353، وجمهرة اللغة ص 410، وتاج العروس (تلم) .
(2) صدر البيت:
يذرين جندل جائر لجنوبها والبيت من الكامل، وهو بلا نسبة في لسان العرب (حبحب) ، وتاج العروس (حبب) ، والصاحبي في فقه اللغة ص 194.
(3) يروى صدر البيت بلفظ:
كرام ينال الماء قبل شفاههم والبيت من الطويل، وهو بلا نسبة في لسان العرب (غرض) ، وأساس البلاغة (ورد) ، وتهذيب اللغة 8/ 7، وتاج العروس (غرض) .
ويروى البيت بلفظ:
كرام ينال الماء قبل شفاههم ... لهم عارضات الورد شمّ المناخر
والبيت بلا نسبة في لسان العرب (عرض) ، والمخصص 7/ 98.
(4) الرجز لأبي النجم في جمهرة اللغة ص 407، ولسان العرب (عصب:) ، (لجج) ، (خلل) ، (فلن) ، والطرائف الأدبية ص 66، والمنصف 2/ 25، والممتع في التصريف 2/ 640، وخزانة الأدب 2/ 389، والدرر 3/ 37، وسمط اللآلي ص 257، وشرح أبيات سيبويه 1/ 439، وشرح التصريح

(1/188)


في لجّة أمسك فلانا عن فل أراد: عن فلان.
وقال الآخر «1» :
قواطنا مكّة من ورق الحمي أراد: الحمام.
وأنشد الفراء «2» :
قلت لها: قفي، فقالت لي: قاف أراد فقالت: قد وقفت، فأومأت بالقاف إلى معنى الوقوف.
ولم نزل نسمع على ألسنة الناس: الألف: آلاء. الله، والباء: بهاه الله، والجيم:
جمال الله، والميم: مجد الله. فكأنّا إذا قلنا: (حم) دللنا بالحاء على حليم، ودللنا بالميم على مجيد.
وهذا تمثيل أردت أن أريك به مكان الإمكان.
__________
2/ 180، وشرح المفصل 5/ 119، وشرح شواهد المغني 1/ 450، والصاحبي في فقه اللغة ص 228، والكتاب 2/ 248، 3/ 452، والمقاصد النحوية 4/ 228، وتهذيب اللغة 2/ 48، وتاج العروس (عصب) ، (فلن) ، ومقاييس اللغة 4/ 447، 5/ 202، ومجمل اللغة 4/ 61، وبلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 43، وشرح الأشموني 2/ 460، وشرح ابن عقيل ص 527، وشرح المفصل 1/ 48، والمقتضب 4/ 238، والمقرب 1/ 182، وهمع الهوامع 1/ 77.
(1) قبله:
وربّ هذا البلد المحرّم ... والقاطنات البيت غير الرّيّم
والرجز للعجاج في ديوانه 1/ 453، ولسان العرب (حمم) ، (قطن) ، (منى) ، وشرح ابن عقيل ص 425، والكتاب 1/ 26، 110، وما ينصرف وما لا ينصرف ص 51، والمحتسب 1/ 78، والمقاصد النحوية 3/ 554، 4/ 285، وتهذيب اللغة 15/ 381، وتاج العروس (ألف) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 294، والإنصاف 2/ 519، والخصائص 3/ 135، والدرر 6/ 244، ورصف المباني ص 178، وسر صناعة الإعراب 1/ 721، وشرح التصريح 2/ 189، وشرح الأشموني 2/ 343، 476، وشرح المفصل 6/ 75، وهمع الهوامع 1/ 181، 2/ 157، وتهذيب اللغة 4/ 16، ومقاييس اللغة 1/ 131، والمخصص 17/ 107، وكتاب العين 8/ 336.
(2) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (وقف) ، وتهذيب اللغة 15/ 679، وتاج العروس (سين) ، والأغاني 5/ 181، وشرح شواهد الشافية ص 271، والصاحبي في فقه اللغة ص 94، ومجمع البيان 1/ 34، وتفسير البحر المحيط 1/ 35، والعمدة 1/ 280.

(1/189)


وعلى هذا سائر الحروف.
ومن ذهب إلى هذا المذهب فلا أراه أراد أيضا إلا القسم بصفات الله، فجمع بالحروف المقطعة معاني كثيرة من صفاته، لا إله إلا هو.
وروي أن بعض السلف وأحسبه عليا رحمة الله عليه، قال: الرّحم هو من الرّحمن.
وقد كان (قوم من المفسرين) يفسرون بعض هذه الحروف فيقولون: (طه) يا رجل، و (يس) يا إنسان، و (نون) الدّواة.
وقال (آخر) : (الحوت) و (حم) : قضي والله ما هو كائن، و (قاف) : جبل محيط بالأرض.
و (صاد) - بكسر الدال- من المصاداة وهي المعارضة.
وهذا ما لا نعرض فيه، لأنا لا ندري كيف هو ولا من أي شيء أخذ خلا (صاد) وما ذهب إليه فيها.

في سورة سبأ
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ [سبأ: 20، 21] .
تأويله: أن إبليس لما سأل الله تبارك وتعالى النّظرة فأنظره قال: لأغوينّهم ولأضلّنّهم ولأمنّينّهم ولآمرنّهم فليبتّكنّ آذان الأنعام ولآمرنّهم فليغيّرنّ خلق الله ولأتّخذنّ منهم نصيبا مفروضا وليس هو في وقت هذه المقالة مستيقنا أنّ ما قدّره الله فيهم يتمّ، وإنما قاله ظانا، فلما اتبعوه وأطاعوه، صدق ما ظنّه عليهم أي فيهم، ثم قال الله: وما كان تسليطنا إيّاه إلا لنعلم من يؤمن، أي المؤمنين من الشاكين.

وعلم الله تعالى نوعان:

أحدهما علم ما يكون من إيمان المؤمنين، وكفر الكافرين، وذنوب العاصين، وطاعات المطيعين قبل أن تكون.
وهذا علم لا تجب به حجة ولا تقع عليه مثوبة ولا عقوبة.

والآخر: علم هذه الأمور ظاهرة موجودة فيحق القول ويقع بوقوعها الجزاء.

(1/190)


فأراد جل وعز: ما سلطناه عليهم إلا لنعلم إيمان المؤمنين ظاهرا موجودا، وكفر الكافرين ظاهرا موجودا.
وكذلك قوله سبحانه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) [آل عمران: 142] ، أي يعلم جهاده وصبره موجودا يجب له به الثواب.
وقوله سبحانه: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) [سبأ: 46] .
تأويله أنّ المشركين قالوا: إن محمدا مجنون وساحر، وأشباه هذا من خرصهم «1» ، فقال الله جل وعز لنبيه صلّى الله عليه وسلم: قل لهم: اعتبروا أمري بواحدة، وهي أن تنصحوا لأنفسكم، ولا يميل بكم هوىّ عن حق، فتقوموا لله وفي ذاته، مقاما يخلو فيه الرجل منكم بصاحبه فيقول له: هلمّ فلنتصادق، هل رأينا بهذا الرجل جنّة قط أو جرينا عليه كذبا؟ فهذا موضع قيامهم مثنى.
ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه فيفكّر وينظر ويعتبر. فهذا موضع قيامهم فرادى.
فإنّ في ذلك ما دلهم على أنه نذير.
وكل من تحير في أمر قد اشتبه عليه واستبهم، أخرجه من الحيرة فيه: أن يسأل ويناظر، ثم يفكّر ويعتبر.

في سورة الفرقان
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) [الفرقان: 45، 46] .
امتداد الظل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. كذلك قال المفسرون، ويدلك عليه أيضا قوله في وصف الجنة: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) [الواقعة: 30] أي لا شمس فيه، كأنه ما بين هذين الوقتين.
وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أي: مستقرا دائما حتى يكون كظل الجنة الذي لا تنسخه الشمس.
__________
(1) خرص يخرص، بالضم، خرصا وتخرص: أي كذب، ورجل خرّاص: كذّاب. ومنه قوله تعالى:
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ أي الكذابون الذين قالوا: محمد شاعر.

(1/191)


ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا يقول: لما طلعت الشمس دلت عليه وعلى معناه. وكلّ الأشياء تعرف بأضدادها، فلولا الشمس ما عرف الظل، ولولا النور ما عرفت الظلمة، ولولا الحق ما عرف الباطل. وهكذا سائر الألوان والطّعوم، قال الله عز وجل: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) [الذاريات: 49] يريد به ضدين:
ذكرا وأنثى، وأسود وأبيض، وحلوا وحامضا، وأشباه ذلك.
ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً يعني الظّل الممدود بعد غروب الشمس، وذلك أنّ الشمس إذا غربت عاد الظل الممدود، وذلك وقت قبضه.
وقوله: قَبْضاً يَسِيراً أي: خفيا، لأن الظل بعد غروب الشمس لا يذهب كلّه دفعة واحدة، ولا يقبل الظلام كلّه جملة، وإنما يقبض الله جلّ وعز ذلك الظل قبضا خفيّا شيئا بعد شيء، ويعقب كلّ جزء منه يقبضه بجزء من سواد الليل حتى يذهب كلّه.
فدلّ الله عز وجل بهذا الوصف على قدرته ولطفه في معاقبته بين الشمس والظل والليل، لمصالح عباده وبلاده.
وبعضهم يجعل قبض الظل عند نسخ الشمس إياه، ويجعل قوله قَبْضاً يَسِيراً أي: سهلا خفيفا عليه.
وهو وجه، غير أن التفسير الأول أجمع للمعاني وأشبه بما أراد.

في سورة يس
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) [يس: 38] .
قوله: تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها أي: إلى مستقر لها، كما تقول: هو يجري لغايته وإلى غايته.
ومستقرّها: أقصى منازلها في الغروب، وذلك لأنها لا تزال تتقدم في كل ليلة حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ثم ترجع، فذلك مستقرها لأنها لا تجاوزه.
وقرأ بعض السلف: والشمس تجري لا مستقر لها والمعنى أنها لا تقف، ولا تستقر، ولكنها جارية أبدا.
وقوله: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ يريد: أنه ينزل كل ليلة منزلا، ومنازله ثمانية

(1/192)


وعشرون منزلا عندهم، من أول الشهر إلى ثمان وعشرين ليلة منه ثم يستسرّ.
وهذه المنازل هي النجوم التي كانت العرب تنسب إليها الأنواء.
وأسماؤها عندهم الشّرطان والبطين، والثّريّا، والدّبران، والهقعة، والهنعة، والذّراع، والنّثرة، والطّرف، والجبهة، والزّبرة، والصّرفة، والعوّاء، والسّماك، والغفر، والزّباني، والإكليل، والقلب، والشّولة، والنّعائم، والبلدة، وسعد الذّابح، وسعد بلع، وسعد السّعود، وسعد الأخبية، وفرغ الدّلو المقدّم، وفرغ الدّلو المؤخّر، والرّشا وهو الحوت.
وإذا صار القمر في آخر منازله دقّ حتى يعود كالعرجون القديم وهو العذق اليابس. والعرجون إذا يبس دقّ واستقوس حتى صار كالقوس انحناء، فشبّه القمر به ليلة ثمانية وعشرين.
ثم قال سبحانه: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ يريد: أنهما يسيران الدّهر دائبين ولا يجتمعان، فسلطان القمر بالليل، وسلطان الشمس بالنهار، ولو أدركت الشمس القمر لذهب ضوءه، وبطل سلطانه، ودخل النهار على الليل.
يقول الله جل وعز حين ذكر يوم القيامة: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) [القيامة: 9] وذلك عند إبطال هذا التدبير، ونقض هذا التأليف.
وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ يقول: هما يتعاقبان، ولا يسبق أحدهما الآخر: فيفوته ويذهب قبل مجيء صاحبه.
وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي: يجرون، يعني الشمس والقمر والنجوم.

في سورة المرسلات
انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) [المرسلات: 29، 33] .
هذا يقال في يوم القيامة للمكذبين، وذلك أن الشمس تدنو من رؤوس الخلائق، وليس عليهم يومئذ لباس، ولا لهم كنان، فتلفحهم الشمس وتسفعهم وتأخذ بأنفاسهم، ومدّ ذلك اليوم عليهم وكربه، ثم ينجّي الله برحمته من يشاء إلى ظلّ من ظلّه، فهناك يقولون: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) [الطور: 27] ويقال للمكذبين

(1/193)


انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) [المرسلات: 29] من عذاب الله سبحانه وعقابه، انطلقوا من ذلك إلى ظل من دخان نار جهنم قد سطع ثم افترق ثلاث فرق، وكذلك شأن الدخان العظيم إذا ارتفع أن يتشعب. فيكونون فيه إلى أن يفرغ من الحساب، كما يكون أولياء الله في ظل عرشه أو حيث شاء من الظل إلى أن يفرغ من الحساب، ثم يؤمر بكل فريق إلى مستقرّه من الجنة أو النار.
ثم وصف الظل فقال: لا ظَلِيلٍ أي: لا يظلّكم من حرّ هذا اليوم بل يدنيكم من لهب النار إلى ما هو أشد عليكم من حر الشمس، ولا يغني عنكم من اللهب.
وهذا مثل قوله سبحانه: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) [الواقعة: 43، 44] واليحموم: الدّخان وهو سرادق أهل النار فيما ذكر المفسرون.
ثم وصف النار فقال: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ فمن قرأه بتسكين الصاد، أراد القصر من قصور مياه الأعراب.
ومن قرأه القصر شبّهه بأعناق النخل، ويقال: بأصوله إذا قطع.
ووقع تشبيه الشّرر بالقصر في مقاديره، ثم شبّهه في لونه بالجمالات الصّفر وهي السود، والعرب تسمى السّود من الإبل صفرا، قال الشاعر «1» :
تلك خيلي منها وتلك ركابي ... هنّ صفر أولادها كالزّبيب
أي: هنّ سود.
وإنما سمّيت السّود من الإبل: صفرا، لأنه يشوب سودها شيء من صفرة، كما قيل لبيض الظباء: أدم، لأن بياضها تعلوه كدرة.
والشّرر إذا تطاير فسقط وفيه بقية من لون النار، أشبه شيء بالإبل السّود، لما يشوبها من الصفرة.

في سورة الأنعام
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) [الأنعام: 33] .
__________
(1) البيت من الخفيف، وهو للأعشى في ديوانه ص 385، ولسان العرب (خشب) ، (صفر) ، وتهذيب اللغة 12/ 170، وجمهرة اللغة ص 740، وتاج العروس (خشب) ، والخزانة 2/ 464، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 3/ 294، ومجمل اللغة 3/ 231، والمخصص 2/ 105.

(1/194)


يريد: أنهم كانوا لا ينسبونك إلى الكذب ولا يعرفونك به، فلما جئتهم بآيات الله، جحدوها، وهم يعلمون أنك صادق.
والجحد يكون ممن علم الشيء فأنكره، بقول الله عز وجل: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: 14] .

