تحفة الأقران في ما قرئ بالتثليث من حروف القرآن

حرف الدَّال
فمن ذلك قوله تعالى في أوّل " فاتحة الكتاب ": (الْحَمْدُ لِلَّهِ)
قرئ برفع الدال ونصبها وجرها.
فأما قراءة الرفع فقرأ بها السبعة، ووجهها أن (الحمد) مبتدأ، و (لله)
في موضع الخبر، واللام بمعنى الاستحقاق، وهي متعتقة بمحذوف هو
الخبر في الحقيقة، أي: الحمد ثابت لله.
وأما قراءة النصب فقرأ بها هارون العَتكيّ، ورُؤبة، وسفيان بن عُيينة.
ووجهُها أنه منصوب على المصدر على طريقة المصدر المنصوب
بفعل لا يظهر، أي: أحمَدُ اللهَ الحمدَ.
وقيل: إنّه منصوب بفعل من غير لفظ الحمد، أي: اقرأ الحمد لله، فلا يكون هذا مصدراً، والأوّل أصحّ.
فمن جعل (الحمد) منصوباًب: اقرأ، فاللام من (لله) يتعلّق به، ومن
جعله منصوباً على المصدر فاللام خرجت مخرج البيان، أي: أعني لله.
فإن قيل: لأيّ شيء لا تكون اللام متعلّقة بالمصدر؟
فالجواب: أنهم قالوا: سَقْياً لزيد، ولم يقولوا سَقياً زيداً، فدلّ هذا

(1/66)


على أن المجرور لعامل آخر خلاف المصدر.
وقراءة الرفع أبلغ من قراءة النصب، ولهذا أجمعَ السبعةُ عليها؛ لأنّ
قراءة الرفع تُؤذن باستغراق الحمد، وقراءة النصب تُؤذن بحمد مخصوص.
أعني حمد المتكلّم، ولأنّ قراءة الرفع تؤذن بالثبات والاستقرار، وقراءة
النصب تؤذن بالتجدّد، ألا ترى قوله تعالى (قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ)
، فعبّر عن تحيّة إبراهيم عليه السلام بالرفع تنبيهاً على أنّ تحيّتَه خير
من تحيّتهم لما في الرفع من الثبوت والاستقرار.
وأما قراءة الخفض فقرأ بها الحسن، وزيد بن علي، ووجهها أنّهم
كرهوا الخروج من رفع إلى كسر، فكسروا الدال إتباعاً لكسرة اللام، كما
قالوا: مِنْتِن بكسر الميم إتباعاً لكسرة التاء، والأصل فيها الضمّ، وقالوا:
المِغِيرة بكسر الميم إتباعاً لكسرة الغين، والأصل الضمّ.
وفي هذه القراءة ضعف؛ لأن فيها إتباع حركة الإعراب لحركة
البناء، والإتباع - وإن كان شاذّاً - فهو باب مُتَّسع، ولا تنافي بين
شذوذه واتّساع بابه، فلذلك يكون في كلمة واحدة كما تقدّم، ويكون في
كلمتين: نحو قولهم: قَدُمَ وحَدُثَ، بضمّ الدال من حدث، والأصل فيه
فتحها، فإذا استعمل وحده فُتحت الدال، وإذا استعمل مع قدم ضمّت

(1/67)


إتباعا لضمّة قدم.
ومنه قولهم: هَنَأَني الطعامُ وَمَرَأَني، وإنما الكلام أَمْرَأَني.
ومنه قوله عليه السلام " أنفِقْ يا بلالاً ولا تَخْشَ من ذي العرش إقلالاً "
فردّ النداء إلى الأصل من النصب إتباعا لقوله عليه السلام " إقلالاً ".
ومنه قولهم: " إن فلاناً ليأتينا بالغدايا والعشايا "، فجمع غداة على
" فعائل " ليزدوج مع العشايا جمع عشيّة، وحقّ الغداة ألاّ تجمع على
" فعائل "؛ لأنّها " فَعْلة "، وفي هذا نظر؛ لأنهم قد قالوا في الغداة: غَدِيّة
على وزن عَشِيّة، ذكره ابن الأعرابي في " نوادره "، وأنشد عليه:
ألا ليتَ حظّي من زيارة أُمِّيَهْ. . . غَدِيّاتُ قَيظٍ أو عَشِيّاتُ أَشْتِيَهْ
فعلى هذا يكون الغدايا قياسا مثل العشايا لا للإتباع.

