تحفة الأقران في ما قرئ بالتثليث من حروف القرآن

حرف الرَّاء
فمن ذلك قوله تعالى في سورة " البقرة ": (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا)
قرئ برفع الراء وفتحها وكسرها مع التشديد:
أما قراءة الرفع فقرأ بها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وأبان عن
عاصم، ووجهها أنه مرفوع على الخبر اللفظي، وهو في المعنى أمر، إذ
لو كان خبراً لفظاً ومعنى لم يقع فيه خُلف، والخُلف واقع وهو الضَّرَر.
وأما قراءة الفتح فقرأ بها باقي السبعة، ووجهها أن (لا) ناهية.
و (تضارّ) مجزوم بها، فسكنت الراء الأخيرة للجزم وسكنت الأولى
للإدغام، فالتقى ساكنان، فحُرِّكت الأخيرة منهما بالفتح طلباً للخفّة
ومناسبة الألف قبلها.

(1/84)


وأما قراءة الكسر فقرأ بها الحسن، ووجهها وجه قراءة الفتح، إلاّ أنه
كسرت الراء على أصل التقاء الساكنين.
وفيه قراءة غير ما ذكر: قرأ أبو جعفر (لا تضار) بسكون الراء مع
التشديد، وحكي عنه بالتسكين مع التخفيف.
وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنه قرأ بالفكِّ وفتح الراء الأولى.
تتميم:
اعلم أن (لَا تُضَارَّ) المدغم يحتمل أن تكون أصله " لا تضارِر " بكسر
الراء الأولى وفتحها كما قرأ ابن عبّاس.
وإن كان الأصل كسر الراء، ف (والدة) فاعل والمفعول محذوف، والباء في (بولدها) سببيّة.
والتقدير: لا تضارّ والدةٌ زوجَها بسبب ولدها.
وإن كان الأصل بفتح الراء الأولى كما قرأ ابن عبَّاس، ف (والدة) مفعول لم يسمّ فاعله، والباء أيضاً في (بولدها) سببيّة. والله أعلم.

(1/85)


ومن ذلك قوله تعالى في سورة " آل عمران ": (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)
قرئ بكسر الراء من (رِبِّيُّونَ) وضمِّها وفتحها:
أما قراءة الكسر فقرأ بها السبعة، ووجهها أنّه منسوب إلى الرَّبّ.
وكسرت راؤه لأجل النسب، لأنه مبنيّ على التغيير، ونظيره قوله: "إمسيّ"
بكسر الهمزة في النسب إلى " أمس " قاله الأخفش.
وقيل: إن كسرة الراء إتباع.
قال الزجّاج: وهو منسوب إلى الرِّبّة: وهي الجماعة، ثم جمع
بالواو والنون.
وقال الجوهريّ: الرِّبّيّ واحد الربّتين، وهم الألوف من
الناس، قال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) .
وأما قراءة الضمّ والفتح فقرأ بهما ابن عبّاس، وذلك كلّه من تغيّر
النسب.
وقال ابن جنّي في الفتح: هي لغة.
تتميم:
قرئ في السبع (قاتَلَ) و (قُتِلَ) بالبناء للمفعول وتخفيف التاء.

(1/86)


وقرأ قتادة (قُتَلَ) بالبناء للمفعول وتشديد التاء.
والفعل في هذه القراءات يحتمل أن يكون فاعله ضميراً مستتراً.
والتشديد في قراءة قتادة للتكثير بالنسبة إلى الأشخاص لا لكلِّ فرد فرد، لأن القتل لا يتكثَّر في كلّ فرد.
و (مَعَهُ رِبِّيُّونَ) جملة من مبتدأ وخبر في موضع الحال، والعائد الضمير
في (معه) . ويحتمل أن تكون (رِبِّيُّونَ) هو الفاعل فلا يكون في الفعل
ضمير.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " النساء ": (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ)
قرئ برفع الراء من (غَيْرُ) ونصبها وجرّها:
أما قراءة الرفع فقرأ بها ابن كثير وأبو عمرو وحمزة، ووجهها أنها
مرفوعة على البدل من (القاعدين) ، وقيل: وهو أولى من النعت.
لأنّهم نصَّوا على أن الأفصح بعد النفي البدل، كقوله تعالى: (مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) ، ولأجل هذا اجتمع القرّاء السبعة عليه إلاّ