في سورة النساء
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (9) [النساء: 8، 9] .
فيه قولان:
أحدهما أن تكون القسمة: الوصية. يقول: إذا حضرها أقرباؤكم الذين لا يرثونكم، والمساكين، واليتامى- فاجعلوا لهم فيها حظا، وألينوا لهم القول. وليخش من حضر الوصية، وهو لو كان له ولد صغار خاف عليهم بعده الضّيعة- أن يأمر الموصي بالإسراف فيما يعطيه اليتامى والمساكين وأقاربه الذين لا يرثون فيكون قد أمره بما لم يكن يفعله لو كان هو الميت. وهو معنى قول سعيد بن جبير وقتادة.
قال «قتادة» : إذا حضرت وصية ميت فمره بما كنت آمرا به نفسك، وخف على ورثته ما كنت خائفا على ضعفة أولادك لو تركتهم بعدك.
والقول الآخر: أن تكون القسمة: قسمة الورثة الميراث بعد وفاة الرجل. يقول:
فإذا حضرها الأقارب واليتامى والمساكين، فارضخوا «1» لهم وعدوهم. ثم استأنف معنى آخر فقال: وليخش من لو ترك ولدا صغارا خاف عليهم الضّيعة، فليحسن إلى من كفله من اليتامى، وليفعل بهم ما يجب أن يفعل بولده من بعده. وهو معنى قول ابن عباس في رواية أبي صالح عنه.

في سورة البقرة
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ [البقرة: 266] .
__________
(1) فارضخوا لهم: أي أعطوهم عطية قليلة. والرضخ: العطية القليلة.

(1/195)


هذا مثل ضربه الله، تبارك وتعالى، للمنافقين والمرائين بأعمالهم لا يريدونه بشيء منها.
يقول: يردون يوم القيامة على أعمال قد محقها الله وأبطلها، ووكلهم في ثوابها إلى من عملوا له، أحوج ما كانوا إلى أعمالهم، فمثلهم كمثل رجل كانت له جنّة فيها من كل الثمرات، وأصابه الكبر فضعف عن الكسب، وله أطفال لا يجدون عليه ولا ينفعونه، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، ففقدها أحوج ما كان إليها، عند كبر السن، وضعف الحيلة، وكثرة العيال، وطفولة الولد. وهو معنى قول ابن عباس وغيره.
وقد ضرب الله لهم قبل هذا مثلا فيه هذا المعنى بعينه، فقال: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة: 264] .
يريد سبحانه: أنه محق كسبهم، فلم يقدروا عليه حين حاجتهم إليه، كما أذهب المطر التراب عن الصّفا، ولم يوافق في الصّفا منبتا.
ثم ضرب مثلا للمخلصين، فقال: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ [البقرة: 265] أي: تحقيقا من أنفسهم، فقال: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ وأحسن ما تكون الجنان والرّياض: على الرّبا، أَصابَها وابِلٌ وهو: أشدّ المطر، فأضعفت في الحمل، ثم قال: فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ [البقرة: 265] أي:
أصابها طلّ، وهو: أضعف المطر. فتلك حالها في النّزل وتضاعف الثمر، لا ينقص بالطّل عن مقدارها بالوابل.

في سورة الرعد
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) [الرعد: 17] .
هذا مثل ضربه الله للحق والباطل. يقول: الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه، فإن الله سيمحقه ويبطله، ويجعل العاقبة للحق وأهله، ومثل ذلك مطر جود، أسال الأودية بقدرها: الكبير على قدره، والصغير على قدره.
فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً أي: عاليا على الماء كما يعلو الباطل تارة على الحق، ومن جواهر الأرض التي تدخل الكير ويوقد عليها. يعني الذهب والفضة

(1/196)


للحلية، والشّبه والحديد للآلة، حيث يعلوها مثل زبد الماء.
فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً أي: يلقيه الماء عنه فيتعلّق بأصول الشّجر وبجنبات الوادي، وكذلك خبث الفلزّ يقذفه الكير. فهذا مثل الباطل.
وَأَمَّا ما الماء الذي يَنْفَعُ النَّاسَ وينبت المرعى فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ وكذلك الصّفو من الفلزّ يبقى خالصا لا شوب فيه. فهو مثل الحق.

في سورة النور
قول الله عز وجل: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) [النور: 35، 40] .
هذا مثل ضربه الله لقلب المؤمن، وما أودعه بالإيمان والقرآن من نوره فيه. فبدأ فقال: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أي بنوره يهتدي من في السموات والأرض.
ثم قال: مَثَلُ نُورِهِ، يعني في قلب المؤمن. كذلك قال المفسّرون. وكان أبيّ يقرأ: الله نور السموات والأرض مثل نور المؤمن، روى ذلك عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر الرّازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية.
كَمِشْكاةٍ، وهي: الكوّة غير النافذة.
فِيها مِصْباحٌ، أي سراج الْمِصْباحُ في قنديل، القنديل كأنه من شدة بياضه وتلألئه، كوكب درّي، يتوقّد ذلك المصباح بزيت من شجرة لا شَرْقِيَّةٍ، أي لا بارزة للشمس كلّ النهار وَلا غَرْبِيَّةٍ لا مستترة في الظلّ كلّ النهار. ولكنها شرقية غربية تصيبها الشمس في بعض النهار، والظلّ في بعض النهار. وإذا كان كذلك فهو أنضر لها، وأجود لحملها، وأكثر لنزلها، وأصفى لدهنها.

(1/197)


يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ يسرج به من شدة صفائه. وتم الكلام ثم ابتدأ فقال:
نُورٌ عَلى نُورٍ، يعني نور المصباح على نور الزّجاجة والدّهن، يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ ثم قال:
هذا المصباح فِي بُيُوتٍ، يعني المساجد. وذكر أهلها فقال: يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ، يريد أن القلوب يوم القيامة تعرف أمره يقينا فتتقلّب عما كانت عليه من الشك والكفر، وأن الأبصار يومئذ ترى ما كانت مغطّاة عنه فتتقلّب عمّا كانت عليه. ونحوه قوله تعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) [ق: 22] .
ثم ضرب مثلا للكافرين، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً، أي كالسراب يحسبه العطشان من البعد ماء يرويه حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً.
كذلك الكافر يحسب ما قدّم من عمله نافعه، حتى إذا جاءه، أي مات، لم يجد عمله شيئا، لأنّ الله، عزّ وجلّ، قد أبطله بالكفر ومحقه، وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ، أي عند عمله فَوَفَّاهُ حِسابَهُ.
ثم ضرب مثلا آخر، فقال: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، يريد: أنه في حيرة من كفره كهذه الظلمات.
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً في قلبه، فَما لَهُ مِنْ نُورٍ.

في سورة سبأ
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) [سبأ: 51، 54] .
كان الحسن- رضي الله عنه- يجعل الفزع يوم القيامة إذا بعثوا من القبور. يقول:
ولو ترى يا محمد فزعهم حين لا فوت، أي لا مهرب ولا ملجأ يفوتون به ويلجأون إليه. وهذا نحو قوله: فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ [ص: 3] ، أي نادوا حين لا مهرب.

(1/198)


وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ، يعني القبور.
وَقالُوا آمَنَّا بِهِ، أي بمحمد، صلى الله عليه.
وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ والتناوش: التناول، أي كيف لهم بنيل ما يطلبون من الإيمان في هذا الوقت الذي لا يقال فيه كافر ولا تقبل توبته؟.
وقوله: مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ يريد بعد ما بين مكانهم يوم القيامة، وبين المكان الذي تتقبّل فيه الأعمال.
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ، أي بمحمد، صلّى الله عليه وسلم. يقول: كيف ينفعهم الإيمان به في الآخرة وقد كفروا به في الدنيا؟.
وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ، أي بالظنّ أن التوبة تنفعهم.
مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، أي بعيد من موضع تقبّل التوبة.
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من الإيمان. كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ، أي بأشباههم من الأمم الخالية.
وكان غير الحسن يجعل الفزع عند نزول بأس الله من الموت أو غيره، ويعتبره بقوله في موضع آخر: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85) [غافر: 84، 85] .

في سورة النور
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً [النور: 61] .
كان المسلمون في صدر الإسلام حين أمروا بالنصيحة ونهوا عن الخيانة وأنزل عليهم: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: 188] . أي: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق- أدقّوا النظر وأفرطوا في التوقّي، وترك بعضهم مؤاكلة بعض:
فكان الأعمى لا يؤاكل الناس، لأنه لا يبصر الطعام فيخاف أن يستأثر، ولا يؤاكله

(1/199)


الناس يخافون لضرره أن يقصر.
وكان الأعرج يتوقّى ذلك، لأنه يحتاج لزمانته إلى أن يتفسّح في مجلسه، ويأخذ أكثر من موضعه، ويخاف الناس أن يسبقوه لضعفه.
وكان المريض يخاف أن يفسد على الناس طعامهم بأمور قد تعتري مع المرض:
من رائحة تتغيّر، أو جرح يبضّ، أو أنف يذنّ، أو بول يسلس، وأشباه ذلك. فأنزل الله تبارك وتعالى: ليس على هؤلاء جناح في مؤاكلة الناس، وهو معنى قول ابن عباس في رواية أبي صالح.
وأما عائشة رضي الله عنها، فإنها قالت: كان المسلمون يوعبون «1» مع رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، في المغازي «2» ، ويدفعون مفاتيحهم إلى الضّمنى، وهم الزّمنى، ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في منازلنا. فكانوا يتوقّون أن يأكلوا من منازلهم حتى نزلت هذه الآية.
وإلى هذا يذهب قوم، منهم الزّهري «3» .
ثم قال الله عز وجل: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أراد: ولا عليكم أنفسكم أن تأكلوا من أموال عيالكم وأزواجكم.
وقال بعضهم: أراد: أن تأكلوا من بيوت أولادكم، فنسب بيوت الأولاد إلى الآباء، لأن الأولاد كسبهم، وأموالهم كأموالهم. يدلك على هذا: أن الناس لا يتوقّون أن يأكلوا من بيوتهم، وأن الله سبحانه عدّد القرابات وهم أبعد نسبا من الولد، ولم يذكر الولد.
وقال المفسرون في قوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) [المسد: 1، 2] . أراد: ما أغنى عنه ماله وولده، فجعل الولد كسبا.
ثم قال: أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ يريد إخوتكم
__________
(1) يقال: أوعب القوم: إذا خرجوا كلهم إلى الغزو.
(2) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 5/ 206، بلفظ: وفي حديث عائشة: كان المسلمون يوعبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. أي يخرجون بأجمعهم في الغزو.
(3) الزهري: هو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري المدني، أحد الأئمة الكبار، وعالم الحجاز والأمصار، تابعي، وردت عنه الرواية في حروف القرآن. قرأ على أنس بن مالك، وعرض عليه نافع، توفي سنة 124 هـ صنف «كتاب المغازي» . (كشف الظنون 6/ 7، غاية النهاية 2/ 262، 263) . [.....]

(1/200)


أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ، يعني العبيد، لأن السيد يملك منزل عبده. هذا على تأويل ابن عباس.
وقال غيره: أو ما خزنتموه لغيركم. يريد الزّمنى الذين كانوا يخزنون للغزاة أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً من منازل هؤلاء إذا دخلتموها، وإن لم يحضروا ولم يعلموا، من غير أن تتزوّدوا وتحملوا، ولا جناح عليكم أن تأكلوا جميعا أو فرادى، وإن اختلفتم: فكان فيكم الزّهيد «1» ، والرّغيب «2» ، والصحيح، والعليل.
وهذا من رخصته للقرابات وذوي الأواصر- كرخصته في الغرباء والأباعد لمن دخل حائطا وهو جائع: أن يصيب من ثمره، أو مرّ في سفر بغنم وهو عطشان: أن يشرب من رسلها «3» ، وكما أوجب للمسافر على من مرّ به الضيافة، توسعة منه ولطفا بعباده، ورغبة بهم عن دناءة الأخلاق، وضيق النظر.

في سورة الأنعام
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) [الأنعام: 76- 79] .
كان العصر الذي بعث الله، عز وجل، فيه إبراهيم، صلّى الله عليه وسلم، عصر نجوم وكهانة، وإنما أمر نمروذ بقتل الولدان في السنة التي ولد فيها إبراهيم، صلّى الله عليه وسلم، لأن المنجمين والكهّان قالوا: إنه يولد في تلك السنة من يدعو إلى غير دينه، ويرغب عن سنّته.
وكان القوم يعظّمون النجوم، ويقضون بها على غائب الأمور، ولذلك نظر إبراهيم نظرة في النجوم فقال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 89] وكان القوم يريدون الخروج إلى مجمع لهم، فأرادوه على أن يغدو معهم، وأراد كيد أصنامهم خلاف مخرجهم، فنظر نظرة في النجوم، يريد علم النجوم، أي في مقياس من مقاييسها، أو سبب من أسبابها، ولم ينظر إلى النجوم أنفسها. يدلك على ذلك قوله: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) [الصافات: 88]
__________
(1) يقال: رجل زهيد العين: إذا كان يقنعه القليل.
(2) يقال: رجل رغيب العين: إذا كان لا يقنعه إلا الكثير.
(3) الرّسل: اللبن.

(1/201)


ولم يقل: إلى النجوم. وهذا كما يقال: فلان ينظر في النجوم، إذا كان يعرف حسابها، وفلان ينظر في الفقه والحساب والنحو.
وإنما أراد بالنظر فيها: أن يوهمهم أنه يعلم منها ما يعلمون، ويتعرف في الأمور من حيث يتعرفون، وذلك أبلغ في المحال، وألطف في المكيدة فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) [الصافات: 89] أي سأسقم فلا أقدر على الغدوّ معكم. هذا الذي أوهمهم بمعاريض الكلام، ونيّته أنه سقيم غدا لا محالة، لأن من كانت غايته الموت ومصيره إلى الفناء- فسيسقم. ومثله قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزمر: 30] ولم يكن النبي، صلّى الله عليه وسلم، ميّتا في ذلك الوقت، وإنما أراد: أنك ستموت وسيموتون.
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى الزّهرة قالَ هذا رَبِّي يريد: أن يستدرجهم بهذا القول، ويعرّفهم خطأهم، وجهلهم في تعظيمهم شأن النجوم، وقضائهم على الأمور بدلالتها. فأراهم أنه معظّم ما عظّموا، وملتمس الهدى من حيث التمسوا. وكلّ من تابعك على هواك وشابعك على أمرك، كنت به أوثق، وإليه أسكن وأركن. فأنسوا واطمأنوا.
فَلَمَّا أَفَلَ أراهم النقص الداخل على النجم بالأفول، لأنه ليس ينبغي لإله أن يزول ولا أن يغيب، ف قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ واعتبر مثل ذلك في الشمس والقمر، حتى تبين للقوم ما أراد، من غير جهة العناد والمبادأة بالتّنقص والعيب.
ثم قال: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وما فيها من نجم وقمر وشمس وَالْأَرْضَ وما فيها من بحر وجبل وحجر وصنم وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ومثل هذا: الحواريّ حين ورد على قوم يعبدون (بدّا) «1» لهم فأظهر تعظيمه وترفيله «2» ، وأراهم الاجتهاد في دينهم، فأكرموه وفضّلوه وائتمنوه، وصدروا في كثير من الأمور عن رأيه. إلى أن دهمهم عدوّ لهم خافه الملك على مملكته، فشاور الحواريّ في أمره، فقال: الرأي أن ندعو إلهنا- يعني البدّ- حتى يكشف ما قد أظلّنا، فإنا لمثل هذا اليوم كنّا نرشّحه. فاستكفّوا حوله «3» يتضرّعون إليه ويجأرون، وأمر عدوّهم يستفحل، وشوكته تشتد يوما بعد يوم. فلما تبين لهم من هذه الجهة أن (بدّهم) لا ينفع ولا يدفع، ولا يبصر ولا يسمع، قال: هاهنا إله آخر، أدعوه فيستجيب،
__________
(1) البدّ: الصنم الذي يعبد، لا أصل له في اللغة، فارسي معرب، والجمع: البددة، بفتح الباء والدال.
(2) الترفيل: التسويد والتعظيم، ورفلت الرجل: إذا عظمته وملّكته.
(3) استكفّوا حوله: يقال: استكف القوم حول الشيء: أي أحاطوا به ينظرون إليه.

