جواهر القرآن الفصل الرابع
في كيفية انْشِعَاب العلوم الدينية كلها عن الأقسام العشرة
المذكورة
وأظنك الآن تشتهي أن تعرف كيفية انْشِعَاب هذه العلوم كلها عن
هذه الأقسام العشرة، ومراتبَ هذه العلوم في القُرب والبُعد من
المقصود.
[ويتمُّ لكَ ذلك إذا عرفتَ انقسامَها إلى: علوم الصَّدَف،
وعلوم الجوهر واللُّباب] :
المبحث الأول
علوم الصَّدَف
اِعلم أن لهذه الحقائق التي أشرنا إليها أسراراً وجواهر، ولها
أصْداف، والصَّدَف أول ما يظهر، ثم يقف بعض الواصلين إلى
الصَّدَف على الصَّدَف، وبعضُهم يفتُق الصَّدَفَ ويطالع
الدُرّ، فكذلك
(1/35)
صَدَفُ جواهر القرآن وكِسْوَتُه اللغة
العربية، فانشَعَبَت منه خمسُ علوم وهي: علم القِشر والصَّدَف
والكِسْوَة (1) إذْ انشَعَبَ من ألفاظه علم اللغة (2) ومن
إعراب ألفاظه علم النحو (3) ومن وجوه إعرابه علم القِراءات (4)
ومن كيفية التصويت بحروفه علم مخارج الحروف، إذْ أولُ أجزاء
المعاني التي منها يَلْتَئِمُ النطق هو الصوت، ثم الصوت
بالتَّقطيع يصير حرفاً، ثم عند جمع الحروف يصير كلمة، ثم عند
تَعَيُّنِ بعض الحروف المجتمعة يصير لغة عربية، ثم بكيفية
تقطيع الحروف يصير مُعْرَباً، ثم بِتَعَيُّن بعض وجوه الإعراب
يصير قراءةً منسوبةً إلى القِراءات السبع (5) ثم إذا صار كلمة
عربية صحيحة مُعْرَبَةً صارت دالة على معنى من المعاني
فَتَتَقَاضَى للتفسير الظاهر وهو العلم الخامس.
فهذه علوم الصدف والقشر، ولكن ليست على مرتبةٍ واحدة، بل
للصَّدف وجهٌ إلى الباطن مُلاقٍ لِلدُّر، قريبُ الشَّبَهِ به
لقرب الجِوار ودوام المُمَاسَّة، ووجه إلى الظاهر الخارج قريب
الشَّبَهِ بسائر الأحجار، لبعد الجوار وعدم المُماسَّة، فكذلك
صَدَفُ القرآن ووجهه البَرَّاني الخارج هو الصوت، والذي
يتولَّى علم تصحيح مَخارِجِه في الأداء والتَّصويت صاحبُ علم
الحروف، فصاحبه صاحبُ علم القشر البَرَّاني البعيد عن باطن
الصدف فضلاً عن نفس الدُّرَّة، وقد انتهى الجهل بطائفة إلى أن
ظنوا أن القرآن هو الحروفُ والأصوات، وبَنَوْا عليها أنه
مخلوق، لأن الحروف والأصوات مخلوقة، وما أجدرَ هؤلاء بأن
يُرْجَموا أو تُرْجَمَ عقولُهم، فإما أن يُعَنَّفوا أو
يُشَدَّدَ عليهم، فلا يكفيهم مصيبة أنه لم يَلُحْ من عَوالهم
القرآن وطبقاتِ
(1/36)
سَماواتِهِ
إلا القشرُ الأقصى، وهذا يعرفك منزلةَ علم المُقرِىء، إذْ لا
يعلم إلاَّ بصحة المخارج.
ثم يليه في الرُتبة علم لغة القرآن، وهو الذي يشتمل عليه مثلاً
تُرْجُمان القرآن وما يقاربه من علم غريبِ ألفاظ القرآن.
ثم يليه في الرتبة إلى القُرب علم إعراب اللغة وهو النحو، فهو
من وجه يقع بعده لأن الإعراب بعد المُعْرَب، ولكنه في الرتبة
دونه بالإضافة إليه لأنه كالتابع للغة.
ثم يليه عِلْمُ القِراءات وهو ما يُعرَف به وجوهُ الإعراب
وأصنافُ هيئاتِ التصويت، وهو أخصُّ بالقرآن من اللغة والنَّحو،
ولكنه من الزوائد المُستَغْنَى عنها دون اللغة والنحو فإنهما
لا يُستغنَى عنهما. فصاحب علم اللغة والنحو أرفع قدراً ممن لا
يعرف إلا علم القراءات، وكلهم يدورون على الصَّدف والقِشر وإن
اختلفت طبقاتهم.
