تحفة الأقران في ما قرئ بالتثليث من حروف القرآن

حرف الكاف
فمن ذلك قوله تعالى في سورة " الفاتحة ": (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) .
قرئ بخفض الكاف ورفعها ونصبها دون ألف.
وقرىء (مَالِكِ) بالألف مع الحركات الثلاث في الكاف، وقرئ (مليك) على وزن شريف مع الحركات الثلاث في الكاف:
فأما قراءة الخفض دون ألف فقرأ بها السبعةُ إلا عاصماً والكسائي.
وقرأ بها جماعة من الصحابة والتابعين، ووجهها أنه صفة (لله) ولا
إشكال؛ إذ إضافته مَحْضة، وقيل: هو بدل، وهو ضعيف لكونه مشتقّاً.
وأما قراءة الرفع فقرأ بها سعد بن أبي وقّاص، وعائشة، ومُوَرِّق
العِجلي، ووجهها أنه مرفوع على القطع، أي: هو ملك.

(1/142)


وأما قراءة النصب فقرأ بها أنس بن مالك، وأبو نوفل عمرو بن
مُسلم، وأبو حَيوة، وعليها جماعة من القرّاء، ووجهها أنه منصوب على
القطع، أي: أمدح مَلِكَ يوم الدين.
وأما قراءة (مالِكِ) بالألف وخفض الكاف فقرأ بها عاصم، والكسائي
من السبعة، واجتمع على قراءتها العشرةُ إلا طلحة والزبير، وعليها
جماعة من الصحابة والتابعين، ووجهها أنه نعت (لله) ، وهو اسم فاعل
أُريد به المضيّ، فإضافتُه مَحْضة فلا إشكالَ، لنعت المعرفة بالمعرفة.
ويؤيّد أن المراد به المضى قراءةُ من قرأ (مَلَكَ) فعلاً ماضياً، فإن أُريد به
الاستقبال وهو الظاهر لكون اليوم عبارة عن يوم القيامة ففيه إشكال، لأنّ
إضافته غير محضة، فيَلزم منه نعتُ المعرفة بالنكرة.
فالجواب أن يقال: كلّ ما إضافته غير محضة إلا الصفة المشبهة قد يُنوى فيه المحضة فيلحظ فيه أن الموصوف صار معروفاً بذلك الوصف من غير نظر إلى
زمان.
قال الشيخ أبو حيَّان: وهذا الوجه غريب النقل لا يعرفه إلاّ من له
اطلاع على كتاب سيبويهِ وتنقيبٌ على لطائفه.

(1/143)


وأما قراءة (مالكَ) بالألف والنصب فقرأ بها الأعمش، وابن السَّمَيْفَع.
وعثمان بن أبي سليمان، ووجهها أنه منصوب على القطع، أو على
النداء، فقد روي أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في بعض غزواته: " يا مالكَ يومِ الدين ".
وأما قراءة (مالكُ) بالألف ورفع الكاف فقرأ بها أبو هريرة، وأبو حَيوة.
وعمر بن عبد العزيز، ووجهها أنه مرفوع على القطع، أي: هو مالك.
وأمّا قراءة (مَليك) على وزن شريف من أمثلة المبالغة فنسبها الشيخ
أبو حيان إلى أُبيّ، وأبي هريرة، وأبي رجاء العُطاردي، ولم ينصّ على
حركات الكاف.
وقال أبو البقاء: ويقرأ (مليك يوم الدين) رفعاً ونصباً وجرّاً.
أما الرفع والنصب فعلى القطع، وأما الخفض فإن كان بمعنى مَلَك
أو من أمثلة المبالغة والمراد به المُضِيّ فلا إشكالَ لكون الإضافةِ مَحضة.
وإن كان المراد به الاستقبال ففيه الإشكال المقدّم، والجواب عنه ما
تقدم.
فهذه تسع قراءات، كلّها على الإضافة إلى (يوم) من باب الإضافة إلى
الظرف، والإضافة إضافة اللام خلافاً لمن أثبت " في ".