(1/202)


وأستجيره فيجير، فهلموا فلندعه. فدعوا الله جميعا فصرف عنهم ما كانوا يحاذرون، وأسلموا.
ومن الناس من يذهب إلى أن إبراهيم صلّى الله عليه وسلم، كان في تلك الحال على ضلال وحيرة.
وكيف يتوهّم ذلك على من عصمه الله وطهّره في مستقرّه ومستودعه؟ والله سبحانه يقول: إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) [الصافات: 84] . أي: لم يشرك به قط، كذلك قال المفسرون، أو من قال منهم.
ويقول في صدر الآية: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) [الأنعام: 75] ثم قال على أثر ذلك: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام: 76] .
فروي: أنه رأى في الملكوت عبدا على فاحشة فدعا الله عليه، ثم رأى آخر على فاحشة فدعا الله عليه، فقال له الله: (يا إبراهيم اكفف دعوتك عن عبادي، فإن عبدي بين خلال ثلاث: إما أن أخرج منه ذرّية طيّبة، أو يتوب فأغفر له، أو النار من ورائه) .
أفترى الله أراه الملكوت ليوقن، فلما أيقن رأى كوكبا فقال: هذا ربي على الحقيقة والاعتقاد؟!.

في سورة الأنعام
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 143، 144] .
أراد: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ [الأنعام: 141] ، وأنشأ لكم وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً يعني: كبارا وصغارا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [الأنعام: 142] ، أي: لا تقفوا أثره فيما يحرّم عليكم مما لم يحرّمه الله، ويحلّه لكم مما حرّمه الله عليكم.
ثم قال: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ، أي: كلوا مما رزقكم الله ثمانية أزواج. وإن شئت جعلته منصوبا بالرّدّ إلى الحمولة الفرش تبيينا لها.

(1/203)


والثمانية الأزواج: الضأن، والمعز، والإبل، والبقر.
وإنما جعلها ثمانية وهي أربعة، لأنه أراد: ذكرا وأنثى من كل صنف، فالذكر زوج، والأنثى زوج، والزوج يقع على الواحد والاثنين. ألا ترى أنك تقول للرجل:
زوج، وهو واحد، وللمرأة: زوج، وهي واحدة؟ قال الله تعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) [النجم: 45] .
وكانوا يقولون: ما في بطون الأنعام حلال لذكورنا ونسائنا، إن كان الجنين ذكرا، ومحرّم على إناثنا إن كان أنثى. ويحرّمون على الرجال والنساء الوصيلة وأخاها، ويزعمون أن الله حرّم ذلك عليهم. فقال الله سبحانه: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [المائدة: 103] .
وقال يقايسهم في تحريم ما حرّموا: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ من الضأن والمعز حَرَّمَ الله عليكم أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ؟، فإن كان التحريم من جهة الذكرين: فكل ذكر حرام عليكم، وإن كان التحريم من جهة الأنثيين: فكل أنثى حرام عليكم، أَمِ حرّم عليكم أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ من الأجنّة؟.
فإن كان التحريم من جهة الاشتمال، فالأرحام تشتمل على الذكور، وتشتمل على الإناث، وتشتمل على الذكور والإناث، فكل جنين حرام. أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا أي حين أمر الله بهذا فتكونون على يقين؟ أم تفترونه عليه وتختلقونه؟ توبيخ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 144] .

في سورة التين
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) [التين: 4، 8] .
يريد: عدّلنا خلقه، وقوّمناه أحسن تعديل وتقويم.
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، والسّافلون: هم الضعفاء والزّمنى الأطفال، ومن لا يستطيع حيلة، ولا يجد سبيلا. وتقول: سفل يسفل فهو سافل، وهم سافلون. كما تقول: علا يعلو فهو عال وهم عالون. وهو مثل قوله سبحانه: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [النحل: 70] .

(1/204)


وأراد: أنّ الهرم يخرف ويهتز وينقص خلقه، ويضعف بصره وسمعه، وتقلّ حيلته، ويعجز عن عمل الصالحات، فيكون أسفل من هؤلاء جميعا.
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الشعراء: 227] في وقت القوّة والقدرة، فإنّهم في حال الكبر غير منقوصين، لأنّا نعلم أنا لو لم نسلبهم القدرة والقوّة لم يكونوا ينقطعون عن عمل الصّالحات، فنحن نجري لهم أجر ذلك ولا نمنّه، أي لا نقطعه ولا ننقصه.
وهو معنى قول المفسرين. ومثله قوله سبحانه: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) [العصر: 2] ، والخسر: النقصان إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) [العصر: 3] فإنهم غير منقوصين.
ونحوه
قول رسول الله، صلّى الله عليه وسلم: «يقول الله للكرام الكاتبين: إذا مرض عبدي فاكتبوا له ما كان يعمل في صحته، حتى أعاقبه أو أقبضه» «1» .
ثم قال: فَما يُكَذِّبُكَ أيها الإنسان بِالدِّينِ؟ أي: بمجازاتي إيّاك بعملك وأنا أحكم الحاكمين؟

في سورة والشمس وضحاها
قوله سبحانه: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) [الشمس: 7، 10] .
أقسم بالنفس وخلقه لها ثم قال: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها، أي: فهّمها أعمال البر وأعمال الفجور، حتى عرف ذلك الجاهل والعاقل، ثم قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها يريد أفلح من زكى نفسه، أي: أنماها وأعلاها بالطاعة والبرّ والصّدقة واصطناع المعروف.
وأصل التزكية: الزّيادة، ومنه يقال: زكا الزرع يزكوا: إذا كثر ريعه، وزكت النّفقة: إذا بورك فيها، ومنه زكاة الرّجل عن ماله، لأنها تثمّر ماله وتنمّيه. وتزكية القاضي للشّاهد منه، لأنه يرفعه بالتّعديل والذّكر الجميل.
وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها، أي: نقصها وأخفاها بترك عمل البرّ، وبركوب المعاصي. والفاجر أبدا خفيّ المكان، زمر المروءة، غامض الشّخص، ناكس الرأس.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 3/ 231، والسيوطي في الدر المنثور 6/ 104، والمتقي الهندي في كنز العمال 6671.

(1/205)


ودسّاها: من دسّست، فقلبت إحدى السيّنات ياء، كما يقال: لبّبت، والأصل لبّيت، و: قصّيت أظفاري، وأصله قصصت. ومثله كثير.
فكأنّ النّطف «1» بارتكاب الفواحش دسّ نفسه وقمعها، ومصطنع المعروف شهر نفسه ورفعها.
وكانت أجواد العرب تنزل الرّبا وأيفاع «2» الأرض، لتشتهر أماكنها للمعتفين، وتوقد النّيران في الليل للطّارقين.
وكانت اللئام تنزل الأولاج «3» والأطراف والأهضام «4» : لتخفى أماكنها على الطّالبين.
فأولئك أعلوا أنفسهم وزكّوها، وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسوها، قال الشاعر «5» :
وبوّأت بيتك في معلم ... رحيب المباءة والمسرح
كفيت العفاة طلاب القرى ... ونبح الكلاب لمستنبح
ترى دعس آثار تلك المطيّ ... أخاديد كاللّقم الأفيح
ولو كنت في نفق زائغ ... لكنت على الشّرك الأوضح
ومثل هذا كثير.

في لا أقسم بيوم القيامة
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) [القيامة: 3، 5] .
هذا ردّ من الله عليهم، وذلك أنهم ظنوا أن الله لا ينشر الموتى، ولا يقدر على جمع العظام البالية، فقال: بلى، فاعلموا أنّا نقدر على رد السّلاميات «6» على صغرها،
__________
(1) النّطف: المتهم.
(2) اليفاع: المشرف من الأرض.
(3) الأولاج: جمع ولجة، بالتحريك، وهي موضع أو كهف يستتر فيه المارة من مطر أو غيره.
(4) الأهضام: جمع هضم، وهو ما تطامن الأرض.
(5) الأبيات من المتقارب، وهي في كتاب الحيوان 1/ 381- 382، 5/ 134- 135، والبيت الأول بلا نسبة في تاج العروس (بوأ) ، والمعاني الكبير ص 409، والبيت الثاني بلا نسبة في تاج العروس (بوأ) .
(6) السلاميات: جمع سلامى، وهي عظام صغار على طول الإصبع أو قريب منها، في كل يد ورجل أربع سلاميات أو ثلاث.

(1/206)


ونؤلّف بينها حتى يستوي البنان. ومن قدر على هذا فهو على جمع كبار العظام أقدر.
ومثل هذا رجل قلت له: أتراك تقدر على أن تؤلّف هذا الحنظل في خيط؟ فيقول لك: نعم وبين الخردل.
وأما قوله سبحانه: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ فقد كثرت فيه التفاسير: فقال سعيد بن جبير يقول: سوف أتوب، سوف أتوب.
وقال الكلبي: يكثر الذنوب، ويؤخّر التوبة.
وقال آخرون: يتمنّى الخطيئة.
وفيه قول آخر: على طريق الإمكان- إن كان الله تعالى أراده- وهو: أن يكون الفجور بمعنى: التكذيب بيوم القيامة، ومن كذّب بحق فقد فجر.
وأصل الفجور: الميل، فقيل للكاذب والمكذّب والفاسق: فاجر لأنه مال عن الحق.
وقال بعض الأعراب لعمر بن الخطاب رحمه الله- وكان أتاه فشكى إليه نقب إبله ودبرها واستحمله فلم يحمله- «1» :
أقسم بالله أبو جفص عمر ... ما مسّها من نقب ولا دبر
فاغفر له اللهمّ إن كان فجر أي: كذب.
وهذا وجه حسن لأن الفجور اعتراض بين كلامين من أسباب يوم القيامة، أولهما: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ؟ والآخر: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ؟
فكأنه قال: أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه في الآخرة؟ بلى نقدر على أن نجمع ما صغر منها ونؤلف بينه.
__________
(1) الرجز لرؤبة في شرح المفصل 3/ 71، وليس في ديوانه، ولا يمكن أن يكون رؤبة هو الذي قاله لعمر بن الخطاب، ذلك أنه توفي سنة 145 هـ، ولم يعتبره أحد من التابعين فضلا عن المخضرمين، وهو لعبد الله بن كيسبة أو لأعرابي في خزانة الأدب 5/ 154، 156، والأعرابي في شرح التصريح 1/ 121، والمقاصد النحوية 4/ 115، ولسان العرب (نقب) ، (فجر) ، وتاج العروس (نقب) ، (فجر) ، وتهذيب اللغة 11/ 50، وبلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 128، وشرح الأشموني 1/ 59، وشرح شذور الذهب ص 561، وشرح ابن عقيل ص 489، ومعاهد التنصيص 1/ 279، وأساس البلاغة (نقب) ، وديوان الأدب 2/ 111، وكتاب العين 8/ 307. [.....]

(1/207)


بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ أي: ليكذّب بيوم القيامة وهو أمامه، فهو يسأل أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ [القيامة: 6] أي متى يكون؟.

في والصافات
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) [الصافات:
27، 28] .
يقول هذا المشركون يوم القيامة لقرنائهم من الشياطين: إنكم كنتم تأتوننا عن أيماننا، لأن إبليس قال: لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الأعراف: 17] فشياطينهم تأتيهم من كل جهة من هذه الجهات بمعنى من الكيد والإضلال.
وقال المفسرون: فمن أتاه الشيطان من جهة اليمين: أتاه من قبل الدّين فلبّس عليه الحق.
ومن أتاه من جهة الشمال: أتاه من قبل الشّهوات.
ومن أتاه من بين يديه: أتاه من قبل التّكذيب بيوم القيامة والثواب والعقاب.
ومن أتاه من خلفه: خوّفه الفقر على نفسه وعلى من يخلّف بعده، فلم يصل رحما، ولم يؤدّ زكاة. فقال المشركون لقرنائهم: إنكم كنتم تأتوننا في الدنيا من جهة الدّين، فتشبّهون علينا فيه حتى أضللتمونا. فقال لهم قرناؤهم: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الصافات: 29] أي: لم تكونوا على حق فنشبّهه عليكم ونزيلكم عنه إلى باطل. وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ [الصافات: 30] ، أي: قدرة فنقهركم ونجبركم بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) [الصافات: 30، 31] نحن وأنتم العذاب فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) [الصافات: 32] يعني بالدعاء والوسوسة.
ومثل هذا قوله سبحانه: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم: 22] .

في سورة ص
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) [ص: 9، 11] .
أخبر الله، سبحانه، عن عنادهم وتكبّرهم وتمسّكهم بآلهتهم في أول السورة،

(1/208)


فقال: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) [ص: 1] ، وحكى قولهم: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ [ص: 6] ، أي اذهبوا ودعوه وتمسّكوا بآلهتكم فقال الله عز وجل: أعندهم بآلهتهم هذه خزائن الرحمة؟! أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) [ص: 10] ، أي في أبواب السماء، وأبواب السماء: أسبابها، قال الشاعر «1» :
ولو نال أسباب السّماء بسلّم ويكون أيضا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ، أي: في الحبال إلى السماء، كما سألوك أن ترقى في السماء وتأتيهم بكتاب. ويقال للرجل إذا تقدم في العلم وغيره وبرع: قد ارتقى في الأسباب، كما يقال: قد بلغ السماء.
ونحو هذا قوله في موضع آخر: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) [الطور: 38] .
وهذا كله توبيخ، وتقرير بالعجز.
ثم قال بعد: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) [ص: 11] .
وجند بمعنى: حزب لهذه الآلهة. و (ما) زائدة. ومهزوم: مقموع ذليل. وأصل الهزم: الكسر، ومنه قيل للنّفرة في الأرض: هزمة، أي كسرة، وهزمت الجيش: أي كسرتهم، وتهزّمت القربة: أي انكسرت.
يقول: هم حزب عند ذلك مقموع ذليل من الأحزاب، أي عند هذه المحن، وعند هذا القول، لأنهم لا يقدرون أن يدّعوا لآلهتهم شيئا من هذا، ولا لأنفسهم.
والأحزاب: سائر من تقدّمهم من الكفار، سمّوا أحزابا لأنهم تحزّبوا على أنبيائهم.
يقول الله سبحانه على إثر هذا الكلام: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ [ص:
12] وكذا وكذا.
ثم قال: أُولئِكَ الْأَحْزابُ [ص: 13] فأعلمنا أن مشركي قريش حزب من هؤلاء الأحزاب.
__________
(1) يروى البيت بتمامه:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... وإن رام أسباب السماء بسلّم
والبيت من الطويل، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 30، والخصائص 3/ 324، 325، وسر صناعة الإعراب 1/ 267، وشرح شواهد المغني 1/ 386، ولسان العرب (سبب) ، وشرح القصائد العشر ص 120.

(1/209)


وكان ابن عباس في رواية أبي صالح- يذهب إلى أن الله تعالى أخبر رسوله صلّى الله عليه وسلم أنه سيهزم المشركين يوم بدر.

في سورة السجدة
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) [السجدة: 5] .
يريد سبحانه: أنه يقضي الأمر في السماء وينزله مع الملائكة إلى الأرض فتوقعه، ثم تعرج إلى السماء، أي تصعد، بما أوقعته من ذلك الأمر، فيكون نزولها به ورجوعها في يوم واحد مقداره ألف سنة مما تعدّون. يريد مقدار المسير فيه على قدر مسيرنا وعددنا ألف سنة، لأن بعد ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام لابن آدم، فإذا قطعته الملائكة، بادئة وعائدة في يوم واحد، فقد قطعت مسيرة ألف سنة في يوم واحد.

