تحفة الأقران في ما قرئ بالتثليث من حروف القرآن حرف النُّون
فمن ذلك قوله تعالى في سورة " الفاتحة " (الرَّحْمَنِ) .
قرئ بخفض النون ورفعها ونصبها:
أما قراءة الخفض فقرأ بها السبعة، ووجهها أنّه مخفوض على النعت
للفظ الجلالة، وقد قيل: بدل، أو عطف بيان.
أما قراءة الرفع فقرأ بها أبو رَزين العُقيلي، والربيع بن
خُثيم.
وأبو عمران الجَوني، ووجهها أنّه مرفوع على القطع، أي: هو
الرحمن.
وأما قراءة النصب فقرأ بها أبو العالية، وابن السَّمَيْفَع،
وعيسى بن
عمر، ووجهها أنّه منصوب على القطع، أي: أعني الرحمن.
وقد تقدّم الكلام في باب الباء في هذا بأبسط عند كلامنا على
قوله عزّ
وجلّ (ربِّ العالمين) .
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " النساء ": (وَيُونُسَ
وَهَارُونَ) .
قرئ بضمّ النون من (يونس) وفتحها وكسرها:
أما قراءة الضمّ فقرأ بها السبعة، وهي لغة أهل الحجاز، يضمّون
النون
ولا يهمزون.
(1/177)
وأما قراءة الفتح فقرأ بها النَخَعي، وابن
وثّاب، هكذا ذكر الشيخ
أبو حيَّان في سورة " النساء " وذكر في سورة " الأنعام " زيادة
على هذا
فقال: وبفتح النون - يعني في (يونس) قرأ الحسن، وطلحة، ويحيى -
يعني ابن وثاب، والأعمش، وعيسى بن عمر، في جميع القرآن، انتهى.
وفتح نون (يونس) لبعض بني عقيل.
وأما قراءة الكسر فقرأ بها نافع في رواية ابن جمَّاز عنه، وهي
لغة
لبعض العرب.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " الأنعام ": (وَجَعَلُوا لِلَّهِ
شُرَكَاءَ الْجِنَّ)
قرئ بنصب النون من (الْجِنَّ) ورفعها وجرّها:
أما قراءة النصب فقرأ بها السبعة، ووجهها أنه مفعول أوّل.
و (شركاء) المفعول الثاني، كذلك قال ابن عطيّة والزمخشري،
وجوّزا
أيضاً فيه أن يكون بدلاً من (شركاء) ، و (شركاء) المفعول
الأول.
و (لله) المفعول الثاني، وردّه الشيخ أبو حيَّان بأنّ البدل
على، نيّة تكرار
(1/178)
العامل، أو على الطرح من المبدل منه،
وكلاهما لا يصحّ؛
لو قلت: وجعلوا لله الجنّ، لم يصحّ، انتهى بالمعنى.
وأعرب الحَوْفي (شركاء) مفعولا أولَ، و (الجنَّ) مفعولاً
ثانيا، وحكى الشيخ أبو حيَّان عن شيخه الأستاذ أبي جعفر بن
الزبير أنّه انتصب (الجنَّ) عنده على أنّه مفعول بإضمار فعل،
جواب سؤال مقدّر، كأته قيل: من جعلوا شركاء؛ قيل: الجنّ، أي:
جعلوا الجنَّ.
وأما قراءة الرفع فقرأ بها أبو حَيْوَةَ، ووجهها أنّه مرفوع
على خبر مبتدأ
محذوف، أي: هو الجنّ، جواباً لمن قال: من الذي جعلوه؛ قيل: هم
الجنّ، وهذه القراءة تؤيّد إعراب الأستاذ ابن الزبير.
وأما قراءة الجرّ فلم ينسبها الشيخ أبو حيَّان، ووجهها على ما
قاله.
(1/179)
الزمخشري الجر على الإضافة التي للتبيين.
قال أبو حيَّان: ولا يتّضح معنى هذه القراءة، إذ التقدير:
وجعلوا شركاء الجنّ لله، ولا يظهر.
تتميم:
(لله) يمكن أن يتعفق بـ (جعلوا) ، ويمكن أن يكون في موضع الحال
من (شركاء) ، ويمكن أن يتعلّق به، قاله أبو البقاء.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة، " يس ": (يس (1) وَالْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ (2) .
قرئ بنصب النون من (يس) ورفعها وجزها:
فأما قراءة النصب فقرأ بها ابن أبي إسحق، وعيسى، ووجهها أنه
اسم
للسورة، فيكون مقسماً به، ونُصب على إسقاط حرف القسم، نحو:
الله
لأفعلنّ، وقيل: منصوب بإضمار فعل، التقدير: اتل يس.
وإن لم يكن اسماً للسورة فهي حروف مقتطعة، والحركة فيها حركة
بناء.
وأما قراءة الرفع فقرأ بها الكلبي، ووجهها أنّه اسم للسورة،
(1/180)
ويكون مقسماً به، ورفع بالابتداء، على
طريقة: أمانة الله.
وقيل: هو منادى، أصله: يا إنسان، وقيل: هي لغة طيء، فيكون
مبنيّاً على الضمّ.