(1/87)


ابن عامر، ثم النصب على الاستثناء كقراءة ابن عامر، ثم الصفة.
فالصفة على هذا في رتبة ثالثة.
ولأنه يلزمُ من إعراب (غير) هنا نعتاً نعتُ المعرفة بالنكرة، لأنّ (غيراً) نكرة وإن أُضيفت إلى معرفة.
ومذهب سيبويه ومن تبعه أن (غيراً) هنا صفة، ويعتذر عمّا يلزمه من وصف المعرفة بالنكرة بأن يقدّر في (القاعدين) الشياع لكونهم غير مُعَيَّنين، فكأنّهم
نكرات، فلذلك وصف بالنكرة، أو يقدّر إخراج (غير) عن وضعها فيقدّر
فيها التعريف، هذا هو مذهب سيبويه وما يلزم عليه.
وأما قراءة النصب فقرأ بها نافع وابن عامر والكسائي وعاصم.
ووجهها أنها استثناء من (القاعدين) وقيل: من (المؤمنين)
وقيل: الأول أظهر، لأنه المُحَدَّث عنه.
وقيل: انتصب على الحال من (القاعدين) .
وأما قراءة الكسر فقرأ بها الأعمش وأبو حَيوة، ووجهها أنها صفة
لـ (المؤمنين) .

(1/88)


فإن قلت: يلزم منه وصف المعرفة بالنكرة؟.
فالجواب ما تقدّم من تقدير الشياع في (المؤمنين) ، أو تقدير التعريف في (غير) ؛ لأنّ سيبويه يرى أنّ كلَّ ما إضافته غيرُ محضة قد يُقصد بها التعريف فتصير مَحضة، إلاّ: الحسن الوجه.
تتميم:
" غير " اسم مفرد مذكّر دائماً، وإذا أُريد به المؤنّث جاز تذكير الفعل
حملاً على اللفظ، وجاز تأنيثه حملاً على المعنى، ومدلوله المخالفة بوجه
ما، وأصله الوصف، ويستثنى به، ويلزم الإضافة لفظاً أو معنى، وإدخال
" أل " عليه خطأ.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " الأنعام ": (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
قرئ بجرّ الراء من (فَاطِرِ) ورفعها ونصبها:
أما قراءة الجرّ فقرأ بها السبعة، ووجهها الجرّ على النعت للفظ
الجلالة، أو على البدل، والبدل أحسن للفصل بين النعت والمنعوت.
ويسهل الفصل بين البدل والمبدل منه لكون البدل على تقدير تكرار
العامل.

(1/89)


وأما قراءة الرفع فقرأ بها ابنُ أبي عَبلة، ووجهها أنه خبر لمبتدأ
محذوف، والتقدير: هو فاطر، وجعله ابن عطيّة مرفوعاً على الابتداء.
والخبر محذوف، واستبعده أبو حيَّان لأنه لا دليل عليه.
وأما قراءة النصب فلم ينسبها أبو حيَّان، ووجهها أنّه منصوب على
أنه صفة لى (وليّ) وتكون الإضافة المراد بها الانفصال، أي: فاطر
السمواتِ والأرض. ويمكن أن يكون بدلاً من (وليّ) .
ونقل عن الأخفش أنه نصبه على المدح، وهو أَخُصّ.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " المص" الأعراف،: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)
قرئ برفع الراء من (غَيْرُهُ) وجرّه ونصبه:
فأما قراءة الرفع فقرأ بها السبعة إلا الكسائي، ووجهها النعت أو

(1/90)


البدل من (إله) على الموضع؛ لأن (من) زائدة، والأصل: ما لكم إله.
وأما قراءة الجرّ فقرأ بها الكسائي، ووجهها النعت أو البدل على لفظ
(إله) .
وأما قراءة النصب فقرأ بها عيسى بن عمر، ووجهها النصب على
الاستثناء.
والرفع والجرّ أفصح.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " الزلزلة " (1) : (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا)
قرئ برفع الراء من (النَّارُ)
ونصبها وجرّها.
فأما قراءة الرفع فقرأ بها السبعة، ووجهها أن (النَّارُ) مرفوعة على
إضمار مبتدأ، أي: هو النار. كأنّ سائلاً سأل: ما الشرّ؛ فقيل له: هو
النار. و (وعدها) إما حال على حذف " قد "، وإما استئناف، وإما خبر
__________
(1) وهي سورة " الحج "، تُسَمّى " الزلزلة " لأنها افتُتِحت بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) .

