جامع البيان في القراءات السبع الفصل الثاني ثقافته
ومجال إبداعه، وأقوال العلماء فيه
المبحث الأول ثقافته:
تأثر إبداع الداني في علومه ببيئته، فاهتم بما تهتم به من
العلوم، وأبدع في بعض ما تؤثره منها، اهتم بعلوم القرآن، وعلوم
الحديث، واللغة، والفقه المالكي، ووقف عليها حياته، مع إبداع
كبير في القراءات وعلومها، وتبحّر في النحو ومذاهبه، وسعة
رواية في الحديث مع تمام ضبط، والأخذ من الفقه بحظ وافر، وهذا
تفصيل في جوانب إبداعه في كل فن.
أولا: القراءات
عاصر الداني من أهل قرطبة مجموعة من القراء، كان على رأسهم:
أبو القاسم عبد الرحمن بن الحسن بن سعيد القرطبي، مسند أهل
الأندلس في زمانه (ت 446) «1»، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله
الصناع القرطبي (ت 448) «2»، ومكي بن أبي طالب الإمام الكبير
(ت 437). رحل إلى قرطبة، وجلس في جامعها للإقراء «3»، غير أن
الداني كان نسيج وحده في علوم القراءات، فقد اجتهد في طلب
القراءات، وجدّ في عرض الروايات على الشيوخ، ورواية الحروف
عنهم في قرطبة، وإستجة، وبجّانة، وسرقسطة، وغيرها من بلاد
الأندلس «4»، ورحل إلى مصر فعرض وروى عن كبار قرائها في ذلك
الزمن، الشيء الكثير، حتى غدا أعجوبة العصر في سعة الرواية
وكثرتها.
ويحدثنا الداني عن طريقته في الطلب والتحصيل، فيقول:" ما رأيت
شيئا قط إلا
__________
(1) انظر ترجمته: في معرفة القراء 1/ 410.
(2) المصدر السابق 1411.
(3) المصدر السابق 1/ 395.
(4) الصلة: 2/ 385.
(1/14)
كتبته، ولا كتبته إلا وحفظته، ولا حفظته
فنسيته" «1»، وهذا القول ليس فيه خيال، ولا تكثر بما لم يعطه،
فكتب الرجل وآثاره ناطقة بواقعية ما قال وصدقه، وهذا ابن
الجزري الإمام الثبت، يقول معقبا على قول الداني السابق:" ومن
نظر كتبه علم مقدار الرجل، وما وهبه الله تعالى فيه، فسبحان
الفتاح العليم، ولا سيما كتاب جامع البيان فيما رواه في
القراءات السبع" «2». وابن الجزري من أوثق الناس صلة بكتب
الداني، ومعرفة بقيمتها.
ولو أتينا إلى كتاب جامع البيان، لوجدنا الداني يروي لنا
القراءات السبع من أربعين رواية، ومائة وستين طريقا، حتى إذا
أخذت تحصي أسانيده بالتفصيل وجدتها تزيد على الأربع مائة طريق،
كل ذلك عن الأئمة السبعة فقط.
ولم يكن ذلك على كثرته ووفرته هو كل ما روى في القراءات، بل إن
عنده في السبع وراء ذلك روايات وطرقا، لم يدخلها في جامع
البيان. يقول الداني في جامع البيان، بعد أن فصّل أسانيده
فيه:" فهذه الأسانيد التي أدت إلينا القراءة عن أئمة القراءة
السبعة بالأمصار، من الروايات والطرق المذكورة في صدر الكتاب،
قد ذكرناها على حسب ما انتهت إلينا رواية وتلاوة، وتركنا كثيرا
منها؛ اكتفاء بما ذكرناه عما سواه، مع رغبتنا في الاختصار،
وترك الإطالة والإكثار" «3».
ولو عدنا إلى كتابه (الإشارة بلطيف العبارة، في القراءات
المأثورات، بالروايات المشهورات) لوجدناه يضم فيه إلى السبع
قراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع المدني (ت 132)، وقراءة أبي
محمد يعقوب بن إسحاق البصري (ت 205)، وأبي محمد خلف بن هشام
البزار الكوفي (ت 229) وحتى في القراءات السبع، يذكر فيه
روايات لم يدخلها في جامع البيان، مثل رواية العباس بن الفضل
الأنصاري قاضي الموصل (ت 186)، وأبي عبد الله محمد بن عمر بن
عبد الله بن رومي البصري عن أبي عمرو بن العلاء، وغيرهما عن
غير أبي عمرو من السبعة.
