تحفة الأقران في ما قرئ بالتثليث من حروف القرآن

حرف اللام
فمن ذلك قوله تعالى في سورة " العقود ": (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) .
قرئ بجرّ اللام من (أَرْجُلَكُمْ) ونصبها ورفعها.
فأما قراءة الجرّ فقرأ بها ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر.
وأنس، وعكرمة، والشَّعبي، والبا قر، وقتادة، والضّحّاك.
ووجه هذه القراءة مبنيّ على اختلاف المذاهب في ذلك: فمن أوجب الغسل
في الأرجل وهو الصحيح وعليه جمهور الفقهاء، فللخفض على قولهم
تأويلات:

(1/152)


منهم من قال: خُفض على الجوار، وهو تأويل ضعيف؛ لأن الصحيح
من الخفض على الجوار مع قلّته ألاّ يكون إلاّ في النعت لا في العطف.
وقيل: هو مختصّ بالشعر.
ومنهم من قال: هو مخفوض بحرف جرّ، وحُذف حرف الجر مع الفعل
الذي يتعلّق به، التقدير: وافعلوا بأرجلكم الغسل.
ومنهم من قال: إنما خفضت الأرجل لأنها من بين الأعضاء المغسولة
مظنةً للإسراف المنهى عنه، فعطفت على العضو الممسوح لا لأن تمسح.
ولكن للتنبيه على وجوب الاقتصاد في صبّ الماء عليها، دليله قوله
تعالى: (إلى الكعببين) معناه: والمسح لا غاية له.
وبالجملة فهذه القراءة مشكلة على مذهب من يرى الغسل.
قلت: وأقرب التأويلات في ذلك تأويل ابن الحاجب، وهو أنه جعله من باب:
فعَلَفْتُها تِبناً وماءً بارداً
التقدير: وسَقَيْتُها، لأن الماء لا يُعلف، ثم حذف " سقيتها " لدلالة
"علفتها " عليه، لأنّ الأكلَ يستلزم الشرب، وعطف " ماء " على " تبن ".
وكذلك الآية، التقدير: وامسحوا برؤوسكم واغسلوا أرجلكم، فحذف

(1/153)


"واغسلوا " لقرب معناه من " امسحوا "، ثم جرّوا (أرجلكم) بالعطف على
(رؤوسكم) حملاً لأحد الفعلين على الآخر.
وهذا التأويل أليق وأقرب من التأويلات المتقدّمة، وأكثر في القرآن وكلام العرب، حتى قال بعضهم: هو مقيس لكثرته نظماً ونثراً، وإنما حملهم على تكلّف هذه التأويلات السنّةُ الواردة الصحيحة المقتضية للغسل الذي لا تحتمل تأويلاً.
ومن يرى المسح فهو معطوف على (رؤوسكم) ، وهو صحيح
الإعراب فاسد المعنى.
وأما قراءة النصب فقرأ بها نافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص.
ووجهها أنه منصوب عطفاً على (أيديكم) ولا يضرّ الفصل بالجملة بين
المعطوف والمعطوف عليه.
قال أبو البقاء: هو جائز ولا خلاف فيه.
ولا يلتفت إلى قول ابن عصفور: وأقبح ما يكون ذلك بالجمل - يعني
الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، لأن هذه الآية تردّ عليه. ولا يخلو
ابن عصفور أن مرّت هذه الآية بخاطره حين قال: " وأقبح من ذلك "، أو
لا.
فإنّ كانت مرَّت بخاطره فهو جارٍ على عادته من سوء أدبه مع كلام الله
تعالى وإطلاق لسانه في ذلك، وإن كانت لم تَرِد بخاطره فيشفع له جهلُه
بذلك.

(1/154)


ومَن عَطَفَ (وأرجلكم) على موضع (برؤوسكم) فلا يلتفت إليه لضعفه.
والفصل بين المعطوف والمعطوف عليه أولى من العطف على الموضع.
وأما قراءة الرفع فقرأ بها الحسن، ووجهها أنّه مبتدأ والخبر محذوف.
والتقدير: أرجلكم مغسولة إلى الكعبين. والله أعلم.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " الكهف ": (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ)
قرئ بكسر اللام من (وقل) وفتحها وضمّها:
أما قراءة الكسر فقرأ بها السبعة، ووجهها أنه كسر لالتقاء الساكنين.
وهو الأصل.
وأما قراءة الفتح والضمّ فقرأ بهما أبو السمال، ووجههما أن الفتح
للخقة، والضمّ إتباعاً لحركة القاف. قال أبو حاتم في قراءة الفتح:
هي رديئة في العربية. يعني أنّ الأمرَ إذا وقع بعده ساكن فتحريكُ آخِرِه
بالفتح رديء..
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " يس ": (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ)

(1/155)


قرىء بنصب اللام من (تَنْزِيلَ) ورفعها وجرّها:
فأما قراءة النصب فقرأ بها ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص.
وطلحة، والأشهب. وعيسى بخلاف عنهما، ووجهها أنه منصوب على
المصدر، أي: نزّل تنزيلا.
وأما قراءة الرفع فقرأ بها باقي السبعة، على خبر مبتدأ محذوف، أي:
هو تنزيل، والمصدر بمعنى المفعول: أي هو مُنَرلُ العزيز الرحيم.
وأما قراءة الجرّ فقرأ بها أبو حَيوة، واليزيدي، وشيبة، ووجهها الجر
على النعت لـ (القرآن) ، وقيل: بدل منه. وعلى الإعرابين فالمصدر
فيهما بمعنى المفعول كقراءة الرفع.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " غافر ": (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71)
قرئ برفع اللام من (السَّلَاسِلُ) ونصبها وجرها:
فأما قراءة الرفع فقرأ بها السبعة مع بناء (يُسحَبون) للمفعول.
ووجهها أنه معطوف على (الأغلال) ، ويجوز أن تكون (السلاسل)