ويليه علمُ التفسير الظاهر، وهو الطبقة الأخيرة من الصَّدفة
القريبة من مُمَاسَّة الدُّرّ، ولذلك يشتد به شَبَهُهُ حتى يظن
الظَانُّون أنه الدُّرّ وليس وراءَه أنفسُ منه، وبه قنع أكثر
الخلق، وما أعظمَ غُبْنَهُم وحِرمانَهم، إذ ظنوا أنه لا رتبة
وراء رُتبتهم، ولكنهم بالإضافة إلى من سواهم من أصحاب علوم
الصدف على رتبة عالية شريفة، إذ علم التفسير عزيزٌ بالنسبة إلى
تلك العلوم، فإنه لا يُراد لها بل تلك العلوم تُراد للتفسير،
وكلا هؤلاء الطبقات إذا قاموا بشرط علومهم فحفظوها وأَدَّوْها
على وجهها، فيشكرُ الله سعيَهم ويُنَقِّي وجوهَهم كما قال رسول
(1/37)
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"نضَّرَ اللهُ امرأً سمع مَقالتي فواعاها فأدَّاها كما سمعها،
فَرُبَّ حاملِ فقهٍ إلى غير فقيه، وَرُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من
هو أفقَه منه"؛ وهؤلاء سمعوا وأَدَّوْا، فلهم أجرُ الحمل
والأداء، أدَّوْها إلى من هو أفقه منهم أو إلى غير فقيه.
والمفسر المقتصر في علم التفسير على حكاية المنقول سامع
ومُؤَدٍّ، كما أن حافظ القرآن والأخبار حامل ومُؤَدٍّ.
وكذلك علم الحديث يتشعب إلى هذه الأقسام سوى القراءَةِ وتصحيحِ
المخارج، فدرجةُ الحافظ الناقل كدرجة معلم القرآن الحافظ له،
ودرجةُ من يعرف ظاهر معانيه كدرجة المُفَسِّر، ودرجةُ من يعتني
بعلم أسامي الرجال كدرجة أهل النحو واللغة، لأن السَّنَدَ
والرِّوَاية آلة النقل، وأحوالهم في العدالة شرط لصلاح الآلة
للنقل، فمعرفتهم ومعرفة أحوالهم ترجع إلى معرفة الآلة وشرط
الآلة، فهذه علوم الصدف.
المبحث الثاني
علومُ اللُّباب
وهي على طبقتين:
أ- الطبقة السُّفْلى من علوم اللُّبَاب وهي علوم الأقسام
الثلاثة التي سمَّيناها التوابع المتِمَّة:
- فالقسم الأول: معرفةُ قَصص القرآن، وما يتعلق بالأنبياء، وما
يتعلق بالجاحدين والأعداء، ويتكفل بهذا العلم القُصَّاص
والوُعَّاظ
(1/38)
وبعض المُحَدِّثين، وهذا علم لا تَعُمُّ
إليه الحاجة.
- والقسم الثاني: هو مُحاجَّةُ الكفار ومجادَلتُهم، ومنه يتشعب
علم الكلام المقصود لردِّ الضَلالاتِ والبِدَع، وإزالة
الشُّبُهات، ويتكفل به المُتَكَلِّمون، وهذا العلم قد شرحناه
على طبقتين، سمينا الطبقة القريبةَ منهما " الرسالة
القُدْسِيَّة"؛ والطبقة التي فوقها "الاقتصاد في الاعتقاد".
ومقصود هذا العلم حراسة عقيدةِ العَوَامّ عن تشويش
المُبتَدِعَة، ولا يكون هذا العلم مَليًّا بكشف الحقائق،
وبجنسه يتعلق الكتاب الذي صنفناه في "تهافُت الفلاسفة" والذي
أوردناه في الرد على الباطنِيَّة في الكتاب الملقبُ
"المُستَظْهِري" وفي كتاب "حُجَّةُ الحَقّ وقَواصِمُ
الباطنية". وكتاب "مُفَصَّل الخلاف في أصول الدين". ولهذا
العلم آلة يَعرِفُ بها طريق المجادلة بل طرق المُحاجَّة
بالبرهان الحقيقي، وقد أَوْدعناه كتاب "محكُّ النظر" وكتاب
"معيارُ العلم" على وجه لا يُلْفى مثله للفقهاء والمتكلمين،
ولا يثق بحقيقة الحُجَّة والشُّبهة من لم يُحِطْ بهما علماً.