وهكذا نرى أن أبا عمرو الداني قد جمع الكثير والكثير من
الروايات في علم القراءة عن السبعة وغيرهم، بحيث يتبدى لك قول
ابن الجزري عن جامع البيان
__________
(1) سير أعلام النبلاء 18/ 80، غاية النهاية 1/ 504.
(2) غاية النهاية 1/ 504.
(3) انظر: جامع البيان الفقرة: 1003.
(1/15)
" قيل: إنه جمع فيه كل ما يعلمه في هذا
العلم" «1» وهذا القول غير مسلّم به، وإن كان جامع البيان قد
حوى ما يعجب ويدهش، فالرجل قد أوتي حظا وافرا، ونصيبا كبيرا
من العلم، جعله يتبوأ في علوم القراءات مرتبة" الأستاذين، وشيخ
مشايخ المقرئين" «2» عن جدارة واستحقاق.
وكان وراء إبداع الداني في
القراءات عدة عوامل منها:
1 - سعة الرواية وكثرتها:
بالأسانيد المتصلة في روايات القراءات ووجوهها، وفي تاريخ
رواتها، وطبقاتهم، فتراه في جامع البيان، يوثّق كل معلومة
بالإسناد المتصل إلى قائلها.
يقول: حدثنا عبد الرحمن بن عثمان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ،
قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: سمعت أبي يقول: عاصم بن أبي
النّجود هو عاصم بن بهدلة «3».
وتوثيقا لعاصم يقول: أخبرنا سلمون بن داود، قال: حدثنا أبو علي
بن الصوّاف، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: سألت
أبي عن عاصم بن بهدلة فقال:
رجل صالح خيّر ثقة «4».
ويمضي هكذا، حتى يورد لك سبعة عشر إسنادا، يوثق بها ترجمته
لعاصم بن أبي النجود.
هذا، وللداني معرفة واسعة بتاريخ رواة القراءات، ودرجاتهم،
وطبقاتهم، حتى أن له مصنفا في طبقات القراء في ثلاثة أسفار،
ذكر فيه أحوال كل من قصد للإقراء من عند رسول الله صلى الله
عليه وسلم، إلى سنة خمس وثلاثين وأربع مائة «5».
2 - الضبط التام:
بحيث يؤدي مسموعات ومروياته كما سمعها، وهذا الضبط هو الذي
يعلي قدر العالم، ويرفع منزلته، وقد شهد النقّاد لأبي عمرو أنه
قد بلغ في ذلك شأوا بعيدا.
__________
(1) النشر 1/ 61.
(2) غاية النهاية 1/ 503.
(3) انظر: جامع البيان الفقرة: 290.
(4) انظر: جامع البيان الفقرة: 299.
(5) انظر: روضات الجنات 5/ 182.
(1/16)
يقول ابن بشكوال:" كان حسن الخط جيد الضبط،
من أهل الحفظ والعلم والذكاء والفهم" «1».
ويقول أبو محمد بن عبد الله الحجري في فهرسه:" والحافظ أبو
عمرو الداني، ذكر بعض الشيوخ أنه لم يكن في عصره، ولا بعد عصره
أحد يضاهيه في حفظه وتحقيقه" «2».
ويقول الحافظ الذهبي:" وما زال القراء معترفين ببراعة أبي عمرو
الداني، وتحقيقه، وإتقانه، وعليه عمدتهم فيما ينقله من الرسم،
والتجويد، والوجوه" «3».
3 - الدقة العلمية:
رزق أبو عمرو الداني دقة ملاحظة، وتيقظا وانتباها بحيث لا
تفوته الأخطاء، ولا تجوز عليه الأوهام قبل أن ينبه إليها، ففي
الفقرة (788) من جامع البيان، يقول بعد أن يسوق الرواية عن ابن
مجاهد:" في كتابي وفي سائر النسخ من كتاب ابن مجاهد، عن أبيه
وعمه، وهو خطأ، وأحسبه من قبل النساخ، والصواب عن أخيه وعمه،
كما نا ابن جعفر ... " ويسوق الرواية الصحيحة بإسنادها.