(1/156)


مبتدأ، وخبره (يُسْحَبون) والضمير محذوف أي يُسحبون بها.
ويجوز أن يكون (السَّلَاسِلُ) مبتدأ، والخبر محذوف أي: والسلاسل في أعناقهم، و (يُسْحَبون) مستأنف أو حال.
وأما قراءة النصب فقرأ بها ابن مسعود، وابن عبَّاس، وزيد بن علي.
وابن وثّاب مع بناء (يَسحبون) للفاعل، ووجهها أنّه منصوب على
المفعول، لـ (يسحبون) أي: ويسحبون السلاسل، وفيه عطف الجملة
الفعلية على الاسمية.
وأما قراءة الجرّ فقرأ بها ابن عبّاس وجماعة، وظاهرها مشكل.
وقال الفرّاء في تأويلها: " من جر (السَّلَاسِلُ) حملة على المعنى، لأن المعنى:
أعناقهم في الأغلال والسلاسل ". ونحا نحوَه الزمخشريُّ وابنُ عطيّة.
وأوَّل الزجّاجُ على حذف حرف الجرّ، التقدير عنده: وفي السلاسل
يُسحبون، وهذا تأويل ضعيف، ويقوّيه قراءة من قرأ: (وبالسلاسل
يُسحبون) بباء الجرّ.

(1/157)


قلت: ويمكن أن تخرّج هذه القراءة على وجه حسن سالم من حذف
حرف الجرّ ومن العطف على ما يصلح في الموضع: وهو أن يكون
(السَّلَاسِلُ) معطوفاً على (الأعناق) ، ويكون المعنى أنّ الأغلال في
أعناقهم، وهي أيضاً في السلاسل التي يقاد بها المغلول، إذ لو كان الغلّ
في العنوق وليس في سلسلة يحبس بها عن الفرار لكان أسهل على
المغلول، فأخبر الله تعالى أن الغلّ في شيئين: في العنوق، وفي السلسلة
التي يُسحب بها المغلول ويُمنع بها عن التصرّف، وذلك أعظم وأهول.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " الزخرف ": (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ)
قُرىء بنصب اللام وجرّها ورفعها:
فأما قراءة النصب فقرأ بها السبعة إلاّ عاصماً وحمزة، ووجهها أنّه
مصدر، قال: وهو معطوف على (سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) التقدير: يعلم
سرّهم ونجواهم وَقِيلِهِ، أي: وقيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومنهم من جعله مصدراً منصوباً بفعله، التقدير: قال قيله. ومنهم من جعله معطوفا على (الساعة) لأنها في محلّ نصب، نحو قولك: أعجبني ضربُ زيدٍ
وعمراً.
ومنهم من جعله معطوفاً على مفعول (يَكتبونَ) المحذوف.
التقدير: يكتبون أقوالهم وقيله.
ومنهم من جعله منصوباً بفعل مضمر،

(1/158)


التقدير: ويعلم قيله. ومنهم من جعله منصوباً بالعطف على مفعول
(يعلمون) التقدير عنده: وهم يعلمون الحقّ وقيله يا ربّ.
قال الشيخ أبو حيَّان: وهو قول لا يكاد يعقل.
وأما قراءة الجرّ فقرأ بها عاصم، وحمزة، والأعمش، ووجهها أنه
عطف على (الساعة) ومنهم من جعل الواو للقسم، والجواب محذوف.
التقدير: لتُنْصَرَنّ أو لأفعلَنّ بهم ما أشاء، ويكون الله قد أقسم بقول نبيّه
- صلى الله عليه وسلم - تعظيماً له وتكريما.
وأما قراءة الرفع فقرأ بها الأعرج، وأبو قِلابة، ومجاهد، والحسن.
وقتادة، ومسلم بن جندب، ووجهها أنّه مبتدأ، وخبره (يا ربّ)
إلى؛ (. . . لا يُؤْمِنون) .
ومنهم من قال: الخبر محذوف، التقدير:
وقيلُه هذا القول، أي: (يا رب. . .) إلى (. . . لا يُؤْمِنون) هو مسموع.
فيكون على هذا قوله تعالى: (يا ربّ) . . . إلى (. . . لا يُؤْمِنون) في
موضع نصب بـ (قيله) .
ومنهم من قال: هو معطوف على (علم الساعة)

(1/159)


على حذف مضاف: أي وعلم قيله، حذف المضاف وأُقيم المضاف إليه
مقامه.
قلت: والزمخشري لم يَرْضَ شيئاً من هذه الإعرابات، وجعلَ (قيله) في
حالة النصب والجرّ والرفع قسماً؛ ففي الرفع جعله مبتدأ والخبر محذوف.
التقدير: وقيله قسمي.
وفي النصب جعله منصوباً على إسقاط حرف الجرّ
نحو: اللهَ لأفعلنّ، جرياً على مذهبه من أنّ إسقاط حرف القسم ونصب
المقسم به يكون في لفظ الجلالة وغيرها. وفي الجرّ جعله مجروراً
بحرف القسم المحذوف، وجواب القسم عنده: (إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ) .
وهذا الإعراب منه يقتضي أن يكون (هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ) من كلام الله
تعالى، لكونه جعله جواب القسم، والظاهر من سياق الآية أنّ قوله: (إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ) من كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، معمول لقوله، والله أعلم.

(1/160)