في سورة النمل
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) [النمل: 65، 66] .
أصل ادّارك: تدارك، فأدغمت التاء في الدال، وأدخلت ألف الوصل ليسلم للدّال الأولى السكون، ومثله: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً [الأعراف: 38] واثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التوبة: 38] ، وقالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ [النمل: 47] ، إنما هو: تداركوا، وتثاقلتم، وتطيّرنا.
ومعنى تدارك: تتابع، وعِلْمُهُمْ: حكمهم على الآخرة، وحدسهم الظّنون.
وأراد وما يشعرون متى يبعثون إلّا بتتابع الظّنون في علم الآخرة، فهم يقولون تارة: إنها تكون، وتارة: إنها لا تكون، وإلى كذا تكون، وما يعلم غيب ذلك إلّا الله تعالى.
ثم قال: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بل هم من علمها عَمُونَ.
وكان ابن عباس يقرؤها بلى أدارك علمهم.
وهذه القراءة أشدّ إيضاحا للمعنى، لأنه قال: وما يشعرون متى يبعثون، ثم قال:
بل تداركت ظنونهم في علم الآخرة، فهم يحدسون ولا يدرون.

(1/210)


في سورة الامتحان
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) [الممتحنة: 1] .
ذكر المفسرون: أنّها أنزلت في حاطب بن أبي بلتعة وكان كتب إلى المشركين بمكة يخبرهم بمسير الرسول، صلّى الله عليه وسلم إليهم، لأنّ عياله كانوا بمكة، ولم يكن له بها عشيرة تمنع منهم، فأراد أن يتقرب إليهم ليكفوا عن عياله فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي تخبرونهم بما يخبر بمثله الرجل أهل مودّته، وتنصحون لهم وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، مع النبي، صلّى الله عليه وسلم يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ تمّ الكلام، يعني من مكة أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ، أي أخرجوا الرسول وأخرجوكم، لأن آمنتم بالله وحده إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي، يريد. فلا تلقوا إليهم بالمودة إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي طالبين رضاي.
ثم قال: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ [الممتحنة: 1] ، أي كيف تستترون بمودّتكم لهم منّي وأنا أعلم بما تضمرون وما تظهرون؟.
ثم ضرب لهم إبراهيم، صلّى الله عليه وسلم، مثلا حين تبرّأ من قومه ونابذهم وباغضهم، إلى قوله سبحانه: وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا [الممتحنة: 4] ، يريد أنّ إبراهيم، صلّى الله عليه وسلم، عاداهم وهجرهم في كل شيء إلا في قوله لأبيه: لأستغفرنّ لك.

في سورة الحج
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) [الحج: 15] .
كان قوم من المسلمين لشدّة غيظهم وحنقهم على المشركين، يستبطئون ما وعد الله ورسوله من النصر. وآخرون من المشركين يريدون اتباعه ويخشون ألا يتم له أمره، فقال تعالى: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ، يعني محمدا، عليه السلام، على مذاهب العرب في الإضمار لغير مذكور، وهو يسمعني أعده النصر والإظهار والتمكين، وإن كان يستعجل به قبل الوقت الذي قضيت أن يكون ذلك فيه، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ أي

(1/211)


بحبل إِلَى السَّماءِ، يعني سقف البيت، وكلّ شيء علاك وأظلّك فهو سماء، والسحاب: سماء، يقول الله تعالى: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً [ق: 9] ، وقال سلامة بن جندل يذكر قتل كسرى النعمان «1» :
هو المدخل النعمان بيتا سماؤه ... نحور الفيول بعد بيت مسردق
يعني: سقفه، وذلك أنّه أدخله بيتا فيه فيلة فتوطّأته حتى قتلته.
وقوله: ثُمَّ لْيَقْطَعْ. قال المفسرون أي: ليختنق فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ هل يذهب ذلك ما في قلبه؟ وهذا كرجل وعدته شيئا مرة بعد مرة، ووكّدت على نفسك الوعد، وهو يراجعك في ذلك، ولا تسكن نفسه إلى قولك، فتقول له: إن كنت لا تثق بما أقوله، فاذهب فاختنق. تريد: اجهد جهدك.
هذا معنى قول المفسرين.
وفيه وجه آخر على طريق الإمكان، وهو أن تكون السماء هاهنا: السماء بعينها لا السقف، كأنه قال: فليمدد بسبب إليها أي بحبل، وليرتق فيه، ثم ليقطع حتى يخرّ فيهلك، أي: ليفعل هذا إن بلغه جهده، فلينظر هل ينفعه. ومثله قوله لرسول الله، صلّى الله عليه وسلم- حين سأله المشركون أن يأتيهم بآية ولم يشأ الله أن يأتيهم بها، فشقّ ذلك عليه-:
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) [الأنعام:
35] يريد: اجهد إن بلغ هذا جهدك.
وروى ابن عيينة عن ابن أبي نجيح، عن كردم: أنّ رجلا سأل أبا هريرة، وابن عمر، وابن عباس، عن رجل قتل مؤمنا متعمدا، هل له توبة؟ فكلهم قال: هل يستطيع أن يحييه؟ هل يستطيع أن يبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء؟.
يريدون: أنه لا توبة له، كما أن هذا لا يكون.
وقال أبو عبيدة: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ أي: يرزقه الله. وذهب إلى
__________
(1) يروى عجز البيت بلفظ:
صدور الفيول بعد بيت مسردق والبيت من الطويل، وهو لسلامة بن جندل في ديوانه ص 182، ولسان العرب (سردق) ، وجمهرة اللغة ص 1146، وتاج العروس (سردق) ، والأصمعيات ص 137، وللأعشى في تهذيب اللغة 9/ 394، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في المخصص 6/ 7، وكتاب العين 5/ 251.

(1/212)


قول العرب. أرض منصورة، أي ممطورة، وقد نصرت الأرض: أي مطرت.
كأنه يريد: من كان قانطا من رزق الله ورحمته فليفعل ذلك، فلينظر هل يذهب كيده، أي حيلته غيظه لتأخر الرزق عنه؟.

في سورة البقرة
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) [البقرة: 17، 20] .
الَّذِي هاهنا بمعنى الذين استوقدوا نارا، وربما جاءت مؤدّية عن جميع، قال الشاعر «1» :
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد
أراد: مثل المنافقين كمثل قوم كانوا في ظلمة فأوقدوا نارا، فلما أضاءت النار ما حولهم أطفأها الله وتركهم في ظلمات لا يبصرون.
فالظلمة الأولى التي كانوا فيها: الكفر.
واستيقادهم النار قولهم: لا إله إلّا الله، وإن محمدا رسول الله.
فلما أضاءت لهم ما حولهم واهتدوا وآمنوا: خلوا إلى شياطينهم فنافقوا، وقالوا:
إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: 14] فسلبهم نور الإيمان، وتركهم في ظلمات الكفر لا يبصرون.
ثم ضرب لهم مثلا آخر شبيها بهذا المثل، فقال:
__________
(1) البيت من الطويل، وهو للأشهب بن رميلة في خزانة الأدب 6/ 7، 25- 26، وشرح شواهد المغني 2/ 517، والكتاب 1/ 187، ولسان العرب (فلج) ، (لذا) ، والمؤتلف والمختلف ص 33، والمحتسب 1/ 185، ومعجم ما استعجم ص 1028، والمقاصد النحوية 1/ 482، والمقتضب 4/ 146، والمنصف 1/ 67، وللأشهب أو لحريث بن مخفض في الدرر 1/ 148، وبلا نسبة في الأزهية ص 99، وخزانة الأدب 2/ 315، 6/ 133، 8/ 210، والدرر 5/ 131، ورصف المباني ص 342، وسر صناعة الإعراب 2/ 537، وشرح المفصل 3/ 155، ومغني اللبيب 1/ 194، 2/ 552.

(1/213)


أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [البقرة: 19] .
فالصيب: المطر، والظلمات: ظلمة الليل، وظلمة السحابة، والرعد: دليل على شدة ظلمة الصّيّب وهوله.
أراد: أو مثل قوم في ظلمات ليل ومطر. فضرب الظلمات لكفرهم مثلا، والبرق لتوحيدهم مثلا، فقال: إذا قالوا: لا إله إلا الله اهتدوا كما يهتدي هؤلاء القوم بالبرق إذا لمع فيمشون.
وجعله يكاد يخطف الأبصار لشدّة ضوئه.
وإذا نافقوا فاستهزؤوا وخلوا بشياطينهم فتابعوهم- عموا وصمّوا، كما يظلم على هؤلاء إذا سكن لمعان البرق فيقومون.

في سورة المزمل
الْمُزَّمِّلُ، المتزمّل، فأدغمت التاء في الزّاي، وكذلك الْمُدَّثِّرُ هو: المتدثّر بثيابه، فأدغمت التاء في الدال. وكل من التف بثوبه فقد تزمل به.
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) [المزمل: 2] أي: صلّ الليل إلا شيئا يسيرا منه تنام فيه وهو الثلث، ثم قال: نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) [المزمل: 3] أي: قم نصفه، فاكتفى بالفعل الأول من الثاني لأنه دليل عليه. أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث، أو زد على النصف إلى الثلثين. جعل له سعة في مدّة قيامه بالليل. فلما نزل هذه الآية قام رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، وطائفة من المؤمنين معه، أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه، وأخذ المسلمون أنفسهم بالقيام على المقادير حتى شقّ ذلك عليهم، فأنزل الله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ أي: وتقوم نصفه وثلثه وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ فيعلم مقدار ثلثيه ونصفه وثلثه، وسائر أجزائه ومواقيته، ويعلم أنكم أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أي: لن تطيقوا معرفة حقائق ذلك والقيام فيه فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20] رخّص لهم أن يقوموا ما أمكن وخفّ، لغير مدة معلومة ولا مقدار.
وكان هذا في صدر الإسلام، ثم نسخ بالصلوات الخمس. كذلك قال المفسرون:
وقوله: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ [المزمل: 6] وهي: آناؤه وساعاته، مأخوذة من نشأت تنشأ نشئا، ونشأت أي: ابتدأت وأقبلت شيئا بعد شيء، وأنشأها الله فنشأت

(1/214)


وأنشأت. ومنه قوله سبحانه: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ [الزخرف: 18] وقوله: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) [الواقعة: 35] أي: ابتدأناهن ونبّتناهن، ومنه قيل لصغار الجواري:
نشأ.
فكأنه قال: إن ساعات الليل الناشئة، فاكتفى بالوصف من الاسم.
وقوله: أَشَدُّ وَطْئاً [المزمل: 6] أي: أثقل على المصلي من ساعات النهار. وهو من قولك: اشتدت على القوم وطأة سلطانهم: إذا ثقل عليهم ما يلزمهم ويأخذهم به.
فأعلم الله نبيه أن الثواب في قيام الليل على قدر شدة الوطأة وثقلها.
ومن قرأها: وطاء على تقدير (فعال) فهو مصدر لواطأت فلانا على كذا مواطأة ووطاء. وأراد: أنّ القراءة في الليل يتواطأ فيها قلب المصلي ولسانه وسمعه على التّفهّم والأداء والاستماع، بأكثر مما يتواطأ عليه بالنهار.
وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: 6] أي: أخلص للقول وأسمع له، لأن الليل تهدأ عنه الأصوات، وتنقطع فيه الحركات، فيخلص القول، ولا يكون دون تسمّعه وتفهّمه حائل.
وقوله: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (7) [المزمل: 7] يعني: تصرفا وإقبالا وإدبارا في حوائجك وأشغالك.

في سورة الفتح
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) [الفتح: 25] .
كان بمكة قوم مؤمنون مختلطون بالمشركين غير متميزين ولا معروفي الأماكن، فلما صدّ المشركون رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، عن المسجد الحرام وعكفوا الهدي أن يبلغ محلّه. قال الله سبحانه: لولا أن بمكة رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لا تعرفونهم فتطئوهم لو دخلتموها، أي تقتلوهم ليدخلهم الله في رحمته لو فعلتم فتصيبكم من قتلهم بغير علم معرّة، أي يعيبكم المشركون بذلك ويقولون: قد قتلوا أهل دينهم وعذبوهم كما فعلوا بنا، وتلزمكم الدّيات.
ثم قال، لَوْ تَزَيَّلُوا، أي تميزوا من المشركين لَعَذَّبْنَا المشركين بالسيف

(1/215)


عَذاباً أَلِيماً: فصار قوله سبحانه: لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً جوابا لكلامين: أحدهما: لَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ، والآخر: لَوْ تَزَيَّلُوا.

في سورة الأعراف
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف: 176] .
كلّ شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش أو علّة، خلا الكلب، فإنّه يلهث في حال الكلال، وحال الرّاحة، وحال الصحة والمرض، وحال الريّ والعطش.
فضربه الله مثلا لمن كذّب بآياته فقال: إن وعظته فهو ضالّ، وإن لم تعظه فهو ضالّ، كالكلب إن طردته وزجرته فسعى لهث، أو تركته على حاله أيضا لهث.
ونحوه قوله: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) [الأعراف: 193] .

في سورة البقرة
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ [البقرة: 84، 85] .
نزلت في بني قريظة والنّضير. يقول: أخذ الله عليكم في الكتاب: ألا تسفكوا دماءكم، أي لا تقتتلوا، فيقتل بعضكم بعضا، ولا تتركوا أسيرا في أيدي الآسرين فيقتلوه، ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم، أي لا تغلبوا أحدا على داره وتخرجوه، فقبلتم ذلك وأقررتم به، وهو أخذ الميثاق وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ بذلك ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ أي تقتتلون فيقتل بعضكم بعضا، وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ أي تتعاونون وَإِنْ يَأْتُوكُمْ بهم أُسارى تُفادُوهُمْ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ من ديارهم أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ في فك الأسير وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ في إخراجكم من أخرجتم من ديارهم فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فجوزي بنو النّضير بأن أخرجهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عن

(1/216)


ديارهم لأوّل الحشر.
وجوزي بنو قريظة بقتل المقاتلة وسبي الذّرّيّة.