ويقول:" الرواة كلهم يقولون عن هارون الأخفش: حدثنا عبد الله
بن ذكوان، ما خلا ابن مرشد، فإنه قال عنه: قرأت على ابن ذكوان،
وقال ابن عبد الرزاق عنه:
حدثنا ابن ذكوان وقرأت عليه، فدلّ ذلك على أن الأخفش نقل
الحروف عنه رواية وتلاوة، فتارة يذكر الرواية، وتارة يذكر
التلاوة، لذلك حكى عنه الأمرين ابن عبد الرزاق" «4».
4 - النقد العلمي الجريء:
أبو عمرو الداني راوية ناقد، لا يقبل الروايات على علّاتها،
ولكن ينقدها نقد الصيرفي- وهو ابن الصيرفي- للدرهم والدينار،
ولا يمرّ الأخبار على عواهنها، بل يزيف الزائف، ويكشف الخطأ،
ويحسن الحسن ويقبله، يعطي كل قول ما يستحق من الحكم.
__________
(1) الصلة 2/ 386.
(2) تذكرة الحفاظ 3/ 1121، سير النبلاء 18/ 80.
(3) تاريخ الإسلام 13 ل 305/ ظ.
(4) جامع البيان: الفقرة 815.
(1/17)
فبينما يخطّئ ابن جبير فيقول:" وقد أدرج
ابن جبير في هذا الضرب حرفين ليسا منه، وحكى عن اليزيدي عن أبي
عمرو أنه أظهرهما، وهما قوله: الموت تحبسونهما [المائدة: 106]
والموت توفّته [الأنعام: 61] وذلك غلط منه، لأن تاء الموت
أصلية، فلا علة تمنع من إدغامها في مثلها، كما منعت منه تاء
الخطاب وتاء المتكلم" «1».
ويغلط الحلواني في الحاقّة يا أيّها ويا أخت ويا آدم مع ما
الهمزة فيه من نفس الكلمة التي قبلها، بل هي منفصلة منها ...
الخ «2».
وتراه يرد رواية الخزاعي، والحلواني، وابن شنبوذ، عن القوّاس
أنه كان يحذف حرف المدّ، ويسقطه من اللفظ في المنفصل، فيقول:"
وهذا مكروه قبيح لا يعمل عليه، ولا يؤخذ به، إذ هو لحن لا يجوز
بوجه، ولا تحلّ القراءة به" «3» ويحكم بالوهم حتى على شيخه
فارس بن أحمد «4».
تراه من ناحية أخرى يقبل قول قالون ويحسّنه فيقول:" والذي قاله
في الضربين حسن، وقد بينا صحة ذلك في كتابنا المصنف في
الهمزتين" «5».
ويعقب على تعليل الفراء تفخيم لام الجلالة بعد الفتح والضم،
وترقيقها بعد الكسر، بقوله:" وكلام الفراء في هذا حسن، وذلك
أنه شبه اللام ... الخ" «6».
وحيثما جرى الخلاف بين القراء في قضية ما، بيّن لك وجهة نظر كل
فريق، ثم أوضح أي الرأيين هو الصحيح، أو الأقوى الذي يعتمده،
والأمثلة كثيرة في جامع البيان. غير أن الداني يقسو أحيانا على
أصحاب الرأي المقابل في التعبير. فتراه يقول:
" والوجهان جميعا لا دليل فيهما على مذهبهم، ولا حجة فيهما
لانتحالهم، بل يؤذنان ببطول قولهم، ورد دعواهم، ويشهدان بقبح
مذاهبهم، وسوء انتحالهم" «7».
__________
(1) جامع البيان: الفقرة 1130.
(2) انظر: جامع البيان الفقرة: 1258.
(3) انظر: جامع البيان الفقرة: 256.
(4) انظر: جامع البيان الفقرة: 1619.
(5) انظر الفقرة: 1416 من جامع البيان.
(6) انظر الفقرة: 2404 من جامع البيان.
(7) انظر الفقرة: 1305 من جامع البيان.
(1/18)
5 - حسن توفيقه بين
الروايات التي ظاهرها التعارض:
أوتي الداني في ذلك ملكة قوية، ورزق حنكة ودربة على التوفيق
بين النصوص، بدلا من ضرب بعضها ببعض، وقبول بعض ورد بعضها
الآخر، فانظر على سبيل المثال توفيقه بين الروايات التي يقول
بعضها: إن إسماعيل بن جعفر قرأ على عيسى بن وردان، وأن عيسى
قرأ على نافع. ويقول البعض الآخر: إن إسماعيل قرأ على نافع
نفسه «1».
