جواهر القرآن الفصل الخامس
في انْشِعَابِ سائرْ العلوم من القرآن
ولعلَّكَ تقول: إن العلوم وراءَ هذه كثيرة، كعلم الطب والنجوم،
وهيئة العالم، وهيئة بَدَنِ الحيوان وتشريح أعضائه، وعلم
السِّحر والطِّلَّسْمات، وغير ذلك.
فاعلم: أنَّا إنما أشرنا إلى العلوم الدينية التي لا بد من
وجود أصلها في العالم، حتى يتيسر سلوكُ طريق الله تعالى والسفر
إليه. أما هذه العلوم التي أشرتُ إليها فهي علوم، ولكن لا
يتوقف على معرفتها صلاح المَعَاش والمَعَاد، فلذلك لم نذكرها،
ووراءَ ما عَدَدْتهُ علومٌ أُخرَ يُعلَم تَراجِمُها ولا يخلو
العالم عمن يعرفها، ولا حاجة إلى ذكرها.
بل أقول: ظهر لنا بالبصيرة الواضحة التي لا يُتَمَارى فيها أن
في الإمكان والقوة أصنافاً من العلوم بعد لم تخرج من الوجود،
وإن كان في قوة الآدَمِيِّ الوصول إليها؛ وعلومٌ كانت قد خرجت
إلى الوجود وانْدَرَسَت الآن، فَلَنْ يوجد في هذه الأعصار على
بسيط الأرض من
(1/44)
يعرفها؛ وعلومٌ أُخَر ليس في قوة البشر
أصلاً إدراكُها والإحاطة بها، ويحظَى بها بعضُ الملائكة
المُقَرَّبين، فإن الإمكانَ في حق الآدَمِيِّ محدود، والإمكانَ
في حق المَلَك محدود إلى غاية في الكمال بالإضافة، كما أنه في
حق البهيمة محدود إلى غاية في النقصان، وإنما الله سبحانه هو
الذي لا يَتَنَاهَى العلمُ في حقه، ويفارق عِلمَنَا عِلْمُ
الحقِّ تبارك وتعالى في شيئين: أحَدُهما انتفاءُ النهاية عنه،
والآخَرُ أن العلوم ليست في حقه بالقوة والإمكان الذي
يُنْتَطَرُ خروجُه بالوجود، بل هو بالوجود والحُضُور، فكل
مُمْكِنٍ في حقه من الكمال فهو حاضرٌ موجود.
ثم هذه العلوم ما عددناها وما لم نعدها ليست أوائِلُها خارجةً
عن القرآن، فإن جميعها مُغْتَرَفَةٌ من بحر واحد من بحار معرفة
الله تعالى، وهو بحرُ الأفعال، وقد ذكرنا أنه بحرٌ لا ساحلَ
له، وأن البحر لو كان مداداً لكلماته لنَفِدَ البحر قبل أن
تَنْفَد. فمن أفعال الله تعالى وهو بحرُ الأفعال مثلاً الشفاء
والمرض، كما قال الله تعالى حكايةً عن إبراهيم عليه السلام:
{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} . وهذا الفعل الواحد لا
يعرفه إلا من عرف الطِبَّ بكماله، إذ لا معنى للطب إلا معرفةُ
(1/45)
المرض بكماله وعلاماته، ومعرفةُ الشفاء
وأسبابه، ومن أفعاله تبارَكَ وتعالى تقديرُ معرفة الشمس والقمر
ومنازِلِهما بِحُسبان، وقد قال الله تعالى: {الشمس والقمر
بِحُسْبَانٍ} ؛ وقال: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ
عَدَدَ السنين والحساب} ؛ وقال: {وَخَسَفَ القمر * وَجُمِعَ
الشمس والقمر} ؛ وقال: {يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ
النهار فِي الليل} ؛ وقال: {والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ
لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم} .
ولا يعرف حقيقة سَيْر الشمسِ والقمرِ بِحُسبان، وخُسوفِهما
وَوُلُوجِ الليلِ في النهار، وكيفيةَ تَكَوُّرِ أحدهما على
الآخر، إلا من عرف هيئاتِ تركيبِ السَّماوَات والأرض، وهو علم
برأسه.
ولا يعرف كمالَ معنى قوله تعالى: {يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ
بِرَبِّكَ الكريم * الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * في
أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ} إلا من عرفَ تشريحَ
الأعضاء من الإنسان ظاهراً وباطناً، وعددَها وأنواعَها
وحكمتَها ومنافِعَها، وقد أشار في القرآن في مواضِعَ إليها،
وهي من علوم الأوَّلين والآخِرين، وفي القرآن مَجامِعُ علم
الأوَّلين والآخرِين.
(1/46)
وكذلك لا يعرف كمالَ معنى قوله تعالى
{سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} مَنْ لم يعلم
التَّسْوِيَة والنَّفْخَ والرُّوح، وَوراءَها علومٌ غامضة يغفل
عن طلبها أكثرُ الخلق، وربما لا يفهمونها إن سمعوها من
العالِمِ بِها، ولو ذهبتُ أُفَصِّل ما تدل عليه آيات القرآن من
تفاصيل الأفعال لَطال، ولا تمكن الإشارة إلا إلى مَجامِعها،
وقد أشرنا إليه حيث ذكرنا أن من جملة معرفة الله تعالى معرفة
أفعاله، فتلك الجملة تشتمل على هذه التفاصيل، وكذلك كل قسم
أجملناه لو شُعِّبَ لانشَعَبَ إلى تفاصيلَ كثيرة، فتفكَّر في
القرآن والتمس غرائِبَه، لِتصادف فيه مَجامِع علم الأَوَّلين
والآخِرين، وجملةَ أوائله، وإنما التفكر فيه للتوصل من جملته
إلى تفصيله وهو البحر الذي لا شاطىءَ له.
(1/47)
|