في الزخرف
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) [الزخرف: 81] .
لما قال المشركون: لله ولد، ولم يرجعوا عن مقالتهم بما أنزله الله على رسوله، عليه السلام، من التبرّؤ من ذلك- قال الله سبحانه لرسوله عليه السّلام: قُلْ: لهم إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ أي: عندكم في ادعائكم. فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أي: أول الموحدين، ومن وحّد الله فقد عبده، ومن جعل له ولدا أو ندّا، فليس من العابدين، وإن اجتهد.
ومنه قوله: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [النازعات: 56] ، أي إلا ليوحّدون.
قال مجاهد «1» : يريد إن كان لله ولد في قولكم، فأنا أول من عبد الله ووحّده، وكذّبكم بما تقولون.
وبعض المفسرين يجعل إن بمعنى (ما) ، وليس يعجبني ذلك.
ويقال: العابدون هاهنا: الغضاب الآنفون. يقال: عبدت من كذا أعبد عبدا. وأكثر ما تأتي الأسماء من فعل يفعل (على فعل) كقوله: وجل يوجل فهو وجل، وفزع يفزع فهو فزع.
وربما جاء على (فاعل) نحو علم يعلم فهو عالم.
وربما جاء منه على (فعل) و (فاعل) نحو صدى يصدي فهو صد وصاد، كذلك تقول: عبد يعبد فهو عبد وعابد، قال الشاعر «2» :
وأعبد أن تهجى تميم بدارم
__________
(1) مجاهد: هو مجاهد بن جبير المخزومي، أبو الحجاج المقري المكي، مولى عبد الله بن السائب، وقيل: مولى السائب بن أبي السائب، فقيه محدث تابعي ثقة، توفي بمكة سنة 102 هـ. وقيل: سنة 103 هـ. وقيل: سنة 104 هـ. صنف «تفسير القرآن» . (أسماء التابعين 1/ 363، كشف الظنون 6/ 4) .
(2) صدر البيت: أولئك قومي إن هجوني هجوتهم والبيت من الطويل، وهو للفرزدق في إصلاح المنطق ص 50، ولسان العرب (عبد) ، والمحتسب 2/ 258، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في الإنصاف 2/ 637، وجمهرة اللغة ص 299، ويروى

(1/217)


في سورة النساء
مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) [النساء: 46] .
هؤلاء قوم من اليهود كانوا يقولون للنبي، صلّى الله عليه وسلم، إذا حدّثهم وأمرهم: سمعنا، ويقولون في أنفسهم: عصينا. وإن أرادوا أن يكلموه بشيء قالوا له: اسمع يا أبا القاسم، ويقولون في أنفسهم: لا سمعت. ويقولون له: راعنا. يوهمونه في ظاهر اللفظ أنهم يريدون انتظرنا حتى نكلمك بما نريد، كما تقول العرب: أرعني سمعك وراعني، أي: انتظرني وترفّق وتلوّم عليّ، هذا ونحوه، وإنما يريدون سبّه بالرّعونة في لغتهم، فقال الله سبحانه: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ كذا وكذا.
ويقولون: راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ أي: قلبا للكلام بها، وَطَعْناً فِي الدِّينِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا مكان قولهم: سمعنا وعصينا، وقالوا: واسمع. مكان قوله: لا سمعت، وانظرنا، مكان قولهم: راعنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ.
والعرب تقول: نظرتك وانتظرتك، بمعنى واحد، قال الحطيئة «1» :
وقد نظرتكم إيناء عاشية ... للخمس طال بها حوزي وتنساسي

في سورة المائدة
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
__________
عجز البيت بلفظ: وأعبد أن تهجى كليب بدارم وهو بهذا اللفظ للفرزدق في تاج العروس (عبد) ، (عني) ، وإصلاح المنطق ص 50، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 299، وديوان الأدب 2/ 230، ومقاييس اللغة 4/ 207.
(1) يروى صدر البيت بلفظ:
وقد نظرتكم أبناء صادرة والبيت من البسيط، وهو للحطيئة في ديوانه ص 106، ولسان العرب (نظر) ، (نسس) ، (عشا) ، والتنبيه والإيضاح 2/ 306، وجمهرة اللغة ص 250، وتهذيب اللغة 3/ 54، 5/ 177، 12/ 307، 14/ 371، وتاج العروس (نظر) ، (نسس) ، وكتاب العين 7/ 199، وبلا نسبة في المخصص 7/ 103، ولسان العرب (حوز) .

(1/218)


فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا [المائدة:
106، 108] .
قد اختلف الناس قديما في تأويل هذه الآية والسبب الذي نزلت فيه.
وأنا مخبر من تلك المذاهب والتأويلات، بأشبهها بلفظ الكتاب، وأولاها بمعناه.
وأراد الله عز وجل أن يعرفنا كيف نشده بالوصية عند حضور الموت، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي: رجلان عدلان من المسلمين تشهدونهما على الوصيّة.
وعلم الله سبحانه أنّ من الناس من يسافر فيصحبه في سفره أهل الكتاب دون المسلمين، وينزل القرية التي لا يسكنها غيرهم، ويحضره الموت فلا يجد من يشهده من المسلمين، فقال: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أي: من غير دينكم إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي: سافرتم فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ وتمّ الكلام. فالعدلان من المسلمين للحضر والسفر خاصّة إن أمكن إشهادهما في السفر. والذّميان في السفر خاصة إذا لم يوجد غيرهما.
ثم قال: تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ أراد: تحبسونهما من بعد صلاة العصر إن ارتبتم في شهادتهما وشككتم، وخشيتم أن يكونا قد غيّرا، أو بدّلا وكتما وخانا.
وخصّ هذا الوقت، لأنه قبل وجوب الشمس «1» ، وأهل الأديان يعظمونه ويذكرون الله فيه، ويتوقّون الحلف الكاذب وقول الزّور، وأهل الكتاب يصلّون لطلوع الشمس وغروبها.
فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً أي: لا نبيعه بعرض، ولا نحابي في شهادتنا أحدا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة علمناها.
فإذا حلفا بهذه اليمين على ما شهدا به، قبلت شهادتهما، وأمضي الأمر على قولهما.
__________
(1) وجوب الشمس: يقال: وجبت الشمس وجبا ووجوبا: غابت.

(1/219)


وروى معاوية بن عمرو «1» ، عن زائدة «2» ، عن زكريا «3» ، عن الشعبي «4» أنه قال:
مات رجل بدقوقا ولم يشهده إلا نصرانيّان، فأشهدهما على وصيته، فقدما الكوفة وأبو موسى الأشعري «5» عليهما، فتقدّما إليه فأحلفهما في مسجد الكوفة بعد العصر:
بالله ما بدّلا ولا كتما ولا كذبا وأجاز شهادتهما.
فَإِنْ عُثِرَ بعد هذه اليمين أي: ظهر عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً أي: حنثا في اليمين بكذب في قول، أو خيانة في وديعة فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ أي: قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت الذين استحق منهم الأوليان، وهما الوليّان، يقال: هذا الأولى بفلان، ثم يحذف من الكلام بفلان، فتقول:
هذا الأولى، وهذان الأوليان، كما تقول: هذا الأكبر، في معنى الكبير، وهذا الأكبران، وعَلَيْهِمُ بمعنى (منهم) ، كما تقول: استحققت عليك كذا، واستوجبت عليك كذا، وأي: استحققته منك، واستوجبته منك، وقال الله سبحانه: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [المطففين: 2] .
أي من الناس.
وقال صخر الغيّ «6» :
متى ما تنكروها تعرفوها ... على أقطارها علق نفيث
__________
(1) هو معاوية بن عمرو بن خالد بن غلاب، توفي سنة 214 هـ (خلاصة تذهيب الكمال ص 102، والطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 168، 3/ 258، 7/ 245) .
(2) هو زائدة بن قدامة الثقفي، توفي غازيا بأرض الروم سنة 262 هـ (خلاصة تذهيب الكمال ص 102، والطبقات الكبرى لابن سعد 6/ 355) .
(3) هو زكريا بن أبي زائدة، توفي سنة 248 هـ. (خلاصة تذهيب الكمال ص 104، والطبقات الكبرى لابن سعد 6/ 339) .
(4) الشعبي: هو أبو عمرو، عامر بن شراحيل بن عبد الشعبي، كوفي تابعي جليل القدر وافر العلم، توفي سنة 109 هـ. (أسماء التابعين 1/ 267، والطبقات الكبرى لابن سعد 6/ 259) .
(5) أبو موسى الأشعري: هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حرب، أبو موسى، من بني الأشعر من قحطان، صحابي توفي سنة 44 هـ. (طبقات ابن سعد 4/ 79، والأعلام 4/ 114) .
(6) البيت من الوافر، وهو لأبي المثلم الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 264، وديوان الهذليين ص 224، والأزهية ص 276، ولصخر الغي في خزانة الأدب 2/ 199، ولسان العرب (نفث) ، والمعاني الكبير 2/ 970، وأدب الكاتب ص 521، والمقصور والممدود ص 103، وبلا نسبة في تفسير الطبري 7/ 79. [.....]

(1/220)


يريد: من أقطارها.
فإذا أقام الوليان مقام الذّمّيين لليمين، حلفا بالله لقد ظهرنا على خيانة الذميين وكذبهما وتبديلهما، وما اعتدينا عليهما، ولَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما أي: أصحّ لكفرهما وإيماننا.
فإذا حلف الوليان على ما ظهرا عليه، رجع على الذّمّيين بما اختانا، ونقض ما مضى عليه الحكم بشهادتهما.
ثم قال سبحانه: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أي: هذا الحكم أقرب بهم إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، يعني أهل الذمة أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ على أولياء الميت بَعْدَ أَيْمانِهِمْ فيحلّفوا على خيانتهم وكذبهم، فيفضحوا، أو يغرّموا.
وأكثر العلماء يذهب إلى أن هذا باب من الحكم (محكم) وأنه لم ينسخ من سورة المائدة شيء، لأنها آخر ما نزل.
وبعضهم يذهب إلى أنه منسوخ بقوله سبحانه:
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ [البقرة: 282] .

في سورة الروم
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) [الروم: 28] .
هذا مثل ضربه الله لمن جعل له شركاء من خلقه، فقال قبل المثل: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] يريد: إعادته على المخلوق أهون من ابتدائه، لأنه ابتدأه في الرحم نطفة، وعلقة، ومضغة، وإعادته تكون بأن يقول له:
كُنْ فَيَكُونُ [الأنعام: 73] فذلك أهون على المخلوق من النشأة الأولى. كذلك قال ابن عباس في رواية أبي صالح.
وإن جعلته لله، جعلت أهون بمعنى: وهو هيّن عليه، أي سهل عليه.
وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى [الروم: 27] يعني: شهادة أن لا إله إلا الله.

(1/221)


ثم ضرب المثل فقال: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ وذلك أقرب عليكم هل لكم من شركاء من عبيدكم الذين تملكون فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ وعبيدكم سَواءٌ يأمرون فيه كأمركم، ويحكمون كحكمكم، وأنتم تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي كما يخاف الرجل الحرّ شريكه الحرّ في المال يكون بينهما، فلا يأمر فيه بشيء دون أمره، ولا يمضي فيه عطيّة بغير إذنه.
وهو مثل قوله: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] أي لا تعيبوا إخوانكم من المسلمين.
وقوله: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً [النور: 12] أي بأمثالهم من المؤمنين.
يقول: فإذا كنتم أنتم بهذه المنزلة فيما بينكم وبين أرقائكم، فكيف تجعلون لله من عبيده شركاء في ملكه؟
ومثله قوله وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فجعل منكم المالك والمملوك فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا يعني: السادة بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [النحل: 71] من عبيدهم حتى يكونوا فيه شركاء. يريد: فإذا كان هذا لا يجوز بينكم، فكيف تجعلونه لله؟.

في سورة النحل
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً [النحل: 75] .
هذا مثل ضربه الله لنفسه ولمن عبد دونه، فقال: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ فهذا مثل من جعل إلها دونه أو معه لأنه عاجز مدبّر، مملوك لا يقدر على نفع ولا ضرّ.
ثم قال: وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ [النحل: 75] .
فهذا مثله جل وعز لأنه الواسع الجواد القادر، الرّازق عباده جهرا من حيث يعلمون، وسرا من حيث لا يعلمون.
وقال بعض المفسرين: هو مثل للمؤمن، والكافر. فالعبد: هو الكافر، والمرزوق: هو المؤمن.
والتفسير الأول أعجب إليّ، لأن المثل توسّط كلامين هما لله تعالى أمّا (الأوّل)

(1/222)


فقوله: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) [النحل: 73] .
فهذا لله ومن عبد من دونه.
وأمّا الآخر فقوله بعد انقضاء المثل: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) [النحل: 74] .
ولأنه ضرب لهذا المعنى مثلا آخر بعقب هذا الكلام فقال: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ أي: أخرس لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أي:
عيال وثقل على قرابته ووليّه أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ [النحل: 76] .
فهذا مثل آلهتهم، لأنها صمّ بكم عمي، ثقل على من عبدها، في خدمتها والتّعبّد لها، وهي لا تأتيه بخير.
ثم قال: هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل: 76] فجعل هذا المثل لنفسه.

في سورة النحل أيضا
وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ [النحل: 92] .
هذا مثل لمن عاهد الله وحلف به، فقال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها [النحل: 91] فتكونوا إن فعلتم كامرأة غزلت غزلا وقوّت مرّته وأبرمته، فلما استحكم نقضته، فجعلته أنكاثا.
والأنكاث: ما نقض من أخلاق بيوت الشعر والوبر ليغزل ثانية ويعاد مع الجديد، وكذلك ما نقض من خلق الخزّ.
ومنه قيل لمن أعطاك بيعته على السمع والطاعة ثم خرج عليك: ناكث، لأنه نقض ما وكّد على نفسه بالإيمان والعهود، كما تنقض النّاكثة غزلها.
ثم قال: تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ. أي: دغلا وخيانة وحيلا أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ أي: لأن يكون قوم أغنى من قوم، وقوم أعلى من قوم، تريدون: أن تقتطعوا بأيمانكم حقوقا لهؤلاء، فتجعلوها لهؤلاء.
وقال المفسرون في التي نقضت غزلها: هي امرأة من قريش وكانت حمقاء،

(1/223)


فكانت تغزل الغزل من الصوف والشّعر والوبر بمغزل في غلظ الذّراع، وصنّارة في قدر الإصبع، وفلكة عظيمة، فإذا أحكمته أمرت خادمها فنقضته.

في سورة الصافات
إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) [الصافات: 64، 65] .
طلعها: ثمرها، سمّي طلعا لطلوعه كلّ سنة، ولذلك قيل: طلع النخل، لأوّل ما يخرج من ثمره، فإذا انتقل عن ذلك فصار في حال أخرى، سمى باسم آخر.
والشياطين: حيّات خفيفات الأجسام قبيحات المناظر.
قال الشاعر وذكر ناقة «1» :
تلاعب مثنى حضرميّ كأنّه ... تعمّج شيطان بذي خروع قفر
يعني: زماما، شبّه تلوّيه بتلوّي الحيّة.
وقال آخر «2» :
عجيّز تحلف حين أحلف ... كمثل شيطان الحماط أعرف
والحماط: شجر. والعرب تقول إذا رأت منظرا قبيحا: كأنه شيطان الحماط.
يريدون حيّة تأوى في الحماط، كما يقولون: أيم «3» الضّال، وذئب الغضى، وأرنب خلّة، وتيس حلّب، وقنفذ برقة.
__________
(1) البيت من الطويل، وهو لطرفة بن العبد في الحيوان 4/ 133، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في لسان العرب (حبب) ، (عمج) ، (خرع) ، (شطن) ، (ثنى) ، ومقاييس اللغة 2/ 28، 3/ 148، 4/ 137، ومجمل اللغة 2/ 30، وديوان الأدب 2/ 60، 440، والمخصص 7/ 110، 8/ 109، وتاج العروس (حبب) ، (خرع) ، (ثنى) .
(2) يروى الشطر الأول من الرجز بلفظ:
عنجرد تحلف حين أحلف والرجز بلا نسبة في لسان العرب (عنجرد) ، (حمط) ، (شطن) ، (حيا) ، وتهذيب اللغة 3/ 370، 4/ 402، 11/ 313، وتاج العروس (عجرد) ، (عنجرد) ، (عرف) ، (شطن) ، (حيي) ، وديوان الأدب 2/ 60، 95.
(3) الأيم والأيّم، بسكون الياء وتشديدها مثل: هين وهيّن: الحية الأبيض اللطيف، وعمّ به بعضهم جميع ضروب الحيات.

(1/224)


وذهب بعض المفسرين إلى أنه أراد الشياطين بأعيانها. شبّه ثمر هذه الشجرة في قبحه، برؤوسها، وهي إن لم تر، فإنّها موصوفة بالقبح، معروفة به.