وكذلك توفيقه بين الروايات التي يقول بعضها: إن الكسائي يقف
على ما لهذا الكتاب [الكهف 49] على رسم المصحف، وبعضها الآخر
يقول: إنه يقف على ما «2».
هذه المزايا عند الداني رفعته إلى مقام الإمامة في علوم
القراءات، حتى قال فيه الذهبي:" إلى أبي عمرو المنتهى في إتقان
القراءات، والقراء خاضعون لتصانيفه، واثقون بنقله في القراءات،
والرسم، والتجويد، والوقف والابتداء، وغير ذلك" «3».
وقال فيه ابن خلدون:" بلغ الغاية فيها، أي في القراءات، ووقفت
عليه معرفتها، وانتهت إلى روايته أسانيدها، وتعددت تآليفه
فيها، وعول الناس عليها وعدلوا عن غيرها" «4».
وقال الضبي عنه:" إمام وقته في الإقراء" «5».
هذا، وأبو عمرو يذهب إلى أن القراءات السبع متواترة وما وراءها
شواذ، ينبيك عن ذلك أنه صنف كتابه" المحتوى في القراءات
الشواذ" فأدخل فيها قراءة يعقوب وأبي جعفر «6».
ولم تقعد همة الداني به عند حدود القراءات، بل سمت إلى سائر
علوم القرآن؛
__________
(1) انظر الفقرات: 559 - 607 من جامع البيان.
(2) انظر الفقرات: 2500 - 2503 من جامع البيان.
(3) تذكرة الحفاظ 3/ 1121.
(4) مقدمة ابن خلدون 3/ 995.
(5) بغية الملتمس: 411.
(6) انظر: سير أعلام النبلاء 18/ 81.
(1/19)
حيث صنّف في كل فنّ منها، فأحسن وأجاد.
وكان كما قال ابن بشكوال:" أحد الأئمة في علم القرآن، وروايته،
وتفسيره، ومعانيه، وطرقه، وإعرابه" «1».
ثانيا: الحديث
لأبي عمرو الداني باع طويل في علوم السنة، رواية ودراية، فقد
تلقى الحديث من مشايخ كثر، وبعض أسانيده عالية، فبينه وبين أبي
عبيد القاسم بن سلام (ت 224) ثلاثة
رجال، فهو يروي عنه بوساطة شيخه خلف بن إبراهيم بن خاقان، عن
أحمد بن محمد بن أبي الموت، عن علي بن عبد العزيز البغوي، عن
أبي عبيد.
وبينه وبين الإمام أحمد (ت 241) ثلاثة، حيث يروي عنه بوساطة
شيخه سلمون بن داود، عن أبي علي بن الصواف، عن عبد الله بن
أحمد بن حنبل، عن الإمام أحمد.
وبينه وبين يحيى بن معين (ت 223) ثلاثة، حيث يروي عنه بوساطة
شيخه عبد الرحمن بن عثمان القشيري، عن قاسم بن أصبغ، عن أحمد
بن زهير بن حرب، عن يحيى بن معين.
هذا، وينبيك عن سعة رواية أبي عمرو الداني وكثرتها في السنّة،
كتابه (السنن الواردة في الفتن). وهو كتاب كبير في مجلد، ذكر
فيه مئات الأحاديث، والروايات في الفتن الكائنة في آخر الزمان،
وبعضها قد لا تجده في غير هذا الكتاب، وهو كتاب خليق بأن يخدم
ويحقق، يقول فيه الذهبي:" وكتاب الفتن الكائنة، مجلد يدل على
تبحّره في الحديث" «2»، وتراه في جامع البيان يروي الحديث
الواحد بعدة أسانيد «3»، وقد شرح كتاب منتقى ابن الجارود (ت
307) وسماه (المرتقى في شرح المنتقى) «4».
واحتفال الداني بالأسانيد ليس مقصورا على الأحاديث المرفوعة،
بل يشمل الآثار وكلام السلف أيضا،" كان يسأل عن المسألة مما
يتعلق بالآثار، وكلام السلف،
__________
(1) الصلة 2/ 386.