- والقسم الثالث: عِلمُ الحدود الموضوعة للاختصاص بالأموال
والنساء، للاستعانة على البقاء في النفس والنسل، وهذا العلم
يتولاَّه الفقهاء، ويشرح الاختصاصات المالية رُبْعُ المعاملات
من الفقه؛ ويشرح الاختصاصات بمحل الحراثة أعني النساء ربعُ
النكاح؛ ويشرح الزَّجْرَ عن مفسدات هذه الاختصاصات ربعُ
الجنايات، وهذا علم تعمُّ إليه الحاجة لتعلقه بصلاح الدنيا
أولاً، ثم بصلاح الآخرة، ولذلك تميز صاحب هذا العلم بمزيد
الاشتهار والتَّوقير، وتقديمِهِ على غيره من
(1/39)
الوُعَّاظ والقُصَّاص ومن المتكلمين، ولذلك
رُزِقَ هذا العلمُ مزيدَ بحثٍ وإطناب على قدر الحاجة فيه، حتى
كَثُرَت فيه التصانيف، لا سيما في الخِلافِيَّات منه، مع أن
الخلافَ فيه قريب، والخطأَ فيه غيرُ بعيد عن الصواب، إذ
يَقْرُبُ كل مجتهد من أن يُقال له مُصيب، أو يُقال إن له أجراً
واحداً إن أخطأ ولصاحبه أجران، ولكن لما عَظُمَ فيه الجاهُ
والحِشمة، تَوَفَّرت الدواعي على الإفراط في تفريعه وتشعيبه،
وقد ضيعنا شطراً صالحاً من العمر في تصنيف الخلاف منه، وصرفنا
قدراً صالحاً منه إلى تصانيف المذهب وترتيبه إلى "بسيط"
و"وسيط" و"وجيز" مع إيغالٍ وإفراطٍ في التَّشعيب والتفريع، وفي
القدر الذي أودعناه كتاب "خلاصة المختصر" كفاية، وهو تصنيف
رابع وهو أصغر التصانيف، ولقد كان الأولون يُفتون في المسائل
وما على حفظهم أكثر منه، وكانوا يُوَفَّقون للإصابة أو يتوقفون
ويقولون لا ندري، ولا يستغرقون جملةَ العمر فيه، بل يشتغلون
بالمهم ويُحيلون ذلك على غيرهم، فهذا وجهُ انْشِعاب الفقه من
القرآن، ويتولَّد من بين الفقه والقرآن والحديث علم يسمى أصول
الفقه، ويرجع إلى ضبط قوانين الاستدلال بالآيات والأخبار على
أحكام الشريعة.
ثم لا يخفى عليك أن رتبة القُصَّاص والوُعَّاظ دونَ رتبة
الفقهاء والمتكلمين ما داموا يقتصرون على مجرد القَصَص وما
يَقْرُب منها، ودرجة الفقيه والمتكلم متقاربة، لكن الحاجة إلى
الفقيه أعم، وإلى المتكلم أشدُّ وأشدّ، ويُحتاج إلى كِلَيْهما
لمصالح الدنيا، أما الفقيه فَلحفظ أحكام الاختصاصاتِ بالمآكلِ
والمنَاكِح؛ وأما المتكلم فلدفع
(1/40)
ضرر المُبتَدِعة بالمُحاجَّة والمجادلة،
كيلا يستطيرَ شَرَرُهم ولا يعمَّ ضَرَرُهم، أما نسبتهم إلى
الطريق والمقصد فنسبة الفقهاء كنسبة عُمَّار الرِّباطات
والمصالح في طريق مكة إلى الحج، ونسبة المتكلمين كنسبة
بَدْرَقَةِ طريق الحج وحارسه إلى الحجاج، فهؤلاء إن أضافوا إلى
صناعتهم سلوكَ الطريق إلى الله تعالى بقطعِ عَقَبَات النفس،
والنُّزوعِ عن الدنيا، والإقبالِ على الله تعالى، فَفَضْلُهم
على غيرهم كفضل الشمس على القمر؛ وإن اقتصروا فدرجتهم نازلةٌ
جداً.