(1/144)


وحيث كان المراد المِلك بكسر الميم فهو على حذف مضاف، التقدير: أمر يوم الدين، أو على حذف المفعول، التقدير: مالك يوم الدين أمر الناس، فيكون من باب:
طبَّاخِ ساعاتِ الكرى زادَ الكَسَلْ
وحيث كان المراد المُلك بضم الميم فلا حذف.
واعلم أن العرب تقول: مَلِكٌ بيّن المُلْك بضم الميم، ومالك بيّن

(1/145)


المِلْك بكسر الميم وفتحها، نقله الأخفش، وقد نُقل فيه الضمُّ.
تتميم:
بقي غير هذه القراءات التسعِ ثماني قراءات:
قرأ أبو هريرة، وعاصم الجَحدري (مَلْك) بسكون اللام على وزن
سَهْل، وهي لغة بكر بن وائل.
وقرأ أبو أحمد بن صالح عن ورش، عن نافع (ملكي) بإشباع
كسرة الكاف.
وقرأ أبو حنيفة، وأبو حَيوة (مَلَكَ) فعلاً ماضياً.
وقرأ عون العُقيلي (مالكٌ) بالرفع والتنوين، ونصب (يومَ الدين) .
وقرأ اليمان (مالكاً) بالنصب والتنوين، ونصب (يوم الدين)

(1/146)


وقرأ يحى بن يعمر، وأيوب السَّخْتياني (مليك) بالإمالة المحضة.
وقرأ قتيبة بن مِهران عن الكسائي بالإمالة بين بين.
وقال أبو علي الفارسي: لم يُمِل أحدٌ ألف (مالك) . وهو جائز في العربية لكنّه لا يُقرأ بكل ما يجوز إلا أن يأتيَ بذلك أَثُر.
ولم تصل هذه القراءة إلى أبي علي، فلذلك أنكر الإمالة.
وقُرىء (ملَّاك) بالألف وتشديد اللام.
فهذه سبع عشرة قراءة، كلّها راجعة إلى المُلْك بضمّ الميم، أو المِلك
بكسر الميم، وهي راجعة في أصل اللغة إلى المَلْك، الذي هو الشَّدّ
والربط، وهذا المعنى موجود في المُلك والمِلك.
ومن غريب ما في ذلك أن مادة " ك ل م " كيف ما تقلَّبت فهي
مستعملة في هذا المعنى، وهي ستَّ صُوَر: ملك، مكل، لمك، لكم.
كمل، كلم.
وزعم الفخر الرازي أن لمك منها مهمل، وليس كذلك، فقد
استعمله الشاعر فيما أنشده الفرّاء:

(1/147)


فلمّا رآني قَدْ حَمَمْتُ ارتحالَه. . . تَلَمَّكَ لو يُجدي عليه التَّلَمُّكُ
واعلم أن المشهور من هذه القراءات كلها (مَلِكِ) و (مالِكِ) بخفض
الكاف فيهما، وبهما قرأ السبعة، ومن الناس من جعلهما بمعنى واحد
كفَرِه وفاره، وحَذِر وحاذر، وفَكِه وفاكه، ومنهم من جعلهما مختلفين
في المعنى وهو ظاهر اللغة.
ومن جعلهما مختلفين: منهم من رجّح " مالكاً " بالألف، واستدل على
ذلك بوجوه:
الأول: أن " مالكاً " يضاف إلى ما لا يضاف " مَلِك "، فيقال: مالك الجنّ
والإنس والملائكة والطير، فيَعُمُّ العقلاءَ وغيرهم، ولا يحسن ذلك في
"ملك ".
الثاني: أنه لا يقال مالك شي إلأ لمن حصل له ذلك الشيءُ في ملكه.
واستولى عليه بالملكيّة والاستحقاق، و " مَلِك " قد يقال لمن ليس بمالك.
كقولهم؛ مَلِك العرب والعجم، مع أنّه ليس بمالك لهم.

