جامع البيان في القراءات السبع

باب ذكر الاستعاذة ومذاهبهم فيها
صيغة الاستعاذة
1004 - اعلم- أرشدك الله تعالى- أن الرواية في الاستعاذة قبل القراءة وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظين «3»:
أحدهما: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. روى ذلك عنه جبير بن مطعم «4».
__________
(1) في م: (زيد). وهو خطأ.
(2) الطريق الحادي بعد الأربع مائة هو من طرق رواية الحروف، والإسناد إلى قتيبة تقدم في الفقرة/ 589.
- ومجموع طرق رواية قتيبة اثنان كلاهما رواية حروف.
(3) وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم ألفاظ أخر، انظرها في النشر 1/ 249، وإبراز المعاني لأبي شامة/ 63.
(4) جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل، القرشي، صحابي، مات سنة ثمان أو تسعة وخمسين.
التقريب 1/ 126.
- والحديث بهذا اللفظ أخرجه ابن ماجة في سننه، في كتاب إقامة الصلاة باب الاستعاذة في الصلاة، والبيهقي في سننه في كتاب الصلاة باب التعوذ بعد الافتتاح. وبلفظ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصلاة باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء.
- وحديث جبير مداره على عاصم بن عمير العنزي، الذي ذكره ابن حبان في الثقات، كما في تهذيب الكمال (2/ 639)، وسائر رجال أبي داود وابن ماجة والبيهقي ثقات. والإسناد حسن.
- وأخرجه بلفظ المؤلف الإمام أحمد في مسنده (5/ 253) من حديث أبي أمامة الباهلي وفي إسناده رجل لم يسم.

(1/389)


والثاني: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. روى ذلك عنه أبو سعيد الخدري «1».
1005 - وروى أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال: (أول ما نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم علّمه «2» الاستعاذة، قال: يا محمد قل: أعوذ بالله السّميع العليم من الشيطان الرجيم. ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم) «3».
1006 - وعلى استعمال هذين اللفظين عامّة أهل الأداء من أهل الحرمين
__________
(1) أبو سعيد اسمه سعد بن مالك بن سنان، الأنصاري، مات سنة ثلاث وستين. التقريب 1/ 289.
قال ابن الجزري في النشر (1/ 249): رواه أصحاب السنن الأربعة وأحمد عن أبي سعيد الخدري بإسناد جيد، وقال الترمذي: هو أشهر حديث في هذا الباب. أ. هـ. قال عبد المهيمن:
الحديث في مسند الإمام أحمد (3/ 50)، وفي سنن أبي داود في كتاب الصلاة باب من رأى الاستفتاح بسبحانك، وفي جامع الترمذي في أبواب الصلاة باب ما يقول عند افتتاح الصلاة، وأخرجه النسائي في سننه في كتاب الافتتاح باب الدعاء بين التكبيرة والقراءة مختصرا، وليس فيه لفظ الاستعاذة، كلهم من طريق جعفر بن سليمان، عن علي بن علي الرفاعي، عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري.
والحديث لم أجده في سنن ابن ماجة.
قال عبد المهيمن: وتتمة كلام الترمذي على الحديث: وقد تكلم في إسناد حديث أبي سعيد، كان يحيى بن سعيد يتكلم في علي بن علي الرفاعي، وقال أحمد: لا يصح هذا الحديث. ا.
هـ. كلام الترمذي.
قال الشيخ أحمد شاكر- رحمه الله- في تعليقه على الترمذي: الحديث حديث صحيح، قال: وعلي بن علي الرفاعي اليشكري ثقة، وثقه ابن معين وأبو زرعة ووكيع، وقال شعبة:
اذهبوا بنا إلى سيدنا وابن سيدنا علي بن علي الرفاعي. اهـ.
(2) في م: (عليه). وهو خطأ. والتصحيح من النشر 1/ 247.
(3) أبو روق بفتح الراء وسكون الواو. هو عطية بن الحارث الهمداني، الكوفي، صدوق من الخامسة. التقريب 2/ 24.
- الضحاك بن مزاحم، الهلالي، أبو القاسم أو أبو محمد الخراساني، صدوق كثير الإرسال، من الخامسة، مات بعد المائة. التقريب 1/ 373. وفي سماعة من ابن عباس خلاف. انظر تهذيب الكمال 2/ 618.
- والحديث أسنده الطبري في مقدمة التفسير (1/ 113). لكن بلفظ: يا محمد استعذ قل أستعيذ. ونقله ابن كثير في التفسير (1/ 14) ثم قال: وهذا الأثر غريب، وإنما ذكرناه ليعرف، فإن في إسناده ضعفا وانقطاعا أ. هـ.