ب- الطبقة العُليا من عُلومِ اللُّبَاب
وأما الطبقة العليا من نَمَطِ اللُّباب فهي السوابقُ والأصولُ
من العلوم المُهِمَّة، وِأشرَفُها العلمُ باللهِ واليوم الآخر
لأنه علم المَقْصِد، ودونَهُ العلم بالصراط المستقيم وطريق
السلوك، وهو معرفةُ تزكية النفس، وقطعُ عقبات الصفات
المُهلِكات، وتَحْلِيَتُها بالصفات المُنَجِّيَات، وقد أودعنا
هذه العلوم بِكُتُب "إحياء علوم الدين" ففي رُبْعِ المُهلِكات
ما تجب تزكية النفس منه، من الشَّرَهِ والغضب، والكِبر
والرِّياءِ والعجب، والحسد وحب الجاه وحب المال وغيرها، وفي
رُبع المُنجيات يظهر ما يتحلَّى به القلب من الصفات المحمودة
كالزهد والتوكل والرضا والمحبة والصدق والإخلاص وغيرها.
وبالجملة يشتمل كتاب "الإحياء" على أربعين كتاباً، يرْشدك كل
كتاب إلى عَقَبةٍ من عقبات النفس، وأنها كيف تُقْطَع، وإلى
حجابٍ من حُجُبِهَا، وأنه كيف يُرفَع، وهذا العلم فوقَ علم
الفقه والكلام وما قبله،
(1/41)
لأنه علم طريق السلوك، وذلك علم آلة السلوك
وإصلاح منازله ودفع مُفسداته كما يظهر، والعلم الأعلى الأشرفُ
عِلمُ معرفة الله تعالى، فإن سائر العلوم تُرادُ له ومن أجله
وهو لا يُراد لغيره، وطريق التدريج فيه التَّرَقِّي من الأفعال
إلى الصفات، ثم من الصفات إلى الذات، فهي ثلاث طبقات:
أعلاها علم الذَّات، ولا يحتملها أكثر الأفهام، ولذلك قيل لهم
"تفكَّروا في خَلق الله ولا تفكَّروا في ذات الله". وإلى هذا
التدريج يشير تَدَرُّج رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في ملاحظته ونَظَرِهِ حيث قال: "أعوذُ بِعَفْوِكَ من
عقابك" فهذه ملاحظة الفعل ثم قال وأعوذ برضاك من سخطك وهذه
ملاحظة الصفات؛ ثم قال: "وأعوذُ بك منك" وهذه ملاحظة الذات؛ لم
يزل يترقَّى إلى القُرب درجةً درجة، ثم عند النهاية اعترف
بالعجز فقال: "لا أُحصِي ثناءً عليكَ أنتَ كما أثنَيْتَ على
نفسك" فهذا أشرف العلوم.
(1/42)
ويتلوه في الشَّرف عِلمُ الآخرة وهو علم
المَعَاد كما ذكرناه في الأقسام الثلاثة وهو متصل بعلم
المعرفة، وحقيقته معرفة نسبة العبد إلى الله تعالى عند
تحقُّقِهِ بالمعرفة، أو مصيرهِ محجوباً بالجهل. وهذه العلوم
الأربعة، أعني (1) عِلمَ الذات (2) والصفات (3) والأفعال (4)
وعلم المَعاد، أَوْدَعنا من أوائله ومَجامِعِهِ القدرَ الذي
رُزِقنا منه، مع قِصَرِ العُمر وكثرة الشَواغل والآفات، وقلة
الأَعْوان والرُفقاء، بعضَ التَّصانيف لكنا لم نُظِهره، فإنه
يَكَلُّ عنه أكثرُ الأفهام، ويَسْتَضِرُّ به الضعفاء، وهم أكثر
المُتَرَسِّمينَ بالعلم، بل لا يصلح إظهاره إلا على من أتقنَ
علم الظاهر، وسلك في قَمع الصفات المذمومة من النفس وطُرقِ
المجاهدة، حتى ارتَاضَت نفسُهُ واستقامت على سواء السبيل، فلم
يبقَ له حظٌ في الدنيا، ولم يبق له طلبٌ إلاّ الحق، ورُزِقَ مع
ذلك فطنة وَقَّادة، وقريحةً مُنقادَة، وذكاءً بليغاً، وفهماً
صافياً، وحرام على من يقع ذلك الكتاب بيده أن يُظهره إلاَّ على
من استَجْمَعَ هذه الصفات، فهذه هي مجامع العلم التي تتشعب من
القرآن ومراتبها.
(1/43)
|