(1/91)


بعد خبر على مذهب من يجوّز ذلك، أخبر أولاً بالاسم، ثم بالجملة.
وقيل: (النَّارُ) مبتدأ، و (وعدَها) الخبر.
وأما قراءة النصب فقرأ بها ابن أبي عبلة، وإبراهيم بن يوسف عن
الأعمش، وزيد بن علي. ووجهها أنها منصوبة على إضمار أعني، كأن
قائلاً سأل: ما تعني بالشرّ؛ فقيل: أعني النار. ويمكن انتصابه على
الاشتغال على من جعل (النَّارُ) في قراءة الرفع مبتدأ.
وأما قراءة الجرّ فقرأ بها ابن أبي إسحق، وإبراهيم بن نوح عن
قتيبة، ووجهها أنها مجرورة على البدل من (شَرٍّ) .
تتميم:
الضمير في (وعدها) يحتمل أن يكون المفعول الأول، فتكون

(1/92)


(النَّارُ) موعودة بالكفار، يؤيّده: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)
ويحتمل أن يكون الضمير المفعول الثاني و (الذين كفروا) هو المفعول الأول، فيكون (الذين كفروا) موعودين بالنار، يؤيِّده قولُه تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ) .
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " المؤمنين ": (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) .
قرئ بضمّ الراء من (رَبْوَةٍ) وفتحها وكسرها.
وقرىء أيضاً (رباوة) بضمّ الراء وفتحها وكسرها:
فأما قراءة الضمّ فقرأ بها السبعة إلاّ عاصماً، وابن عامر، وهي لغة
قريش.
وأما قراءة الفتح فقرأ بها عاصم، وابن عامر، والحسن، وأبوعبد الرحمن.
وأما قراءة الكسر فقرأ بها أبو إسحق السَّبيعي.

(1/93)


وأما قراءة (رُباوة) بضم الراء والألف فقرأ بها ابن أبي إسحق.
وأما قراءة (رَباوة) بفتح الراء فقرأ بها زيد بن علي، والأشهب
العُقيلي، والفرزدق، والسُّلَمي.
وأما قراءة (رِباوة) بكسر الراء فنقلها الشيخ أبو حيَّان ولم ينسبها.
والكلّ لغات بمعنى واحد. والرُّبوة بالضم أفصحها.
تتميم:
اَوى: معناه: ضمّ. يقال: آواه يُؤْويه إيواء: إذا ضمَّه، وأوى إذا كان
قاصراً فالهمزة في أوّله مقصورة، قال تعالى: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) ، وإذا كان متعدياً كانت ممدودة، قال تعالى: (وَآوَيْنَاهُمَا)
وقد اجتمع الأمران في قوله صلّى الله عليه وسلّم: " فأوى إلى الله فآواه الله" هذا هو الأفصح.

(1/94)


والربوة في اللغة: المكان المرتفع، من ربا يربو: إذا ارتفع وزاد، ومنه
قوله تعالى: (زَبَدًا رَابِيًا) ، وقوله تعالى: (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) .
واختلف المفسّرون في المراد بالربوة في الآية: فقيل: هي غوطة
دمشق، وهي ذات قرار ومعين على الحقيقة.
وقيل: رملة فلسطين.
وقيل: بيت المقدس لارتفاعه.
زعم كعب: في التوراة أن بيت المقدس
أقرب الأرض إلى السماء، وأنه يزيد على الأرض ثمانية عشر ميلاً.
وقيل: هي أرض مصر. والله أعلم.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " القصص ": (حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ)
قرئ بكسر الراء من (الرِّعَاءُ) وفتحها وضمّها:
فأما قراءة الكسر فقرأ بها السبعة، ووجهها أن (الرعاء) جمع تكسير.
الواحد راعٍ، وهو شاذّ، لأن وجهه أن يكون رُعاة، كقاضٍ وقضاة، وأخطأ
الزمخشري في جعله قياساً، قاله الشيخ أبو حيَّان.