في سورة النساء
وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء: 78، 79] .
الحسنة هاهنا: الخصب والمطر. يقول: إن أصابهم خصب وغيث قالوا: هذا من عند الله.
والسيئة: الجدب والقحط. يقول: وإن تصبهم سيئة يقولوا: هذه من عندك. أي بشؤمك، يقول الله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
ومثل هذا قوله حكاية عن فرعون وملئه: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ [الأعراف: 131] يريد إذا جاءهم الخصب والمطر قالوا: هذا هو ما لم نزل نتعرّفه.
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف: 131] أي يتشاءمون بهم.
أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف: 131] أي ما تطيّروا بموسى- لمجيئه- من عند الله.
ونحو قوله: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها أي: خصبا وخيرا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي جدب وقحط بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بذنوبهم إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم:
36] .
ثم قال: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ أي من خير فَمِنَ اللَّهِ، وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ أي من شر فَمِنْ نَفْسِكَ [النّساء: 79] أي بذنبك. الخطاب للنبي، صلّى الله عليه وسلم، والمراد غيره، على ما بيّنت في باب الكناية.

في سورة يونس
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) [يونس: 11] .
يريد أن الناس عند الغضب وعند الضّجر، قد يدعون على أنفسهم وأهلهم

(1/225)


وأولادهم بالموت وبالخزي وتعجيل البلاء، كما قد يدعونه بالرزق والرحمة وإعطاء السّؤل.
يقول: فلو أجابهم الله إذا دعوه بالشر الذي يستعجلونه استعجالهم بالخير- لقضي إليهم أجلهم، أي لهلكوا.
وفي الكلام حذف للاختصار، كأنه قال: ولو يعجّل الله للنّاس إجابتهم بالشر الذي يستعجلونه استعجالهم بالخير، لهلكوا.

في سورة هود
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) [هود: 17] .
هذا كلام مردود إلى ما قبله، محذوف منه الجواب للاختصار، على ما بيّنا في (باب المجاز) .
وإنما ذكر الله تعالى قبل هذا الكلام قوما ركنوا إلى الدنيا ورضوا بها عوضا من الآخرة فقال:
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) [هود: 15] .
أي نؤتيهم ثواب أعمالهم في الدنيا، إذ كان عملهم لها وطلبهم ثوابها، وليس لهم في الآخرة إلا النار.
وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها أي ذهب وبطل، لأنهم لم يريدوا الله بشيء منه.
ثم قايس بين هؤلاء وبين النبي صلّى الله عليه وسلم وصحابته فقال: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ يعني محمدا، صلّى الله عليه وسلم. وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ أي من ربّه. (الهاء) مردودة إلى الله تعالى.
والشاهد من الله تعالى للنبي، صلّى الله عليه وسلم: جبريل عليه السلام، يريد أنه يتبعه ويؤيّده ويسدّده ويشهده.
ويقال: الشاهد: (القرآن) يَتْلُوهُ يكون بعده تاليا شاهدا له.
وهذا أعجب إليّ، لأنّه يقول: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى يعني التوراة.

(1/226)


إِماماً وَرَحْمَةً قبل القرآن يشهد له بما قدّم الله فيها من ذكره.
والجواب هاهنا محذوف. أراد أفمن كانت هذه حاله كهذا الذي يريد الحياة الدنيا وزينتها؟ فاكتفى من الجواب بما تقدم، إذ كان فيه دليل عليه.
ومثله قوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ، ولم يذكر الذي هو ضده؟ لأنه قال بعد: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:
9] .
فالقانتون آناء الليل والنهار هم الذين يعلمون، وأضدادهم، هم الذين لا يعلمون، فاكتفى من الجواب بما تأخّر من القول، إذ كان فيه دليل عليه.
وقوله: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، يعني أصحاب محمد، صلّى الله عليه وسلم، يؤمنون بهذا.
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ، يعني مشركي العرب وغيرهم. فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ، فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ، أي في شك. إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، الخطاب للنبي، صلّى الله عليه وسلم، والمراد غيره، على ما بينا في (باب الكناية) .

في سورة الأنعام
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) [الأنعام: 154] .
أراد: آتينا موسى الكتاب تماما على المحسنين، كما تقول: أوصي بمالي للذي غزا وحج، تريد الغازين الحاجّين، ويكون (الذي) في موضع (من) كأنه قال: تماما على من أحسن.
والمحسنون: هم الأنبياء، صلوات الله عليهم أجمعين، والمؤمنون. و (على) في هذا الموضع بمعنى (لام الجر) كما يقال: أتمّ الله عليه وأتمّ له قال الرّاعي «1» :
رعته أشهرا وخلا عليها ... فطار النّيّ فيها واستغارا
أراد: وخلا لها.
وتلخيصه: آتينا موسى الكتاب تتميما منّا للأنبياء وللمؤمنين- الكتب.
__________
(1) البيت من الوافر، وهو للراعي النميري في ديوانه ص 142، وخزانة الأدب 10/ 140، 142، ولسان العرب (غور) ، (خلا) .

(1/227)


وَتَفْصِيلًا منّا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً.
وقد يكون أن تجعل (الذي) بمعنى (ما) أي آتينا موسى الكتاب تماما على أحسن من العلم والحكمة وكتب الله المتقدمة. وأراد بقوله: تَماماً على ذلك، أي زيادة على ذلك.
والتأويل الأول أعجب إليّ، لأنه في مصحف عبد الله: تماما على الذين أحسنوا. وفي هذا ما دل على ذلك التأويل.
وقد ينصرف أيضا إلى معنى آخر، كأنه قال: آتيناه الكتاب إتماما منّا للإحسان على من أحسن.

في سورة المائدة
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) [المائدة: 33] .
المحاربون لله ورسوله: هم الخارجون على الإمام وعلى جماعة المسلمين، يخيفون السّبل، ويسعون في الأرض بالفساد. وهم ثلاثة أصناف:
رجل قتل النفس ولم يأخذ مالا.
ورجل قتل النفس وأخذ المال.
ورجل أخذ المال ولم يقتل النفس.
فإذا قدر الإمام عليهم فإنّ بعضهم يقول: هو مخيّر في هذه العقوبات، بأيّها شاء عاقب كل صنف منهم.
وكان بعضهم يجعل لكل صنف منهم حدّا لا يتجاوزه إلى غيره:
فمن قتل النفس ولم يأخذ المال قتل، لأن النفس بالنفس.
ومن قتل وأخذ المال: صلب إلى أن يموت، فكان الشّهر له بالصّلب جزاء له بأخذه المال، وقتله جزاء له بقتله للنفس.
ومن أصاب المال ولم يقتل، فإن شاء الإمام قطع يده اليمنى جزاء بالسّرق، ورجله اليسرى جزاء بالخروج والمجاهرة بالفساد. وإن شاء نفاه من الأرض.

(1/228)


وقد اختلفوا في نفيه من الأرض، فقال بعضهم: هو أن يقال: من لقيه فليقتله.
وقال آخر: هو أن يطلب في كل أرض يكون بها.
وقال آخر: هو أن ينفى من بلده.
وقال آخر: هو أن يحبس.
قال أبو محمد:
ولا أرى شيئا من هذه التفاسير، أشبه بالنفي في هذا الموضع من الحبس، لأنّه إذا حبس ومنع من التصرّف والتقلّب في البلاد، فقد نفي منها كلّها وألجئ إلى مكان واحد. وقال بعض المسجونين «1» :
خرجنا من الدّنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا جاءنا السّجّان يوما لحاجة ... عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدّنيا
ومن جعل النفي له أن يقال: من لقيه فليقتله، أو أن يطلب في كل أرض يكون بها- فإنه يذهب- فيما أحسب- إلى أنّ هذا جزاؤه قبل أن يقدر عليه، لأنّه لا يجوز أن يكون الإمام يظفر به فيدع عقوبته ثم يقول: من لقيه فليقتله. أو يجده فيتركه ثم يطلبه في كل أرض.
وإذا كان هذا هكذا اختلفت العقوبات فصار بعضها لمن قدر عليه، وبعضها لمن لم يقدر عليه. وأشبه الأشياء أن تكون كلّها فيمن ظفر به.
وأما نفيه من بلده إلى غيره، فليس نفي الخارب «2» من بلده إلى غيره عقوبة له، إذ كان في خرابته وخروجه غائبا عن مصره، بل هو إهمال وتسليط وبعث على التّزيّد في العيث والفساد.

في سورة الأنبياء
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) [الأنبياء: 87] .
__________
(1) البيتان من الطويل، وهما لصالح بن عبد القدوس في أمالي المرتضى 1/ 101، وبلا نسبة في عيون الأخبار 1/ 81- 82، والمحاسن والأضداد ص 38.
(2) الخارب: اللّص.

(1/229)


يستوحش كثير من الناس من أن يلحقوا بالأنبياء ذنوبا، ويحملهم التنزيه لهم، صلوات الله عليهم، على مخالفة كتاب الله جلّ ذكره، واستكراه التأويل، وعلى أن يلتمسوا لألفاظه المخارج البعيدة بالحيل الضعيفة التي لا تخيل عليهم، أو على من علم منهم- أنّها ليست لتلك الألفاظ بشكل، ولا لتلك المعاني بلفق.
كتأوّلهم في قوله تعالى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: 121] أي: بشم من أكل الشجرة. وذهبوا إلى قول العرب: غوى الفصيل: إذا أكثر من اللبن حتى يبشم. وذلك غوى- بفتح الواو- يغوي غيّا. وهو من البشم غوي- بكسر الواو- يغوى غوى. قال الشاعر يذكر قوسا «1» :
معطّفة الأثناء ليس فصيلها ... برازئها ذرّا ولا ميّت غوى
وأراد بالفصيل: السّهم. يقول: ليس يرزؤها درّا، ولا يموت بشما، ولو وجد أيضا في (عصى) مثل هذا السّنن لركبوه، وليس في (غوى) شيء إلا ما في (عصى) من معنى الذّنب، لأن العاصي لله التّارك لأمره غاو في حاله تلك، والغاوي عاص. والغيّ ضدّ الرّشد، كما أن المعصية ضد الطاعة.
وقد أكل آدم، صلّى الله عليه وسلم، من الشجرة التي نهي عنها باستزلال إبليس وخدائعه إيّاه بالله والقسم به إنه لمن الناصحين، حتى دلّاه بغرور «2» . ولم يكن ذنبه عن إرصاد «3» وعداوة وإرهاص «4» كذنوب أعداء الله. فنحن نقول: (عصى وغوى) ، كما قال الله تعالى، ولا نقول: آدم (عاص ولا غاو) ، لأن ذلك لم يكن عن اعتقاد متقدّم ولا نيّة صحيحة، كما تقول لرجل قطع ثوبا وخاطه: قد قطعه وخاطه، ولا تقل خائط ولا خيّاط حتى يكون معاودا لذلك الفعل، معروفا به.
وكتأولهم في قوله سبحانه: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها أنها همّت بالمعصية، وهمّ بالفرار منها! وقال (بعضهم) : وهمّ بضربها! والله تعالى يقول: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ [يوسف: 24] . أفتراه أراد الفرار منها. أو الضرب لها، فلما رأى البرهان أقام
__________
(1) البيت من الطويل، وهو لعامر المجنون في تاج العروس (غوي) (ولعله عامر بن المجنون الجرمي المذكور في الأغاني 3/ 109، 122، وكان يلقب بمدرج الريح) . والبيت بلا نسبة في لسان العرب (غوي) ، وتهذيب اللغة 8/ 218، ومقاييس اللغة 4/ 400، والمخصص 7/ 41، 180، 15/ 162، وديوان الأدب 4/ 97.
(2) دلاه بغرور: أي أوقعه فيما أراد من تغريره.
(3) الإرصاد: الإعداد.
(4) الإرهاص على الذنب: الإصرار عليه.

(1/230)


عندها وأمسك عن ضربها؟! هذا ما ليس به خفاء ولا يغلط متأوّله. ولكنها همّت منه بالمعصية همّ نيّة واعتقاد، وهمّ نبي الله صلّى الله عليه وسلم، همّا عارضا بعد طول المراودة، وعند حدوث الشهوة التي أتي أكثر الأنبياء في هفواتهم منها.
وقد روي في الحديث: أنه ليس من نبي إلا وقد أخطأ أو همّ بخطيئة غير يحيى بن زكريا، عليهما السلام
، لأنّه كان حصورا لا يأتي النساء ولا يريدهنّ «1» . فهذا يدلّك على أنّ أكثر زلّات الأنبياء من هذه الجهة، وإن كانوا لم يأتوا في شيء منها فاحشة، بنعم الله عليهم ومنّه، فإن الصغير منهم كبير، لما آتاهم الله من المعرفة.
واصطفاهم له من الرسالة، وأقام عليهم من الحجّة. ولذلك قال يوسف، صلّى الله عليه وسلم: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: 53] ، يريد ما أضمره وحدّث به نفسه عند حدوث الشّهوة. وقد وضع الله تعالى الحرج عمّن همّ بخطيئة ولم يعملها.
وقالوا في قوله: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً: إنه غاضب قومه! استيحاشا من أن يكون مع تأييد الله وعصمته وتوفيقه وتطهيره، يخرج مغاضبّا لربّه. ولم يذهب مغاضبا لربّه ولا لقومه، لأنّه بعث إليهم فدعاهم برهة من الدّهر فلم يستجيبوا، ووعدهم عن الله فلم يرغبوا، وحذّرهم بأسه فلم يرهبوا، وأعلمهم أنّ العذاب نازل عليهم لوقت ذكره لهم، ثم إن اعتزلهم ينتظر هلكتهم. فلما حضر الوقت أو قرب فكّر القوم واعتبروا، فتابوا إلى الله وأنابوا، وخرجوا بالمراضيع وأطفالها يجأرون ويتضرّعون، فكشف الله تعالى عنهم العذاب، ومتّعهم إلى حين.
فإن كان نبي الله، صلّى الله عليه وسلم، ذهب مغاضبا على قومه قبل أن يؤمنوا، فإنما راغم من استحق في الله أن يراغم، وهجر من وجب أن يهجر، واعتزل من علم أن قد حقّت عليه كلمة العذاب. فبأيّ ذنب عوقب بالتهام الحوت، والحبس في الظّلمات، والغمّ الطويل؟.
__________
(1)
أخرجه أحمد في المسند 1/ 254، 292، 295، 301، 320، بلفظ: عن ابن عباس: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما من أحد من ولد آدم إلا قد أخطأ أو همّ بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا» .
وروي الحديث بلفظ: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كل بني آدم يلقى الله بذنب، وقد يعذبه عليه إن شاء، أو يرحمه، إلا يحيى بن زكريا، فإنه كان سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين» ، وأهوى النبي صلّى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال: «ذكره مثل هذه القذاة» .
أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 373، وابن الجوزي في زاد المسير 1/ 383، والسيوطي في الدر المنثور 4/ 262، والشوكاني في الفوائد المجموعة 397، وابن أبي حاتم الرازي في علل الحديث 1835، 1913، والمتقي الهندي في كنز العمال 32428، والطبري في تفسيره 6/ 377- 378، والهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 209.