وأما قراءة الجرّ فقرأ بها أبو السَّمّال، وابن أبي إسحق
أيضاً، ووجهها
أن يكون قسماً كما تقدّم، وحُذف حرف القسم وبقي المقسم به
مجروراً.
وإن قلنا: إنها حروف مقطعات فهو مبنيّ على الكسر.
وقرأ السبعة (يس) بإسكان النون مدغمة في الواو وغير مدغمة.
تتميم:
واختلفوا في معنى (يس) .
فقال ابن جبير: هو اسم من أسماء النبيِّ - صلى الله عليه وسلم
-
ودليله: (إِنَّكَ لَمِنَ اَلمرسَلِينَ)
قال السَّيِّد الحِميري:
يا نفسُ لا تَمْحَضي بالودّ جاهدةً. . . على المَوَدّةِ إلاّ
آلَ ياسينا
يعني: آل النبى - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا القول ممّا تميل إليه النفس ويرتاح إليه
(1/181)
الخاطر، ويكون ربه تعالى قد أقسم باسمه على
رسالته، وهو من أحسن
الأقسام وألطفها، أعني إذا كان بين القسم والمقسم به مناسبة.
ومنه قوله تعالى: (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا
جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا.
ومنه قول أبي تمام:
وثناياك، إنها إغريضُ. . .
وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: (يس) : يا إنسان بالحبشية.
وقال ابن عبّاس أيضاً: هي في لغة طيء، وذلك أنهم يقولون إيسان
بمعنى
إنسان، ويجمعونه على أياسين فهذا مختصر من الجمع. وقيل: (يا)
حرف
نداء، والسين من إنسان بقية منه، وحذف سائره.
وقال الزمخشري: إن صحّ أن معناه يا إنسان على لغة طيء فوجهه أن
يكون الأصل: يا أنيسين، فكثُر النداء به على ألسنتهم حتى
اقتصروا على
شطره، كما قالوا في القسم: مُنُ الله، في أيمن الله. وما قاله
الزمخشري
غير سديد في اللفظ والمعنى: أما في اللفظ فإنّ إنساناً لا
يُصَغر على
أُنيسين بالياء، بل المسموع فيه أُنيسان.
وأما في المعنى فإنّ التصغير والحذف غضّ من جانب النبوّة
المعظّمة، لكنّ كرامته - صلى الله عليه وسلم - على ربّه، وعلوّ
(1/182)
منصبه تقتضي ألا يناديَه إلاّ نداء تفخيم
وتعظيم لا نداء تصغير وحذف.
والله أعلم.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " ص ": (وَلَاتَ حِينَ)
قرئ بنصب النون من (حِينَ) ورفعها وجرّها.
وقد استوفينا الكلام في ذلك في
باب التاء عند ذكرنا على (وَلَاتَ) .
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " الرحمن ": (وَالْحَبُّ ذُو
الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) .
قرئ بنصب النون من (الرَّيْحَانُ) ورفعها وجرّها:
أما قراءة النصب فقرأ بها ابن عامر من السبعة، وأبو حيوة، وابن
أبي
عبلة، مع نصب (الْحَبُّ) و (ذا العصف) ووجهها أنّه محمول على
فعل مضمر، التقدير: وخلق الْحَبَّ ذا العصف والرَّيحان.
وأما قراءة الرفع فقرأ بها نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم،
مع
رفع (الْحَبُّ) و (ذُو الْعَصْفِ) ، ووجهها أنه مرفوع بالعطف
على ما قبله،
(1/183)
أي: فيها فاكهة وكذا وكذا.
وأما قراءة الجرّ فقرأ بها حمزة والكسائي مع رفع (الحبّ) و (ذو
العصف) ووجهها أن (الريحان) معطوف على (العصف) أي: وذوالريحان.
تتميم:
واختلفوا في المراد بالرَّيحان: فقال ابن عبّاس ومجاهد: هو
الرّزق.
زاد ابن عبّاس: وكلّ ريحان في القرآن هو رزق.
قال مقاتل: الريحان:
الرِّزق بلغة حِمْيَر.
قال الشاعر:
سلامُ الإله ورَيحانُه. . . ورحمتُه وسماءٌ دِرَرْ
على الملك القَرْم وابن الهُمام. . . وليثِ الكتيبة في المفتخر
(1/184)
والمراد هنا بالرَّيحان رزق بني آدم، لأنه
ذكر في مقابلته رزق البهائم
وهو (الْعَصْف) .
وقال ابن زيد: هو ريحانكم هذا الذي يُشَمّ.
وقيل: هو
خضرة الزرع.
وقيل: هو ما قام على ساق من النبات.
والريحان أصله الواو، وأصله " رَيْوَحان "، قلبت الواو ياء.
وأدغمت الياء في الياء فصار ريّحان، ثم حذفت عين الكلمة كما
قالوا في
ميَّت، ميت.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " الواقعة ": (وَحُورٌ عِينٌ (22)
.
قرئ بنصب النون ورفعها وجرّها.
وقد تقدّم الكلام في ذلك في باب الراء
حيث تكلّمنا على (حُورٌ) .
(1/185)
|