(1/68)


ومنه فوله عليه السلام: " ارْجِعْنَ مأزوراتٍ غيرَ مأجورات "
ومأزورات: أصله الواو لأنه من الوِزر، وإنما هُمز إتباعاً لمأجورات.
ومنه قولهم: " لا يعرف سُحادِلَيه من عُنادِلَيه " فثنّى السُّحادل وهو مفرد
لأنّه الذكَر، إتباعاً لتثنية عُنادِلين، لأنهما الأُنْثَيان.
ويكون الإتباع أيضا بين حركتىِ البناء والإعراب، وبين المفرد والتثنية.
ويكون الإتباع للأول وللآخر.
تتميم:
واختلفوا في الألف واللام في (الحمد) :
فمنهم من جعلها للعهد، أي: الحمدُ المعروفُ عندَكم هو لله.
ومنهم من جعلها لتعريف الماهيّة، كقولهم: الدّينار خيرٌ من الدرهم.
أي: أيّ دينار كان هو خيرٌ من أيّ درهم كان، فيستلزم ثبوت جميع
المحامد لله تعالى، لأن المعنى: أيّ حمد كان فهو لله.
ومنهم من جعلها لتعريف الجنس فيفيد الاستغراق بالمطابقة، وهذا هو
أصخ الأقوال، إذ لا حمدَ في الحقيقة إلا لله.

(1/69)


وذهبت المعتزلة إلى أن الألف واللام لمجرّد الجنس، فلا تفيد عندهم
الاستغراق، والمعنى عندهم: لله حمدٌ من جنس الحمد الذي تعرفون.
ووهَّمَ الزمخشريُّ من ادّعى الاستغراق. وهو الواهم في الحقيقة.
قال بعض أشياعه: إنّما كان ادّعاء الاستغراق وَهَماً لوجهين:
أحدهما: أنّ (الحمدُ لله) ناب منابَ أحْمَدُ الله، وأَحْمَدُ الله لا يفيد
الاستغراق، فكذلك (الحمد لله) لأن النائب لا يكون أقوى من المنوب
عنه. قلنا: لا نسلّم النيابة، وإن سلّمناها، فكم من نائب أقوى من المنوب
عنه، دليله عينُ مسألته: ألا ترى أن الزمخشري قد قَرّر أن (الحمد لله)
بالرفع أبلغ من النصب، لأن الرفع يقتضي الدوام والاستقرار والنصب
يقتضي التجدّد، فقد بان لك أن (الحمد لله) وإن كان نائباً فهو أبلغ وأقوى
من المنوب عنه، وهو أحمدُ الله، فانظر هذا الرجل كيف انتصر
للزمخشري بشيء لا يرتضيه، " فحُبُّكَ الشيءَ يُعمي ويُصِمّ ".
الثاني من الوجهين: أنّ غيرَ اللهِ يُحمد، فمن ادّعى الاستغراق خالف
الواقع. وهذا باطل؛ لأنّ غيرَ الله لا يستحقُّ حمداً إلا بالمجاز، والحمد
بالحقيقة إنّما هو لله تعالى؛ لأنّه خالقُ كلِّ نعمة والفاعل لها، والعبدُ
واسطةٌ، فالحمدُ في الحقيقة لله تعالى، وما ذكرَه من أن شكر المُنْعِم
واجبٌ، مُسَلَّم، لكنّ المُنْعِمَ في الحقيقة هو اللهُ تعالى.
و (الحمد) مصدر، لا يُثَنّى ولا يُجمع. وأمّا قول الشاعر:
وأبلجَ محمودِ الثنايا خَصَصْتُه. . . بأفضلِ أقوالي وأفضلِ أَحْمُدي

(1/70)


فإنّما جمعَه لأنه راعى فيه الأنواعَ والاختلاف، والمصدر إذا رُوعي فيه
ذلك ثني وجُمع.
والفعل منه حَمِدَ بكسر الميم، وقد سُمع فيه الفتح. والله أعلم.
* " *
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " النور ": (كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ)
قرئ بضم الدال وفتحها وكسرها مع تشديد الياء، وقرئ بالحركات
الثلاث في الدال مع المدّ والهمز:
فأما قراءة ضمّ الدال وتشديد الياء فقرأ بها نافع وابن كثير وابن عامر
وحفص، ووجهها أنه منسوب إلى الدُّرِّ لبياضه وصفائه، فالياء زائدة
للنسب، ووزنه " فُعْلِيّ ". قيل: ويحتمل أن يكون أصله الهمز، من " درأ "
ثم سهل وأدغم، فوزنه " فُعِّيل " ويأتي الكلام عليها.
وأما قراءة فتح الدال مع تشديد الياء فقرأ بها قتادة، وزيد بن
عليّ، والضحّاك، ورُوِيَت عن نصر بن عاصم، وأبي رجاء،