(1/231)


وما الأمر الذي ألام فيه فنعاه الله عليه إذ يقول: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) [الصافات: 142] والمليم: الذي أجرم جرما استوجب به الّلوم.
ولم أخرجه من أولي العزم من الرّسل، حين يقول لنبيه، صلّى الله عليه وسلم: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) [القلم: 48] .
وإن كان الغضب عليهم بعد أن آمنوا، فهذا أغلظ مما أنكروا، وأفحش مما استقبحوا، كيف يجوز أن يغضب على قومه حين آمنوا، ولذلك انتخب وبه بعث، وإليه دعا؟!.
وما الفرق بين عدو الله ووليّه إن كان وليّه يغضب من إيمان مائة ألف أو يزيدون؟.
والقول في هذا أنّ المغاضبة: المفاعلة من الغضب، والمفاعلة تكون من اثنين، تقول: غاضبت فلانا مغاضبة وتغاضبنا: إذا غضب كلّ واحد منكما على صاحبه، كما تقول: ضاربته مضاربة، وقاتلته مقاتلة، وتضاربنا وتقاتلنا.
وقد تكون المفاعلة من واحد، فنقول: غاضبت من كذا: أي غضبت، كما تقول:
سافرت وناولت، وعاطيت الرّجل، وشارفت الموضع، وجاوزت، وضاعفت، وظاهرت، وعاقبت.
ومعنى المغاضبة هاهنا: الأنفة، لأن الأنف من الشيء يغضب، فتسمّى الأنفة غضبا، والغضب أنفة، إذا كان كل واحد بسبب من الآخر، تقول: غضبت لك من كذا، وأنت تريد أنفت، قال الشاعر «1» :
غضبت لكم أن تساموا اللّفاء ... بشجناء من رحم توصل
يروى مرة: (أنفت لكم) ، ومرة: (غضبت لكم) ، لأنّ المعنيين متقاربان.
وكذلك (العبد) أصله: الغضب. ثم قد تسمّى الأنفة عبدا.
وقال الشاعر «2» :
وأعبد أن تهجى تميم بدارم
__________
(1) البيت من المتقارب، وهو لخداش بن زهير في المعاني الكبير 1/ 528.
(2) صدر البيت: أولئك قومي إن هجوني هجوتهم وتقدم البيت مع تخريجه قبل قليل.

(1/232)


يريد: آنف.
وحكى أبو عبيد، عن أبي عمرو، أنه قال في قوله تعالى: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف: 81] : هو من الغضب والأنفة. ففسّر الحرف بالمعنيين لتقاربهما.
فكأنّ نبيّ الله، صلّى الله عليه وسلم، لمّا أخبرهم عن الله أنّه منزل العذاب عليهم لأجل، ثم بلغه بعد مضيّ الأجل أنّه لم يأتهم ما وعدهم- خشي أن ينسب إلى الكذب ويعيّر به، ويحقّق عليه، لا سيّما ولم تكن قرية آمنت عند حضور العذاب فنفعها إيمانها غير قومه، فدخلته الأنفة والحميّة، وكان مغيظا بطول ما عاناه من تكذيبهم وهزئهم وأذاهم واستخفافهم بأمر الله، مشتهيا لأن ينزل بأس الله بهم. هذا إلى ضيق صدره، وقلّة صبره على ما صبر على مثله أولوا العزم من الرّسل.
وقد روي في الحديث أنه كان ضيّق الصدر، فلما حمّل أعباء النّبوّة تفسّخ تحتها تفسّخ الرّبع تحت الحمل الثّقيل، فمضى على وجهه مضيّ الآبق النّادّ.
يقول الله سبحانه: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)
[الصافات: 139، 140] .
فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ، أي لن نضيّق عليه، وأنّا نخلّيه ونهمله. والعرب تقول: فلان مقدّر عليه في الرزق، ومقتّر عليه، بمعنى واحد، أي مضيّق عليه. ومنه قوله تعالى: وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر: 16] . وقدر- بالتخفيف والتثقيل- قال أبو عمرو بن العلاء: قتر وقتّر وقدر وقدّر، بمعنى واحد، أي ضيّق. فعاقبه الله عن حميّته وأنفته وإباقته، وكراهيته العفو عن قومه، وقبول إنابتهم- بالحبس له، والتّضييق عليه في بطن الحوت.
وفي رواية أبي صالح: أن ملكا من ملوك بني إسرائيل كان أمره بالمسير إلى نينوى ليدعو أهلها بأمر شعياء النبي صلّى الله عليه وسلم، فأنف من أن يكون ذهابه إليهم بأمر أحد غير الله تعالى، فخرج مغاضبا للملك، فعاقبه الله بالتقام الحوت.
قال: فلما قذفه الحوت بعثه الله إلى قومه فدعاهم. وأقام بينهم حتى آمنوا.

في سورة يوسف
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ [يوسف: 110] .

(1/233)


قد تكلم المفسرون في هذه الآية بما فيه مقنع وغناء عن أن يوضّح بغير لفظهم:
فروى عبد الرّزاق، عن معمر، عن قتادة، أنه قال: اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ من قومهم وَظَنُّوا أي: علموا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا وكان يقرؤها بالتشديد.
وروى عبد الرزّاق، عن معمر، عن الزّهري، عن عروة، عن عائشة أنها قالت:
استيئس الرّسل ممن كذّبهم من قومهم أن يصدّقوهم، وظنّت الرّسل أن من قد آمن بهم من قومهم قد كذّبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك. وكانت تقرأ فكذبوا بضم الكاف وتشديد الذال.
وروى حجّاج، عن ابن جريج: عن ابن أبي مليكة، عن عروة، عن (عائشة) ، أنها قالت: لم يزل البلاء بالرّسل حتى خافوا أن يكون من معهم من المؤمنين قد كذّبوهم.
وروى حجّاج، عن ابن جريج، عن مجاهد أنه قرأها قَدْ كُذِبُوا بفتح الكاف والذال وتخفيف الذال، يريد: حتى إذا استيئس الرسل من إيمان قومهم فظنّ قومهم أنّ الرّسل قد كذبوا فيما بلّغوا عن الله عز وجل.
وروى حجّاج، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس أنه قرأ:
كُذِبُوا بضم الكاف، وكسر الذال، وتخفيفها. وقال: كانوا بشرا، يعني الرسل، يذهب إلى أن الرسل ضعفوا فظنّوا أنهم قد أخلفوا.
وهذه مذاهب مختلفة، والألفاظ تحتملها كلّها، ولا نعلم ما أراد الله عز وجل، غير أنّ أحسنها في الظاهر، وأولاها بأنبياء الله صلوات الله عليهم، ما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

في سورة لإيلاف قريش
يذهب بعض الناس إلى أنّ هذه السورة وسورة الفيل واحدة.
وبلغني عن ابن عيينة «1» أنه قال: كان لنا إمام بالكوفة يقرأ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) [الفيل: 1] ولِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) [قريش: 1] ولا يفرّق بينهما.
وتوهّم القوم أنهما سورة واحدة، لأنهم رأوا قوله: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ مردودا إلى كلام في سورة الفيل.
__________
(1) ابن عيينة: هو سفيان بن عيينة، تقدمت ترجمته. [.....]

(1/234)


وأكثر الناس على أنهما سورتان، على ما في مصحفنا، وإن كانتا متّصلتي الألفاظ، على مذهب العرب في التضمين.
والمعنى أنّ قريشا كانت بالحرم آمنة من الأعداء أن تهجم عليها فيه، وأنّ يعرض لها أحد بسوء إذا خرجت منه لتجارتها. وكانوا يقولون: قريش سكان حرم الله، وأهل الله وولاة بيته. والحرم واد جديب لا زرع فيه ولا ضرع، ولا شجر ولا مرعى، وإنما كانت تعيش فيه بالتجارة، وكانت لهم رحلتان في كل سنة: رحلة إلى اليمن في الشتاء، ورحلة في الصيف إلى الشام. ولولا هاتان الرّحلتان لم يمكن به مقام، ولولا الأمن بجوارهم البيت، لم يقدروا على التصرّف.
فلمّا قصد أصحاب الفيل إلى مكة ليهدموا الكعبة وينقلوا أحجارها إلى اليمن فيبنوا به هناك بيتا ينتقل به الأمن إليهم، ويصير العزّ لهم، أهلكهم الله سبحانه، لتقيم قريش بالحرم، ويجاوروا البيت، فقال يذكر نعمته: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) [الفيل: 1، 5] . لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قريش: 1] . أي: فعل ذلك ليؤلّف قريشا هاتين الرّحلتين اللّتين بهما تعيشّهم ومقامهم بمكة تقول: ألفت موضع كذا: إذا لزمته، وآلفنيه الله، كما تقول: لزمت موضع كذا، وألزمنيه الله.
وكرّر (لإيلاف) كما تقول في الكلام: أعطيتك المال لصيانة وجهك صيانة عن كلّ الناس، فتكرّر الكلام للتوكيد، على ما بينا في (باب التكرار) .
ثم أمرهم بالشكر فقال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ [قريش:
3، 4] في هذا الموضع الجديب من الجوع، وآمنهم فيه، والناس يتخطّفون حوله من الخوف.

في سورة النحل
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) [النحل: 48] .
تفيؤ الظّلال: رجوعها من جانب إلى جانب، فهي مرة تجاه الشّخص، ومرة وراءه، ومرة عن يمينه، ومرة عن شماله.
وأصل الفيء: الرّجوع، ومنه قيل للظل في العشيّ: فيء، لأنه فاء، أي رجع من جانب إلى جانب. ومنه الفيء في الإيلاء إنما هو: الرّجوع إلى المرأة.

(1/235)


وأصل السجود: التطأطؤ والميل، يقال: سجد البعير وأسجد: إذا طؤطىء ليركب، وسجدت النّخلة: إذا مالت. قال: لبيد يصف نخلا «1» :
غلب سواجد لم يدخل بها الحصر فالغلب: الغلاظ الأعناق. والسّواجد: الموائل.
ومن هذا قيل لمن وضع جبهته بالأرض: ساجد، لأنه تطامن في ذلك. ثم قد يستعار السجود فيوضع موضع الاستسلام والطاعة والذّل، كما يستعار التطأطؤ والتّطامن فيوضعان موضع الخشوع والخضوع والانقياد والذل، فيقال: تطامن للحق، أي أخضع له، وتطأطأ لها تخطّك، أي تذلّل لها ولا تعزّز.
ومن الأمثال المبتذلة: اسجد للقرد في زمانه «2» . يراد: اخضع للسّفلة واللئيم في دولته، ولا يراد معنى سجود الصلاة. قال الشاعر «3» :
بجمع تضلّ البلق في حجراته ... ترى الأكم فيها سجّدا للحوافر
يريد أن حوافر الخيل قد قلعت الأكم ووطئتها حتى خشعت وانخفضت. ومن خلق الله عز وجل: المسخّر المقصور على فعل واحد، كالنّار شأنها الإحراق، والشمس والقمر شأنهما المسير الليل والنّهار دائبين، والفلك المسخّر للدّوران.
ومنه المسخّر لمعنيين، ثم هو مخيّر بينهما، كالإنسان في الكلام والسكوت، والقيام والقعود، والحركة والسكون. والشمس والظلّ، خلقان مسخّران لأن يعاقب كلّ
__________
(1) صدر البيت: بين الصفا وخليج العين ساكنة والبيت من البسيط، وهو للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 60، وتاج العروس (سجد) ، (شمذ) ، وتهذيب اللغة 3/ 48، 10/ 572، 11/ 336، والمخصص 11/ 113، 114، ولسان العرب (سجد) . وفيه: «الخصر» بدل: «الحصر» . والبيت بلا نسبة في لسان العرب (عوج) ، (شمذ) .
(2) هو جزء من رجز، وتمامه:
فإن تلقاك بقيروانه ... أو خفت بعض الجور من سلطانه
فاسجد لقرد السوء في زمانه والرجز بلا نسبة في لسان العرب (قرا) ، وتاج العروس (قرا) .
(3) البيت من الطويل، وهو لزيد الخيل الطائي في الكامل 1/ 358، والأغاني 16/ 52، ومجموعة المعاني ص 192،، ومجمع البيان 1/ 141، وتفسير الطبري 1/ 289، ولعروة بن زيد في الوساطة ص 435، وبلا نسبة في تفسير الطبري 1/ 238، والأضداد لابن الأنباري ص 257، وكتاب الصناعتين ص 221، والصاحبي في فقه اللغة ص 224، والأزمنة والأمكنة 1/ 35، ولسان العرب (سجد) ، وتفسير البحر المحيط 1/ 51.

(1/236)


واحد منهما صاحبه بغير فصل.
والظلّ في أول النهار قبل طلوع الشمس يعمّ الأرض كما تعمّها ظلمة الليل، ثم تطلع الشمس فتعمّ الأرض إلا ما سترته الشّخوص، فإذا ستر الشّخص شيئا عاد الظّل.
فرجوع الظلّ بعد أن كان شمسا، ودورانه من جانب إلى جانب- هو سجوده، لأنه مستسلم منقاد مطيع بالتّسخير، وهو في ذلك يميل، والميل: سجود.
وكذلك قوله: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) [الرحمن: 6] ، أي يستسلمان لله بالتّسخير.
وقوله: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) [الرعد: 15] ، أي يستسلم من في السموات من الملائكة، ومن في الأرض من المؤمنين طوعا، ويستسلم من فى الأرض من الكافرين كرها من خوف السيف.
وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ مستسلمة.
وهو مثل قوله: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران: 83] .

في سورة ويل لكل همزة
نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) [الهمزة: 6، 7] .
قوله: تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ أي توفي عليها وتشرف، ويقال: طلع الجبل واطّلع عليه: إذا علا فوقه.
وخصّ الأفئدة، لأنّ الألم إذا صار إلى الفؤاد مات صاحبه. فأخبرنا أنهم في حال من يموت وهم لا يموتون.
وهو كما قال: فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [طه: 74] يريد أنه في حال من يموت وهو لا يموت.

في سورة محمد صلّى الله عليه وسلم
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) [محمد: 20، 22] .

(1/237)


كان المسلمون إذا بطل الوحي يقولون: هلّا نزل شيء، تأميلا أن تنزل عليهم بشرى من الله وفتح وخير وتخفيف فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ أي محدثة. وسميت المحدثة: محكمة، لأنها حين تنزل تكون كذلك حتى ينسخ منها شيء. وهي في حرف عبد الله فإذا أنزلت سورة محدثة وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ، أي فرض فيها الجهاد رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك ونفاق يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، يريد أنهم يشخصون نحوك بأبصارهم، وينظرون نظرا شديدا بتحديق، وتحديد، كما ينظر الشّاخص ببصره عند الموت، من شدّة العداوة. والعرب تقول:
رأيته لمحا باصرا أي نظرا صلبا بتحديق. ونحوه قوله: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ [القلم: 51] ، أي يسقطونك بشدة نظرهم، وقد تقدم ذكر هذا.
ثم قال: فَأَوْلى لَهُمْ تهدّد ووعيد. وتمّ الكلام، ثم قال: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ وهذا مختصر، يريد قولهم قبل نزول الفرض: سمع لك وطاعة.
فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ، أي جاء الجدّ كرهوا ذلك، فحذف الجواب على ما بينت في باب الاختصار.
ثم ابتدأ فقال: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ. ثم قال: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ، أي انصرفتم عن النبي، صلّى الله عليه وسلم، وما يأمركم به أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ، يريد فهل تريدون إذا أنتم تركتم محمدا، صلّى الله عليه وسلم، وما يأمركم به- أن تعودوا إلى مثل ما كنتم عليه من الكفر، والإفساد في الأرض وقطع الأرحام؟

في سورة ق
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (24) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) [ق: 21، 29] .
السائق هاهنا: قرينها من الشياطين، سمّي سائقا، لأنه يتبعها وإن لم يحثّها ويدفعها. وكان رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، يسوق أصحابه، أي يكون وراءهم.
والشّهيد: الملك الشاهد عليها بما عملت.
يقول الله تعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا في الدنيا. فَكَشَفْنا عَنْكَ

(1/238)


غِطاءَكَ
أي: أريناك ما كان مستورا عنك في الدنيا.
فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أي: فأنت ثاقب البصر لمّا كشف عنك الغطاء.
وَقالَ قَرِينُهُ يعني: الملك.
هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ يعني: ما كتبه من عمله، حاضر عندي.
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ يقال: هو قول الملك، ويقال: قول الله جل ذكره.
وقالَ قَرِينُهُ من الشياطين: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ.
وهذا مثل قوله سبحانه: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: 22] يعني:
قرناءهم. والعرب تقول: زوّجت البعير بالبعير، إذا قرنت أحدهما بالآخر. ومنه قوله:
كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) [الدخان: 54] أي: قرنّاهم بهن.
ثم قال: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) [الصافات: 27، 31] يعني: نحن وأنتم ذائقون العذاب، وقد تقدم تفسير هذا.
قال الله تعالى: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ [ق: 28] يعني: المجرمين وقرناءهم من الشياطين وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: 28، 29] . أي: لا يغيّر عن جهته، ولا يحرّف، ولا يزاد فيه ولا ينقص، لأنّي أعلم كيف ضلّوا وكيف أضللتموهم.
وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق: 29] .