(1/148)


الثالث: أنّ " مالكاً " أكثرُ حروفاَ، والزيادة في البنية لها تأثير في التعظيم.
الرابع: ما يترتّب عليه من زيادة أجر القارىء؛ إذ كل حرف بعشر
حسنات.
الخامس: كثرة من على " مالك " من القُرّاء.
السادس: أنّ المالك مُتَمَكِّن من بيعٍ وهبةٍ وغير ذلك، فهو متصرّف
كيف شاء، والمَلِك ليس له ذلك.
السابع: أنّ المالك لو انتُزِع مُلكُه بغَصْب لم يخرج عن ملكه، وهو
يستحقّه في الدُّنيا والآخرة.
الثامن: أنّ المملوك يعجزُ عن إزالة مُلك المالك.
التاسع: أن المملوكَ كثيرُ الرجاء فيما عند مالكه من الخير، وليس
الرّعِيّة فيما عند المَلك كذلك.
العاشر: أنّ المالك تجبُ خدمتُه على مملوكه بكلّ وجه وفي كلّ حال.
ولا تجب خدمةُ الملكِ على الرعيّة إلا في أمور مخصوصة.
الحادي عشر: أنّ المالك يطمعُ فيه مملوكه ولا يطمعُ هو فيه، والمَلِك
بالعكس.
الثاني عشر: أنّ المالك ذو رأفة ورحمة بملكه غير مُضَيّع له، والمَلك
ذو هيبة وقهر.
ومنهم من رجّح " مَلِكاً " واستدلّ على ذلك بأوجه:
الأول: أنّه يُشعر بكثرة ما في داخل تحت حكمه، والمالك ليس كذلك.

(1/149)


الثاني: أنّ الله مدح نفسَه بـ (مَالِكَ الْمُلْكِ)
ولم يقل مالك الدنيا، ولا غير ذلك ممّا هو داخل تحت ملكه، فهذا التخصيص دليل على عظمة المُلك، وأنه أشرف ما يُتَمَدَّح به.
الثالث: أنّ فيه توافق الابتداء والاختتام، فكما ختم بـ (مَلِكِ النَّاسِ)
ابتدأ بـ (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ)
والمناسبة بين الابتداء والاختتام مطلوبة في فصيح الكلام.
الرابع: أنّ المالك داخل تحت حكم الملك ولا ينعكس.
الخامس: أنّه وصف نفسه تعالى بالمَلِك في مواضع من القرآن، فقال
تعالى: (اَلملِكِ القُدُّوس) ، (المَلكُ الحَقُّ) ، (لِّمَنِ اَلملكُ) ، إلى غير ذلك، وجاء ذلك في السنّة على لسان نبيّه - صلى الله عليه وسلم -، فقال صلّى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ: (حكمْتَ بحُكم المَلِك
وأخبرَ - صلى الله عليه وسلم - عن الله عزّ وجل أنه يقول يوم القيامة: (أنا
المَلِك) وهذه المواطن مواطن تعظيم وتكريم.
فلو كان " مالك " أعظم من " مَلك " لعبّر به ها هنا.
السادس: عموم تصرّف المَلك فيمن دخل تحت مملكته، وليس
للمالك ذلك.

(1/150)


السابع: أنّ المَلِكَ لا يَفتقرُ إلى الإضافة والمالك مُفْتَقِرٌ إليها.
الثامن: أنّ المَلِكَ أعظمُ الناس وأشدّهم هيبةً، فكان أشرفَ من المالك.
فهذه حُجَجُ المُرَجِّحين بين (مالك) و (مَلِك) ، أكثرُها تلمّحات لا تقوم
بها حجّة عند تحقيق النظر، والذي تجنح إليه النفس أن (مَلِكاً) أعظم من
(مالك) والله أعلم.

(1/151)