(2) سير أعلام النبلاء 18/ 81.
(3) انظر الفقرات: 113، 114، 115 من جامع البيان.
(4) الرسالة المستطرفة: 25.
(1/20)
فيوردها بجميع ما فيها، مسندة من شيوخه إلى
قائلها" «1»، وربما يروي لك الأثر الواحد بعدة أسانيد، إلى
قائله «2».
وللداني معرفة كبيرة بتاريخ رواة الحديث، وطبقاتهم، ودرجاتهم،
وله إلمام كبير بعلم الجرح والتعديل، يروي أقاويل أئمته: أحمد
بن حنبل، ويحيى بن معين وأمثالهما في تعديل الرواة وجرحهم
بالأسانيد المتصلة «3».
والنقاد يعرفون للداني قدره وبراعته في علوم السنّة، وتاريخ
رجالها، فالذهبي ترجم له في تذكرة الحفاظ، فقال:" الحافظ
الإمام شيخ الإسلام" «4». وابن بشكوال قال فيه:" وله معرفة
بالحديث، وطرقه، وأسماء رجاله، ونقلته" «5». وقال فيه ابن
الجزري:" سمع الحديث من جماعة، وبرز فيه وفي أسماء رجاله" «6».
وللداني شأن في علوم الاصطلاح، وله فيه آراء. ومن آرائه أن
العنعنة لا تقبل إلا إذا كان الراوي المعنعن معروف بالرواية
عمن عنعن عنه «7»، وهو، أي الداني، ممن يعتبر قوله في الجرح
والتعديل، ولذلك ترى الحافظ المزي ينقل عن الداني في (تهذيب
الكمال) رواياته في الجرح والتعديل «8».
ثالثا: اللغة
النحو عند أهل الأندلس في نهاية من علوّ الطبقة، وكل عالم في
أي علم لا يكون متمكنا من علم النحو بحيث لا تخفى عليه
الدقائق، فليس عندهم بمستحق للتمييز، ولا سالم من الازدراء
«9».
ومن هنا نرى الداني واسع الاطلاع على النحو، محيطا بمذاهب
النحويين
__________
(1) سير أعلام النبلاء 18/ 81.
(2) انظر الفقرات: 117، 118، 121 من جامع البيان.
(3) انظر الفقرات: 250، 299، 325، 327، 348، 349 من جامع
البيان.
(4) 3/ 1120.
(5) الصلة: 2/ 386.
(6) غاية النهاية 1/ 504.
(7) انظر فتح المغيث للسخاوي 1/ 158.
(8) انظر تهذيب الكمال 1/ 302 ترجمة حفص بن سليمان البزاز،
وانظر الفقرة: 325 من جامع البيان.
(9) انظر: نفح الطيب 1/ 221.
(1/21)
واختلافهم: بصريّهم وكوفيّهم على حدّ سواء،
فتراه في مواضع من كتابه جامع البيان ينقل اختلاف النحويين نقل
الخبير البصير، ويحكم برجحان الراجح من آرائهم، ويؤيد حكمه
بالدلائل البيّنة والحجج الظاهرة، فيقول في الخلاف في الاسم
المقصور المنون مثل (هدى): إذا وقف عليه، وأبدل من التنوين
ألف، وقبلها الألف المنقلبة عن الياء، فيجتمع ألفان، فيلزم حذف
إحداهما، يقول الداني:" وقد اختلف علماء العربية في أيهما
المحذوفة، فقال الكوفيون منهم، وبعض البصريين: المحذوفة
للساكنين منهما هي المبدلة من التنوين؛ لكون ما أبدلت منه
زائدا، والثابتة هي المنقلبة عن الياء؛ لكون ما انقلبت عنه
أصليا.
" وقال اكثر البصريين: المحذوفة منهما هي المنقلبة عن الياء؛
لكونها أول الساكنين، والثابتة هي المبدلة من التنوين؛ لكون ما
أبدلت منه دالا على معنى يذهب بذهابها ...