(1/71)


وابن المُسَيَّب، ووجهها أن يكون منسوبأ إلى الدُّرّ، وفتح الدال من تغيّر
النسب، ويكون وزنه " فَعْلِيّاً "، ويحتمل أن يكون من الدَّرء، فوزنه
" فَعِّيل "، فدخله التسهيل والإدغام.
وأما قراءة الكسر مع تشديد الياء فقرأ بها الزُّهري، ووجهها أن
يكون منسوبا إلى الدُّرِّ كما تقدّم، وكسر الدال من تغيّر النسب، فوزنه
" فِعْلِيّ "، ويحتمل أن يكون " فِعِّيلاً " من الدَّرء، ودخله التسهيل والإدغام
كما تقدم.
وأما قراءة الضئم مع المدّ والهمز فقرأ بها حمزة وأبو بكر أحد راويَي
عاصم، ووجهها أن يكون مأخوذا من الدَّرْء، وهو الدفع، لأنه يدفع
الظلمة بضَوئه، ووزنه " فُعِّيل "، وهو وزن غريب، فمن أثبته - وهو الظاهر من سيبويه، وأبي علي جعل منه مُرِّيقأ وهو العُصْفُر، ويقال له
الإحريض، وسُرِّيّة: وهي الأَمَة التي بَؤَأْتَها بيتاً، فيمن جعلها مشتقّة من
السُّرُّور، فيكون أصله سُرِّيراً، فأبدل من أحد المضاعَفين ياء وأدغمه في
ياء " فُعِّيل "، ومُرِّيخاً للذي في داخل القرن، وعُلَيّة للغرفة، وذُرَيّة: نسل
الثَّقَلين.
ومن لم يثبت " فُعِّيلاً " في الكلام أَوَّلَ هذه الأشياء، وقال في

(1/72)


دُرِّيء: وزنه " فُعُّول " كسُبُّوح، وكان الأصل فيه دُرُّوء ثم استثقل، فحوّلت الضمة في الراء كسرة والواو ياء، فقيل دُرِّيء.
وأما مُرَيق فالقول فيه كالقول في دُرِّيء، أو يكون لقلته لم يُعْتَدَّ به.
أما سُرِّيَّة فهي " فُعْليّة " منسوبة إلى السَرّ وهو الجماع والإخفاء، لأن الإنسان كثيراً ما يُسِرُّها
ويَسْتَرُّها عن حُرَّته، وإنّما ضُمَّت سينه لأجل النسب.
وأما مرِّيخ فقد قيل وزنه " فِعِّيل " بكسر الميم.
وأما علِّيّة فقد قيل فيه أيضاً " فِعِّيلة " بكسر العين.
وأما ذُريَّة فيحتمل أن يكون وزنه " فُعلولة " من الذَّرّ، والأصل
ذُرُّورة، فأبدلوا من الراء الأخيرة ياء لأجل التضعجف، فقالوا: ذُرُّوية، ثم
قلبوا الواو ياءً وأدغموها في الياء فصار ذرِّيَّة، فحؤلوا الضمّة كسرة لأجل
الياء، وسيأتي الكلام على " ذرّيَّة " بعد هذا.
وأما قراءة فتح الذال مع المدّ والهمز فقرأ بها قتادة، وأبان بن
عثمان، وابن المسيّب، وأبو رجاء، وعمرو بن فائد، والأعمش.
ونصر بن عاصم، ووجهها أنها " فَعِّيل " من الدَّرء، قال ابن جني: وهو
وزن عزيز لم يُحفظ منه إلا السَّكَينة بفتح السين وشدّ الكاف.