(1/390)


والعراقيين والشام. فأما أهل مصر وسائر العرب فاستعمل أكثر أهل الأداء منهم لفظا ثالثا: أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم «1».
1007 - وأصحّ هذه الألفاظ من طريق النقل وأولاها بالاستعمال من جهة النظر اللفظ الأول لدلالة نص التنزيل عليه، وهو قوله عزّ وجلّ لنبيّه صلى الله عليه وسلم آمرا له ولسائر قرّاء القرآن فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطن الرّجيم [النحل: 98].
يعني إذا أردت أن تقرأ القرآن؛ لأن الاستعاذة قبل القراءة «2». ومثله قوله عزّ وجلّ: يأيّها الّذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصّلوة فاغسلوا وجوهكم [المائدة: 6] الآية، يعني إذا أردتم القيام إلى الصلاة، فوجب استعمال ذلك دون غيره من الألفاظ- وبذلك استعذت للجماعة من أئمة القراءة على جميع من قرأت عليه، وهو اختيار أبي بكر بن مجاهد فيما بلغني عنه واختيار غيره من جلّة أهل الأداء.

الجهر بالاستعاذة وإخفاؤها
1008 - ولا أعلم خلافا في الجهر بالاستعاذة عند افتتاح القرآن وعند ابتداء كل قارئ بعرض أو درس أو تلقين في جميع القرآن إلا ما جاء عن نافع وحمزة.
1009 - فأما نافع فحدّثنا عبد العزيز بن جعفر أن عبد الواحد بن عمر حدّثهم قال: حدّثني أبو بكر شيخنا، قال: حدّثني الحسن بن مخلد، قال: سألت أبا القاسم «3» ابن المسيّبي، عن استعاذة أهل المدينة أيجهرون بها أم يخفونها؟ فقال: ما كنّا نجهر ولا نخفي، ما كنّا نستعيذ البتّة.
1010 - وروى محمد بن إسحاق عن أبيه «4»، عن نافع أنه كان يخفي الاستعاذة ويجهر ب بسم الله الرّحمن الرّحيم عند افتتاح السور ورءوس الآي في جميع القرآن.
1011 - وأما حمزة فحدّثنا الفارسي، قال: حدّثنا أبو طاهر بن أبي هاشم، قال:
__________
(1) انظر رواة هذا اللفظ في النشر 1/ 250.
(2) لزيادة التفصيل انظر النشر 1/ 254.
(3) ابن المسيبي هو محمد بن إسحاق، وتقدم في الفقرة/ 618 أن كنيته أبو عبد الله، وكذا في غاية النهاية 2/ 98. وأبو بكر هو ابن مجاهد. وإسناد الرواية صحيح.
(4) هو إسحاق بن محمد المسيبي. وذلك من الطريقين: الثالث عشر والرابع عشر.