قال أبو عمرو: أوجه القولين وأولاهما بالصحة، قول من قال: إن
المحذوفة هي المبدلة من التنوين، لجهات ثلاث ... قال أبو عمرو:
فمن أخذ بقول الكوفيين والخليل وسيبويه ومن وافقهما: وقف على
جميع ما تقدم، من المنصوب الذي يصحبه التنوين، في مذهب حمزة
والكسائي بالإمالة ... ومن أخذ بقول بعض البصريين: المازني
ومحمد بن يزيد ومن تبعهما: وقف على جميع ذلك في مذهب من رأى
الإمالة الخالصة والإمالة اليسيرة بإخلاص الفتح. والعمل عند
القراء وأهل الأداء على الأوّل، وبه أقول لورود النص المذكور
به ودلالة القياس على صحته" «1».
وتراه في مواضع أخرى ينقل اتفاق النحويين أجمعين، وينفي وجود
خلاف بينهم، مما يدل على إحاطته بآرائهم ومذاهبهم. فيقول:"
وهذا مذهب النحويين أجمعين، ولا أعلم بينهم خلافا" «2».
ويقول:" وهو مذهب جميع النحويين" «3».
وللداني عناية خاصة بكتاب سيبويه، فقد أحسن الاستشهاد بنصوصه
في مواضع كثيرة من (جامع البيان) «4»، مما يعطي انطباعا بوجود
ميول بصرية عنده وإن كنا نراه في مواضع من (جامع البيان) يساير
الكوفيين، فيعرف العدد والمعدود «5»، ويستعمل
__________
(1) انظر الفقرات: 2276 - 2280 من جامع البيان.
(2) جامع البيان: الفقرة 1532.
(3) جامع البيان: الفقرة 1676.
(4) جامع البيان: الفقرات: 1323، 2311، 2558، 2568، 2571.
(5) جامع البيان: الفقرات: 1393، 1450، 1560.
(1/22)
(الذي) للمفرد والجمع «1».
وتمكن الداني من علم النحو، وتبحره فيه جعله من النحويين
المرموقين، الذين يترجم لهم في طبقات النحاة، بل إن أبا حيان
الأندلسي ينقل رأيه في موضوع لغوي.
فيقول:" وذهب الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني صاحب
التصانيف في القراءات إلى أن وزنه- أي عيسى- فعلل" «2».
رابعا: الفقه
نشأ الداني في قرطبة، التي يعتبر الأندلسيون عمل أهلها حجة في
الفقه، فطلب الفقه في الأندلس، وفي مصر «3»، ومما قرأه في
الأندلس على شيخه الفقيه ابن أبي زمنين كتاب (المغرب في اختصار
المدونة)، وكتاب (المشتمل في الوثائق)، وكتاب (منتخب الأحكام)،
وهي من تصنيف شيخ الداني هذا «4». ولا ريب أن الداني بلغ في
الفقه مرتبة عالية، أدخلته في (الديباج المذهب)، و (شجرة النور
الزكيّة)، وجعلت ابن الجزري يذكر الفقه مع العلوم التي برز
فيها الداني «5».
غير أنه لم يذكر أحد لنا شيئا عن نشاطه الفقهي، ولا حتى حدود
دراسته الفقهية ومدى عمقها، وإن كنّا نرجّح أنه لم يتعدّ حدود
مذهب مالك، لأنه يدعو صراحة في أرجوزته إلى اتباع مذهب مالك
فيقول «6»:
واعتمدن على الإمام مالك ... إذ قد حوى على جميع ذلك
في الفقه والفتوى إليه المنتهى ... وصحّة النّقل وعلم من مضى
وبعد، فللداني وراء ذلك اهتمامات علمية، ونشاطات تأليفية، في
العقيدة وغيرها، وكان يقرض الشعر على قلة، ولعله يرى أن
الإغراق في الشعر ينافي جلال العلم، واستقامة السيرة، مع أنه
نظم عدة أراجيز، إحداها في أصول السنة والاعتقاد،
__________
(1) جامع البيان: الفقرات: 7، 1690.
(2) البحر المحيط 1/ 297.
(3) معجم الأدباء 12/ 127.
(4) انظر فهرسة ابن خير: 251.
(5) غاية النهاية 1/ 504.
(6) سير أعلام النبلاء 18/ 82.
(1/23)
تبلغ ثلاثة آلاف بيت.