(1/95)


وأما قراءة الفتح فقرأ بها عيّاش عن أبي عمرو، ووجهها أن الرعاء
- مصدر أقيم مقام الصفة، فاستوى فيه لفظ الواحد والجمع، كعَدل ورِضىً، وقد يحتمل أن يكون على حذف مضاف: أي أهل الرعاء.
وأما قراءة الضمّ فنقلوها ولم ينسبوها، ووجهها أن (الرِّعَاءُ) اسم
جمع كالرُّخال، وهي أولاد الضأن، قاله أبو البقاء.
تتميم:
(الرِّعَاءُ) فاعل بـ (يصدر) ، فمن قرأ بفتح الياء وضمّ الدّال فالفعل
قاصر، والمعنى: حتى يَرْجِعَ الرعاء بأغنامهم.
ومن قرأ بضمّ الياء وكسر الدال فالفعل متعا والمفعول محذوف، والمعنى: حتى يَرْجِعَ الرعاءُ أغنامهم.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " الواقعة ": (وَحُورٌ عِينٌ (22) .
قرئ برفع الراء والنون وبجرّهما وبنصبهما.

(1/96)


فأما قراءة الرفع فقرأ بها السبعة إلا حمزة والكسائي، ووجهها أن
يكون (وَحُورٌ) معطوفاً على (ولدان) أي: ويطوف عليهم حور عين.
لكن طواف تنعيم لا طواف خدمة.
ويحتمل أن يكونَ معطوفاً على الضمير في (مُتكئين) أي متّكئين هم وحور عين، فتكون الحورُ متّكئاتٍ لا طائفات.
ويحتمل أن يكونَ معطوفاً على مبتدأ محذوف هو وخبره.
التقدير: لهم هذا كله وحور عين. ويحتمل أن يكون (حور) خبر مبتدأ
محذوف، تقديره: ونساؤهم حورٌ عين، أو أن يكون مبتدأ وخبرُه
محذوف، أي: ولهم حور، أو ثَمّ حور.
وأما قراءة الجرّ فقرأ بها حمزة، والكسائي، والسُّلَميّ، والحسن.
وعمرو بن عُبيد، وأبو جعفر، وشيبة، والأعمش، وطلحة، والمفضّل.
وأبان عن عاصم، ووجهها أنها معطوفة على المجرور التي يطاف بها
عليهم لفظاً لا معنى؛ لأن الحور لا يُطاف بهنّ، فيكون التقدير: يُنَعّمون

(1/97)


بحور عين، فهو من باب:
وعَلَفْتُها تِبنا وماء باردا. . .
وقد تقدَّم نظيره. وجعله الزمخشري عطفاً على (جنات) قال: كأنه
قال: هم في جنات وكذا وكذا وحور عين.
قال الشيخ أبو حيَّان: وهذا فيه بعد وتفكيك لكلام مرتبط بعضه ببعض، وهو فهم أعجمي.
وأما قراءة النصب فقرأ بها أُبيّ، وعبد الله، ووجهها أنها منصوبة على
المفعول، أي: ويُعْطَون حُوراَ عيناً. و (عين) تابع لـ (حور) في هذا كلِّه.
تتميم:
وفيها قراءات غير ما ذكرناه:
قرأ النَّخعي (وحِيرِ عينٍ) بقلب الواو ياء، وخفضها.
وقرأ قَتادة (وحورُ عينٍ) برفع الراء وخفض (عين) على الإضافة.

(1/98)


وقرأ ابن مِقْسَم بنصب الراء وخفض (عين) على الإضافة.
وقرأ عكرمة: (وحَوراء عَيناء) .
والحُور جمع حَوراء. يقال: امرأة حوراء: إذا كانت عينها شديداً
بياضُها شديداً سوادُها.
وقال الأصمعي: ما أدري ما الحَوَر في العين.
وقال أبو عمرو: والحَوَر: أن تَسْوَدَّ العينُ كلُّها مثلَ عين الظِّباء.
وإنما قيل للنساء حُور العين تشبيهاً لهن بالظِّباء والبقر.
والعِين جمع عَيناء. يقال: امرأة عيناء: إذا كانت واسعة العَين.

(1/99)