(1/391)


حدّثني أحمد بن عبيد الله قال: حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا الحلواني، قال: قال خلف «1»: كنا نقرأ على سليم، فنخفي التعوّذ ونجهر ب بسم الله الرّحمن الرّحيم في الحمد لله خاصّة، ونخفي التعوّذ وبسم الله الرّحمن الرّحيم في سائر القرآن، نجهر برءوس أتمّتها «2». وكانوا يقرءون على حمزة فيفعلون ذلك. قال أحمد «3»: وقرأت على خلّاد ففعلت ذلك.
1012 - وروى أبو الحسن «4» علي بن عمر عن أبي الحسين بن المنادي عن الحسن بن العباس عن الحلواني عن خلف، عن سليم عن حمزة أنه كان يجهر بالاستعاذة والتسمية في أول سورة فاتحة الكتاب ثم يخفيها «5» بعد ذلك في جميع القرآن. قال الحلواني: وقد قرأت على خلاد فلم يغيّر عليّ. وقال لي سليم: يجيزهما جميعا، ولا ينكر على من جهر، ولا على من أخفى.
1013 - وروى إبراهيم بن زربي عن سليم عن حمزة أنه كان يخفيها في جميع القرآن.
1014 - أخبرني محمد بن عبد الواحد أن أحمد بن نصر حدّثهم، قال: حدّثنا أبو الحسن بن شنبوذ عن الحسن بن مخلد قال: قلت لأبي هشام الرفاعي: أكنتم تجهرون بالاستعاذة على سليم؟ قال: لا ولكنّا كنّا نستعيذ في أنفسنا «6».
__________
(1) خلف هو ابن هشام البزار. والحسن هو ابن العباس بن أبي مهران، وهذا الإسناد صحيح.
وطريق الحلواني عن خلف خارج عن طرق جامع البيان.
(2) أتمة جمع تمام، مثل أشربة جمع شراب، والتمام هو الوقف على ما لا تعلق له لما بعده لفظا ولا معنى. انظر النشر 1/ 226. فإذا ابتدأ القارئ القراءة من وسط السورة ابتدأ بمستقل بالمعنى، موف بالمقصود. والابتداء التام هو الابتداء بما لا تعلق له بما قبله لفظا ولا معنى. انظر النشر 1/ 230.
(3) هو أحمد بن يزيد الحلواني. وقراءته من الطريق الحادي والأربعين بعد الثلاث مائة.
(4) علي بن عمر بن أحمد، أبو الحسن، الدارقطني، البغدادي، الإمام الحافظ الثقة، مات سنة خمس وثمانين وثلاث مائة. تذكرة الحفاظ 2/ 991، غاية 1/ 558. والإسناد منقطع بينه وبين الداني. والطريق خارج عن طرق جامع البيان.
(5) كذا في ت، م، والنشر 1/ 253. والضمير يعود على الاستعاذة، ولو قال (ثم يخفيهما) بالتثنية لكان أولى، لأن حمزة لا يبسمل بين السور، كما سيأتي في باب التسمية.
- والرواية نقلها في النشر 1/ 253 عن كتاب علي بن عمر الدارقطني.
(6) هذا الطريق خارج عن طرق جامع البيان، وإسناده صحيح.

(1/392)