في سورة الروم
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ [الروم: 1، 5] .
كانت (فارس) غلبت (الروم) على أرض الجزيرة، وهي أدنى أرض الروم من سلطان فارس، فسرّ بذلك مشركو قريش.
وكان المسلمون يحبّون أن تظهر الروم على أهل فارس، لأن الروم أهل كتاب، وأهل فارس مجوس، فساءهم أن غلبوهم على شيء من بلادهم، فأنزل الله تعالى:

(1/239)


وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ أي: والروم من بعد أن غلبوا سَيَغْلِبُونَ أهل فارس. وغلبهم يكون للغالبين والمغلوبين جميعا، كما تقول: والشهداء من بعد قتلهم سيرزقون، أي:
من بعد أن قتلوا فِي بِضْعِ سِنِينَ والبضع: ما فوق الثلاث ودون العشر. فغلبت الروم أهل فارس وأخرجوهم من بلادهم يوم الحديبية.
لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي: له الغلبة لمن شاء من قبل ومن بعد وَيَوْمَئِذٍ أي: يوم يغلب الروم أهل فارس يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ أهل الكتاب على المجوس.
قال الشّعبي في سورة الفتح: أنزلت بعد الحديبية، فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبايعوه مبايعة الرّضوان، وأطعموا نخل خيبر، وظهرت الرّوم على فارس، وفرح المؤمنون بتصديق كتاب الله، وظهرت الروم على المجوس.

في سورة القصص
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص:
85، 86] .
معاد الرّجل: بلده، لأنه يتصرّف في البلاد، ويضرب في الأرض ثم يعود إلى بلده. يقال: ردّ فلان إلى معاده، أي ردّ إلى بلده. ومثله قولهم لمنزل الرجل: مثاب ومثابة، لأنّه يتصرّف في حوائجه ثم يثوب إليه.
وكان رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، حين خرج من مكة إلى المدينة اغتم بمفارقة مكة، لأنّها مولده وموطنه ومنشؤه، وبها أهله وعشيرته، واستوحش. فأخبره الله سبحانه في طريقه أنّه سيردّه إلى مكة، وبشّره بالظهور والغلبة.
وفي الآية تقديم وتأخير، والمعنى: إنّ الذي فرض عليك القرآن، أي جعلك نبيّا ينزل عليك القرآن وما كنت ترجو قبل ذلك أن تكون نبيّا يوحى إليك الكتاب- لرادّك إلى مكة ظاهرا قاهرا. وهو معنى تفسير أبي صالح ومجاهد.
وقال الحسن: معاده: يوم القيامة ووافقه على ذلك الزّهري وروى عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة، قال: هذا مما كان ابن عباس يكتمه.

(1/240)


في سورة الجن
قال أبو محمد:
في هذه السورة إشكال وغموض: بما وقع فيها من تكرار (إنّ) واختلاف القرّاء في نصبها وكسرها، واشتباه ما فيها من قول الله تعالى وقول الجن، فاحتجنا إلى تأويل السورة كلّها.
قال تعالى لنبيه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وكانوا استمعوا لرسول الله، صلّى الله عليه وسلم، وهو يقرأ: فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً [الجن: 1] يعني أنهم قالوا ذلك لقومهم حين رجعوا إليهم. واعتبار هذا قوله: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ثم قال: فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف: 29] .
ثم قال: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) [الجن: 3] يقال: جدّ فلان في قومه: إذا عظم عندهم.
ثم قال: وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) [الجن: 4] أي: جاهلنا يقول شططا، أي: غلوا في الكذب والجور.
ثم قال: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) [الجن: 5] .
يقولون: كنا نتوهم أنّ أحدا لا يقول على الله باطلا. يريدون: إنّا كنا قبل اليوم نصدّقهم ونحن نظن أن أحدا لا يكذب على الله. وانقطع هاهنا قول الجن.
و (إن) في جميع هذا مكسورة إلا (أنّه استمع) .
وقال الله تعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 6] فإن شئت أن تنصب وَأَنَّهُ وتردها إلى قوله: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ، وأنه أوحى إليّ أنه كان رجال- نصبت. وإن شئت أن تكسرها وتجعلها مبتدأة من الله سبحانه، فعلت.
وكان الرجل في الجاهلية إذا سافر فصار إلى موضع مقفر موحش لا أنيس به، قال: أعوذ بسيّد هذا المكان من سفهائه. يعني سفهاء الجن ويعني بالسيد: رئيسهم.
يقول الله عز وجل: فَزادُوهُمْ رَهَقاً [الجن: 6] يريد أنهم يزدادون بهذا التعوّذ طغيانا وإثما فيقولون: سدنا الجن والإنس.
ثم قال تعالى: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) [الجن: 7] يقول:
ظن الجن كما ظننتم أيها الإنس أن لا بعث يوم القيامة. أي كانوا لا يؤمنون بالبعث كما أنكم لا تؤمنون به.

(1/241)


وانقطع هاهنا قول الله تعالى.
وقال الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) [الجن: 8] .
و (إنّا) مكسورة نسق على ما تقدم من قولهم. يريدون: حرست بالنجوم من استماعنا وكنا قبل ذلك نقعد منها مقاعد للسمع.
وروى عبد الرّزّاق عن معمر أنه قال: قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ فقال: نعم.
قلت: أفرأيت قوله: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) [الجن: 9] .
فقال: غلّظت وشدّد أمرها حين بعث النبي، صلّى الله عليه وسلم.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزّهري، عن علي بن حسين، عن ابن عباس أنه قال: بينا النبي، صلّى الله عليه وسلم، جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار، فقال: ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟ فقالوا: كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم «1» .
في حديث فيه طول اختصرناه وذكرنا هذا منه لندلّ على أن الرجم قد كان قبل مبعثه ولكنه لم يكن مثله الآن في شدة الحراسة قبل مبعثه، وكانت تسترق في بعض الأحوال، فلما بعث منعت من ذلك أصلا.
وعلى هذا وجدنا الشعراء القدماء:
قال بشر بن أبي خازم الأسدي وهو جاهلي «2» :
__________
(1)
لفظ الحديث بتمامه: عن عبد الله بن عباس قال: أخبرني رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم من الأنصار، أنهم بينا هم جلوس ليلة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم رمي بنجم فاستنار. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ماذا كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا؟» ، قالوا: الله ورسوله أعلم، كنا نقول: ولد الليلة رجل عظيم ومات رجل عظيم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه، إذا قضى أمر سبّح حملة العرش، ثم سبّح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا. ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ماذا قال. قال: فيستخبر بعض أهل السماوات بعضا، حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا، فتختطف الجن السمع، فيقذفون إلى أوليائهم، ويرمون به، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون» . أخرجه مسلم في السلام حديث 124، والترمذي في تفسير سورة 34، باب 3، وأحمد في المسند 1/ 218.
(2) البيت من الكامل، وهو لبشر بن أبي حازم في ديوانه ص 37، والمعاني الكبير 2/ 739، وكتاب

(1/242)


والعير يرهقهما الغبار وجحشها ... ينقضّ خلفهما انقضاض الكوكب
وقال أوس بن حجر، وهو جاهلي «1» :
وانقضّ كالدّرّيّ يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا
وقال عوف بن الخرع، وهو جاهلي «2» :
يردّ علينا العير من دون أنفه ... أو الثّور كالدّرّيّ يتبعه الدّم
وفي أيدي الناس كتب من كتب الأعاجم وسيرهم: تنبىء عن انقضاض النجوم في كلّ عصر وكلّ زمان.
ثم قالت الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ حين اشتدت حراسة السماء من استراق السمع أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن: 10] أي خيرا.
ثم قالت الجن: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ بعد استماع القرآن: وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أي:
منّا بررة أتقياء، ومنا دون البررة، وهم مسلمون وكُنَّا طَرائِقَ قِدَداً [الجن: 11] أي:
أصنافا، وكلّ فرقة قدّة، وهي مثل قطعة في التقدير وفي المعنى، فكأنّهم قالوا: نحن أصناف وقطع.
ثم قالت الجن: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ [الجن: 14] أي: الكافرون، الآية. وانقطع كلام الجن.
وقال الله تعالى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) [الجن: 16] أي: لو آمنوا جميعا لوسّعنا عليهم في الدنيا. وضرب الماء الغدق، وهو الكثير، لذلك مثلا، لأنّ الخير والرّزق كلّه بالمطر يكون، فأقيم مقامه إذ كان سببه، على ما أعلمتك في المجاز.
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [الجن: 17] . أي لتختبرهم فنعلم كيف شكرهم.
وفيه قول آخر، يقول: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا [الجن: 16] جميعا على طريقة الكفر: لوسّعنا عليهم وجعلنا ذلك فتنة لهم و (أن) منصوبة منسوقة على ما تقدّم من قوله سبحانه.
__________
الحيوان 6/ 273، 279.
(1) البيت من الكامل، وهو لأوس بن حجر في ديوانه ص 3، ولسان العرب (درأ) ، وتهذيب اللغة 14/ 158، وتاج العروس (درأ) ، والمعاني الكبير 2/ 738، وكتاب الحيوان 6/ 274.
(2) البيت من الطويل، وهو لعوف بن الخرع في كتاب الحيوان 6/ 275، والمعاني الكبير 2/ 739.

(1/243)


ثم قال: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً [الجن: 17] أي يدخله عذابا شاقا.
يقال: سلكت الخيط في الحبّة وأسلكته: إذا أدخلته، ومنه سمّي الخيط سلكا، تقول: سلكته سلكا، فتفتح أوّل المصدر. وتقول للخيط: هذا السّلك، فتكسر أوّل الاسم، مثل القطف والقطف.
ومن الصّعد قيل: تصعّدني هذا الأمر، أي شقّ علي. والصّعود: العقبة الشّاقة.
ومنه قوله: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) [المدثر: 17] ثم قال سبحانه: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) [الجن: 18] بنصب (أنّ) نسق على ما تقدّم من قوله: يريد أنّ السجود لله، ولا يكون لغيره، جمع مسجد، كما تقول: ضربت في البلاد مضربا بعيدا، وهذا مضرب بعيد.
ثم قال سبحانه: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ [الجن: 19] بنصب (أنّ) نسق على ما تقدم من قوله سبحانه. يريد لما قام النبي، عليه السلام يَدْعُوهُ أي يدعو الله كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً يعني الجنّ كادوا يلبدون به ويتراكبون، رغبة فيما سمعوا منه، وشهوة له.
ثم قال سبحانه لنبيه عليه السلام: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن: 21، 27] أي ارتضاء للنّبوّة والرّسالة، فإنّه يطلعه على ما يشاء من غيبه.
ثم قال: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً [الجن: 27] أي يجعل بين يديه وخلفه رصدا من الملائكة، يحوطون الوحي من أن تسترقه الشياطين فتلقيه إلى الكهنة، حتى تخبر به الكهنة إخبار الأنبياء، فلا يكون بينهم وبين الأنبياء فرق، ولا يكون للأنبياء دلالة.
ثم قال: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ [الجن: 28] أي ليبلّغوا رسالات ربهم.
و (العلم) هاهنا مثله في قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ [آل عمران: 142] يريد: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا تجاهدوا

(1/244)


وتصبروا، فيعلم الله ذلك ظاهرا موجودا يجب به ثوابكم، على ما بينا في غير هذا الموضع.

في سورة البقرة
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة: 275] . هذا في يوم القيامة. يريد أنه إذا بعث النّاس من قبورهم خرجوا مسرعين، يقول الله سبحانه: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) [المعارج: 43] أي يسرعون، إلّا أكلة الرّبا، فإنهم يقومون ويسقطون، كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان ويسقط، لأنهم أكلوا الرّبا في الدنيا فأرباه الله في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم، فهم ينهضون ويسقطون، ويريدون الإسراع فلا يقدرون.

في سورة الأحزاب
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) [الأحزاب: 72، 73] .
إن الله، جلّ ذكره، لما استخلف آدم على ذرّيته، وسلّطه على جميع ما في الأرض من الأنعام والطير والوحش- عهد إليه عهدا أمره فيه ونهاه، وحرّم عليه وأحلّ له، فقبله، ولم يزل عاملا به إلى أن حضرته الوفاة، فما حضرته، صلّى الله عليه وسلم، سأل الله أن يعلمه من يستخلف بعده، ويقلّده من الأمانة ما قلّده. فأمره أن يعرض ذلك على السموات بالشّرط الذي أخذ عليه من الثّواب إن أطاع، ومن العقاب إن عصى. فأبين أن يقبلنه شفقا من عقاب الله.
ثم أمره أن يعرض ذلك على الأرض والجبال، فكلّها أباه.
ثم أمره أن يعرضه على ولده، فعرضه عليه فقبله بالشّرط، ولم يتهيّب منه ما تهيبته السماء والأرض والجبال.
إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً لنفسه جَهُولًا بعاقبة ما تقلّد لربّه.
ثم قال لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ أي عرضنا ذلك عليه ليتقلّده، فإذا تقلّده ظهر نفاق المنافق وشرك المشرك، فعذّبه الله به، وظهر إيمان المؤمن فتاب الله عليه. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً للمؤمنين رَحِيماً.

(1/245)


هذا قول على مذهب بعض المفسرين.
وفيه قول آخر:
قالوا: الأمانة: الفرائض، عرضت على السموات والأرض والجبال بما فيها من الثواب والعقاب، فأبين أن يحملنها، وعرضت على الإنسان بما فيها من الثواب والعقاب، فحملها.
والمعنيان في التفسيرين متقاربان.

في سورة الفرقان
قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) [الفرقان: 77] .
في هذه الآية مضمر وله أشكلت: أي ما يعبأ بعذابكم ربّي لولا ما تدعونه من دونه من الشريك والولد. ويوضّح ذلك قوله: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً أي يكون العذاب لمن كذّب ودعا من دونه إلها- لازما.
ومثله من المضمر الشاعر «1» :
من شاء دلّى النّفس في هوّة ... ضنك، ولكن من له بالمضيق
أراد: ولكن من له بالخروج من المضيق؟
وقال الله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر: 10] ، أي من كان يريد علم العزّة: لمن هي؟ فإنها لله تعالى.
__________
(1) البيت من السريع، وهو بلا نسبة في لسان العرب (ضيق) ، (دلا) .

(1/246)