(1/73)


وأما قراءة كسر الدال مع المد والهمز فقرأ بها أبو عمرو، والكسائي.
ووجهها أنها " فِعِّيل " من الدَّرء، وهو وزنٌ كثير في الأسماء، كسِكّين.
وسِكّير.
تتميم:
الكوكب هو النجم البادي، ولا يقال له كوكب إلا عند ظهوره، قاله
الراغب.
وكوكبُ الشيء: معظمه. وكوكبُ الروضة: نورها.
وكوكبُ الحديد: بريقه.
والكوكب: البياض في سواد العين، ذهب البصر أو لم يذهب.
والكوكب: قطرات الجليد التي تقع على البَقل بالليل.
والكوكب: شدة الحرّ ومعظمه.
والكوكب: الماء.
والكوكب: السيف.
والكوكب: سيّد القوم.
والكوكب: الرجل بسلاحه.
والكوكب: المَحْبِس.
والكوكب: الجماعة من الناس.
والكوكب: المسمار.
والكوكب: الخطّة تخالف لون أرضها.
والكوكب: عين البئر، والكوكب: الجبل.
قال الأزهري: سمعنا غير واحد من العرب يقول للزُّهرة من
بين الكواكب: كوكبة، يؤنثها، وسائر الكواكب تذكر.
قال الضحّاك: والمراد بالكوكب في الآية: الزُّهرة. شبَّه الزجاجة بها
في ضوئها وشعاعها.

(1/74)


وهنا تنبيه: وهو أن كوكبا وزنه " فوعل "، والواو زائدة، فكان حقّ
الجوهري أن يذكره في فصل " ككب" لا في فصل " كوكب"، والله أعلم.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " ص ": (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)
قرئ بضمّ الدال من (ص) وفتحها وكسرها.
فأما قراءة الضئم فقرأ بها الحسن، وابن السَّمَيْفَع، وهارون الأعور.
وتوجيهُها: أنّ من قال: إن " صاداً " اسم للسورة، فيكون خبرَ مبتدأ
محذوف، أي: هذه صاد، ومنع الصرف للتأنيث والعلميّة.
ومن قال: إنه حرف مقتطع من كلمةٍ: أمّا من الصَّمَد والصادق، أو من صدق محمد، فلا محلَّ له من الإعراب.
وأما قراءة الفتح فقرأ بها عيسى، ومحبوب عن أبي عمرو، ووجههما

(1/75)


أنه فتح طلباً للخفّة، فالحركة حركة بناء.
وقيل: إنه معرب وانتصب على أنه مقسم به حذف منه حرف القسم، نحو: اللهِ لأفعلَنّ، وهو على هذا اسم للسورة، وامتنع الصَّرف لما تقدّم.
وقيل: هو مفعول بإضمار فعل، أي: اتلُ صادَ، وهو لا ينصرف.
وأما قراءة الكسر فقرأ بها أبى، والحسن، وابن أبي إسحاق.
وأبو السمَّال، وابن أبي عبلة، ونصر بن عاصم، ووجهها أنه كسر لالتقاء
الساكنين، فهو حرف من حروف المعجم، وقيل: هو أمر من صادَى
يُصادي، بمعنى عارض، والمعنى عارِضْ يا محمّد بعملك القرآن.
وقرأ السبعة (صادْ) بإسكان الدال، ووجهها أن حروف المعجم لا يدخلها إعراب، وهي موقوفة الآخر.
تتميم:
واختلفوا في جواب القسم اختلافاً كبيراً:
فقيل: هو مذكور. واختُلِفَ في تعيينه: فقيل: (إِنَ ذَلِكَ لحقٌّ)
وقيل: (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) : وقيل: (كَمْ أَهْلَكْنَا)
على حذف اللام، أي: لكم. وقيل: (ص) . والتقدير: والقرآن ذي الذكر صدق محمد، وهذا مبنى على تقدم جواب القسم، وعلى أنّ (ص) حرفٌ
مُقتطع.

(1/76)


وقيل: الجواب محذوف، واختلف في تقديره، فقيل: تقديره: لقد
جاءكم الحقّ.
وقيل: تقديره: إنه لمعجز.
وقيل: ما الأمر، ما تزعمون.
قال الشيخ أبو حيَّان: وينبغي أن يقدّر هنا ما أثبت جواباً للقرآن حين
أقسم به، وذلك في قوله تعالى: (يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)
فيكون التقدير: والقرآن ذي الذِّكر إنّك لَمِن المرسلين.
قال: ويُقَوّي هذا التقدير ذكر النِّذارة هنا في قوله تعالى: (وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ) ، وقال هناك: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا) ، فالرسالة تتضمّن النِّذارة. انتهى.
قلت: وهذا الذي استنبطه الشيخ حسن جدّاً، ونظيره ما استنبطه
ابن جنّي من قوله تعالى: (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا) ، فيمن قرأ بالنصب.
حين اختلف النحاة في الناصب، فقال قوم: التقدير: اقرأ.
وقال قوم: اتلُ.
قال ابن جنّي: ينبغي أن يكون التقدير: تدبّر سورة، كقوله تعالى:
(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) .

(1/77)