1015 - قال الحسن «1»: وسمعت أبا هشام يقول: سمعت سليما يقول: إنما آخذكم بأن لا تقرءوا «2» بسم الله الرّحمن الرّحيم بين السّور لتعرفوا كيف تصلون بين السّور.
1016 - وهذا يدلّ على ما حكاه الحلواني عن خلّاد عنه أنه كان لا ينكر على من جهر بالتسمية وعلى من أخفاها «3».
1017 - فأما أبو عمرو فإن أبا حمدون روى أداء عن اليزيدي ومحمد بن غالب عن شجاع «4» عنه أنه كان يظهر الاستعاذة والتسمية في الفاتحة وعند رءوس الأتمّة «5»، وبين السور في جميع القرآن، والرواية والنص بذلك بعد معدومان عمّن سوى هؤلاء الثلاثة.
1018 - وروى ابن جريج عن عطاء قال: الاستعاذة واجبة في الصلاة وغيرها «6».
1019 - وقال الحلواني في «جامعه» وليس للاستعاذة حدّ ينتهى إليه، من شاء زاد ومن شاء نقص «7»، غير أنه لا ينبغي لأحد أن يجهر بالتعوّذ في عرض ولا غيره؛ لأن ابن مسعود كرهه. وقال: (جرّدوا القرآن، ولا تلبسوا به ما ليس منه) «8».
__________
(1) والحسن بن الحباب بن مخلد.
(2) في م: (لا تعدوا). ولا تناسب السياق.
(3) في م: (خفاها). وهو صحيح لغة. انظر لسان العرب 18/ 265.
(4) أي ان محمد بن غالب الأنماطي، روى عن شجاع بن أبي نصر، عن أبي عمرو. وإن أبي حمدون الطيب بن اسماعيل روى عن اليزيد عن أبي عمرو أنه كان الخ.
(5) أي عند ابتداء القراءة من وقوف التمام.
(6) ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، المكي، ثقة فقيه فاضل، وكان يدلس ويرسل، مات سنة خمسين ومائة أو بعدها. التقريب 1/ 520. وعطاء هو ابن أبي رباح تقدم.
- وهذا الأثر رواه عبد الرازق في مصنفه (2/ 83) عن ابن جريج عن عطاء قال: الاستعاذة واجبة لكل قراءة في الصلاة أو غيرها. اهـ وقال السيوطي في الدر المنثور (4/ 130): وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن المنذر عن عطاء فذكره. ا. هـ.
(7) قال ابن الجزري في النشر (1/ 251) بعد نقله كلام الحلواني: أي بحسب الرواية.
(8) أسنده المؤلف في المحكم ص/ 10، باب كره نقط المصاحف من السلف وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب فضائل القرآن باب من قال جردوا القرآن، وأخرجه ابن أبي داود في المصاحف ص/ 138. وأسانيدهم صحيحه. وليس في سياق واحد منهم ما يشير إلى كراهة ابن مسعود التعوذ.

(1/393)


1020 - وحدّثت عن أبي محمد الحسن بن رشيق، قال: حدّثنا أبو العلاء محمد ابن أحمد الهذلي «1»، قال حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدّثنا سهل بن يوسف عن حميد الطويل، عن [معاوية بن مرة، عن أبي] «2» المغيرة قال: قرأ رجل عند ابن مسعود قال: أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، قال: فقال عبد الله:
جرّدوا القرآن «3».
1021 - وهذا يحتمل أمرين: أن يكون كره الاستعاذة رأسا كالذي رويناه «4» عن أهل المدينة «5». وأن يكون كره مخالفة نصّ القرآن.
1023 - قال أبو عمرو: وعلى ما ذكرناه من الجهر بالتعوّذ قبل القراءة جرى العمل عند أهل الأداء في مذهب جميع القرّاء، اتباعا للنص، واقتدوا «6» بالسّنّة، وبالله التوفيق.
__________
(1) في ت، م: (الهذلي). وهو خطأ، والتصحيح من تهذيب الكمال 3/ 1160، والتقريب 2/ 142.
(2) من مصنف ابن أبي شيبة 10/ 551.
(3) محمد بن أحمد بن جعفر بن الحسن، أبو العلاء، الكوفي، نزيل مصر، ثقة ثبت، مات سنة ثلاث مائة. التقريب 2/ 142، تهذيب الكمال 3/ 1160
- سهل بن يوسف، الأنماطي، البصري، ثقة رمي بالقدر، مات سنة تسعين ومائة. التقريب 1/ 337.
- معاوية بن مرة لم أجده، ولعله معاوية بن قرة بن إياس بن هلال، البصري أبو إياس، ثقة عالم، مات سنة ثلاث عشرة ومائة. التقريب 2/ 261. فطبقته وكونه بصريا يرشحانه لأن يكون شيخا لحميد الطويل، والله أعلم.
- أبو المغيرة لم أجده.
والرواية في مصنف ابن شيبة (10/ 551) في فضائل القرآن باب من قال جردوا القرآن من طريق سهل ابن يوسف به مثلها.
(4) في م: (رويناه وعن). وزيادة الواو خطأ.
(5) انظر الفقرة/ 1009.
(6) كذا في ت، م، ولعلها محرفة عن (اقتداء). والله أعلم.

(1/394)