وذكر الحميدي «1» ثلاثة أبيات من شعره، يظهر فيها سبب عزوفه عن
الأدب، فيقول:
قد قلت إذ ذكروا حال الزمان وما ... يجري على كل من يعزى إلى
الأدب
لا شيء أبلغ من ذل يجرعه ... أهل الخساسة أهل الدين والحسب
القائمين بما جاء الرسول به ... والمبغضين لأهل الزيغ والريب
وقد عاصر الداني في الأندلس أبا محمد علي بن أحمد بن حزم (ت
456) وكانت بينهما وحشة ومنافرة شديدة، أفضت بهما إلى التهاجي،
ولكل واحد منهما في الآخر هجاء يقذع فيه «2»، غفر الله لهما،
غير أنه كما قال الذهبي: وأبو عمرو أقوم قيلا، وأتبع للسنة
«3».
وجرت كذلك مقاطعة بين أبي عمرو وتلميذه أبي محمد عبد الله بن
سهل بعد عودة الأخير من رحلته إلى المشرق، مع أنه كان قد لازم
الداني قبل ذلك ثمانية عشر عاما «4».
ومهما يكن من أمر فأبو عمرو كما يقول ابن بشكوال:" كان دينا،
فاضلا، ورعا، قال المغامي: كان أبو عمرو مجاب الدعوة" «5».
رحمه الله، وغفر له ولنا وللمسلمين.
__________
(1) جذوة المقتبس: 305، وانظر معجم الأدباء 12/ 123.
(2) سير أعلام النبلاء 18/ 81، غاية النهاية 1/ 505، طبقات
المفسرين للداودي 1/ 375.
(3) سير أعلام النبلاء 18/ 81.
(4) انظر معرفة القراء 1/ 437.
(5) الصلة 2/ 386.
(1/24)
المبحث الثاني أقوال
العلماء فيه:
قال ابن بشكوال:" كان حسن الخط جيد الضبط، من أهل الحفظ والعلم
والذكاء والفهم" «1». وقال أيضا:" كان دينا، فاضلا، ورعا، قال
المغامي: كان أبو عمرو مجاب الدعوة، مالكي المذهب" «2»
وقال أبو محمد بن عبد الله الحجري في فهرسه:" والحافظ أبو عمرو
الداني، ذكر بعض الشيوخ أنه لم يكن في عصره، ولا بعد عصره أحد
يضاهيه في حفظه وتحقيقه" «3».
وقال الحافظ الذهبي أيضا:" وما زال القراء معترفين ببراعة أبي
عمرو الداني، وتحقيقه، وإتقانه، وعليه عمدتهم فيما ينقله من
الرسم، والتجويد، والوجوه" «4».
وقال أيضا:" إلى أبي عمرو المنتهى في إتقان القراءات، والقراء
خاضعون لتصانيفه، واثقون بنقله في القراءات، والرسم، والتجويد،
والوقف والابتداء، وغير ذلك" «5».
وقال فيه ابن خلدون:" بلغ الغاية فيها، أي في القراءات، ووقفت
عليه معرفتها، وانتهت إلى روايته أسانيدها، وتعددت تآليفه
فيها، وعول الناس عليها وعدلوا عن غيرها" «6».
وقال الضبي عنه:" إمام وقته في الإقراء" «7».
وقال ابن الجزري" الإمام العلامة، الحافظ، أستاذ الأستاذين،
وشيخ مشايخ المقرئين ... من نظر كتبه علم مقدار الرجل، وما
وهبه الله تعالى فيه، فسبحان الفتّاح العليم" «8».
__________
(1) الصلة 2/ 386.
(2) الصلة 2/ 593.
(3) تذكرة الحفاظ 3/ 1121، سير النبلاء 18/ 80.
(4) تاريخ الإسلام 13 ل 305/ ظ.
(5) تذكرة الحفاظ 3/ 1121.
(6) مقدمة ابن خلدون 3/ 995.
(7) بغية الملتمس: 411.
(8) غاية النهاية 1/ 503.
(1/25)
المبحث الثالث وفاته
اجتمعت كلمة المترجمين لأبي عمرو أن وفاته كانت يوم الاثنين في
النصف من شوال، سنة أربع وأربعين وأربع مائة، ودفن بالمقبرة
عند باب إندارة، وقد بلغ اثنتين وسبعين سنة، ومشى صاحب دانية
أمام نعشه، وشيّعه خلق عظيم «1»، رحمه الله.
__________
(1) انظر: الصلة 2/ 387، غاية النهاية 1/ 505، معجم الأدباء
12/ 128.
(1/26)
|